الحلقة (3) خاتمة الفاتحة

العلامة محمود مشّوح

الحلقة (3) خاتمة الفاتحة

الحلقة (28) الجمعة 27 رجب 1369هـ-23 تموز 1976م

العلامة محمود مشّوح

 (أبو طريف)

بسم الله الرحمن الرحيم

... فمهما يبلغ بنا الحرص على أن نسرع في تقدمنا نحو التعرف على المزيد من آيات الله تعالى، والفحص للعديد من المواقف ومن الواقعات التي حصلت في بواكير الدعوة؛ فإننا نجد أنفسنا غالباً مشدودين، شئنا أم أبينا، إلى بعضٍ من المعاني التي تفتقر إلى فضل نظر وتأمل ومكرهين على أن نطيل الوقوف عند تفاصيل نحسبها ضرورية من أجل استجلاء السمات الأساسية للحركة الإسلامية.

ولقد سلخنا جمعتين تحدثنا خلالهما عن سورة الفاتحة التي أنزلت على رسول الله صلوات الله عليه وآله خامسةً في نسق الترتيب، وقد كنت أقدر أنني قضيت غرضي من السورة الكريمة؛ ولكني أجدني اليوم ملزماً بأن أعاود الوقوف مع السورة مرة أخرى فثمة أمور لا بد من أن تبحث، ولا بد من أن تُجَّلى وتُفهم من أجل استقامة النظرة إلى الخصائص الأساسية للحركة الإسلامية؛ فلقد ينبغي أن أعيد إلى أذهانكم ما مضى على قوله سنة أو أكثر. كنا نتحدث على سبيل المقارنة بين المناهج؛ أقصد مناهج البناء المناهج الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي يتبناها الناس اليوم وتروّج لها جهات تملك إمكانات ضخمة تريد أن تقرها في الضمائر والعقول والقلوب وبين نهج الإسلام. ما هو المبدأ الذي انطلق منه الإسلام، ولقد أذكر أنني قلت لكم يومها وفي غير هذا المكان طبعاً: إنه في الوقت الذي نجد فيه المدارس الشيوعية والاشتراكية تركز على تصحيح الشرط الاقتصادي من أجل إقامة الحياة الإنسانية على نهج سوي ومستقيم وفي الوقت الذي نجد أن كثيراً من المدارس التي لا تعتمد الماركسية أساساً في دعواتها ولا في تنهيجها ولا في تفكيرها هي أيضاً متأثرة بهذا الاتجاه فهي بسبب ذلك تزيد من التركيز على الشرط الاقتصادي في بناء المجتمعات البشرية في هذا الوقت فإننا نلمس بكل جلاء بصورة واضحة وقاطعة. أن الإسلام يعتبر الشرط الاقتصادي أمراً جزئياً، وليس صحيحاً أنه إليه يرد الأمر كله فالحق أن الإسلام يركز على ضرورة تصحيح الشرط الإنساني وليس الشرط الاقتصادي فقط؛ باعتبار أن تصحيح الشرط الإنساني يتضمن بالضرورة تصحيح جميع الشرائط الأخرى بما فيها الشرط الاقتصادي وآية ذلك أن تصحيح الشرط الاقتصادي في البلدان ولدى الأمم التي أخذت به لم يمنع الانحراف ولم يخفف من وطأة العوج الذي يترك بصماته الواضحة على مسيرة الحياة البشرية.

فالشرط الاقتصادي باختصار يؤسس على مبدأ واضح هو أننا لكي ننفي الشرور عن المجتمع فيجب أن نجتث وأن نقتلع أسباب هذه الشرور، وأسباب هذه الشرور تتمثل في خلل التوزيع وخلل قاعدة الند لدى الناس فنحن إذا ألغينا قاعدة الند، وإذا قمنا بالتوزيع لهذه الخيرات التي تتحصل من عمل الناس ومجهود الناس وكدحهم بالسوية؛ بحيث لا يبقى معنا في المجتمع فتوق تحتاج إلى سد؛ فإنه لا يبقى هناك أي مبرر لأن يسرق سارق أو يقتل قاتل أو يضطهد مضطهد، فهل ما طمح إليه منظرو هذا الاتجاه تحقق كلاً أو بعضاً؟ نقول: لا -مع الأسف- في الاشتراكيات التي مضى عليها من الزمن في التطبيق أكثر من نصف قرن؛ لم تنتف السرقات ولا الرشاوى ولم ينتف الغصب ولا القتل، ولم ينتف القهر ولا الاضطهاد، ونحن نسمع بين الآن والآن فضائح تزكم روائحها الأنوف؛ من مجتمعات تعلن أنها فرغت بالمرة من كل مآسي الرأسمالية بما تحمله من جرائر ونكبات، نسمع هذا ونقرأه في الصحف ونقرأه في الكتب ويتحدث به الناس بلا محاولة لدفع شيء منه، لماذا حينما نقرر أن الأمر كله يرتد من حيث النهاية إلى مبدأ البحث عن الطعام وإلى المبدأ الاقتصادي فنصلح الخلل لهذه الجهة فينبغي أن يستقيم كل شيء.

