يابحرُ لاتُغرقِ الطفلَ الذي هربا

خطبة الجمعة 4/ 9/ 2015م

20 ذو القعدة/ 1436هـ

أمام هدير الأمواج، وأمام لهيب النار المضطَّرم، وأمام أنين وصرخات الأطفال واستغاثات النساء، أمام البحر، وتحت القصف والدمار والهول ومنظر الدماء المتضرج المتفجر القاني، لا بدَّ من موقف، نعم أصبحنا نتحدث عن هدير البحر وأهواله والتهامه أطفالنا الممزقين المسحوقين، يوماً قال شاعر مرهف ( سليم عبد القادر زنجير –رحمه الله-) كلمات في طفل وبحر، حال سلم وأمن:

أمام البحر قد وقفَ               صبيٌ يجمع الصدفَ و حين البحر بلّلهُ                  أحسّ البردَ و ارتجفَ

وقال البحر يا ولدي              سل الأسماك في كبدي

وسل موجي تجد قلبي             بذكر الله قد هتف

ترى  لو رأى شاعرنا المرحوم اليوم أهوال البحار إذ يخوضها الأطفال والنساء؛ هرباً من الموت الزؤام والقتل والإجرام ، ماذا سيقول؟ جاء صديقه  الشاعر عبدالرحمن العشماوي، ليقول مصوراً الأهوال: يابحرُ لاتُغرقِ الطفلَ الذي هربا       ****       وارحمْ أخاه وأمّاً تشتكي وأبا

رفقاً بهم أيُّها البحر العميقُ فقد    ****      فَرُّوا من الشام لمّا أبصروااللهبا

خافوا على العرض والأرواح فالتحفوا   ****  ليلاً بهيماً أبى أنْ يُظْهِرَ الشُّهُبا

أتوك يابحرُ والأهوالُ عاصفةٌ   ****         فارفقْ بهم إنهم قد أصبحوا غُرَبا

رأوك أرحمَ من أبناءِ جِلدَتهم   ****        واستأمنوك فلا تقطعْ بهم سببا

يابحرُ كنْ مركباً سهلاً فقد ركبوا   ****    إليكَ من طُرُق الأهوالِ ما صَعُبا

رأوكَ أرحمَ منا بعد أن وجدوا       ****    منا التخاذل والتّسويفَ والكذبا

حتى هديرُكَ والأمواجُ صاخبةٌ    ****     رأوه أرحم ممن جار واغتصبا

يابحرُ رفقاً بهم حتى يكون لهم    ****  نصرٌ من الله يمحو الهمَّ والتعبا

كيف لك أن تهنأ؟ وكيف لك ألا تشتعل فيك النار؟ وكيف لك ألا تزداد آلماً وحرقةً؟ كيف لك ألا تعيش حالةً من الكمد وأنت ترى الأطفال يلتهمهم البحر، لماذا؟ إنهم يهاجرون إلى العالم المجهول .. فراراً من ماذا؟ من الظلم، من القتل، والدمار، من البؤس، من اليأس؛ أملاً في حياة؛ أي حياة ..

الإنسانية غرقت بل خُزيت .. الأخلاق تعرت .. أوروبا تتلطخ على أيدي المجريين وتصريحات مسؤوليها العنصرية المتبلِّدة أمام محنة الإنسانية ..

سبعون إنساناً يقضون خنقاً في شاحنة لم يحاولوا أن يضربوا بأيديهم جدرانها، لماذا؟

3000  غريق خلال تسعة أشهر، لماذا؟ وتبقى قصة الطفل أنموذجاً على انهيار منظومة الأخلاق والإنسانية تصفع الجميع.

2000 قتيل في شهر آب، في سوريا وحدها، لماذا؟

مليونان و900 ألف منزل مهدم.

47 برميل على رؤوس الأطفال والنساء والأمنين يومياً، الصواريح الموجهة الذكية ليس إلى صدر الصهاينة، بل إلى صدر شعبنا وأهلنا إن في سوريا أوغيرها ..

2000 مسجد، 40 كنيسة،  3000 موقع أثري، كل ذلك قد هدِّم،  14 مليون مهجَّـــر داخلي أو خارجي.

فأين العالم؟ وأين الضمير؟ وأين الإنسانية؟

ليس الآن بل منذ خمس سنين !

وتستمر المؤامرة ويستمر القتل،

 وتستمر الهجرة إلى المجهول، لماذا؟

فضلاً عن آلامٍ مثلها أو قريبة منها في العراق أو اليمن أو ليبيا أو أفغانستان أو بورما.

من غير أن نحصي مآسٍ في بلدان آخرى؛ في السجون يموتون إهمالاً، وأمام محاكم الظلم يوقفون، وفي الساحات السلمية يسحقون.

وبمقدار ما تزداد آلماً؛ فإن مما يكاد يتفجر له الإنسان أنك إن لم تقتل باسم الدين قتلت باسم الوطنية، أو باسم المقاومة للمحتل، أو باسم العروبة، فالطريق إلى القدس عند هؤلاء "المقاومين" الأدعياء !! لا يمرّ إلا بتدمير الزبداني وداريا ودوما وحرستا وعربين وحلب وإدلب ودرعا؛ حتى يرتوي غرور الغطرسة عند الصهاينة و حكام إيران وآخرين.

- ومما يزيدك آلماً وتغيظاً أن تنطلق حناجر بعض المفتين "لا يجوز الهجرة إلى بلاد الغرب أو التجنس بجنسيتهم إنهم يريدون تنصيركم، إنهم يريدون أن تكونوا عمالة رخيصة عندهم" ولكنهم يصمتون (أولئك المفتون) عندما تتعلق القضية برد الظلم والانتصار للمستضعف وعدم السمع والطاعة للمجرمين القتلة، ويصمتون عندما تتعلق القضية بواجب الدول الإسلامية، ولماذا نلوم أوروبا ولا تفتح البلاد الإسلامية أبوابها؟ ويصمتون عندما تتعلق القضية بكشف المؤامرة الحقيقية ولماذا تدمر بلاد المسلمين ولماذا يُهجَّـــر أهلها؟ ولماذا يحدث ما يحدث من مآسٍ للمهجَّـــرين فضلاً عن القتل والإجرام في بلاد المسلمين في سوريا والعراق بالذات؟ ونحن نسمع أن ثلاثة عشر مليون ونصف من الأطفال محرومون من مقاعد الدراسة في سوريا والعراق واليمن وليبيا، إنها سياسة التجهيل المتعمد والتدمير الإنساني الخطير.

- وتزداد تميزاً وتغيظاً عندما يُركَّز على تجار الموت والمهربين، ويُسكَتُ عن تجار الحروب والقتلة والمجرمين ، ولماذا ينتعش سوق المهربين؟ ومن السبب الحقيقي في ذلك؟

- وتزداد تميزاً وتغيظاً عندما ينافق بعض الغرب بالإنسانية وحقوق الإنسان وهم فعلاً قد آووا الكثير من هؤلاء المهجَّرين، لكنهم هم أو بعضهم يخطط ليل نهار كيف يدمِّر بلاد المسلمين وكيف يسرقون ثرواتهم، وبإمكانهم لو أرادوا إطفاء هذه الحروب لفعلوا.

- وتزداد تميزاً وتغيظاً عندما يُسكَتُ عن المجرم الحقيقي والمستفيد الحقيقي من هذه الحروب؛ الصهاينة الذين حذرنا الله منهم: ﴿... كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ المُفْسِدِينَ ﴾ [المائدة: 64] فلذا حتى يبقى الصهاينة في أمن وأمان فلا بدَّ أن يتولى في بعض البلدان الفاسدون والمفسدون.

إن مما ابتليت به الأمة أن تولى في بعض البلدان أمرها من وصفهم الله تعالى: ﴿ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ ، وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ العِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ المِهَادُ ﴾[البقرة:205- 206]

﴿ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ ، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ ﴾ [محمد:22- 23]، فليس لهم همٌّ إلا الفساد والإفساد وسحق الشعوب وتدمير الإنسان.

لماذا كل هذا؟

لأنه فكر يوماً أن يكون له ربيع، أو لأنه فكر يوماً أن يكون له حرية، أو لأنه فكر يوماً أن يكون له استقلال، أو فكر يوماً أن يكون إنساناً، أو يكون له كرامة، أو فكر بالحق والعدل !

ثم يأتي من يقول لك: "يجب طاعة المتغلب ولو كان فاسقاً فاسداً وظالماً ومجرماً" وباسم الدين يسوقون ذلك، ثم باسم الدين يحرمون الهجرة إلى الغرب ، ثم باسم الدين يسكتون عن واجب الدول الإسلامية، ثم باسم الدين يحاربون من طال ثوبه أو قصرت لحيته أما من تطاول على الأمة وقـــتَّل ومزق وسرق وأفسد فيها، وقصَّــر في كل شأنها فهذا لا شأن لنا به.

فلذلك تريدون أن تأتوا إلى خطبة الجمعة لتسمعوا كلاماً يرطب المشاعر والأفئدة؟

ماهي واجباتنا؟

أين إنسانيتنا؟

أين أخلاقياتنا؟

تقولون: ماذا بأيدينا؟ أن نشكل رأياً عاماً عندما يشعر الطغاة أن الأمة استفاقت لا بدَّ أن يتغير الحال، فمتى تستفيق الأمة والشعوب لتقول: أوقفوا هذه الحروب المجنونة، خذوا على يد الظالم، اخلعوا هؤلاء الظلمة المجرمين القتلة، قوموا بواجباتكم الإنسانية، حركوا ضمائركم، تمردوا على الظلم والطغيان؟

الخطبة الثانية:

إن كان من كلمة نقولها فإن الأردن والأردنيين وهم يستشعرون يستشعرون واجبهم تجاه إخوانهم وأهلهم في سوريا والعراق، فاستقبل الملايين من المهاجرين رغم إمكاناته المحدودة جداً، يدينون تقصيراً فاضحاً للمجتمع الدولي، ومن مظاهر تقصير المجتمع الدولي المتعمد بل والعربي أيضاً أنه لا يقوم بدعم الأردن ليستطيع القيام بحقوق هؤلاء المهجَّرين وتخفيف المأساة عنهم على الوجه الذي يريده.

وأخيراً: هل نحس بالآلام؟ هل نشعر بالإنسانية؟ هل ديننا فقط صلاة وصيام وزكاة وحج؟ بل حتى عندما نأتي إلى الصلاة تجد البعض يمارس الأنا والذاتية والنفسية بشكل مروِّع، هل نتخلى عن الأنا؟ هل فعلاً نرتبط مع الله؟ هل نقوم بشكر النعم؟ نعمة الأمن والاستقرار، ومن شكرها: الانتصار للحق وعدم خذلان المستضعفين.

أسرٌ أوروبية تقول: يوجد غرفة إضافية عندي يمكن أن يسكنها أسرة مهاجرة.

أما البعض فينشغلون بفتوى تحريم الهجرة، ويسكتون عن تجريم الظالمين القتلة، وينشغلون هل يجوز أو لا يجوز أن نشبِّه ذلك بهجرة الحبشة ؟!

أين المشكلة الحقيقية ؟؟

وسوم: العدد 632