سورة القلم(2)

العلامة محمود مشّوح

سورة القلم (2)

الجمعة 22 من شعبان 1395هـ 29 من آب 1975 الحلقة السابعة

العلامة محمود مشّوح

بسم الله الرحمن الرحيم

أما بعد أيها الإخوة المؤمنون.

فاليوم نتابع الحديث عن سورة القلم ثانية.. السورة التي أُنزلتْ على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مفتتح الدعوة، ولقد أتينا بالحديث على صدرها في الجمعة الماضية. ونحن آخذون الآن بحول الله بالحديث عما استيسر من بقية السورة.

بعد الآيات التي تلوناها في الجمعة الماضية وبعد الآية التي وقفنا عندها يخاطب الله جل وعلا رسوله الأمين صلوات الله وسلامه عليه فيقول:

(فلا تطع المكذبين ودوا لو تدهن فيدهنون).

ومعلوم لديكم أن هذا الكلام جاء بعد حديث مضى يستهدف نفي تهمة الجنون عن النبي صلى الله عليه وسلم، تلك التهمة التي حاول أعداء الله أن يلصقوها بأعقل العقلاء، وأحكم الحكماء، والتي خيل لنبي الله صلى الله عليه وآله، زمناً ما، أنه قد يكون أصابه شيء من ذلك. ردَّ الله تقوَّلَ المتقوِّلين، وثبَّتَ قلبَ نبيه صلى الله عليه وآله. وامتدحه أعظم مدح بأن شهد له بأنه على خلق عظيم، ووعد بأن يريه وأن يريَ الكافرين من قومه عاقبة هذه المفتريات، وسيظهر عما قريب وعياناً للمتقولين؛ أيُّ الفريقين كان يعمل بعقل، وأيُّ الفريقين كان مستسلماً لما يشبه الجنون ثم جاء الحديث بعد.

(فلا تطع المكذبين ودوا لو تدهن فيدهنون).

ويجب أن ألفت أنظاركم إلى الأحاديث التي تحدثنا فيها عن سورة العلق وأن نستحضر في الأذهان قول الله جل وعلا خطاباً لنبيه صلى الله عليه وسلم:

(كلا لا تطعه واسجد واقترب).

ففي سورة القلم مزيدُ تأكيد لضرورة عدم إطاعة المكذبين بآيات الله ثم فيها شرحٌ لأوصاف هؤلاء الناس ومن لفَّ لفَّهم؛ ساقها الله جل وعلا على مسمع النبي صلى الله عليه وسلم لكي يحذرهم.

ونحن هنا في هذه السورة إذ نسمع الله تبارك اسمه يزيد القضية تأكيداً في السورة الأولى يطلب إلى نبيه صلى الله عليه وسلم عدم إطاعة هؤلاء الناس، وفي السورة الثانية ودون إمهال ودون وقت طويل يقول له: (فلا تطع المكذبين) إذاً فمن البديهي أن في الأمر شيئاً علينا أن ندركه لا بد أن هذا النهي يحمل خصيصة من خصائص هذه الدعوة وخليقة من الخلائق التي يجب أن تتبناها هذه الأمة، فما هو هذا الشيء؟

لا يكفي يا إخوة أن نمر على الآية ندرج في قراءتها درجاً، هذا القرآن شفاءٌ لما في الصدور وإضاءة للمسالك وصور ومعالم على الطريق لا يفيد منه إلا الذين يفكرون فيه طويلاً، والكلام الذي بين أيديكم تقرءونه كلام الله فيه الإشارة إلى كل ما بالناس حاجة إليه.

لماذا ينهى الله جل وعلا عن طاعة هؤلاء الناس؟

ما ضرَّ لو أن الناس إذ تختلف مشاربهم، وتتفرق بهم السبل، وتتباين آراؤهم، وتفترق مذاهبهم، ما ضرَّ لو اجتمعوا على أرض مشتركة واتفقوا على سبيل وسط، أتنازل أنا شيئاً ما وتتنازل أنت شيئاً ما ونصل إلى اتفاق وتفاهم، ثم نسير بعد ذلك على ضوء هذا الذي اتفقنا عليه.

