سورة المزمل

العلامة محمود مشّوح

سورة المزمل

الحلقة العاشرة - الجمعة 14 رمضان 1395هـ -19 أيلول 1975

العلامة محمود مشّوح

بسم الله الرحمن الرحيم

أما بعد أيها الإخوة المؤمنون فما زلنا بعداء نوعاً ما عن المرحلة الحاسمة في تاريخ الدعوة ما زال الوقت مبكراً بعض الشيء عن مواجهة مستلزمات قول الله تعالى لنبيه صلوات الله عليه وسلامه: يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر.

نحن الآن في مواجهة مرحلة مبكرة في الزمان، لكن الأمر الذي يلفت النظر في هذه المرحلة أنها تكاد تُعْنَى عنايةً خاصة بشؤون الدعوة والدعاة فقط، دون التفاتٍ يُذكر إلى ردود الأفعال التي أحدثتها الدعوة في صفوف الجاهليين.

نحن نواجه الآن سورة –المزمل- ثالثة السور المكية في ترتيب النزول على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه السورة العجيبة تبدأ هكذا:

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿يَا أيُها المُزمِّلُ قُمِ الليل إلا قَليلا نِصْفَهُ أو انقصْ منهُ قليلاً أو زدْ عليه ورتِلِ القُرآن تَرْتيلاً﴾.

وهي بداية تستوقف النظر، وتستدعي التأمل.

يا أيها المزمل؛ فاتحة عجيبة حاول بعض المفسرين حين النظر إلى هذه الفاتحة أن يفر من مواجهة مدلولها لما تخيل من أنَّ المعنى المتبادِرَ إلى الذهنِ -أول البديهة- معنى لا يليق بالنبي صلوات الله وسلامه عليه.

قول الله تعالى خطاباً للنبي عليه السلام يا أيها المزمل: والمزمل هو المتزمل في ثيابه، والمتزمل في ثيابه هو المتدثر بها، لأن أصل الكلمة من مادة زَمَلَ –الزاي- والميم- واللام- وهي تدل على الثقل والحمل وعلى التغطية أيضاً، ويُحْمَلُ الكلامُ على أن المراد به خطاب النبي عليه الصلاة والسلام وهو في حالة تهيُّؤ للصلاة، أي أن الكلام خاطب النبي صلى الله عليه وسلم، وهو في حالة جد والتزام مع أرقى مستويات الدعوة، مع أن الأمر على خلاف ذلك يا أيها المزمل، تزمل في ثيابه حين ينام وحين يتخفف من متاعب الدنيا وأوصابها، والنبي صلى الله عليه وسلم -وهذا هو موطن العجب- لم يكن مضى عليه طويلُ زَمنٍ ولا كَبيرُ وقتٍ وهو يتلقى وَحَي الله تعالى؛ سورتان فقط مرتا سورة العلق بنبراتها الحاسمة وفواصلها القصيرة وجرسها الشديد الوقع، وسورة القلم.

بهذا التمهل والترسل، وبما عرض له من مواقف بعض المشركين، وبما خط للنبي صلى الله عليه وآله والمؤمنين معه؛ من سبل المواجهة والوقوف في وجه المشركين؛ سورتان فقط نزلتا يتلقى النبي صلى الله عليه وسلم بعدهما هذا التعريض المر؛ ماذا تفعل يا محمد وقد جاءت الروايات بأن النبي صلوات الله عليه حين نزلت عليه هذه السورة أو أوائلها على الأقل، كان مضيفاً إلى فخد خديجة رضي الله عنها -يعني كان متكئاً ونائماً- على فخد زوجته، حالة تخفف من العبء، حالة ركون إلى أحلى ما في الحياة الإنسانية، وأمتع ما فيها حالة الإضافة إلى الزوجة التي تمثل عنصر الأمان والاستقرار والانصراف عما وراء عتبة باب الدار؛ فالله جل وعلا لم يمهل نبيه صلى الله عليه وآله لكي يَرْكَنَ إلى هذا اللون من الحياة الوادعة الآمنة المطمئنة وإنما جاءه النداء الرباني يُعَّرِضُ بحالته هذه؛ مشعراً إياه بأن حالة الدعاة يجب أن تكون شيئاً غير هذا.

