من ثمرات العبودية لله

خطبة الجمعة 5/ 6/ 2015م

18 شعبان/ 1436هـ

أ.د. محمد سعيد حوى

نطالع في السنة حديثاً مشهوراً معروفاً باسم حديث جبريل، وقد سأل جبريلُ النبيَ صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان والإحسان، فعلمنا من ذلك أننا مطالبون بالقضايا الثلاث؛ الإسلام، الإيمان، الإحسان، وقد فُسِّـر الإسلام بأنه الأعمال العملية في الإسلام، وأركانه القضايا الخمس التي ذكرت (الشهادتان،الصلاة، الصيام، الزكاة، الحج) وفوق الأركان بناء هي نظم الإسلام كله؛ لذلك جاء في حديث آخر عَنِ ابْنِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ " متفق عليه.

و فوق الأركان بناء، وهذه الأركان الظاهرة، وكل ذلك يُبنى على الأركان الباطنة، وهي علم الاعتقاد، وهي اركان الإيمان الستة، لكن لا يتمّ ذلك على تمامه وكماله إلا بالإحسان، وهو الأمر الثالث الذي أشار إليه حديث جبريل.

العلاقة بين هذه القضايا الثلاث:

والعلاقة بين هذه القضايا الثلاث (الإسلام، الإيمان، الإحسان) أن الإسلام يعلمك كيف تنفذ الأمر العملي، فيعلمنا كيف نصلي، وكيف نصوم، ولا بدَّ أن يبنى ذلك على عقيدة صحيحة فيأتي الإيمان فيعلمنا ذلك، لكن هنا ينشأ سؤال عظيم: كيف أخشع في صلاتي؟ وهذا جوهر الصلاة، وكيف أكون مخلصاً في صلاتي؟ وهذا سر قبول الصلاة.

إن العلم الذي يعلمنا ذلك هو الإحسان؛ فإذا تحققت بذلك تحققت بالإحسان، أنت تشهد الشهادتين، فنطقك بها من أحكام الإسلام، واعتقادك مضمونها ومقتضياتها من أحكام الإيمان، لكن كيف تنتقل من حالة الشهادة أي النطق بها إلى حالة المشاهدة والمراقبة الذي هو الإحسان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:( الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك).

كم نتحقق بالإحسان؟

ولتبسيط ذلك نقول نشهد بوحدانية الله وقدرته وعظمته واستحقاقه العبادةَ والحمدَ، لكن كم نحن نخاف الله حقاً؟؟ وكم نحن نحب الله حقاً؟؟ وكم نحن نثق بالله حقاً؟ وكم نترجم ذلك عملياً؟؟ وكم نحن نتوكل على الله حقاً؟؟ وكم نحن نرضى عن الله حقاً؟؟ وكم نحن نشكر الله حقاً؟؟ وكيف يظهر أثر الإيمان حقيقةً في سلوكنا؟؟

فعندما تقول: الله هو الرزّاق وأنه يعوض الصدقة بعشر أمثالها إلى سبع مائة ضعف؛ فكم أنت متحقق بذلك؟؟

عندما ينتقل الإنسان من حالة الشهادة إلى حالة الشهود؛ فلو خلى بنفسه يستشعر عظمة الله، فلا يمكن أن يقع في  المعصية ولو سراً؛ فضلاً عن ذلك ظاهراً، وعندما ينتقل من حالة الشهادة إلى حالة الشهود فتعظيم الله في قلبه أبلغ مما لو وقف أمام الخلق كلهم وهم يراقبونه ويعدّون عليه أنفاسه، كيف يكون حالهُ؟

مقامات الإحسان والعبودية:

لا شكَّ إذن قضية الإحسان حالة قلبية في العلاقة مع الله ترتقي بالإنسان في مقامات العبودية لله سبحانه، فتجده متحققاً بمقامات العبودية على أكمل وجه، كلما ارتقى في الإحسان، فتجده متحققاً بالصبر الذي هو حبس النفس ومنعها عن ما لا يرضي الله، وحبسها ووقفها على ما يرضي الله، ثم يرتقي في الصبر ذاته ليكون راضياً عن الله، وهو مطابقة إرادتكَ إرادةَ الله حتى في المصائب فلا تختار إلا ما اختاره الله لك، ويكون هواك بل هوى قلبك موافقاً لمراد الله في التشريع والأقدار، (لساناً قد تقول ذلك، لكن قلبياً كم تتفاعل مع ذلك؟) ثم ترتقي أكثر فتكون شاكراً لله، فتستشعر أنّ المصيبة مثلاً نعمة عظمى من الله تستحق شكراً، أي قياماً بحقها، فمن يستشعر ذلك؟

وترتقي في مقامات العبودية أيضاً فتـتقي الله فلا تكون إلا حيث أرادك الله، ولا يراك حيث نهاك، ثم ترتقي أكثر فتكون ورعاً، والورع: أن تترك الشبهات خوف الوقوع في الحرام إرضاءً لله، ثم ترتقي فتكون زاهداً، والزهد قد يصل بك إلى ترك بعض الحلال رغبةً بما عند الله، مع كونك قد تمسك بالدنيا لكن في يدك لا في قلبك.

ثم يرتقي الإنسان في مقامات العبودية حتى يصل إلى اليقين الذي يوصل إلى حقيقة التوكل على الله.

اليقين وحقائقه:

ولعلَّ أكثر ما نفتقده اليوم هذا اليقين؛ لذلك ورد  (والله ما سبقكم أبو بكر بكثرة صلاة ولا صيام ولكن بشيء وقر في قلبه).

و ورد : (صَلُحَ أول هذه الأمة بالزهد واليقين، ويهلك آخره بالبخل والأمل). رواه الطبراني، وحسَّنه بعض أهل العلم.

اليقين الذي هو من الإيمان بمنزلة الروح من الجسد، ولقد قيل: الصبر نصف الإيمان، واليقين الإيمان كله.

ولذا قيل: قليل من اليقين خيرٌ من كثيرٍ من العمل.

وطالما رددنا "ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة". رواه الترمذي، وحسَّنه بعض أهل العلم.

هذا اليقين إذا وجد هو الذي يعالج مصائبك في الحياة وابتلاءاتك وقلقك ومشكلاتك؛ ولذا قيل في الدعاء: عن ابْن عُمَرَ، قَالَ: قَلَّمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُومُ مِنْ مَجْلِسٍ حَتَّى يَدْعُوَ بِهَؤُلَاءِ الدَّعَوَاتِ لِأَصْحَابِهِ: «اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا يَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيكَ، وَمِنْ طَاعَتِكَ مَا تُبَلِّغُنَا بِهِ جَنَّتَكَ، وَمِنَ اليَقِينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْنَا مُصِيبَاتِ الدُّنْيَا، وَمَتِّعْنَا بِأَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَقُوَّتِنَا مَا أَحْيَيْتَنَا، وَاجْعَلْهُ الوَارِثَ مِنَّا، وَاجْعَلْ ثَأْرَنَا عَلَى مَنْ ظَلَمَنَا، وَانْصُرْنَا عَلَى مَنْ عَادَانَا، وَلَا تَجْعَلْ مُصِيبَتَنَا فِي دِينِنَا، وَلَا تَجْعَلِ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا وَلَا مَبْلَغَ عِلْمِنَا، وَلَا تُسَلِّطْ عَلَيْنَا مَنْ لَا يَرْحَمُنَا» سنن الترمذي، حسن، هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.

هذا اليقين يجعلك تعرف معنى السعادة؛ لأنك تعلم حقيقة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا، فَقَالَ: «يَا غُلَامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ، احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ» سنن الترمذي، صحيح.

ومن آثار اليقين:

- قلة الاهتمام بالغد، وهذا لا يعني عدم العمل والطموح.

- اليقين يجعلك متحققاً بمعنى الشهود والمراقبة التي ذكرها حديث الإحسان، قال تعالى: ﴿ كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اليَقِينِ ، لَتَرَوُنَّ الجَحِيمَ ، ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ اليَقِينِ ، ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ﴾ [التكاثر:5- 8]

- ومن آثار اليقين ألّا تسكن إلا إلى الله، وتثق بوعد الله، ويقل عندك طول الأمل، ويتحقق الزهد؛ فلا تكون متعلقاً بالدنيا.

ومن أثاره هذه السعادة والطمأنينة التي تحل قي قلبك.

اليقين في القرآن:

انظر في آيات القرآن العظيم حتى ندرك حقيقة اليقين هو الذي يجعلنا نمتثل لأحكام الله ﴿ أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾ [المائدة: 50]

وهو الذي يحققنا بالهداية بالقرآن ويظهر جوهر التقوى: ﴿ الـم ، ذَلِكَ الكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ، وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ﴾ [البقرة:1- 4]

 وهو مع الصبر الذي يجعلنا على طريق الهداية والإمامة ﴿ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ﴾ [السجدة: 24]

وهو الذي يحققنا بالبصائر والرحمة والهداية ﴿ هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾ [الجاثية: 20]

واقع الإنسان على ضوء اليقين:

فنحن مثلاً حتى نبسط الأمر أكثر، نعتقد أن الرزق محدود، لكن كم نوقن بذلك؟ وبالتالي كم نتحرر من القلق والهم؟

ونؤمن أن الله يضاعف أجر الصدقات، لكن كم نتصدق؟

نعلم أن الأجل محدود، كم نوقن بذلك؟ وبالتالي لا نقع في الجبن ولا الخوف.

