تفسير سـورة العصر(2)

العلامة محمود مشّوح

تفسير سـورة العصر

الجمعة 3 محرم 1397 / 24 كانون الأول 1976

الحلقة ( 2 ـ 2 )

العلامة محمود مشّوح

 (أبو طريف)

       إن الله مع الذين اتقوا والذين هـم محسـنون ، أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون :

       فقد كان حديثنا في الجمعة الماضية عن سورة العصر كمقدمة لها ، قال الله تعالى ( والعصر ، إن الإنسان لفي خسر ، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتوصوا بالحق وتواصوا بالصبر ) والعلماء يختلفون فـي المراد في معنى كلمة ( العصر ) بعد اتفاقهم على أنها قسم ، أقسم الله تعالى به ، فمن قائل أن المراد بالعصر هو هذا الوقت الذي تؤدى فيه صلاة العصر ويستندون بكلامهم لما جاء عن فضيلة صلاة العصـر أن كثيراً من العلماء رحمة الله تعالى عليهم يذهبون إلى أن صلاة العصر هـي الصلاة الوسطى التي جاء ذكرها فـي قول الله تعالى ( حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين ) فكثير من العلماء ذهب إلى أن صلاة الوسطى هي صلاة العصر ، والصلاة الوسطى لها فضائل يعرفها من ينظر في كتب الحديث . ويذهب غيرهم إلى أن المراد بالعصر هو الزمان ، والزمان هو هذا الظرف الذي تقع في أعمال الناس خيراً وشراً وحسناً وسوءاً ، والذي نذهب إليه هو هذا المعنى الأخير لما ثبت من قراءة علي كرم الله تعالى وجهه بهذه السورة فقد كان يقرأها هكذا ( والعصر ـ ونوائب الدهر ـ إن الإنسان لفي خسر ـ وإنه فيه إلى آخر العمر ـ إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ) وأياً ما كان المراد فذلك لا يؤثر على جوهر المعاني التي وردت في السورة ، وليس في نيتي أن أطيل الحديث في هذه النقطة لعدم جدواها في ما نحن بصدده .

       أما الشـيء الذي ألفت إليه أنظاركم فهـو هــذه الصياغة الموحية للآية ( والعصر إن الإنسان لفي خسر ) لاحظوا ، الخسر معروف عندكم ، خسران الشيء هو فقدانه ، ولكن المشكلة ليست في اللفظة المفردة بل في الصياغة المعجزة ، فقول الله تعالى ( إن الإنسان لفي خسر ) المراد منه هو الحكم على الإنسان بالخسران ، أي على جنس الإنسان أي شمل كل إنسان ، إلا الذين آمنوا إلى آخر السورة ، هذا المعنى يتبادر إلى الذهن أولاً ، لكن انظروا إلى الصياغة ، نحن نقول مثلاً : اشترى فلان الحاجة الفلانية وباعها فخسر فيها ، فقد يكون هذا الخسران غير وارد في مرة مقبلة ، قد تشتري شيئاً فتخسر ، لكن هذا لا يعني أنه كلما اشتريت شيئاً خسرت ، ربما تربح في عملية قادمة ، تقول : جرّب فلان العملية الفلانية فخسر فيها وهذا يعني أن هذه المرة التي جرت عليها التجربة كانت العاقبة الخسران ، ولكن قد لا يخسر في المرة القادمة ، فنحن حين نصف الإنسان بالخسر علينا أن نربط الخسر بالإنسان ، يعني أننا حين نريد أن نصف الإنسان بالخسر لا بد أن يكون صياغة الآية كالآتي ( والعصر إن الإنسـان لخاسر ) في هذا الحالة وفي هذه الصياغة فالخسران لاصق بالإنسان لأن الإنسان وصف بالخسران ، لكن الصياغة المعجزة جاءت ( إن الإنسان لفي خسر ) خذ أولاً كلمة ( في ) هذا الحرف الذي هو ظرف ، تقول : هذا الرجل في المسجد ، أي أنه ضمن المسجد ، فحينما نسمع الله يقول ( إن الإنسان لفي خسر ) فذلك أن الإنسان واقع في خسر ، أي متضمن لهذا الخسـر ، فالخسر هل وصف به الإنسان ؟ الخسر وصف عارض للإنسان ينفك عن صاحبه ، لكن الآية تنصب على أمر بالغ الخطورة وهو أن الخسر في الطريق ذاته في نفس الطريق ، أي في الحالة التي يكون فيها الإنسان ، فإذا مشيت مع الآيات وجدت قول الله تعالى ( إلا الذين آمنوا ) هذه واحدة ( وعملوا الصالحات ) هذه الثانية ( وتواصوا بالحق ) هذه الثالثة ( وتواصوا بالصبر ) هذه الرابعة ، هذه الأوصاف الأربعة إذا تحققت في الإنسان فهو ليس في خسر ، وبالتالي فهو غير خاسر . ماذا يريد الله أن يقرّ في الأذهان ؟ يريد أن يضع أمام الإنسان صورة عامة للإنسانية ، هذه الصورة العامة ذات طريقين ، الطريق الأول : هو الإنسان من حيث هو إنسان ، غير مستند إلى وحي ، ولا تابع إلى نبوة ، فهو في النهاية خاسر إذا لم يأخذ بشريعة السماء  . الطريق الثاني : الذي تشير إليه السورة وهو طريق النبوات ، أي الذي يتحقق فيه الإيمان بالله ويتبعه العمل الصالح والتواصي بالحق والصبر .