كلام في الظاهر جميل، وأي شيء أحسن من أن يصل الناس إلى توحيد كلمتهم؛ لكن زيدوا الأمر تفكيراً تجدوا أولاً أن هذه الدعوة ليست لأمة بعينها من الناس وإنما هي للناس عامة وليست للحظة زمنية في التاريخ وإنما هي لأبد الأبد، وأن الاتفاق والتفاهم إذا بني على الخطأ ثم سار بإرادة الناس سنة وسنتين أو عشراً. فإن جراثيم الخطأ سوف تفجر المجتمعات الإنسانية فإذا هي تفتش عن وحدة الرأي فلا تجد إليها سبيلاً، لا شك أن وحدة الآراء مطلوبة، ولكن في ظل الحقيقة، أما تحت راية الباطل فالمسألة لا تعدو أن تكون تدعيماً للباطل، ومداً في أجل وعمر هذا الباطل، والإسلام ما جاء ليخدم الباطل وإنما جاء ليجتث الباطل من جذوره.

(بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون).

هذه القضية لا بد أن نزيدها بياناً آخر، هؤلاء الذين واجهوا محمداً صلى الله عليه وسلم بالصد وبالتكذيب جاءهم بالنور فرفضوا أن يأخذوا بأسباب هذا النور عمّا كانوا يدافعون؟ وبأي شيء كانوا يتمسكون؟ ما الذي بين أيديهم؟ كتاب من السماء؟ لا إذاً كانت هناك مواضعات وأعراف وعادات واتفاقات أعطاها حكم الاستمرار مناعة وقوة ورضىً وتسليماً بين أربابها من الناس، من أين جاءت؟! لم تأت بوحي من السماء إنما جاءت بالتفكير البشري المجرد.

كل تفكير بشري مبتوت الصلة مقطوع السبب بهداية السماء فهو بلا أدنى نقاش تعبير عن مصلحة ما لجهة ما، هذا شيء مقطوع به وقد فرغ فقهاء السياسة منذ القديم من تقرير هذه المسألة، ومعضلة المجتمعات البشرية كيف يمكن أن تخطط وأن تنظم بحيث تضمن لكل إنسان كل ما يحتاج إليه على الصعيد المادي أو على الصعيد المعنوي، منذ بدأ الإنسان يفكر وهو يواجه هذه المشكلة بكل عنفها، وبكل حدتها ومن أسف ما استطاعت الإنسانية أن تصل حتى الآن إلى حل لهذه المشكلة لسبب بسيط وهو -هذا الذي قلناه لكم- كل تفكير بشري وكل تنجيز بشري فإنما هو تعبير عن مصلحة طائفة من الناس وهو بحكم تكوينه عاجز عن أن يلبي مصالح طوائف الناس جميعاً.

من هنا وجدنا التفكير البشري قاصراً من حيث قدرته على الشمول فهل فهمت ما أعني؟ هذه واحدة صفوها على جنب، شيء آخر أنا إنسان وأنت إنسان والآخر إنسان والآخر إنسان... حينما أتصدر وأدعي لنفسي الحق في وضع التشريعات والمناهج والنظم للمجتمع وللناس فادعائي ليس له من المبررات أكثر من المبررات التي تحملها أنت؛ نحن جميعاً باعتبارنا بشراً كل واحد منا مبرر من قبل نفسه على ذات الهيئة وبنفس الدرجة وبنفس الشدة التي يبررها الآخر والآخر والآخر، ما عندي من المبررات والمسوغات أكثر مما عندك، كلنا نقف على صعيد مشترك في هذا الباب فادعاء أحد المخلوقين أو ادعاء طائفة من الناس الحق في أن تشرع وتنهج وتنظم للناس؛ ادعاء له ما يُرَدُّ عليه بنفس القوة، وبنفس المسوغ، ومعلوم في قضية العقل أن المبررات وأن الحجج إذا تكافأت تهاترت، يعني تساقطت، حينما تكون حجتي مساوية لحجتك فالمنطق وبديهة العقل يقضيان بسقوط حجتي وسقوط حجتك جميعا،ً لا بد أن يكون في أحد الطرفين ما يرجحه على الآخر.

أما من حيث المجهود البشري فالناس كلهم أسواء، لا يمتاز أحد عن أحد من حيث الطاقة العقلية والقدرة على استشفاف الحاجات القريبة، من هنا كان دفاع المكذبين عن معتقداتهم وعن عاداتهم دفاعاً عن شيء قاصر لا يمكن أن ينتج ولا يمكن أن يوصل إلى لون من ألوان الاستقرار حينما توضع القضية بهذا الشكل، وأظن أنني صورتها على نحو بسيط مع علمي بمدى تعقيد هذه المسألة.

أظن حينما نستحضر المسألة بهذا الشكل، ونضع الإسلام بحقائقه وباستحضارنا لمصدره نجد أن الوفاق بين الإسلام وبين أي منهج أرضي وبشري أمر مستحيل، ولنفترض جدلاً أن وفاقاً ما حصل بين مبادئ الإسلام وبين منهج ما من المناهج البشرية فلا شك أن النتيجة المقررة التي لا جدال حولها ولا نقاش فيها أن الطرف الخاسر في هذا الوفاق هو طرف الإسلام، ارجعوا بأذهانكم إلى تاريخ اليهودية والنصرانية وهما الديانتان اللتان سبقتا هذا الإسلام، وجدتا نفسيهما في لحظة زمنية معينة مضطرتين ومرغمتين على مسايرة التيارات الجارفة من حولهما؛ بل وجد تجارهما والمتحدثون باسمهما أن مصالحهم ستدمر إذا لم يضعوا أيديهم في أيدي السلطات الحاكمة من الرومان وأشباه الرومان؛ من الذي استفاد..؟ واستفاد الرومان واستفاد المنهج البشر وخسرت اليهودية وخسرت المسيحية.

لم يبق في يد اليهود من اليهودية الأولى إلا حفنة خرافات، ولم يبق من النصرانية في يد النصارى إلا حفنة خرافات، وإلا رواسب من رواسب الوثنية، وازدهرت الدولة الرومانية على أنقاض المسيحية المهدمة وعلى أنقاض اليهودية المهدمة أيضاً، وتسلسل هذا الازدهار...

ودول أوربا وأمريكا وسائر الدول الأخرى تنعم الآن بالخير والازدهار على أشلاء الديانات السابقة فلا مجال لأي وفاق؛ وليعذرنا هؤلاء الذين يتهموننا بالتصلب؛ الأمر ليس بأيدينا ونحن لا نستطيع أن نعطي من الإسلام شيئاً، ولو أردنا أن نعطي من الإسلام حرفاً واحداً لتجار الدنيا وأبناء الدنيا لبقي الإسلام سليماً هناك ونُبذْنا نحن مع الكلاب وأشباه الكلاب...

هذا الإسلام لا يمكن أن يقبل الاشتراك، ومن هنا كان تأكيد الله جل وعلا على محمد صلوات الله عليه من بداية الطريق بقوله له: لك طريق ولهم طريق، ولا تطعهم ولا تلتفت إليهم؛ منذ متى؟.. منذ البداية منذ أول حرف نزل في القرآن ماذا قال الله قال في أول حرف:

(اقرأ باسم ربك الذي خلق).

هنا وُضعت نقطة الافتراق بين الإسلام وبين كل ما شهدته الدنيا.

في الإسلام كل شيء باسم الله وعلى رضوان الله ووفقاً لمنهج الله.

وفي الدنيا كل شيء خادم لشهوات النفوس وأغراضها وأطماعها.

ومع المسيرة. مع التحرك الإسلامي العظيم تزداد زاوية الانفراج لكي لا تُبقي أي مجال للالتقاء بين هذا الإسلام بطهره وبنقائه وبعدله وباستقامته وبأخلاقياته الرائعة، وبين أبناء الدنيا الذين يتمرغون في أوحالها وفي آثامها.

من هنا نجد أن حقاً أن يقول الله جل وعلا: (فلا تطع المكذبين) هؤلاء الذين واجهوك بالتكذيب لا تطعهم، أعرض عنهم، خذ طريقك، ودعهم يأخذوا طريقهم. لكن هل يكفي هذا التوجيه ربما يخيل للإنسان في بعض الأحيان حالة ضعف أو ما يشبه الضعف وأمام بعض الأشخاص من الذين يتميزون بنعومة الملمس، وطراوة اللسان، وطيب الكلام، ربما يخيل إلي أن من الممكن أن أتفق أنا وهذا الإنسان، أو أنا وهذه الجهة لا كذلك لا، احذر، الله جل وعلا جاء إلى خفايا قلوب المشركين فكشفها لرسوله صلى الله عليه وسلم لكي يقرأ الشاشة واضحة أمام عينيه قال:

ودوا -يعني المشركين- لو تدهن فيدهنون.

إذا لم يكن بد من أن تكون طائعاً لهؤلاء المكذبين منساقاً في الطريق الذي يريدون فللمكذبين أغراض وأطماع فيك غير هذا مما هي رغبتهم في أن تدهن في دين الله.. الادهان ما معناه؟ الادهان في اللغة يقع على حقيقة واحدة ولكنها تختلف عمقاً وشدة لاحظوا من خلال الآيات يقول الله جل وعلا خطاباً لنبيه صلوات الله عليه:

(ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً، إذاً لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً)، ما معنى الركون؟ إذاً الركون: الاطمئنان وافتراض حسن الظن عند الجهة المقابلة؛ افتراض طيب العنصر في الخصم والعدو لكن الله جل وعلا ثبت نبيه صلى الله عليه وسلم، وعصمه عن أن يركن إلى هؤلاء الناس ويخاطب الله جل وعلا جماعة المؤمنين من هذه الزاوية بالذات فيقول لهم:

(ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من ناصرين).

مجرد الركون ماذا يعني؟ أنا أريد أن أطمئن من جانبك هل في هذا خطر؟ نعم.. هذا الإسلام توتر توتر مستمر.

لمجرد ما أشعر بالطمأنينة من جانب أعدائي؛ تخف شدة التوتر. ينعكس هذا على العجز، فإذا المسلم الذي كان يستطيع أن يقابل عشرة من الأعداء لا يقابل اثنين. إذاً فمجرد الركون يهبط بالطاقة الإسلامية إلى درجات، يحرص الإسلام على أن يرفع أبناءه عنها.

أيضاً يقول الله جل وعلا:

(ولو تقوَّلَ علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين).

هذا التقول أيضاً من جملة الادهان. لماذا؟ لأن الادهان في اللغة هو الضعف والخيانة، تقول داهن فلان في دينه أي أنه أظهر خلاف ما يضمر أو ضعف فلم يستطع أن يواصل الطريق، أو اعتدى على الحقيقة الشرعية فَحرَّفها وتَقَوَّلَ شيئاً لم يأذن به الله جل وعلا، فالادهان إذاً حقيقة واحدة لكنه يبدأ من همّ القلب بالركون إلى الخصم لينتهي في الآخر إلى الجرأة على تحريف كلام الله جل وعلا كل هذا يُسمَّى ادهاناً.

ماذا يريد منك أعداؤك؟ لو فرضنا أن خصوم الأمة يئسوا من أن يجعلوا الأمة تسير في الطريق الذي يخطه الأعداء! فأي شيء يريدون من الأمة، أن تدهن في دينها أن تضعف أن تحاول تطوير دينها بحيث يتلاقى في المستقبل مع ما يريد الأعداء، أو بالأحرى أن تحاول تجديد حياتها وتطوير حياتها بحيث تتزحزح عن القاعدة التي وضعها الله جل وعلا عليها.. هل هذا الداء مقصور على المشركين الذين واجهوا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ كلا يجب أن تعلموا وبكل جلاء وبكل وضوح أنه في نهاية القرن الماضي، وفي فواتح هذا القرن جندت الصليبية العالمية وجندت اليهودية العالمية زبانيتها وثبتتهم في ديار الإسلام محاولين إخراج المسلمين عن دينهم محاولين أن يجعلوهم يدهنون في هذا الدين، والله جل وعلا قد كشف خباءهم منذ القديم فقال مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم:

(ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير).

هؤلاء الناس بتياراتهم العنيفة الكاسحة توجهوا نحو هذه الأمة لكي يجعلوها تدهن وقد أفلحوا مع الأسف إلى حد بعيد، خَرَّجوا من تحت أيديهم أجيالاً أعدوها منذ القديم لتكون يوماً ما قائدة المجتمعات الإسلامية يئسوا من أن ينصِّروا المسلمين أو يهوِّدوهم لكنهم ما يئسوا من زحزحة المسلمين عن عقائدهم كانت قولتهم التي تردد باستمرار. ما لم يجعل المسلمين يأخذون بأسباب الحضارة الغربية ويفكرون على نحو ما يفكر الإنسان الغربي فسوف يبقى المسلمون شوكة في جنوب دول النصرانية أو اليهودية.

ولقد ذهب هذا الرعيل الفاسد، لكن بقاياهم، لكن غرسهم، أينع فوجدت طوائف من الناس لا تكاد تقع تحت عدد ولا حصر. أخذت على عاتقها إكمال المهمة القذرة التي قام على التخطيط والتنفيذ فيها دهاقنة اليهود والنصارى، ووجدنا العالم الإسلام في كل قطر من أقطاره مع شديد الحزن والأسف يتخبط تحت النير الذي صنعه الأعداء، انظروا أية تيارات تحكم مجتمعات المسلمين، أفيها رائحة من روائح الإيمان لا. أية أصوات تردد عالية أهي أصوات المسلمين لا، يجب أن نقرر الحقائق بمرارتها، إن الأصوات المنكرة التي تردد في جنبات عالم المسلمين من جاكرتا وإلى الدار البيضاء هي أصوات معادية أساساً ونشأة وتربية لحقائق الإسلام ولمستقبل هذه الأمة ولمصير الأجيال التي تأتي لأنها أجيال وأصوات تربت ولم تستنشق إلا عفونة الاستعمار وإلا خبث الصليبية واليهودية.

أي شيء في مجتمعنا تشعر معه بالصداقة للإسلام، الأصوات التي ترتفع من الأجيال الصاعدة التي تظن في أنفسها الخير؟ أصوات تتهم المسلمين بالخمول وبالرجعية؟ بلى وإن التفاهة لتبلغ بها، وإن قلة العقل لتقودها، إلى أن تتهم المسلمين بالخيانة والعمالة ولعمري حين يخون المسلمون لا يبقى على وجه الأرض إنسان إلا ما هو أوسخ من الخونة.

إن المسلمين اليوم عرضة للاتهام كيف نشأ هذا يجب أن نتساءل ويجب أن نكون رجالاً يواجهون الحقائق على مرارتها، إن هذا لم ينشأ اعتباطاً إنه بداية الادهان في دين الله تبارك وتعالى وقعتُ تحت ضَغْطٍ وَلمْ أَصْمدْ؛ فوجدت نفسي مضطراً إلى الادهان وأنا عالم مع الأسف أو، هكذا يظن الناس فيّ، فمددت اليد عن اليمين وعن الشمال، الناس ينظرون إلي فيقولون: إذا كان رب البيت بالطبل ضارباً إذا كانت رؤوس المسلمين تمد في حبل الادهان في دين الله فماذا على العوام لو فعلت ذلك؟ ومن هنا فقدت الثقة تماماً برجالات الإسلام وبعلماء المسلمين ألم تسمعوا قادة الفكر في العالم الإسلامي الذي يفترض فيهم أن يكونوا حراس العقيدة وأن يكونوا الذائدين عن حياض الأمة وأن يكونوا المبينين لحقائق الإسلامي.

ألم تسمعوهم في الصباح وفي المساء وفي ما بين ذلك لا همَّ لهم إلا إصدار الفتاوى وإصدار المسوغات والاجتهادات تبرر الأوضاع الظالمة والجائرة ولا تستحي ولا تخجل حينما تضطر إلى أن تلحس اليوم ما سبق أن كتبته بالأمس، هذا الادهان الذي هو نقيض الصلابة في دين الله جل وعلا، عرفتم الادهان ما هو؟

ماذا يريد المشركون من رسول الله، شيئاً من الليونة في الموقف يا أخانا تعال نعبد إلهك يوماً واعبد إلهنا أنت يوماً ونكون متفقين، أنزل الله جل وعلا:

(قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون، ولا أنتم عابدون ما أعبد، ولا أنا عابد ما عبدتم، ولا أنتم عابدون ما أعبد، لكم دينكم ولي دين).

غاية ما طلبه المشركون من رسول الله أن يكون أكثر ليونة أن يكون أكثر ترفقاً بقومه ماذا يريد؟ جاؤوه مرات فقالوا:

يا محمد: إنه لم يأت أحد من الناس قومه بمثل ما جئت به، فرّقتَ جماعتهم، وسفهت أحلامهم، وضللت آباءهم فماذا تريد؟ إن كنت تريد مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد نساءً زوجناك من شئت من نسائنا، وإن كنت تريد مجداً وسؤدداً وسيادة توجناك علينا فلا نقطع أمراً دونك فماذا بعد ذلك؟

من كل طريق جاءوه ولو كان بشراً عادياً فماذا يريد الإنسان أكثر من السيادة في هذه الدنيا وأكثر من الاستمتاع بالطيبات وهذه كلها وفرها المشركون لرسول الله ووضعوها بين يديه لكنه محمد؛ لكنه رسول الله؛ لكنه المؤيد بالوحي الذي تتنزل عليه آيات ربه تثبته على الصراط السوي، وعلى الطريق المستقيم.

(فلا تطع المكذبين ودُّوا لو تدهن فيدهنون).

ثم كشفت الآيات نمطاً آخر يكثر في السابق وفي اللاحق قال: ولا تطع كل حلاف.. والحلاف هو كثير الحلف، مهين والمَهْيِن هو المحتقر والذليل، ولماذا وصف الحلاف بأنه مهين، الإنسان الصادق بالعادة لا يحتاج إلى شد كلامه وتدعيمه وتقويته بالاَيْمَان يقول كذا هو كذا ما في داعي ليمين ولا لأي شيء؛ لكن المفطور على الكذب دائماً تجده مع كل كلمة يلفظ بيمين فالحلاف إذاً يتضمن معنى الكذاب المحتاج إلى أن يشد كلامه ويرفده بالأيمان الكاذبة، من هنا كان مهيناً، (ولا تطع كل حلاف مهين، هماز) والهماز هو الذي يكثر من عيب الناس والطعن عليهم (هماز مشاء بنميم) يعني يمشي بالنميمة بين الناس، والله جل وعلا ذَمَّ هؤلاء فقال:

(ويل لكل همزة لمزة الذي جمع مالاً وعدده).

والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لعن الله المشائين بالنميمة المفرقين بين الأحبة".

(ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم مناع للخير معتد أثيم).

يقال في أسباب النزول: إن هذه الآية (مناع للخير) نزلت في ِشأن الوليد بن المغيرة كان له أولاد كثيرون وهددهم أنكم إن تبعتم محمداً وشايعتموه على دينه فسوف أمنع عنكم رفدي وخيري فنزلت الآية واصفة إياه بأنه مناع للخير، لكَنَّ الأَوْجَه أن الآية عامة فالذي يمنع معروفه عن الآخرين فهو مناع عن الخير، والذي يصد عن سبيل الهدى ويصد عن الإسلام مناع للخير، لماذا؟ لأنه لا خير أعظم من أن يتفيأ الناس كلهم ظلال الإسلام.

(مناع للخير معتد أثيم عتل بعد ذلك زنيم).

والعتل: هو الإنسان القاسي الطبع الغليظ وكذلك من معانيه الأكول الشروب الضخم الجثة فهو بلفظه عتل حينما تلفظ هذه اللفظة تشعر بأنك تعبر عن شي غليظ، شيء ثقيل على النفس، (عتل بعد ذلك) يعني بعد كل هذه الأوصاف (زنيم) والزنيم هو المشهور بالشر والفساد، والزنيم في كلام العرب أيضاً هو ولد الزنى وسواء كان هذا أو هذا أو هذا فالعرب تعتبر ابن الزنى أسوأ الناس جميعاً، (عتل بعد ذلك زنيم) لماذا كل هذه الأوصاف؟ دعوا القرآن أمام أعينكم؛ (أن كان ذا مال وبنين) اربطوا في سورة العلق قال الله جل وعلا:

(كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى).

فشعور الإنسان بالاستغناء سواء كان بالجاه والمنصب، أو كان بالمال والنسب، أو كان بالأولاد والأتباع، شعورٌ من شأنه أن يصد عن الهدى ويصرف عن الحق، فالله جل وعلا يوم شرح أوضاع هؤلاء الناس قال: إنه كان بهذه الأوصاف لأنه كان ذا مال وبنين فهو إذاً في حالة يشعر معها بالاستغناء عن الله ويشعر معها بالاستغناء عن هذه الحقيقة الكبيرة العظيمة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم.

لاحظتم هذا الترابط بين آيات السور المتكررة، نحن في سياق حركة في سياق دعوة فما لم نلتفت إلى الطرائق التي تولى الله جل وعلا بها بناء هذه الأمة فلا يمكن أن نستفيد من هذا القرآن شيئاً.

تصوَّري أن هذا يكفي إلى هنا وسوف نرجئ إلى الجمعة القادمة الحديث عن بقية السورة آملين أن تفعل في نفوسنا هذه الآيات القلائل قريباً مما كانت تفعل في نفس النبي صلى الله عليه وآله وفي نفوس أصحابه الذين تليت عليهم.. أن تقفنا على صراط الله وقفة الرجال الذين لا تستخفهم الشهوة ولا يؤثر عليهم الضغط وفاؤهم كله لله، وقوفهم كله مع شريعة الله، المال يذهب، الأولاد يذهبون، الجاه يذهب وتذهب أشياء، الدنيا كلها تبيد وتزول ويبقى الله، ويبقى الذكر الحسن، يقال فلان كان مستقيماً فلان كان كذا يذكره الأولون ويذكره الآخرون ويذكره الله جل وعلا في ملأ خير من هذا الملأ فادعوا الله أن تكونوا من الشهداء الذين يشهدون على صحة هذا الدين بعقائدهم المستقيمة وبأخلاقهم النبيلة وبطرائق تفكيرهم النيرة، وبوقوفهم المطلق مع الله جل وعلا وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وآله وأصحابه أجمعين والحمد لله رب العالمين.

وبدأت أتخلي عن الإعجاب

وبدأت أتخلي عن الإعجاب وبدأت أتخلي عن الإعجاب وبدأت أتخلي عن الإعجاب وبدأت أتخلي عن الإعجاب