نعلم أن النصر منوطٌ بالإيمان والإعداد ﴿... قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاقُوا اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 249]، ولكن كم نوقن بذلك؟

إذن نحن مشكلتنا في عدم اليقين، ولو تحقق هذا اليقين لتحققت السعادة، عندما تأتي كل العبادات والأذكار فهي لبناء هذا اليقين، قال بعضهم: (إن أقلّ اليقين إذا وصل إلى القلب يملأ القلب نوراً، وينفي عنه كل ريب، ويمتلئ القلب به شكراً، ولله تعظيماً وخشيةً)

اليقين عند رسول الله والأنبياء:

هذا اليقين هو الذي تجسد في رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما أحاط المشركون به يوم الهجرة، كما وردَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قُلْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَأَنَا فِي الغَارِ: لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ لَأَبْصَرَنَا، فَقَالَ: «مَا ظَنُّكَ يَا أَبَا بَكْرٍ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا» متفق عليه.

وهذا اليقين هو الذي تجسد في رسول الله صلى الله عليه وسلم  كما أخبر جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا،  أَنَّهُ غَزَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِبَلَ نَجْدٍ، فَلَمَّا قَفَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَفَلَ مَعَهُ، فَأَدْرَكَتْهُمُ القَائِلَةُ فِي وَادٍ كَثِيرِ العِضَاهِ، فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَفَرَّقَ النَّاسُ يَسْتَظِلُّونَ بِالشَّجَرِ، فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْتَ سَمُرَةٍ وَعَلَّقَ بِهَا سَيْفَهُ، وَنِمْنَا نَوْمَةً، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُونَا، وَإِذَا عِنْدَهُ أَعْرَابِيٌّ، فَقَالَ: " إِنَّ هَذَا اخْتَرَطَ عَلَيَّ سَيْفِي، وَأَنَا نَائِمٌ، فَاسْتَيْقَظْتُ وَهُوَ فِي يَدِهِ صَلْتًا، فَقَالَ: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ فَقُلْتُ: اللَّهُ، - ثَلاَثًا - "  متفق عليه. (وبينت بعض الروايات أنه وقع السيف من يده مباشرةً)

وهذا اليقين الذي تجسد من قبل في كل الأنبياء ومنهم إبراهيم عندما أُلقي في النار، فكان في غاية السكينة والطمأنينة، ومنهم زوجه هاجر عندما تركها في أرضٍ لا زرع فيها ولا ماء، فقالت: (آالله أمرك) قالت: (إذن لن يضيّعنا)

وهذا اليقين هو الذي تجسد في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلقوا فاتحين ومضحين منفقين متوكلين على الله ففتحت لهم الدنيا.

وهذا اليقين الذي تجسد في أصحاب موسى المؤمنين إذ قالوا لفرعون: (اقضِ ما أنت قاض)

هذا اليقين الذي يؤدي إلى حقيقة التوكل على الله.:

من هنا قال سبحانه في حق المؤمنين مع رسول الله : ﴿ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ ، فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ﴾ [آل عمران:173- 174]

يذكرون أنَّ عالماً اسمه بُنان بن محمد الحمّال نصح ابن طولون أمير مصر في وقته، فاستكبر الأمير فأمر بأن يلقى بُنان بين يدي السبع ، لم يتحرك العالم ولم يضطرب لأنه متيقنٌ بأن هذا السبع عبدٌ لله منقادٌ لحكمه،  فجعل السبع يشمه ولا يضره، وكان بُنان في غاية السكون والطمأنينة، فلما أخرج من بين يده قيل ما الذي كان في قلبك حين أفلت عليك؟ قال: كنت أتفكر في سؤر السباع ولعابها.

الموت واليقين ومراتبه

لأن اليقين هو الحقيقة القاطعة والتصديق المطلق الجازم الثابت الذي لا يمكن أن يزحزحك أحد عنه؛ فتتعامل على هذا الأساس مع اليقينيات، فكان توحيد الله أعظم اليقينيات، وكان كذلك الموت (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين) (الموت) لكن كما قيل ما رأينا يقيناً اشبه بباطل من الموت.

نعم مراتب اليقين ثلاثة: علم وحق وعين، فأين أنت منها في تعاملك مع الله؟ أين يقنك بوعد الله وحلم الله وكرم الله ونصر الله ولقاء الله؟ وكم نترجم ذلك في حياتنا؟

لقد خُتِمت سورة الواقعة بقوله تعالى: ﴿ إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ اليَقِينِ ، فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ العَظِيمِ ﴾ [الواقعة:95- 96]، فأمرنا بالتسبيح لنصل إلى حق اليقين.

وختمت سورة الحجر بالأمر بالتسبيح وهي تحدثنا عن اليقين، وجاء بعدها افتتاح سورة النحل بقوله تعالى: ﴿ أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [النحل: 1]

 لنكون على يقينٍ من أمر الله مستحضرين التسبيح والتعظيم دائماً.

نذكر هذه المقامات ونحن بين يدي شهر الصوم لترتقي قلوبنا إلى حقيقة العبادة والعبودية فلا نكون فقط عند ظواهرها وأشكالها ورسومها ..