       ومسألة إلقاء كلام من هذا النوع في ذلك العصر ـ عصر الرسالة ـ أن يردّ على اللغط الذي أثارته قريش وكذلك أثارته جميع من بلغته الدعوة ، وللأسف هذا اللغط يتردد على مرّ العصور ، فحيثما لم يفطن الناس لكتاب الله تعالى ، وحيثما ناديت الناس إلى أن يأخذوا بطريق الله .. كثر اللغط مرة أخرى بل ومرات كثيرة . قريش في ذلك الزمن البعيد كانت تقارن بين شخص محمد صلى الله عليه وسلم وغيره من الزعامات ، بل إن المقارنة امتدت إلـى الماضين الذين ماتوا ، فقالوا له : أأنت خير من غالب أو من فلان أو فلان .. من أجداده ؟ وسألوه : هل دينك خير من اليهودية أو خير من النصرانية ؟ هل دينك خير من الإبراهيمية الحنيفية التي آمنت بها العرب ؟ مثل هذا الكلام كان موجوداً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، وكذلك تردد مثله عبر العصور ، وهو اليوم يردده بعض المتنطعين في المحافل وعلى صفحات الجرايد والمجلات وبطون الكتب . الله عز وجل يأتي بالقسم في السورة ليؤكد أن أي طريق أو أي سبيل يأخذه الإنسان ويلتزم به فنتيجته الخسران وعقيدته دمار . وأن سلامة الإنسان في هذه الحياة مشروطة بما ذكره الله في السورة : الإيمان بالله والعمل الصالح والتواصي بالحق والصبر . فلا اليهودية ولا النصرانية المحرفتان تستطيعان أن تقدم الهدوء والسلامة وعزة النفس في الدنيا والآخرة للإنسان .

       فالله جل وعلا ذكر هذا الكلام ليبين للناس من بداية الطريق ، طريق الإسلام عن غيره من الطرائق ، إن كل جهود الإنسانية ذاهبة إلى دمار وخسارة ، وإن الشيء الوحيد الذي يبقى لا يعتوره خراب ولا يلحق به دمار ، وهو الذي جمع هذه الشرائط الأربعة التي ذكرناها في السورة ، ما هي ؟ الذين آمنوا وعملوا الصالحات والذين تواصوا بالحق والذين تواصوا بالصبر . فيجب أن نتعرف على الخصائص الاجتماعية الموجودة في هذه الأسس الأربعة ، إن الإنسان قد يقبل بضرورة الإيمان وهو فرد ولكن حينما يتحول الأمر لكي يكون عملاً صالحاً وتواصياً بالحق وتواصياً بالصبر فهو عمل فريق ، عمل مجموع ، فكلمة ( الذين آمنوا ) جاءت هنا لتشير إلى الفرق الأساسي بين طريق الإسلام وغيره من الطرق ، لأنه من الواجب على هذه الإنسانية أن تضع مقادتها بين يدي الله تعالى وأن توفر على نفسها هذه الجهود الطويلة وهذه المتاعب التي لا نهاية لها .