وحينما نجد أن كل شيء لا يستقيم فالناس تَشْرَهُ حتى في ظل الديموقراطيات الشعبية إلى العسف وإلى الطغيان، والناس تَشْرَهُ حتى في ظل الاشتراكيات إلى السرقة وإلى الغش وإلى الرشوة وإلى العدوان على حقوق الآخرين، والناس تَشْرَهُ إلى الاضطهاد المر على نحو هو أشد ضراوة وأشد بشاعة مما هو موجود في الليبراليات الرأسمالية ففي الليبراليات الرأسمالية؛ العامل، الفلاح، قد يقع عليه ظلم، قد يناله حيف ولكن أمامه مجالاً هو اللجوء إلى القضاء كي ينال حقه وكثيراً ما ينال هذا الحق؛ ولكن في الديموقراطيات الاشتراكية، كما يسمى ذلك، لا العامل ولا الفلاح ولا الكادح يملك حق التقاضي مع ظالميه؛ لأن الخصم هو الحكم في نفس الوقت، ولا يملك إلا أن يجأر بالشكوى إلى الله إن كان بقي عنده شيء من اليقين بالله تبارك وتعالى؛ فلم يصلح شيء بعد أكثر من نصف قرن بعد ستين سنة بالضبط من وضع المنهج الماركسي موضع التطبيق؛ ولم يتغير في النفس الإنسانية شيء فإذا كان الأمر كذلك فالعلة ليست في الشرط الاقتصادي أو على أقل تقدير -وبأمانة علمية مطلوبة وضرورية- ليس كل شيء يرد إلى الشرط الاقتصادي؛ هنالك شيء أكثر أهمية وأكثر إلحاحاً هو ما سميناه بالشرط الإنساني. هذه قضية سبق لنا أن عالجناها باختصار وبإجمال شديد في الماضي وأضفنا إليها اليوم بعض الشروح لنعود فنقفز قريباً من عشرة أشهر لِنُذكَّرَ بما سبق لنا أن قلناه في هذا المكان قبل قرابة شهرين أو أكثر.

قلنا لكم إن بعض الناس قد يتوهم أن العمل في المحيط الاجتماعي له هذه الصورة المعروفة بين الناس التي يكفي فيها مجرد الانتماء إلى حزب ثم ينتهي كل شيء ويكفي فيها ما هو معروف لدى الناس اليوم من أن الإنسان يركز نظره على العالم الخارجي وحسب، وقلنا لكم هذا خطأ فاحش وغلط كبير. فالحقيقة أن الإسلام يوم وَضَعَ للناس منظوره؛ قرر أن الإنسان المسلم يحارب على جبهتين في آن واحد في الذات إصلاحاً لها وتقويماً وأطراً لها على الحق وفي الخارج وكفاحه في الخارج ضمن شرائط شرحناها قلنا إن الإنسان المسلم يتعامل في الخارج مع وقائع فراراً من أن ينصبّ بلاؤه ونقمته على الإنسان من حيث هو إنسان؛ فهو يكافح وقائع اجتماعية ولا ينصب بنقمته وغيظه على الإنسان، لأن هذا الإنسان في كل حالة كائن مرجو أي أنك لا تدري متى يفتح الله قلبه فإذا هو يوافقك في معتقدك وفي اتجاهاتك جميعاً.

كما قلنا إن الإسلام يوم وضع هذا المنظور أعطى للكفاح الداخلي أولوية مطلقة؛ فلا بد من أجل أن يكون كل شيء في إطاره الحق، وفي مكانه الصحيح من أن يكون مسبوقاً بكفاح مر مع ذات الإنسان في الداخل؛ ما لم يُصْلَحْ هذا الإنسان فيُخْرَج بهذا الانطلاق من حالة الخلل إلى حالة التوازن ومن حالة الفوضى إلى حالة النظام ومن حالة القلق والاضطراب إلى حالة الأمن والسلام؛ فلا رجاء مطلقاً في أن يكون هذا الإنسان مبرزاً في أي عمل يتناوله، صغر هذا العمل أو كبر؛ كل هذا كلام قلناه في الماضي والذي استدعى أن نعيد إلى آذهانكم هذا القول كله هو وقوفنا مع سورة الفاتحة.. ولعلكم تستغربون، ولكنا ينبغي أن نسوق الكلام مساقاً جديداً فالله تبارك وتعالى حين قرر مبدأ الألوهية الواحدة، ودمَّرَ على مبدأ التعدد في الآلهة وحين وضع الإنسان في مكانه الحق؛ عبداً لله تبارك وتعالى وحين أبان عن رحمته وعظيم فضله؛ ففتح للإنسان كُوىً ومنافذ ينفذ منها إلى كون الله الفسيح، متسلحاً بالأمل العريض، ومتسلحاً بالابتسامة المشرقة تجاه أشياء الحياة وتجاه أحداث الحياة، وحين رغب إلى هذا الإنسان عرفاناً بحقه أن يجعل توكله على الله واستعانته بالله تبارك وتعالى؛ إنما أعاد له هذا التوازن المفقود ولكي يكون الأمر على ما ينبغي من الوضوح فلا بد لكم أن تتذكروا ما سبق أن قلناه في الجمعة الماضية والتي قبلها -من شمول معنى العبادة- ففي الإسلام العبادة تشمل الحركة الإنسانية كلها ابتداء من الصغير وانتهاء بالكبير، وابتداء من لحظة العقل والرشد وانتهاء بلحظة الوفاة وإدراج الإنسان في أكفانه مودعاً لهذه الحياة..

ما من حركة ولا فكرة ولا تصرف ولا خاطرة إلا وهي واقعة تحت موازين العبادة؛ إذا أخلص الإنسانُ قلبَه لربه، وإذا صدق في اتجاهه نحو الله وإذا وزن كل شيء لديه بموازين الشريعة فهو عابد لله تبارك وتعالى وسواء عليه من بعد أن يكون في مسجد أو يكون في متجر أو يكون في مزرعة أو يكون في ديوان من الدواوين أو يكون على سدة الحكم كل ذلك عبادة لأنه إسهام في إقامة الحياة على المحاور التي رسمها الله تبارك وتعالى لعباده. ولقد خاض الإسلام معارك ضارية جداً مع الذين يخالفون في هذا المبدأ مع الذين لا يرون شمول العبادة، مع الذين لا يوحدون الله تبارك وتعالى؛ من أجل أي شيء؟ ربما يتصور بعض قصار النظر؛ أن الله جل وعلا يغار حينما يشرك الإنسان بربه أحداً، فبدلاً من أن يفرده وحده بالعبادة يشرك معه آلهة أخرى فلذلك يغار الله هذا خطأ الله جل وعلا لا يناله شيء من عبادة العابدين ولا من تهجد المتهجدين ولا من سهر الساهرين ولا من ظمأ الظامئين ولا من جوع الجائعين. فالمصلحة أولاً وآخراً عائدة إلى الناس لكي تهذب من طباعهم ولكي تقيمهم على المحاور التي خطها الله تبارك وتعالى لهم من أجل أي شيء؟ كي تتوازن الحياة كي لا تختل الموازين فيها كي تستقيم حركة هذا الإنسان وحركة المجتمع الإنساني من أجل ذلك فإن الله تبارك وتعالى حين يقرر وحدانيته وحين يهاجم ويندد بمبدأ الإشراك؛ يصف الشرك بماذا يصف الشرك بأنه ظلم عظيم، ظلم من حيث إنه وضعٌ للأشياء في غير مواضعها؛ أي أنه إدخال للخلل على حياة الناس، التي يجب أن تكون متزنة، هذا الإنسان الذي استخلفه الله تبارك وتعالى في الأرض استخلفه لغاية -لكي يقيم أمر الله- ويقيم أمر الله لكي تستقيم له حياته الدنيا، ويسعد يوم القيامة في الآخرة، ومسألة الاستخلاف عرضت لكم طرفاً منها في الجمعة الماضية؛ ولكني أحب أن أضيف إليها أموراً ذات بال فالله جل وعلا حين يستخلف في الأرض بشراً يقومون على أمره، يريد منهم أن يكونوا بشراً بالمعنى الكامل؛ لا أن يلغوا شخصياتهم ولا يذيبوها ولا يميعوها لا يحاولوا أن يكونوا إمعات تتبع كل ناعق، وتطبل مع كل مطبل، وتلغي كل إرادتها وكل مبادراتها؛ الله جل وعلا لا يريد هذا من الناس، يريد من الإنسان أن ينظر وأن يفكر وحين عرض عليه أهم شيء؛ وهو قضية الوحدانية، ناداه بلسان العقل وبمبدأ النظر المنطقي المحكم الصارم حين كان بعض الناس يعبد بعضاً قال لهم:

(إن الذين تدعون من دون الله عباداً أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين).

فإذا كان هذا المخلوق الذي تقول هو ربي؛ عبداً مثلك لا يمتاز عليك بشيء؛ فأي شيء رشحه لكي يرى لنفسه من المكان والمنزلة غير ما هو له في الواقع، ألم يندد الله تبارك وتعالى بهؤلاء تنديداً -لا يقصد منه التهجم والفضح- وإنما يقصد منه التعرية والكشف، ويقصد منه لفت النظر، نظر الإنسان لكي يكون مدركاً وواعياً ومفكراً تقرؤون من سورة البقرة:

(ألم تر إلى الذي حاجَّ إبراهيم في ربه إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال –من؟ النمرود- أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر، والله لا يهدي القوم الظالمين)

 فترون أن الله جل وعلا، حين عرض هذه اللوحة على النحو الذي عرضت عليه؛ عرضها وهي تحمل جانبين بارزين الجانب الأول إظهار العجز الذي هو ملازم لكل مدعي الألوهية، والجانب الثاني وضع القاعدة العقلية المنطقية المحكمة بين يدي إبراهيم ومن ثم بين يدي الدعاة إلى الله جميعاً كي ينظروا نظراً متحرراً مدركاً واعياً ويكشف أن هذه المدعيات التي ادعتها الأمم الماضية من قبلنا، وما زال طوائف كثيرة من الناس تدعيها حتى الآن لا تقوم أمام نظر ولا تستند إلى شيء من المنطق.

أنتم تقرؤون في القرآن ما تكلم الله جل وعلا به عن فرعون، ففرعون أيضاً من الذين ادعوا لأنفسهم الألوهية لكن الله جل وعلا قال لنا عن فرعون إنه:

قال أنا ربكم الأعلى.

وقال لهامان:

(ابنِ لي صرحاً لعلي أبلغ الأسباب أسباب السموات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذباً).

واكتفى القرآن بهذا لبيان ادعاء فرعون ما ليس له؛ ولكنه حين كشف الجانب الآخر الجانب المظلم في العادة حينما تُعْرضُ أمورٌ من هذا القبيل؛ قال عن قوم فرعون كلاماً يستدعي التأمل قال عن فرعون:

(فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوم سوء فاسقين).

ففرعون حينما تأله وحينما نادى: (يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون، أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين).

فرعون حين قال هذا القول لو قاله بين قوم أحرار يملكون حس النظر ويملكون قدرة العقل على تقليب الأمور؛ لرد كلامه ولجبه تجبيهاً ولجرجر في الوحل ولكنه قال لقوم ألغوا عقولهم، فلم يفكروا، ولم يدركوا والناس من شأنهم أنهم حينما يرون ويجدون ظهراً وطيئاً يركبونه. ففرعون ركب قومه، وتأله عليهم؛ لأنه -استخفهم وجد عقولهم خفيفة- ولماذا لأنهم كانوا قوم سوء، فاسقين عن أمر الله تبارك وتعالى؛ لأن الصواب والحق والعقل والمنطق لا يمكن أن يتوفر ذلك كله إلا بين قوم مستمسكين بأمر الله عن وعي وعن يقين كذلك فالقرآن حين لفت أنظار الناس إلى فساد ما هم فيه من تأليه الأشياء قال:

(ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون).

كان ناس يعبدون الشمس وما يزالون، وناس يعبدون القمر وما يزالون فالله جل وعلا في مواطن عدة ذكر للناس: أنه سَخَّر هذه الخلائق لهم:

(الله الذي خلق السموات والأرض، وأنزل من السماء ماءً فأحيا به الأرض بعد موتها).

(الله الذي سخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار).

فأي عقل يمكن أن يدفع بالإنسان إلى السجود لشيء مسخر له مهيأ لخدمته؟ الله قال للناس: الشمس والقمر الكواكب كل ما في الكون خلقه الله من أجلك أيها الإنسان؛ فأنت تأتي لتلغي ذاتك لتحطم شخصيتك فتسجد لهذه الأشياء -التي يفترض أنها خادمة لك- فترون أن الله تبارك وتعالى في كل ما عرض، عرض على نحو عقلي وعلى نحو علمي يراد منه ماذا؟ ليس كما تفعل الدعايات الفارغة وأجهزة الإعلام المجرمة التي تحطم عقول الناس، وضمائر الناس، ونفسيات الناس، في هذه الأيام، وإنما عرضها على نحو يفتح الشخصية، ويجعل لها استقلالها، ويجعلها تحسن تقديم مبادراتها الخيرة والمفيدة على أي أساس. هل ترك الإنسان هكذا يفعل ما يشاء؟ قطعاً لا.

إن الإنسان مخلوق عجيب والله جل وعلا وصف هذا الإنسان بأوصاف قال:

(وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً).

وقال:

(خلق الإنسان من عجل).

وقال عن الإنسان:

(إنه كان ظلوماً جهولاً).

ذلك تقرير حقائق تتعلق بالذات الإنسانية لا مجال لنكرانها ولا مجال للقفز من فوقها فحين يترك هذا الإنسان دون هداية ودون إرشاد، يترك لمبادراته الخاصة، لكن الإنسان جاهل بطبعه وهو يجهل أبسط الأشياء التي تتعلق به؛ جسمه الذي يعرفه أكمل معرفة ما يزال يجهل منه الكثير، هذه الذبابة التي تتعلق بالسقف لا يدري الإنسان حتى الآن ما هو الشيء الذي يمسك بها بالوضع المقلوب؛ خلافاً لقوانين الجاذبية كل هذه أشياء صغيرة وصغيرة جداً يجهلها الإنسان فإذا نحن أعطينا الإنسان حق التصرف بالتخطيط وفي التنهيج وفي رسم الحدود لحياة لها بداية ولا يُدرَى متى نهايتها؛ ولإحياء من مضى منهم ومنهم من هو قائم ومنهم من لم يأت بعد وإلى آماد بعيدة جداً؛ فنحن في الحقيقة نضع أخطر الأمور في يد أجهل الأدوات ولهذا فمبدأ النبوات الذي هو مبدأ الإسلام لم يترك هذه الأمور لاجتهادات الناس ولم يتركها لمبادراتهم لا ضناً عليهم بذلك ولكن عرفاناً بقدراتهم فالإنسان، لا يقدر لأنه لا يعلم ولا يقدر لأن حدوده معروفة فحين يحاول الإنسان أن يغتصب حق التشريع وحق التوجيه وحق التنظيم فإنما يغتصب شيئاً لا يتصل به.

في حديث عدي بن حاتم الذي رواه الإمام أحمد والترمذي وابن جرير، كلهم من طرق عدة؛ قال أُسِرَتْ أُختُ عَدِيّ ابنة حاتم الطائي؛ زعيم قبيلة طيء في الجاهلية والمشهور حتى اليوم بالكرم ومحاسن الأخلاق، فلما قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم قالت له: يا رسول الله أنا ابنة حاتم الطائي، والرسول عليه الصلاة والسلام لا يجهل حاتماً، والعرب كلها لا تجهل حاتماً فقال النبي صلى الله عليه وسلم؛ خلوا عنها فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق؛ ثم أعطاها وحَمَلها وأكرمَهَا، فرأت من معاملة النبي عليه السلام وطيب عنصره واستقامة منهاجه وحسن تأتيه للأمور وسلامة سياسته؛ ما فتح صدرها للإسلام ودفعها إلى أن تذهب إلى الشام، تبحث عن أخيها عدي؛ فلما جاءته قال له: الْحَقْ برسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لا يرد من جاءه تائباً مسلماً، وجاء حاتم -كان النبي عليه الصلاة والسلام في المدينة- وكان الرجل نصرانياً على نصرانيته كعادة قبيلته، وحين تسامع الناس بقدوم عدي وهو سيد قبيلة طيّء، خرجوا حتى العواتق من الخدور خرجن لينظرن إلى موكب عدي، وإلى لباس عدي، عدي يلبس الحرير والرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه في المدينة لا يجدون ما يكاد يستر العورة؛ خرجوا يتفرجون على هذا المنظر، ودخل عدي على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنق عدي صليبٌ من فضة، ويشاء ربك أن يدخل عدي والنبي عليه الصلاة والسلام يقرأ قول الله جل اسمه:

(اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح بن مريم -يعني اتخذوه أيضاً رباً- وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون).

لفتت الآية نظر عدي -عدي نصراني والكلام الإلهي هذا منصب على كشف حالة النصارى- قال يا نبي الله إنهم ما عبدوهم -عدي رضي الله عنه تصور العبادة مجرد سجود لمخلوق- فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: بلى يا عدي؛ إنهم أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال، فأطاعوهم فتلك عبادتهم إياهم. بكلام النبي عليه الصلاة والسلام مضموماً إلى الآية الكريمة نكتشف شيئاً هاماً جداً، اقرأوا الآية مجدداً:

(اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح بن مريم).

لم يسجل التاريخ أن الأحبار والرهبان عُبدوا بالذات أبداً؛ لكن التاريخ يعي والحاضر يشهد أن النصارى اعتقدوا أن المسيح ابن الله، أو هو الله على الحقيقة، أو هو ثالث ثلاثة؛ فالمسيح عليه السلام معبود بالذات، والأحبار والرهبان معبودون لا بالذات ولكن مجازاً؛ من أين أمكن أن يوصفوا بأنهم أرباب وبأنهم معبودون من دون الله؟ بما شرح محمد صلى الله عليه وسلم.

إن العبادة كما بيّنا من قبل ليست مجرد الركوع والسجود والقيام فذلك جزء من العبادة وكما قلنا في الجمعات الماضيات: ساحة العباد واسعة وشاملة، فالطاعة التي تُؤَسَّس على معرفة وإقرار بحق مخلوق من المخلوقات أن يشرّع وأن يأمر وأن ينهى وأنه يوجه استقلالاً دون رجوع إلى أمر الله ودون رجوع إلى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عبادة لا ريب في ذلك.

ما معنى العبادة؟ الطاعة؛ فحينما يأتي الحاكم فيأمرني أن أتعامل بالربا -خلافاً لأمر الله تبارك- وتعالى فأطيع فأنا أعبد الحاكم ولا أعبد الله تبارك وتعالى، حينما يأتي الحاكم فيصدر مرسوماً -نحن رئيس الجمهورية بناء على كذا وكذا نأمر بفتح محل للدعارة العامة في المكان الفلاني- أو بفتح محل لبيع الخمور؛ فنطيع فنحن في الواقع نعبد الحاكم ولا نعبد الله تبارك وتعالى. العبادة باختصار هي الطاعة فإذا أسلمنا المقادة وأعطينا الطاعة لمخلوق من المخلوقات على أي نحو من الأنحاء؛ بشرط أن يكون ذلك بمعزل عن إرادة الله وبمعزل عن إرادة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛فقد خرجنا من عبودية الله تبارك وتعالى ودخلنا تحت عبودية الناس وبهذا المعنى فإن الله تبارك وتعالى كان ينهى عن هذا الشيء.. حينما كان النبي عليه الصلاة والسلام يوجه إلى أهل الكتاب كتبه يدعوهم فيها إلى الإسلام كان دائماً يختتم كل رسالة بقول الله تبارك وتقدس:

(قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء؛ بيننا وبينكم، أن لا نعبد إلا الله ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله).

هل من المعقول أن أعتقد أنك ربي وأن تعتقد أنني ربك.. على الحقيقة؛ لا ولكن حينما تطيعني طاعة عمياء مبتوتة الصلة بأمر الله وبأمر رسول الله، فأنت تتخذني رباً وحينما أطيعك بهذا فأنا أتخذك رباً والمسلمون رُبُّوا ووُجِّهوا وكُوِّنوا على رفض تعبُّد الناس بعضِهم لبعض.

في كلام شداد بن الهاد رضي الله عنه أمام رستم حينما قال له في فتوح العراق ما أخرجكم قال:

"إن الله أخرجنا -ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، فعبادة العباد هي هذه الطاعة هي إلقاء المقادة التي يتورط فيها المسلمون اليوم بجهل وغباوة تبعث على الحزن بل تبعث على الإحساس بمزيد من الخطر. المسلمون مثلاً اليوم يقادون في كل مجتمعاتهم خلافاً لأمر الله؛ وما من دستور في بلاد العالم الإسلامي إلا ما ندر وعلى سبيل رفع العتب؛ ينص على أن الناس يُحْكَمون بأمر الله ووفاقاً لشريعة الله؛ بل الأمر أكثر من ذلك إن المسلمين يواجَهون بالصَدِّ والتكذيب وبالمحاربة والمطاردة وبالقتل وبالسجون؛ لمجرد أن ينادوا بضرورة تطبيق أمر الله جل وعلا بين الناس؛ فكلمة الله محارَبة، وأمرُ الله مردود، والتمرد عليه وارد، ولا يبرأ من هذا الداء الوبيل لا شرق ولا غرب ولا شمال ولا جنوب، على امتداد الرقعة الإسلامية -مع شديد الأسف والحزن- لكن الأمر ليس هنا؛ فنحن نعرف أن مساحة العالم الإسلامي؛ شعوب مسلمة وحكومات كافرة نحن نعرف هذا؛ ولكن كلامنا إلى الشعوب، حديثنا إلى الشعوب -إليكم يساق الحديث- ما نتيجة هذا التهاون؟ ما نتيجة هذه اللامبالاة؟ ما نتيجة هذه الغفلة؟

أليس مزيداً من التدهور والدمار، إن فقدتم الحس باستنباط دروس التاريخ الماضي، فالتاريخ الحاضر كفيل بأن يوقظ الغافل، كفيل بأن يرد الناس إلى مزيد من التعقل وإلى مزيد من التساؤل؛ لماذا توالت وتواترت على المسلمين في كل شبر من أراضيهم، كل هذه البلايا وكل هذه النكبات؛ أذلك قدر مفروض؟ لا؛ ولكن تلك عاقبة التملص والمروق والتحلل وتلك عاقبة اللامبالاة. إن الله جل وعلا لا يمحو السيء بالسيء؛ ولكن يمحو السيء بالحسن، وإن عائشة رضي الله عنها سألت نبيَّ الله عليه السلام: يا رسول الله؛ أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث؛ فإذا كان هذا الوباء منتشراً بين الناس؛ فالصالح لا ينفعه صلاحه وسيدمُّرُ عليه في جملة من يدمر عليه حين ينزل البلاء ورأيتم نحن واجهنا بلاء الاستعمار، وأخرجنا الله منه بشيء ليس من صنعنا، وواجهنا بلاء إسرائيل عدة مرات وبرغم كل ما يقول منذ عام 1948 وإلى تاريخه أدناه يسجل انتكاساً مستمراً في مسيرة العالم العربي ومسيرة العالم الإسلامي، بخصوص المواجهة مع إسرائيل؛ لماذا؟ أقَّلةٌ نحن؟ لا. أعَجزٌ؟ لا - الخلاف في التركيب؟ نحن بشر وهم بشر، ولكن نحن قوم تمردوا على أمر الله، وحين تمردوا على أمر الله جل وعلا، وقعوا في المحذور ما هو المحذور؟ هنا أبرز النقطة الأخيرة التي أريد أن أقولها لكم؛ إن تأكيد الإيمان في النفوس وتسليطه على الضمائر والعقول والقلوب يمنح الإنسان المسلم سلاماً ووئاماً واطمئناناً، ويجمع له همه وإن الإنسان -غير المؤمن- إنسان ممزَّق مغرق مشتت؛ عبادة الإسلام، حقائق الأيمان تنتشر كما رأينا على ساحة الحياة الإنسانية؛ فهي تحكمها جميعاً؛ وتحكمها على نسق بديع، أرأيت الجهاز الميكانيكي الذي يعمل بصورة آلية؟ كل جزء فيه يعمل في مكانه لأداء الغاية النهائية للجهاز كله -لو اختل عمل هذا الجزء أو ذاك لبطل عمل الجهاز- كذلك الإنسان كل قواه النفسية كل طاقاته؛ خلقها الله جل وعلا لتعمل متعاونة هل تعمل شذوذاً على قانون الكون؟ أم انسجاماً مع قانون الكون نقول تعمل انسجاماً مع ناموس كله تصور أن الشمس طلعت من المغرب، فإن ذلك يؤذن بفناء العالم؛ فأي خروج على الناموس، أي خروج على النظام، أي خروج على التناسق والتناغم في الكون؛ يؤدي إلى دمار الكون. فكذلك أي خروج على التناسق الذي حددته الشريعة في الحياة الإنسانية يؤدي إلى خلخلتها وفسادها -والله جل وعلا- لو رغبتم أن تتحرّوا الأمر وتتعرفوا عليه من واقع القرآن لوجدتم ربكم تبارك يقول:

(وضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء متشاكسون ورجلاً سَلَماً لرجل هل يستويان مثلاً الحمد لله رب العالمين).