يا أيها المزمل، يا أيها المفضي إلى زوجتك تلتمس عندها الراحة والهدوء؛ يا أيها النائم في بيتك المتدثر في ثيابك وفي فراشك تلتمس التخفف والدعة والهدوء والاطمئنان.

يا أيها الذي يفعل هذا فقط بعد سورتين من القرآن قم الليل إلا قليلاً، تكليف يأتي بعد تعريض. نعم في التعريض قسوة ولكنها القسوة اللازمة لإيقاظ النفس النائمة عمَّا تقتضيه الدعوة من جد ونشاط، وبالفعل تنبيه النبي عليه السلام إلى ما يراد منه، وإلى ما أراد الله به من كرامة حمل الدعوة، وكان بَعْدُ؛ حينما تناديه زوجه مريدة إياه على شيء من الراحة أن يريح هذا الجسد المتعب المكدود أن يأخذ لنفسه بعض قسطها من الراحة والنوم يقول لها مضى عهد النوم يا خديجة.

لقد وعى الدرس بتمامه بكل ما فيه من قسوة في الخطاب؛ لكن مع كل الآفاق والأبعاد التي خطها أمامه الخطاب الإلهي المكرم ﴿يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا﴾، وَذِكْرُ الليل هنا ثم استثناء بعضه يطبع في الذهن حقيقة المهمة بضخامتها وبصعوبة أكلافها، قم الليل لا تنم ثم يأتي الاستثناء من بَعْدُ يُجَرُّ جراً ضعيفاً ويسحب سحباً واهناً هذا القليل الذي استثنى الله تبارك وتعالى من القيام ومن التهجد ومن العبادة.

ماذا طلب من النبي إذاً عليه السلام؟ هل طلب منه أن يخرج شاهراً سيفه لكي يجالد المشركين، أم طلب منه أن يخرج إلى طرقات مكة وأزقتها ليحدث فيها شغباً مستطيلاً ومستعرضاً؟

هل طلب منه أن يمد عينيه إلى ما تموج به الحياة من حوله من مفاسد وشرور ويطلب إليه أن يقتلها ويجتثها من الجذور؟

كل ذلك لم يكن ولا شيء منه.. طلب محدد لَكنْ ذاتي. طلبٌ يعود على الذات؛ قم الليل إلا قليلا، ظني أن عقول أبناء هذا الزمان لا تطيق استيعاب مثل هذا الأسلوب إذا كانت الحياة من حولنا تصطرع بالتيارات الجاهلية، وإذا كانت الشرور والمفاسد من حولنا تتنزى بها جوانب الحياة تجرح الفضيلة، وتسيء إلى الحق، وتهين كل معاني العدالة والإنسانية، فما معنى أن يطلب إلى الإنسان أن يقوم الليل إلا قليلا. لكن سنمضي أولاً... سنمضي في استعراض صورة الموقف المطلوب وبعد أن نستعرض صورة هذا الموقف سَنَكِرُّ بالحديث على هذه النقطة التي أثرناها وذكرناها.

يقول له الله جل وعلا:

﴿قم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا، أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا﴾.

فالمطلوب من القيام نصف الليل أو أن ينقص منه صلوات الله عليه قليلاً أو أن يزيد عليه قليلاً، وما هو أقل من النصف درجة فهو الثلث. وما هو أكثر من النصف درجة فهو الثلثان، فطلب القيام في الليل يرد بين الثلث وبين الثلثين؛ أن يقوم المسلم مع النبي عليه الصلاة والسلام فترة من الليل، لا تقل عن الثلث ولا تتعدى الثلثين؛ لكن مع ماذا مع ترتيل القرآن ومع قراءة القرآن بإمعان وبتمهل.

ما معنى الترتيل: الترتيل مصدر مادة رتّل، والراء والتاء واللام في لغة العرب جذر لغوي يدل على التنسيق والترتيب، وعلى حسن الأداء إذا حُمِلَ على الكلام لأن الأصل حين أطلقته العرب قالت ثغرٌ رَتَل أي ثغر مفلج الأسنان منتظمها بَيِّنه، يعني بين كل سن وسن فواصل دقيقة، لكن ملحوظة على نسق ونظام مرتبين، فهذا هو الأصل في الوضع اللغوي ومنه استعيرت بقية الصور في الكلام.

ما معنى الترتيل أو ما يعطيه معنى الترتيل حين يحمل على الكلام، وينظر إليه من هذه الباب؟

معناه التمهل في أداء القول، عدم الإسراع والهذِّ في الكلام ثم أن يأخذ كل حرف من الكلمة حقه من مخرجه من الجهاز الصوتي الإنساني، فالترتيل يحمل معنى التنسيق ولكن يحمل أيضاً معنى الوضوح والبيان، فالمتكلم الذي يأخذ بعض الحروف فلا يكاد يبين لا يسمى مرتلاً، والقارئ الذي يهذُّ آيات القرآن هَذَّاً، ويسرع في تلاوتها إسراعاً لا يسمى مرتلاً، أحبُّ أن أقف عند هذا المعنى؛ لأسوق واقعة كبيرة من وقائع العصر النبوي الكريم، تدلكم على مبلغ ما تأدب به النبي صلى الله عليه وسلم بتأديب الله إياه يوم قال له الله: ورتل القرآن ترتيلا.

من طبيعة الأمور أن نقرر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان معروفاً وقبل النبوة أنه كان من الفصحاء البلغاء الأمناء في العرب، فهذا شيء مشهود به للنبي صلى الله عليه وسلم ولكن حينما كانت تتنزل عليه بعض الآي من كتاب الله، كان لحرصه البالغ على أن يسجل في ذهنه ويطبع في ذاكرته كلام الله جل وعلا، كان يسابق جبريل في الكلام، إرادة أن يعي وإرادة أن يحفظ ومخافة أن يتفلت من ذهنه ومن ذاكرته كلام ربنا جل وعلا، فالله جل وعلا لحظ هذا وقال له:

﴿ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه﴾.

فالنبي صلى الله عليه وسلم أحياناً يدفعه الحرص على جمع الآيات الموحى بها على التعجل في التلاوة، لكنه بعد هذا الذي وجّه إليه ولفت نظره نحوه، أصبح يرتل القرآن ترتيلا، بل أصبح كل كلامه ترتيلاً، بل أصبح إذا قال القولة يريد للناس أن يسمعوه وأن يدركوه يعيده عليهم ثلاثاً مبيناً مرتلاً. قالت أم سلمة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله يتكلم بتمهل حتى إن العادّ لو شاء أن يعدّ كلماته -صلوات الله عليه وآله- لعدَّها عدَّاً علامَ يدل هذا؟ يدل على فرط الأناة والقدرة البالغة على ملك قدرات النفس جميعاً، وأنه إذ يؤدي ما يؤدي سواء من كلام الله أو من توجيهاته الخاصة فبنفسية وبعقلية وبإمكانية الإنسان المتمكن القادر على أن يؤدي ما يريد بكل ثقة وأناة وتمهل.

هذا الطبع من النبي عليه الصلاة والسلام أعطى قراءته لونها الخاص بها ونكهتها المقصورة عليها في الأحاديث المستفيضة المشتهرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن قراءة القرآن بتعجل، وحين يقرأ القرآن أمامه على هذا النمط يقول أَهذَّاً كَهذِّ الشعر؟ كناية عن أن الذي يسرع في القراءة فقلّما يعي وقلّما يستوعب ويدرك معاني ما يقرأ.

وفي وصف قراءته عليه السلام أنه كان يقطع الآي؛ وكنت تستطيع أن تعد كلمات الآية وهو يقرؤها صلوات الله عليه، ومن هنا سهّل على الأصحاب أن يحفظوا من فم النبي صلى الله عليه وسلم آيات الله تبارك وتعالى، وسهّل على كَتَبَةِ الوحي رضي الله عنهم، أن يقيّدوا عن لسان النبي عليه الصلاة والسلام كل ما تلا عليهم من كلام ربه تبارك وتعالى، هذا الطبع أدى إلى ماذا؟ أو ماذا ينتج عنه؟

ينتج عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يصلي على نحو لا نعرفه أو لا نطيقه، كان يصلي الصلاة يطيل وقوفها، ويطيل قراءتها، ويطيل ركوعها ويطيل سجودها، ويكثر خشوعها. قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: دخلت المسجد فإذا النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فقلت لأصلينّ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك كان يفعل الأصحاب رضوان الله عليهم رجاء البركة لصلاتهم خلف النبي صلى الله عليه وسلم.

قال: فأففتتح في الركعة الأولى فقرأ الفاتحة ثم افتتح سورة البقرة وذهب يقرأ عليه الصلاة والسلام بهذه الأناة وبهذا الترتيل والترتيب المنقطع النظير.

يقول ابن مسعود: قلت يركع على رأس نصف السورة قال فوصل نصفها ثم مضى يقرأ. قلت: يركع على ختام السورة. قال: فاختتم سورة البقرة وافتتح آل عمران كل ذلك كما في الركعة الأولى؛ بتمهل وبتمعن وتدبر وترتيل.

قلت: لا بأس يركع على نصف سورة آل عمران، فوصل النصف ثم مضى قلت إذاً يركع في ختام السورة. قال: واختتم سورة آل عمران وافتتح سورة النساء ولقد والله -هذا كلام ابن مسعود- هممتُ بأمر سوء. قالوا بمَ هممت يا عبد الله؟ قال: هممت أن أتركه وأمضي. الرجل أصبح في حالة لم تعد ساقاه تحملانه معها.

قال: ومضى يقرأ سورة النساء حتى بلغ آخرها فركع.. ثلاث سور تشكل ما يقرب من سبعة أجزاء من القرآن لو قرأتها هذاً وبسرعة لكنت محتاجاً إلى ثلاث ساعات على الأقل لتقرأها، فكيف حين تقرأ بهذه الأناة المعروفة والمشهورة عن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم ليس هذا فحسب في وصف صلاة النبي صلى الله عليه وسلم.

قالوا: حزرنا قراءته وركوعه وسجوده، فإذا ركوعه وسجوده نحواً من قراءته صلى الله عليه وسلم، يعني إذا كانت القراءة تأخذ من وقته الشريف نصف ساعة فالركوع والسجود يأخذان أيضاً نصف ساعة، فصلاة النبي عليه الصلاة والسلام في الثقل بعد هذا التوجيه الذي وجهه الله إليه مصحوباً باللوم، كانت على هذا النحو، كذلك طلب الله جل وعلا منه أن يفعل.

ما انتهينا بعد أيها الإخوة لا تضيقوا ذرعاً دعونا ننتهي من رسم الصورة لنعرف كيف كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم وآله وكيف كان يفعل أصحابه ثم نتساءل –بعدُ- عن الحكمة في هذا، لماذا كل هذا الرهق؟

قال الإمام أحمد رحمة الله عليه في مسنده: حدثنا يحيى قال: حدثنا سعيد هو بن عروضة عن قتادة عن زرارة بن أوفى عن سعيد بن هشام أنه طلق امرأته وانحدر مرتحلاً إلى المدينة من الذي طلق سعيد بن هشام ليبيع عقاراً له بها ثم يجعله في الكراع والسلاح يعني يضعه عدة الجيش ثم يجاهد الروم حتى يموت، رجل من المسلمين أراد بتفكيره الخاص أن يتخلى عن الدنيا وينقطع عنها نهائياً ذو زوجة وذو مال.

أما الزوجة فطلقها وأما العقار وهو الأرض فانحدر ليبيعه في المدينة وليأخذ الثمن ويضعه في عدة الجيش ثم يذهب مقاتلاً الروم حتى يموت مجاهداً في سبيل الله تعالى. لماذا؟ يبتغي الأجر من العلي القدير.

قال: فلقيه أثناء ارتحاله رهط من قومه فسألوه فأخبرهم فقالوا له: إن رهطاً من قومك ستة أرادوا ذلك على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فقال لهم: أما لكم فيّ أسوة حسنة؟ ونهاهم عن ذلك، قال: فأشهدهم يعني أشهد القوم الذين لقوه على رجعة امرأته ثم رجع إلينا وقال إنه لقي عبد الله بن عباس فسأله عن وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم الوتر هي الصلاة المفردة التي تصلى بعد العشاء أو هي، بمعنى ما، قيام الليل؛ قال له ابن عباس: ألا أدلك على أعلم أهل الأرض بوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: يعني سعيد ابن هشام: بلى.

قال: فأتى عائشة فسلها عن وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ارجع إليّ، فأخبرني بجوابها إياك.

قال: فانطلقت فلقيت أفلح بن حسيب فاستلحقته إليها يعني طلبت منه أن يذهب معي فقال: ما أنا بفائدك لا أذهب إليها إني نهيتها أن تقول في هاتين الشيعتين شيئاً فأبت فيهما إلا مضياً، كان ثمة نزاع بين قتلة عثمان وبين أولياء عثمان، وكانت ثمة نزاعات بين أهل الجمل وبين جماعة ابن الزبير بداية الحركات التي عرفت بالتاريخ الإسلامي بالفتنة الكبرى، وكان لعائشة رضي الله عنها في ذلك كلام وكان لبعض المسلمين ممن أراد بزوج النبي صلى الله عليه وسلم الكرامة وعدم الدخول في هذه النزاعات، كان لهم رأي وكلام مع أم المؤمنين أن لا تتقوّل في ذلك شيئاً وعبد الله بن أفلح رجل نهى عائشة رضي الله عنها فلم تنته. قال: فأقسمت عليه فذهب معي قالت: من هذا؟ فلان؟ وعرفَتْه قال نعم. قالت: من معك؟ قال سعيد بن هشام قالت هشام؟ من؟ قال: هشام ابن عامر. قالت: رحم الله عامراً وأثنت عليه خيراً وقالت: نعم الرجل كان.

قالت: قلت: يعني سعيد ابن هشام - يا أم المؤمنين أنبئيني عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، انتبهوا الآن.

قالت: ألست تقرأ القرآن؟ قال: بلى. قالت: فإن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن، أينما وجدت مدحاً لخليقة حسنة فثق أنها خلق محمد صلى الله عليه وسلم، حيثما عثرت على تفنيد وذم لخصيلة سيئة رديئة فثق أن نقيضتها عند محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه هو أبعد الناس عن هذه الخليقة المرذولة.

قال فهممت أن أقوم ثم بدا لي قيام النبي صلى الله عليه وسلم هذا.. أعطونا بالكم.. قال قلت يا أم المؤمنين أنبئيني عن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قالت: يا بني أو ما تقرأ سورة المزمل؟ يا أيها المزمل قال قلت بلى. قالت: فإن الله افترض قيام الليل في أول هذه السورة فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حولاً كاملاً سنة حتى انتفخت أقدامهم وسيقانهم وأمسك الله خاتمتها في السماء يعني خاتمة السورة نهاية السورة:

﴿إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك﴾.

إلى آخر الآية التي جاءت بالتخفيف.

قالت وأمسك الله خاتمتها في السماء اثني عشر شهراً ثم أنزل الله التخفيف فكان قيام الليل أو فصار قيام الليل تطوعاً من بعد فريضة.

قال: فأردت أن أقوم ثم بدا لي وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت:

- يا أم المؤمنين أخبريني عن وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قالت: نعمْ، كنا نعد له سواكه وطهوره (الطَهور بفتح الطاء هو الماء الذي يتطهر به ويتوضأ به المتوضئ أو يغتسل به الجنب).

قالت: كنا نعد له سواكه وطَهوره فيبعثه الله جل وعلا لما شاء أن يبعثه من الليل فيقوم فيتسوّك ثم يتوضأ فيصلي ثماني ركعات لا يجلس فيهن إلا عند الثامنة فإذا كان في الثامنة جلس فدعا وتشهّد ثم قام ولم يسلم فيصلي التاسعة ويجلس فيدعو الله وحده ويتشهد ثم يسلم تسليماً يسمعنا ثم يصلي ركعتين بعد ذلك وهو جالس فتلك يا بني إحدى عشرة ركعة.

قالت: فلما أسنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم –ارتفع سنه وعلا- وأخذ اللحم يعني بَدُن صلى الله عليه وسلم وبانت عليه الجسامة صلى سبع ركعات ثم صلى ركعتين جالساً فتلك تسع ركعات يا بني.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى صلاة أحب أن يداوم عليها، فإذا شغله عن قيام الليل مرض أو وجع أو نوم صلى من النهار اثنتي عشرة ركعة ولا أعلم نبي الله صلى الله عليه وسلم قرأ القرآن كله في ركعة حتى أصبح ولا أعلم نبي الله صلى الله عليه وسلم صام شهراً كاملاً غير رمضان.

قال: فرجعت إلى ابن عباس فأخبرته بما قالت لي فقال:

صدقت ولو كنت أدخل عليها لأتيتها حتى تشافهني به مشافهة هذا الحديث.

رواه الإمام أحمد كما رواه مسلم في الصحيح من حديث قتادة بنحو ألفاظه ومعناه.

أظن أن الصورة الآن أصبحت في أذهانكم واضحة كيف كان يفعل نبي الله صلى الله عليه وسلم بعد هذا النداء، كانت حياته خلال الحول الاثني عشر شهراً الذي داوم فيه على قيام الليل بهذا الشكل، حياة نصب لكن نصب وتعب لله تبارك وتعالى، يقوم الليل حتى تقرحت أقدامه وانتفخت سيقانه، وسيقان أصحابه وخرجوا إلى حد المرض ثم أنزل الله التخفيف بعد حول كامل، لكن النبي صلى الله عليه وسلم مضى على النحو الذي اعتاده -إذا اعتاد شيئاً ثبت عليه- كان إذا عمل عملاً أثبته على نفسه وأمضاه عليها حتى كأنما هو فريضة؛ ومن هنا ذهب كثير من علماء المسلمين من السلف إلى أن قيام الليل بقي على النبي صلى الله عليه وسلم فريضة إلى آخر حياته.

وإن كان أصبح تطوعاً بالنسبة إلى الأمة؛ لكنه بالنسبة إليه عليه السلام ظل فريضة طول عمره، كذلك كانوا يفعلون ويقومون الليل لا على نحو قيامكم هذا. وتراويحكم هذه التي تقرؤونها، تعرفون كيف كانوا يقومون بها من الليل بعد صلاة العشاء فلا يفرغون من قيام الليل إلا ويبتدرون السحور خشية أن يفوتهم الفلاح. يكاد الفجر يدركهم وهم قائمون لله ركعاً سجداً كذلك كان القيام.

هنا بعدما اتضحت الصورة، آن أن نسأل: ما سرُّ هذا العناء؟ لماذا كل هذا الرهق؟ لماذا كل هذا الانسحاق في متاعب قد يُخيّل إلى بعض الذين لا يعلمون، لا جدواها وعدم فائدتها، ارجعوا بأذهانكم إلى ما سبق أن قلناه قبل عدد من الأسابيع ربما قبل ستة أو سبعة أو ثمانية أسابيع لا أدري. قلت لكم بيننا نحن المسلمين في قانون الحركة وبين كل عباد الله الذين يتخذون لأنفسهم مبادئ ومناهج وخططاً وأهدافاً فارق جوهري فارق؛ إن غاب عنا نحن المسلمين فشلنا في كل خطوة نخطوها، لأننا سنبدأ البناء من البداية الخطأ، والخطأ يقود إلى الخطأ ويكرر الخطأ ونتيجة ذلك متاعب تدمر العامل تدميراً لأنها تسحب من نفسه كل حوافز الفاعلية والحركة والدأب والمثابرة، ولهذا فلابد من تحرير نقطة البداية والانطلاق تحريراً يعلو على اللبس والإبهام، ويمتنع على الشك والريبة، ويحل في نفس العامل محل البداهة التي لا تناقش.

تحرير البداية ضرورة إن كان ضرورة بالنسبة لأي عامل يريد أن يأتي عمله متقناً وكاملاً فهو بالنسبة إلينا نحن المسلمين العاملين أشد ضرورة وأعظم وجوباً فارق جوهري كما قلنا بيننا وبين الآخرين، غيرنا يأتيك فيحدثك عن مناهج العمل يحدثك عن البؤرة الثورية ويحدثك عن الطليعة القائدة، ويحدثك عن النضال ويحدثك عن الصراع، ويحدثك عن العنف الثوري لَكِنْ فَكِّرْ في كل ما يعرض عليك من مناهج وآراء ومذاهب ونظريات سواء في النظرية أو في التطبيق، سواء في الاستراتيجية أو في التكتيك فسوف تجد أن هذا المتحدث يسقط عمداً العامل الأهم والعامل الأول في كل تحرك إنساني ألا وهو هذا الإنسان.

ضع بين يدي القذر أنظف المناهج فهو كفيل بأن يوسخها.

ضع بين يدي الجائر أعدل النظم فهو كفيل بأن يخرجها من العدل إلى الجور.

العامل الحاسم العنصر الجوهري في كل تحرك بشري هو هذا الإنسان، حينما نسقط الإنسان من حسابنا نسمح للغش أن يدخل إلى التحرك من أوسع الأبواب، خذ حركات اليوم خذ قطاعاً واحداً خذ مذهباً واحداً خذ منهجاً واحداً هو المنهج الماركسي لا نطلب منه أن يلتفت إلى النفس ليهذبها ويرقيها فليس من باب المذمة والهجاء أن أقول بكل صدق وبكل نزاهة وأمانة علميتين. إن الماركسية بكل ما تفرع عنها من مذاهب ونظريات ومناهج لا يمكن أن تزهو وتزدهر من خلال في الفوضى الخلقية والانفلات الإنساني المطلق من كل قيد ومن كل حد ليس هذا من باب المذمة لكنه من باب تفرد الواقع هذا غير مهم عندنا أن نعلم أن الماركسية تعتمد في التحرك الإنساني تغيير الشرط الاقتصادي في الحياة الاجتماعية وتعتبر دون لبس ومن غير لجاجة من فقهائها ومن مُشَرِّعيها ومن مفلسفيها ومنظريها تعتمد على هذا الشرط لا غير، وترى أن كل تغيير في واقع الحياة الاجتماعية وفي واقع النفس البشرية خاضع وتابع للتغير في الشرط الاقتصادي على اعتبار أن المستويات العليا من الحياة الإنسانية؛ المستويات الفكرية والخلقية والتصورات الدينية والأدبية والفنية إنما هي انعكاس لهذا الشرط الاقتصادي لا غير.

حالة محدودة، منهج يضع نفسه بين حدين حاسمين، يقتضي أن لا يختلف أربابه على شيء ما، ولكن انظر الآن دعك من كل التفاصيل انظر إلى التطبيق ضع اللوحة أمامك تجد أن الماركسيين في روسيا يختلفون عنهم في الصين، ومع كل مظاهر الأيديولوجية التي يتذرع بها كلا المعسكرين تجد أن ثمة خلافاً في وسيلة الأداء الماركسية..

في روسيا تقول: إن عماد الثورة عماد الحركة بعد اعتماد الشرط الاقتصادي أساساً في كل تغيير هم العمال الكادحون أي البروليتاريا الذين لا يجدون في الحياة الاجتماعية ما يبيعونه إلا قوة عملهم فقط والذين أوصلهم الضغط الرأسمالي إلى الحد الذي وضعهم على حافة الكفاف أي أن مذخور قوة العمل في العامل الفرد يساوي فقط ما يحفظ عليه القوة لمواصلة العمل في اليوم الثاني، هكذا دون زيادة.

لكنه في الصين وبعد التجربة في بلاد مترامية الأطراف ذات حضارة عريقة وحياة مستقرة ضاربة الجذور في أعماق التربة وحياة رعوية وزراعية وتخلف صناعي واضح فتشوا عن قاعدة ينسجون على منوالها كما نسجت روسيا فأعوزتهم الوسائل، في الصين لاصناعات متضخمة ولا بروليتاريا وإذاً فالاعتماد كان على الفلاحين ومنذ ماو في مسيرة الألف ميل إلى اليوم والصراع محتدم بين المعسكرين الماركسيين في الدولتين الأكبر والأقوى في النظام الشيوعي العالمي يدور حول هذه النقطة التافهة من الذي يقود التغيير العمال أم الفلاحون.

الدجاجة من البيضة أم البيضة من الدجاجة هذا كلام له خبيء لو لم تكن ثمة نفوس متباينة، لا تتفق على مبادئ الحركة، ولا تحرر نقاط الانطلاق، ما وصل الأمر بها إلى هذا الحد. أنقل المسألة أيضاً إلى أوربا بالذات خذ روسيا وخذ يوغسلافيا دولتان ماركسيتان ولكن بينهما من العداء مالا يقع تحت وصف، وقال كل منهما في الأخرى ما لم يقله مالك في الخمر، ما سبب الصراع؟ ما سبب الخلاف؟ تعبير حاد في سياق الحركة، خلاف على مركز الدولة ضمن المجتمع الشيوعي، في روسيا يذهب النظام إلى تدعيم الدولة باعتبار الدولة قائدة عملية التغيير التي توصل إلى الشيوعية في يوغسلافيا؛ يقولون: إن ماركس ومعه إنجلز وبعدهما لينين قالوا وقرروا بأن الدولة في النظام الماركسي يجب أن تتلاشى، لأن الدولة في أصل وضعها وفي معناها الدستوري أداة قهر؛ فهي إذاً أداة إرهاب، تحول دون الحرية، وتحول دون الانطلاق، وبالتالي تحول دون التغيير ومن هنا نشأت في يوغسلافيا فكرة التسيير الذاتي أي أن العمال في تعاونياتهم، وفي مصانعهم هم الذين يشرفون على إدارة الآلة الاقتصادية، وأن الفلاحين في نقاباتهم وفي مزارعهم هم الذين يشرفون على القطاع الزراعي أي أنهم رفضوا أن يتبنوا مركزية التخطيط، وتركوا للتخطيط أن ينطلق من القواعد؛ في روسيا، الأمر على النقيض من ذلك، واحتدام الصراع على هذا الأساس.

انقل المسألة إلى أمريكا اللاتينية تجد أن الجيش البروليتاري الذي قاده لينين عام 1905، ثم عام 1917 عام نجاح الثورة البولشفية الروسية كان يعتمد العمال طليعة للتحرك الثوري، في بوليفيا في كوبا، في تلك البلدان التي تحاول أن تأخذ بالنظام الماركسي، نجد الأمر يختلف عن هذا تماماً، التطور هناك يصب على البؤرة الثورية، اثنان ثلاثة، أربعة خمسة في الأكثر مدربون تدريباً عالي الكفاءة، مجهزون تجهيزاً حسناً، يحدثون من الفوضى والبلبة ما يمكن للجهاز أن يتسرب داخل المجتمع ويضع يده على مراكز التغيير ومفاتيح السلطة، تلك الخلافات تتفاعل، لماذا تنشأ في ظل مبدأ أرضي محدد تحديداً؛ فيه من الدقة ما يعوز كل المذاهب الأرضية الأخرى، والمناهج البشرية الثانية، لماذا، سبب ذلك اختلاف النفوس، نحن إذاً حينما نرى الإسلام يعنى عناية فائقة بتحرير نقطة الانطلاق، وحينما يحددها بالإنسان، فذلك يعني تماماً إدراكاً صافياً وصادقاً لقيمة الإنسان في سياق العملية الاجتماعية، لا بد أن نقرَّ سواء شئنا أم أبينا، أن هذا الإنسان أقوى قوة على وجه الأرض، وأنه قادر لو خلصت النوايا أن يعمر الأرض، وأن يجعلها تفيض لبناً وعسلاً، وقادر لو لبس لبوس إبليس، أن يجعلها جحيماً لا يطاق، بقطع النظر عن نوعية النظام الذي يكتنفه ويعيش تحته، من هنا، كانت عناية الإسلام بالإنسان يجب أن نؤهل الإنسان، يجب أن ندرب الإنسان، نحن عندنا غاية كبيرة عمل سامٍ ونبيل، رسالة إلهية، تحتاج نوعية من الناس كفاءها، إن كانت دونها فسوف تفشل، لا يمكن إلا أن يكافئ الإنسان –حامل الرسالة- وهذه الرسالة، حينما يتكافآن تسير القافلة في طريقها اللاحب إلى الله دون تعثر ومن غير التواء، ومن هنا كانت العناية بالإنسان، هذا الإنسان تحت أي ضوء يُحدد موقفه، ويُحدد الموقف منه. تحت ضوء الرسالة بالذات، أي بعبارة دقيقة وصريحة، إن الإنسان هو الذي ينبغي أن يتكيف، وأن يتلاءم مع مقتضيات الدعوة، وليس العكس، يعني أنه من الضروري أن يرتفع هذا الإنسان إلى مستوى دعوة الله من وجهة النظر الإسلامية..

(وهذه هي الفكرة التي يريد الشيخ –رحمه الله تعالى- أن يصل إليها في نهاية حديثه عن سورة المزمل التي ترتفع بالشخصية المسلمة إلى الموضع الذي يريده الله لها، وقد ختمنا هذه الخطبة بهؤلاء الثلاثة الأسطر من عندنا لأن الشريط الممسوح لم يسعفنا بحديث الشيخ غفر الله له.)

-الناشر-