       في عصرنا الحاضر ، كانت الإنسانية مرت بتجارب مرة وتضحيات بلا حصر ، استطاعت أن تصل إلى درجة من السلم الحضاري ، ظن الناس قبل الحرب العالمية الأولى أنها يمكن أن تساعد على تطوير الجنس البشري وعلى منح المجتمع الإنساني هذه الاستقرار الذي تنشده ، وقبل فواتح هذا القرن العشرين ظهر في التفكير الإنساني أفكار جديدة كالحريات العامة والدعوة إلى الأخذ بالمناهج الديمقراطية التي تمنح المواطن حق المواطنة ثم وضعت الأمور موضع التطبيق بين الناس ، ولكن ما أكثر غرور الإنسان ، فقد أوصلته هذه الحريات المزعومة والأفكار المضللة المنقطعة عن الله إلى حربين عالميتين طاحنتين كادتا أن تبيدا الجنس البشري برمته ، والسبب هو أن الإنسان الغربي لم يربط هذه الحريات بأخلاق الأديان السماوية التي تفرض على الإنسان أن يعامل أخاه الإنسان بأفضل ما يعامل به نفسه . فكان هناك شرخ عميق بين أهل الأرض وشريعة السماء ، سواء كان ذلك في أوروبا وأمريكا أو في روسيا الشيوعية الكافرة .

       فإذاً نحن مع الجهد البشري نسير في طريق أوله جهل وآخره خراب ، ومن الخطأ ومن المغامرة التي لا تؤمن نتائجها أن نستمر في هذا الطريق ، ومن شاء دليلاً على ذلك فلينظر إلى رقعة العالم ، فسواء قلنا كالديمقراطيات الغربية توفر للإنسان حرية التعليم وغير ذلك ، وسواء قلنا إن الديمقراطية الشرقية المتمثلة بالشيوعية التي تحرر العامل والفلاح من سلطة المعمل ومن سلطة الإقطاع ، فنحن نريد منكم أن تلتفتوا إلى الحالة التي فيها الأمة العربية ، الاستعمار الغربي استعمر بلادنا ثم خرج وما تزال أصابعه موجود بيننا تنهب خيراتنا ، وبرغم هذه الدعاوي العريضة أننا ملكنا التحرر ، ولكن أتساءل عن الديمقراطيات الشعبية وماذا فعلت بنا ؟ كم من معارك خضناها على تطمينات وعلى وعود ومواثيق ؟ وحين جرت المعارك تبين أن يد الصديق في يد العدو ضدنا . وكم من مرة غررنا بزهرة شبابنا هؤلاء الذين تعبنا عليهم وأنفقنا عليهم ودفعنا الملايين لكي يكون الطيار طياراً ، وسائق الدبابة لكي يكون قادراً على قيادة دبابته ، فاكتشفنا ـ مع الأسف وبعد فوات الأوان ـ أن الموازنة الدقيقة في السلاح كانت تقوم بين المعسكرين المتصارعين ، والنتيجة أن تقع على رؤوسنا .

       فالله جل وعلا حين يصف الإنسان والجنس الإنساني أنه في خسر ، أي أن الطريق الذي يرسمه الإنسان لنفسه دون أن يأخذ بوحي السماء سيكون في خسر ، ويضعنا في طريقه طريق الإيمان . وتبين لنا ذلك من خلال المجتمع الذي كوّنه الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة والمدينة.

       الله جل وعلا يربط بين الإيمان والعمل ، الإيمان شعور بالقلب ، ولا قيمة للإيمان إن لم يفض على الجوارح بالعمل الصالح . لهذا جاء الكلام بعد ذلك ( إلا الذين آمنوا ) وعطف عليه ( وعملوا الصالحات ) فلا بد أن يكون إيمانك منتجاً وحيوياً وفاعلاً ، أما التصورات والخواطر التي تجول في الرؤوس دون أن ينتج شيئاً فهذا لا شأن لنا به . إننا كبشر نعيش في مجتمعنا ، وحين نتعامل مع بعضنا لا بد أن تكون علامات الإيمان ظاهرة بيننا تسير حياتنا كي نعيش في سلام وطمأنينة . وهذا يكون في سائر مناحي الحياة : التعامل بين الناس في بيعهم وشرائهم ، في أخلاقهم ...

       ثم الله جل وعلا يدعو المؤمنين بالتواصي بالحق ، لأن الإنسان حين يعيش حالته الاجتماعية أمامه نماذج من الناس ، فقد يخيب أمله في زيد من الناس ، كل هذه الأمور تترك في نفسه انطباعات قد تكون في البداية سهلة ، لكنها مع الترسبات والتراكمات تكثر حتى يجد الإنسان نفسه في لحظة من اللحظات متضايقاً جداً من هذه النماذج الموجودة أمامه ، ولكن حين يتواصى هذا الإنسان مع إخوانه بمعاني الحق والفضيلة عن طريق التناصح يذهب كثير مما في النفس من الشحناء والبغضاء تجاه الآخرين .

       ( وتواصوا بالحق ) ما هو هذا الحق ؟ حين نعود إلى كتب التفاسير القديمة نجد أن كلام السلف رضوان الله عليهم ينصب على محورين ، أن هذا الحق هو القرآن أو الدين ( وبالحق أنزلناه وبالحق نزل ) ( إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ) والله جل وعلا سمى نفسه الحق ( ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحي الموتى وأنه على كل شيء قدير ) ، فمسألة الحق ليست هينة ، الحق هو الذي قالت به السماوات والأرض . ولهذا كانت الوصايا في القرآن الكريم مترادفة ومشددة بالوقوف مع الحق ( يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط ) يعني الحق ( شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين ) جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم : اللهم إني أسألك كلمة الحق والعدل في الرضى والغضب . وصفة المسلم الذي هو لبنة ثمينة وصالحة في المجتمع الإنساني أنه مع الحق دائماً . ولهذا حينما سئل علي كرم الله وجهه عن بعض الأمور أجاب هذا الجواب المحكم : لا تعرف الحق بالرجال ولكن اعرف الحق تعرف أهله . بعض الناس يحسن الظن ببعض الناس فيرى أن كل كلام يقوله حق ، ويرى أن كل تصرف يصدر عنه أنه حق ، وهذا خطأ لأن الحق قيمة ، وهذه القيمة محددة تحديداً قاطعاً بكلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم . فمن أخذ بهذا كان على الحق ، ومن لم يأخذ بهذا فهو ليس على الحق كائناً من كان . ولهذا فواجب المجتمع أن يتواصى بالحق ، ولاحظوا كلمة ( وتواصوا بالحق ) أي التواصي هنا مشترك بين مجموعة ، أي أن الجميع يشترك بالتواصي . فكل واحد أوصى الآخر ، فحينما نسمع ربنا يصف المجتمع المسلم بأن أعضاءه هم الذين تواصوا بالحق معنى ذلك أن كل واحد منهم يعتبر نفسه حارساً لهذا الحق . ومن الضروري أن يقوم الكل بالتواصي بين الجميع . فالصيغة في الآية لا تختص بفرد وإنما بالكل الذين هم قوام المجتمع .

       يا إخوة .. إن قول الحق شديد وله تكاليف ، جرّب نفسك في أي موقف صغير أو كبير ، وجرّب نفسك أن تقف مع الصواب ومع الحق متجرداً من النوازع والأهواء والشهوات والرغبات ، ومتجرداً من القرابة والصداقة والمصلحة ومن أي شيء ، ما أثقل هذا وما أشد هذا ؟ فهذا الدين أثقل شيء عرفته الإنسانية ، إن هذا الدين كما وصف الله ( إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً ) فالحق أمانة في أعناق المسلمين يؤدونها كما يؤدون هذه التكاليف ، إذا لم يصبروا على مواقف الحق ويتحملوا كل التكاليف التي تنتج عن الوقوف مع الحق فإن العواقب ستكون وخيمة في الدنيا قبل الآخرة . إن كثيرين منكم ومن هذه الأمة أعفوا أنفسهم منذ زمن بعيد من الوقوف مواقف الرجال ومن التحلي بشجاعة الرجال ، لكن الذين جرّبوا هذا الطريق وعرفوا ما فيه من المشقّات لم يثنهم الوقوف مع الحق . إن الله تعالى حين ينزل عليكم هذه السورة ليس من أجل أن تقرأون ألفاظها وتترنمون بإيقاعاتها ، ولكن من أجل أن تعيشون بمعانيها وتتمثلونها في حياتكم .

       من بين حروف السورة تستطيع أن تستشف صورة المسلم المتجرد لله وواقفاً مع الحق ، وتستطيع أيضاً أن تستشف صورة المجتمع المسلم، ذلك المجتمع القوّام على الحق ، الحارس لمعاني العدالة على هذه الأرض .

       من بين السطور تستطيع أن ترى كم هي التكاليف الباهظة التي يتحمل هذا المجتمع المسلم الذي ولد حول محمد صلى الله عليه وسلم وتحرك بحركته . كم من الدماء سالت من أجل الحق ؟ لا لمغنم ولا لمطمع ، ولكن من أجل أن تسود كلمة الله ، ولكي يعيش الناس على الأرض بسلام .

       غالب الأمة أعفت نفسها من الوقوف مع الحق ولكن الله لن يضيع هذه الأمة ، وسيهيئ لها من يقف موقف الرجال الذين لا يهابون الموت في سبيل هذا الحق .

       وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين .