تتمة سورة العلق(4)

الجمعة 1 شعبان 1395هـ -8 آب 1975

تتمة سورة العلق

(4)

العلامة محمود مشّوح

بسم الله الرحمن الرحيم

أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون. فاليوم نقف إن شاء الله تعالى مع أوائل الوحي مستنطقين ومستلهمين. ولقد أوجزت لكم في الجمعة الماضية ما أرنو إليه من هذه الخطّة الوعرة التي ألزمت بها نفسي؛ فقد ينبغي أن أكرر بدون ملل أن هذه الأمة التي تتوزع في شتى أقطار المعمورة أضاعت صوابها منذ زمن بعيد وضلت طريقها منذ زمن بعيد.

ومن المؤسف أنه بالرغم من الجهود الكبيرة المبذولة من أجل التعرف على بدايات الطريق. تعرفاً عقلانياً صحيحاً، غير متأثر بالعواطف ولا خاضع للاندفاعات أقول إنه مع الأسف ما تزال أمتنا في شتى أقطارها بحاجة إلى إعادة نظر، ولقد يجب أن يكون معلوماً أن الإنسان من حيث هو إنسان يعقل ويدرك مطالب بإعادة النظرة هذه في شأنه الخاص وبالِشأن العام لأن بحث الخطى والتعرف على ما مضى هو وحده الكفيل بإعادة التوازن إلى مسيرة الأمة.

وتعلمون دون ريب أن الله جل وعلا اختار محمداً صلى الله عليه وسلم على عينه واصطنعه لنفسه واختصه بأعظم رسالة وطوقه بأشرف مهمة، ثم اختار له خير الكلام قرآن الله المنزل على قلب رسوله صلى الله عليه وسلم وكما فصلته منذ البداية عناية الاصطفاء والاختيار فإن ربنا تبارك وتعالى قد اختار له من مناهج العمل هذه أقلها كلفة وأيسرها زمناً وأعودها فائدة بإذن الله القدير، وأحسب أن الأمة لا يمكن أن تستقيم خطواتها على الطريق السليم إلا إذا استلهمت تلك الخطى المباركة التي خطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومن أجل سلامة الفحص ولكي يكون الكلام كلاماً علمياً متسماً بالرصانة والاتزان رأينا أن نعود من البداية، ولقد كانت بين أيدينا أحداث السيرة وأن أقول لكم كلاماً حول هذه القضية. أوثق النصوص التي بين أيدينا سيرة ابن هشام وهي تلخيص لمغازي ابن اسحق والمغازي ضاعت في جملة ما ضاع من تراث هذه الأمة. وما بقي بين أيدينا من حوادث السيرة يشكل أربعة مجلدات هي أوثق النصوص لو جرت غربلتها على طريقة المحدثين، لا نقلة الأخبار لما بقي بين أيدينا مما يمكن الركون إليه والثقة به إلا القليل.

ولكنا مع ذلك نملك النص الذي لا أوثق منه ولا أصح؛ كتاب الله في حياة استمرت على الأرض، تحمل أعباء الدعوة وتكاليف الجهاد في سبيل الله ثلاثاً وعشرين سنة لا يعقل أن تكون تصرفاتها محصورة بين هذه القدر القليل من الأخبار التي تحصلت بين أيدينا لكنا على ضوء القرآن نستطيع أن نستبين الوقائع ونستطيع أن نتعرف على الحركة التي كانت موجودة في ذلك الحين من أجل ذلك طلبت إليكم في الأسبوع الماضي أن تقرءوا أوائل ما نزل: سورة العلق وسورة القلم وسورة المزمل وسورة المدثر وإنما وقفت عند سورة المدثر لغرض لأن سورة المدثر تشكل بداية البلاغ العام وظهور الدعوة بمظهرها المعروف عندنا الآن، والله جل وعلا يخاطب نبيه صلى الله عليه وآله وسلم فيقول: (يا أيها المدثر قم فأنذر) وقلت لكم إننا نريد أن نتعرف من خلال آيات هذه السور على نوعية المهمات والمصاعب الذاتية والخارجية التي كلف بها المسلمون من جهة وكلف المجتمع الجاهلي بها من جهة أخرى، وأننا نريد من وراء ذلك أن نقيس حجم رد الفعل الذي حدث في المجتمع الجاهلي وأن نتعرف أيضاً في ضوء القرآن على بواعث رد الفعل هذا.. فلنبدأ الآن.

أول سورة نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بإجماع يكاد يكون تاماً هي صدر سورة العلق وقد مر معنا في حديث عائشة الذي تلوناه منذ عدة جمع قولها: إن جبريل جاء النبي صلى الله عليه وسلم بصدر هذه السورة:

}اقرأ بسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم{.

صدر السورة إلى هنا يكاد الإجماع ينعقد على أنه أول كلام إلهي صافح آذان البشرية حين تنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثم ذهبت السورة تحكي أموراً أخرى:

}كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى إن إلى ربك الرجعى أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى أرأيت إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى ألم يعلم بأن الله يرى كلا لئن لم ينته لنسفعاً بالناصية ناصية كاذبة خاطئة فليدع نادية سندع الزبانية كلا لا تطعه واسجد واقترب{.

آيات قليلة بناؤها واضح ولكنه معجز، القضايا التي أثارتها، المهمات التي طرحتها، ما هي..؟ هل فكرتم بها؟ تعالوا نشترك بالتفكير.

افتتاح السورة بقول الله جل اسمه خطاباً للنبي الكريم عليه السلام (اقرأ) مع أن النبي صلى الله عليه وآله أمي لا يقرأ ولا يكتب ولا يحسب.. شيء يلفت النظر ما معنى أن تقول للأمي اقرأ؟ ألست تكلفه محالاً؟ وتكليف المحال عبث لا يليق بالعقلاء.

ما معنى تكليفك لأمي بالقراءة ولو اجتهد مجهوده كله ما أطاق ذلك لكن في الآخر لطيفة. قول الله للنبي اقرأ لا يعني فقط أن الإنسان يجب أن يقرأ من الكتاب لأن القراءة لا تتوقف على الكتاب فقط ما معنى القراءة: القراءة مأخوذة من الفعل قرأ: القاف والراء والهمزة في لغة العرب التي نزل بها القرآن وخوطبت بها الأمة هذا البناء هذه الحروف الثلاثة تدل على الجمع والاحتواء نقول قرأ الماء في الحوض إذا اجتمع فمعنى القراءة جمع المعلومات كأنك إذا قرأت من كتاب جملة وجملتين وأكثر تختزن وتجمع وتحوي هذه المعلومات في ذهنك وحافظتك وذاكرتك عملية الجمع هذه لا تتوقف على القدرة على القراءة المعتادة إذ يمكن أن تتحصل بالتلقين والجاهل الذي لا يعرف القراءة والكتابة يستطيع أن يستوعب ويستطيع أن يحفظ في ذهنه الكلام الذي يقال له أو معظم الكلام الذي يقال له، ماذا يعني هذا؟ يعني هذا أن الإنسان إذا كان لا يحسن أن يقرأ ويكتب فهذا لا يعفيه من عملية المتابعة وجمع المعلومات مشافهة، والنبي صلى الله عليه وسلم مع أنه لم يكن يقرأ ولم يكن يكتب ولم يخط بيمينه كتاباً كما أخبر الله في القرآن فقد استطاع بعون الله وعنايته أن يجمع في صدره الشريف الوحي المكرم بسماعه وبحروفه والصحابة رضي الله عنهم الذين تلا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا القرآن كانت غالبيتهم العظمى الساحقة لا تقرأ كتاباً, ولا تخط بيمينها شيئاً ومع ذلك كان النبي عليه السلام يخبر بالآي من كتاب الله فيجمعه الصحابة رضي الله عنهم في صدورهم وبذلك كانوا قارئين.

(اقرأ باسم ربك الذي خلق).

أية قضية وضعتها بين أيدينا هذه الكلمة قضية الحرص على استجماع المعلومات احفظوها واعقدوا على أصابعكم واحدة واحدة..

ثم قال: اقرأ باسم ربك الذي خلق ماذا يعني هذا القول: نحن نسمع في المحافل وفي المراسيم والقرارات باسم الشعب الفلاني باسم الأمة نحن رئيس الجمهورية أو نحن القاضي فلان أو نحن الوزير الفلاني نقرر ما هو آت. فالتقرير ليس باسم شخص معين وإنما هو باسم الأمة وفقاً أو اعتباراً بأن الأمة هي مصدر السلطات على النحو المفهوم في العصر الحاضر.

أريد أن أقول لكم إن هذا الكلام ليس جديداً فمنذ دولة المدينة في اليونان ومنذ المفكرين الأوائل في الفقه السياسي كان هذا المفهوم معروفاً ومقرراً. وجاء الإسلام وهذا المفهوم موجود يعرفه العرب عن طريق اتصالاتهم بدولة الروم في الشام ويعرف مثله عن طريق اتصالاتهم بدولة فارس في العراق وما والاها ويعرفونه في الحبشة وغيرها من البلاد، لكن مفهوماً آخر كان أضيق من هذا سابقاً كان سائداً مفهوم القبيلة ومفهوم العشيرة ومفهوم شيخ القبيلة والزعيم كانت فراسته هي المعبرة عن القانون والتي يشكل رفضها وخرقها وعدم الإيضاح لها جرماً كبيراً قد يستوجب في كثير من الأحيان النفي والطرد والخلع من القبيلة.

ودارسو الأخبار والمطلعون على الأدب يعرفون أن ظاهرة الخلعاء في قبائل العرب ظاهرة معروفة جاء الإسلام وهي موجودة. فقول الله جل وعلا اقرأ باسم ربك الذي خلق يشكل مفترقاً للطريق بين الإسلام وبين كل ركام الجاهلية وغثائها الذي كان معروفاً زمن النبي عليه السلام والذي سيظل معروفاً ما دامت الدنيا دنيا. وما دام الناس في شرورهم.. هذا الذي نرى.

القراءة والعلم، الحركة والانتباه. القيام والقعود، أي تصرف من التصرفات لا ينبغي أن يكون باسم فرد ولا ينبغي أن يكون باسم أمة وإنما ينبغي أن يكون باسم الله، الله جل وعلا هو المالك وهو المتصرف وهو الخالق وهو الرازق فالاشتراك معه في الأمر، في التقرير والتقدير والنهي، محاولة للاعتداء على سلطان الله جل وعلا في كونه.... كل ما يفعله الإنسان ينبغي أن يكون باسم الله على وفق مناهج شرعه، وعلى وصف خطى نبيه صلى الله عليه وسلم والأفراد والأمم والشعوب لا حَقَّ لها في أن تأمر وفي أن تنهى. وتأتي بقية لهذا بعد قليل.

}اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق{.

العلق العلقة في كلام العرب نقطة الدم اللزجة المتجمعة، حينما يشير القرآن من أوليات الوحي إلى هذه الحقيقة. يترك للذهن أن ينسرح فيلاحظ هذه القطرة من الدم التي وقعت في الرحم كيف نشأت وكيف تطورت وكيف تخلقت جنيناً في البطن ثم كيف خرجت إلى عالم الدنيا طفلاً لا يكاد يستقل بنفسه ولا يحصل لنفسه على نفع ولا يدفع عنها أذى. ثم ما زالت عناية الله تحفُّ بهذا المخلوق العاجز حتى كان طفلاً يدرج ثم شاباً ثم كهلاً ثم شيخاً إذا هو بشرٌ سويٌ، هذا الإنسان الذي يتحرك ويأتي بالمعجزات. ويقدم المنجزات ويفتح في العلم فتوحاً تذهل العقول وتأسر الألباب هذه بدايته نقطة دم علقة فحين يناديك ربك بالعلم وبالقراءة وأنت لا تعلم ولا تقرأ؛ لا تغفل أيها الإنسان عن أن وقوف الشيء، ووقوف المخلوق عند مرحلةٍ واحدة أمرٌ محالٌ فكل شيء إلى تطور، وكل شيء إلى ترقٍّ، وكل شيء إلى اندفاع نحو الأحسن ونحو الأفضل.

وكما تخلقت هذه العلقة فكان منها الإنسان المدرك المحس الفعال المريد المفكر المقدر كذلك أنت لا تستقلَّ نفسك ولا تستهن بها أنت اليوم لا تعلم لكنك لو حاولت أن تقرأ وأن تجمع علماً إلى علم وكلاماً إلى كلام وقضية إلى قضية فلن يمضي كبير زمن حتى تكون عالماً مع العالمين فإذا قعدت عاجزاً لا تقرأ ولا تتعلم ولا تغشى مجالس العلم ولا تسأل فحتى متى تكون عالماً ودينك دين العلم؟ متى تكون عالماً وفي الإسلام لا مكان لجهلاء؟ متى تكون عالماً وأنت اليوم تعيش في عصر ينبذ الجهلاء والجاهلين؟ كذلك يجب عليك أن تكون...

(اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علّم بالقلم علّم الإنسان ما لم يعلم).

ما أطيب الكلام الذي يمكن أن يقال في هذا الموضوع!. هذه الأداة التي هي القلم لا يكلف شراؤها إلا مبلغاً زهيداً. لكن قيمتها الذاتية لا تقدر بثمن، بهذا القلم عرفنا أخبار الأولين واطلعنا على تجارب الماضي، ونقلت إلينا حقائق العلوم وكل ما تنعم به الإنسانية من تراث حضاري فالفضل فيه يعود إلى القلم، الماضون كتبوا وقرأنا وتعلمنا ونحن نكتب ونضيف إلى هذا التراث ما أعاننا الله عليه وأولادنا يفعلون ذلك.. بمَ كل هذا الشيء؟ بهذه الأداة وأولادنا يفعلون ذلك بهذا الذي لا يكاد أحد يلقي إليه بالاً وهو القلم.

من الذي علمك أيها الإنسان أن تكتب بالقلم الله، الله الذي لا إله إلا هو علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم.

هذا الكون الذي تعيش فيه أيها الإنسان أأنت الوحيد فيه أم هذا الكون يعج بعوالم لا تقع تحت حصر ولا عد.

من الذي أخذ لك ضمان أنك وحدك الذي تطيق التعلم وغيرك من الكائنات لا يطيق ذلك ما الذي يحول دون قدرة الله أن تخلق في هذا الجماد قدرة على الكلام والقراءة والكتابة؟

ما الذي يحول دون ذلك؟

لا شيء وإنه محض التفضل من الله اختار هذا الإنسان فعلمه ما لم يكن يعلم.. قبل أن يختصه الله بهذا الفضل العظيم كان شيئاً كسائر الأشياء المبثوثة في كون الله العريض وحين حلَّ عليه فضل الله اصطفى بتعليمه ما لم يعلم اسمعوا ماذا تقول مطالع سورة البقرة:

(وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة). ثم (وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون).

الله جل وعلا اختص أبانا آدم بهذه الكرامة وسحب الكرامة على أبنائه جميعاً لغاية أرادها الله وهو أعلم بها وهي غاية الخلافة في الأرض والقوامة على كلمات الله والحراسة لشريعة الله تبارك وتعالى.

)علم الإنسان ما لم يعلم(.

كلا هذه السورة ترددت فيها ثلاث مرات كلا وأنت تقرأ السورة تشعر أنك حين تقول كلا كأنما أنت تقود سيارتك في الطريق وإذا بك فجأة أمام النور الأحمر. فتجد نفسك مضطراً إلى الوقوف لأنك لو تجاوزت لعرضت نفسك لخطر محقق لا تتجاوز كلا. بعد كلا. كلام عظيم ينبغي عليك أن تدركه وأن تفكر فيه طويلاً:

)كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى(.

فكرتم في هذا؟ ظني أن لا.

مفتاح القضية كلها في هاتين الكلمتين:

)إن الإنسان ليطغى أن رآه استغن(.

ما الذي يحول بين الإنسان وبين الاهتداء لكلمات الله؟

ما الذي يحول بين الإنسان وبين قراءة آيات الله في الأنفس والآفاق.

حقيقة واحدة، نظر واحد، نبّهت عليه هذه السورة.

)إن الإنسان ليطغى أن رآه استغن(.

ما معنى الطغيان؟

تقول ملأت الكأس ماء فطغى الماء يعني أن الماء تجاوز حافة الكأس والإنسان حين يتجاوز حده نقول عنه طغى فلان فالطغيان مجاوزة الحد المقدور للإنسان.

ما أنت أيها الإنسان؟ أنت عبد لم تكن إلهاً ولن تكون وما ينبغي لك أن تنازع الله رداء الألوهية أنت عبد حين تحاول أن تتعدى طورك وتجاوز مقدارك، فأنت طاغ، الطغيان مجاوزة الحد، (كلا إن الإنسان ليطغى) فيُصرف عن الحق ويُعرض عن الهدى، ويضرب بكلمات الله عرض الحائط بسبب طغيانه، بسبب نسيانه لنفسه، نسيانه لحقيقة ذاته ما سبب ذلك أيضاً (أن رآه استغنى)، أنْ هنا تفسر المراد؛ سبب ذلك أن الإنسان يشعر بأنه قد استغنى عن أية قوة خارج ذاته فمن أجل ذلك هو يطغى ويتجاوز حده، ومن أجل ذلك ينسى حقيقة العبودية التي ينبغي ألا ينساها ومن أجل ذلك ينصرف ويعرض عن الحق، ما معنى استغناء الإنسان؟ معناه: شعوره بأنه غير محتاج إلى غيره تعززه بالولد تعززه بالمال تعززه بالجاه والسلطان تلكم هي الأدواء نسيان الإنسان يسبب استغناءه لحقيقة مكانه في هذه الدنيا سبب واضح من أسباب الانصراف عن الحق.

 ولكن الإنسان حينما يضع نصب عينيه أنه أبداً ودائماً عبد لله جل وعلا ليس رباً ولا قريباً من الرب فإنه حينئذ يسمع كلمات الله حين تتلى عليه بأذن صاغية وقلب متفتح بماذا ينسى هذا الإنسان. بسيطرة هذه العوامل عليه. صاحب الأولاد يرى أنه عزيز بأولاده وراءه جيش لجب من الأولاد وأولاد الأولاد فهو بغير حاجة إلى سند يأتيه من خارج ذاته، والله جل وعلا قد شرح ذلك ألم تقرأوا ما قال ربكم تبارك وتعالى في سورة مريم:

)أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالاً وولداً أطّلعَ الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا. كلا. سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا ونرث ما يقول ويأتينا فردا(.

ويلك يا مخلوق، ويلك يا تائه من أنت حتى تستكثر بأولادك وأولاد أولادك وترى أنك غني عن العزيز الجبار يوم تقف بين يدي المنتقم القاهر لن يكون بين يديك ولد ولا عبيد (ويأتينا فرداً) كذلك الإنسان يشعر أنه حين يملك المال في غنى عن الناس وفي غنى عن رب الناس. ألم تحفّ به العناية حتى وضعت بين يديه المال والنسب محنة واختباراً. وإنما يراه أنه بجهده حصل على هذا المال ليس هذا فقط، ولكن شعوراً خبيثاً آثماً مجرماً يتحكم في الإنسان حين يملك المال والثراء: أنا أستطيع أن أشتري اللذات فأمرح ما شاء لي المرح، أنا أستطيع أن أشتري الأعوان والأتباع من الإمعات والتافهين فيسيرون من خلفي وتصطفق النعال ورائي أستطيع كذا وأستطيع كذا.

ويحك.. فالذي يعلمك أن هذا المال سيبقى بين يديك لا شيء ألم تقرأ ما قال الله جل وعلا في سورة القصص:

)إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة(.

المفاتيح لا تحملها إلا عصبة أولو قوة، ومع ذلك بعض التافهين من الأغنياء الذين يملكون نشباً قليلاً يظنون أن الدنيا دامت لهم وأنهم يستطيعون أن يتخذوا الآخرين خولاً وعبيداً، لا:

)إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة. إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا. وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين(؟

قال اسمعوا ماذا قال المعتز بماله:

(إنما أوتيته على علم عندي).

أي بفهمي وبدرايتي وبصبري وخبرتي.

(أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر منه جمعاً ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون وخرج على قومه في زينته).

لاحظوا الفتنة.

(قال الذين يريدون الحياة الدنيا. يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم).

قال الذين يريدون ثواب الله:

(قال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحاً ولا يلقاها إلا الصابرون فخسفنا به وبداره الأرض فلم يكن له من فئة ينصرونه من دون الله).

أين المال! أين الأعوان! أين النسب! أين الغرور! حق الحق وذهب الباطل:

(فلم تكن له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون وي كأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر لولا أن منَّ اللهُ علينا لخسف بنا وي كأنه لا يفلح الكافرون تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين).

السلطان.

مالك أيها الإنسان أنت اليوم في ذمة الحكم وغداً إنسان طريد لا تعرف أين تأوي، تسير خائفاً تترقب فعلام الغرور بالسلطان؟ أبين يديك من الله صك أنك لا تنزل عن هذا الكرسي؟ لئن لم تنزلك قوى الناس، لتنزلنك قوة الله التي لا تغلب ولا تغالب، حينما أرسل الله موسى عليه السلام إلى فرعون وملئه. وكلفه بالرسالة إليهم:

)قال موسى رب إني قتلت منهم نفساً فأخاف أن يقتلون وأخي هارون هو أفصح مني لساناً فأرسله معي ردءاً( أي معيناً (يصدقني إني أخاف أن يكذبون قال سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطاناً فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون فلما جاءهم موسى بآياتنا قالوا ما هذا إلا سحر مفترى وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين.

وقال فرعون – انتبهوا إلى قولة الفراعين دائماً وأبداً – وقال فرعون يا أيها الملأ – يعني يا أيها الأشراف - ما علمت لكم من إله غيري. أترون قولة الآلهة الجدد؛ جديدة على سمع الدنيا لقد قالها فرعون من قبل:

يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحاً لعلي أطلع إلى إله موسى وإني لأظنه من الكاذبين. واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين.

هذا الغرور هذا الاستعلاء الذي يأتي من تخويل الإنسان بعض مظاهر الدنيا من مال وأولاد وجاه ونسب ونقد. هذه الأشياء هي التي تصرف الإنسان عن الهدى، هذه الأشياء هي التي تضع بين أيدينا مفتاح السرور الذي يسر به الناس ولقد قص الله علينا نبأ هذا الإنسان فقال في سورة النور حينما ذكر أنه إذا مس الإنسان ضر دعا ربه فإذا كشف عنه الضر قال لئن أنجيتنا من هذه لنكون من الشاكرين فلما أنجاه الله إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا، هذا الداء الوبيل وضعه الله تحت ناظري محمد صلى الله عليه وسلم من بداية الطريق ليعرف الرسول الكريم أين مكامن الداء وماذا يجب أن يعمل وكيف ينبغي أن يتلقى من نفس الناس إلى حقيقة كرم الله ونعمته السابقة بهذه الرسالة ... وتعليمه إياهم الوسائل التي تهذبهم وترقيهم وتكشف لهم عن مكامن الأدواء التي تحول بينهم وبين الإصغاء إلى كلمات الله حتى يستدركوا أنفسهم ويشعروا دائماً مقام العبودية.

هذا القرآن لا ينتفع به جبار عنيد، هذا القرآن لا ينتفع به من سد الذهب والفضة أذنيه. وجعل على قلبه غلافاً سميكاً، هذا القرآن لا ينتفع به العشائريون وأشباه العشائريين هذا القرآن دواء نافع للإنسان الذي لا يطغى، للإنسان الذي يعرف أنه لله عبد فإذا عرف ذلك وعرف مقام الألوهية. وأن لها وحدها حق الأمر والنهي أصغى بأذنيه وأصاخ بقلبه وفتح جوارحه جميعاً للفهم عن الله والعمل بمقتضى ما أراد الله تعالى.

أريد أن أقف عند هذا الحد لأتابع من بعدُ الكلامَ على هذه الآيات. ولقد كنت وعدتكم من قبل وعداً أجدني مضطراً إلى الإخلاف فيه. وعدتكم أن أبسط الأمور جداً وأن أحاول أن أعطي في كل جمعة قضية واحدة مشروحة ومبسطة وعذري أن بين يَديَّ كلام الله وأنني خلال تعرفي على قضايا السور الأربعة لا أملك إلا أن أبسط الأمر أكثر مما وعدتكم به.