-أترجم لكم هذا الكلام- إن الله جل وعلا ضرب هذا المثل لبيان حالة صنفين من الناس؛ الصنف المؤمن والصنف المشرك بالله تبارك وتعالى أو الجاحد لربوبية الله تبارك وتعالى؛ فوصف أو مثّل للإنسان الكافر بالرجل المملوك، ملكاً لشركاء متعددين -وهؤلاء الشركاء غير متفاهمين بل هم شركاء متشاكسون- هذا يريد منه شيئاً وذاك يريد منه ضده والآخر يريد شيئاً، الآخر يريد منه ضده؛ فهذا الإنسان الذي تنصب عليه الأوامر وتنصب عليه الطلبات، متضاربة متغايرة، لا يمكن أن يأتي بشيء حقيقي على الإطلاق؛ بل هو سيصاب بالشلل -لا يمكن أن ينفذ أمر كل الشركاء في آن واحد- وهؤلاء الشركاء لتشاكسهم ولتخالفهم لم يتوصلوا إلى قرار فيما بينهم يحفظ لهم توزيعاً في الأدوار؛ هذا العبد المملوك يؤدي لكل واحدٍ غَرَضَهُ في وقته المحدد لا كلٌ يريد منه أن يقوم له فوراً بطلبه فلا يمكن أن يتحقق أي عمل، وبالتالي لا يمكن أن يكون حال هذا الإنسان المملوك إلا شراً مستطيراً وإلا تمزقاً هائلاً.

ما مثال الإنسان المسلم ورجلاً سلماً لرجل؛ هو مملوك لرجل واحد لا يعرف إلا أمر هذا الرجل؛ فهو إِنْ أُمِرَ أطاع، وإِنْ طُلِبَ إليه شيء لبى، فحياته مستقرة متناغمة سليمة فالله جل وعلا إذ يضرب لنا هذه الأمثال يضربها لبيان أن الإيمان يمنح التوازن ويمنح السلام ويمنح الاطمئنان، ويضربها لبيان أن الكفر والفسوق والعصيان والشرك يؤديان بالإنسان إلى تمزق وإلى خلخلة وإلى انحسار معنى العبادة عن كثير من أجزاء الحياة، هل يقف الأمر عند هذا الحد؛ أم نحن مضطرون أن ندفع القضية دفعة أخرى إلى الأمام كي تتجلى لنا عظمة الإسلام وغاية الإسلام النهائية من هذا كله، حين يقضى الإسلام على توزع الهموم ليجعل للإنسان هماً واحداً لينصرف إليه. حين يقضي الإسلام على هذا القلق والاضطراب الذي ترزح الإنسانية اليوم تحت جرائره ومفاسده وأخطاره، فما الذي يكون، يكون أننا برأنا الإنسان من اللاجدوى ومن العبث وبرأناه من الشلل ومن التمزق. وجعلنا منه كائناً يعرف غايته؛ فيحشد لها كل طاقاته لا يوزع نفسه هنا وهناك إرضاءً لنزوة عابرة أو إطاعة لزعيم أو ما أشبه ذلك؛ وإنما يصمم ويعزم على غاية واحدة؛ هي رضوان الله تبارك وتعالى، فنحن إذاً أمام نموذجين أمام نموذج فعال منتج وأمام نموذج بطال سيء. النموذج الفعال المنتج؛ هو الإنسان المؤمن الذي سخَّر كل طاقاته كل إمكاناته كل قواه النفسية والمادية والروحة لتحقيق الغاية التي يراها بجلاء أمام عينيه ويسعى نحوها بثبات؛ والإنسان الآخر النموذج الآخر؛ هو الذي يعيش حياة مهزوزة لا تعرف كيف تستقر وأنى تستقر وأين تستقر؛ والإسلام أراد هذا لماذا أراده ليضع قواعد الشخصية الإنسانية على دعائمها الثابتة، أرادها لكي تتفتح هذه الشخصية الإنسانية ولا يمكن أن تتفتح الشخصية الإنسانية إلا مع أمر الله، إلا وفاقاً لشريعة الله التي تجمع طاقة الإنسان وتوجهها نحو الخير ونحو الإنتاج والبناء. ولهذا نجد أن حرص الإسلام شديد وعظيم، على عدم الكبت الناشئ عن الإذلال المدمر للشخصية الإنسانية؛ فالنبي عليه الصلاة والسلام ينص بصراحة أن ظهر المؤمن حمى كما أن الحمى لا يجوز انتهاكه؛ فكذلك ظهر المؤمن حمى من الحمى الذي قرره الله وينص عليه الصلاة والسلام بمنتهى الصراحة والوضوح: لا تضربوا المسلمين فتذلوهم ونحن نجد أن ظهور المسلمين كلأ مباحُ لإمعات فاسدين مفسدين، ولزعماء مزعجين جداً ومخربين لكل معنى نبيل في الحياة الإنسانية، ونحن نجد أن نظماً كثيرة جداً لا تستبيح ضرب الناس فقط، وإنما تستبيح قتل الناس وإزهاق أرواحهم وسفك دمائهم وذلك ضد الإسلام.

الإسلام يريد هذه الطاقة، هذه الشعلة التي هي من روح الله، شعلة الإنسانية كاملة مضيئة متوازنة لا يرضى أبداً أن تُكْبَتَ في غير ما يرضي الله، ولا يرضى أن توزع وأن يُشَتَّت أمرها؛ لماذا لأنها هي عدته عندنا في الإسلام، نحن والله لا نتقوى بسلاح ولا نتقوى بأعدا، فالسلاح عند خصومنا كان أكثر مما نملك، والعدد عند خصومنا كان أكثر مما لدينا، ومع ذلك فقد انتصرنا، وقد حققنا مكاسب ما زال التاريخ يفغر فاه دهشاً؛ كيف أمكن أن تحقق كل هذه المكاسب الضخمة، بهذا الوقت القصير -مع ذلك فالأمر قريب- من قريب الأمر أمر شخصية استقرت على قواعدها الثابتة، ومضت مصممة إلى غايتها لا تلوي على شيء، ألم تسمعوا ما يذكر الله جل وعلا عن حال المسلمين في أعقاب أحد -بعد الكسرة التي حلت بهم بعد الهزيمة بعد الجَرْح والقَرْح:

(الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو الفضل العظيم).

ألم تقرؤوا في القرآن ما ينبهكم به الله جل وعلا:

(أليس الله بكافٍ عبده ويخوفونك بالذين من دونه). فالإنسان المسلم بما أنه الشخص المتوازن بما أنه الشخص الذي يرى الغاية كاملة الوضوح، بما أنه الشخص الذي يحشد لهذه الغاية، كل الهم يملك القدرة على الثبات، على نحو لا يملكه أي إنسان، فالفاتحة حينما نقرأها فنراها تربط الإنسان عبداً بالله رباً واحداً أحداً فرداً صمداً، وحينما تكشف لهذا الإنسان عن رحمة الله ويعلم أن عبادته لله على النحو الذي أراده الإسلام مظهرٌ من مظاهر هذه الرحمة؛ وحين يجعل لجوء الإنسان إلى الله وتوكله على الله واستعانته بالله، حينما يفعل هذا يمارس تغييراً بعيد المدى هائلاً جداً في داخل الشخصية الإنسانية؛ ولكن هل نستطيع نحن أن نفصل بين الداخل والخارج؟ إن هذه الآيات تنزلت على رسول الله فتمثّلها وقرأها على المسلمين، فانسجموا معها وتكيفوا وفاقاً لها؛ فكانت نماذج تمشي بين الناس رآها الجاهليون؛ فإذا هي شهادة حية ناطقة متحركة على صَغَارِ الجاهلية وعلى قمامة الجاهلية، وعلى قزامة الجاهلية؛ ومن هنا ثارت الجاهلية ثورتها العارمة في وجه المسلمين -كانت الآيات تمارس تغييراً داخل الذات المسلمة- لم تتعرض أبداً لما هو خارج هذه الذات، لم تتعرض إلى الساحة المشركة، ومع ذلك فحين أفلحت هؤلاء الآيات وأمثالها وأشباهها في سبك الشخصية المسلمة على النحو الذي تعرفونه وتسمعون عنه؛ ثارت ثائرة الجاهلية لأنهم رأوا القمم السامقة التي تشهد على صَغَارهم وعجزهم وانكسارهم؛ وسوف نرى في الجمعة القادمة إن شاء الله حينما نستعرض لكم سورة المسد وهي سادسة السور حسب ترتيب النزول التي أنزلت على رسول الله عليه الصلاة والسلام، سوف نرى نموذجاً غريباً وعجيباً لهذا اللدد في الخصومة، ولهذه الرعونة المنقطعة النظير ممن؟ من أقرب الناس إلى محمد من أولاهم به من عمه أبي لهب ومن زوجة عمه التي كانت تخطب ابنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم لولديها.. سوف ترون أن هذا التغيير الهائل في داخل المجتمع المسلم الوليد وَلَّدَ هذا التحرك البغيض الشرس، الذي ووجه به المسلمون؛ فإلى الجمعة القادمة نترككم لنتحدث إليكم حول سورة المسد آملين إن شاء الله لنا ولكم وللمسلمين جميعاً أن نتعرف على معاني الفاتحة وأن نقرأها حين نقرؤها ونحن نقرؤها كل يوم سبع عشرة مرة على الأقل بقلوب مفتحة بآفاق واسعة وان نفيد منها تقويماً لأنفسنا وتهذيباً لخلائقنا ورباطاً لنا بالله تبارك وتعالى؛ والله جل وعلا يتولى هدانا وهداكم وهدى المسلمين جميعاً وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين.