الكعبة قبلتنا والأقصى وجهتنا

أ.د. محمد سعيد حوّى

خطبة الجمعة 18/ 9/ 2015م

4 ذو الحجة/ 1436هـ

قلوب الأمة تهفو إلى الأقصى:

لئن كانت القلوب تتجه نحو أداء شعائر ومناسك الحج، وتهفو الأفئدة وتهوي إلى تلكم الرحاب الطاهرة؛ فإن القلوب بالمقدار نفسه متعلقةٌ بالمسجد الأقصى وهو يواجه اليوم أشد أنواع الخطر، والمرابطون يزودون بصدورهم العارية.

إن الأمة لا تفرِّق بين المسجد الحرام والمسجد النبوي والمسجد الأقصى، ولئن رأيتها بالملايين تهفو لأداء فريضة الحج؛ والحج مدرسة الجهاد والتضحية والحب والعبودية، فهي بالمقدار ذاته مستعدة لتتحرك جموعها لنصرة المسجد الأقصى، لكنه يحال بينها وبين ذلك.

ويسألونك لماذا يثور المسلمون لحرمة المسجد الأقصى؟

كيف لا، وهو أرض الأنبياء فجاء الحديث عن هذه الأرض المقدسة في سورة الأنبياء، وهو مسرى المصطفى ومعراجه r و أولى القبلتين وثالث الحرمين، وأرض المحشر والمنشر، وكم جاءت آيات قرآنية تحدثنا عن المسجد الأقصى والأرض المقدسة ﴿ وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الأَرْضِ الَتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 71]

ثم في سورة الأنبياء أيضاً: ﴿ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ ﴾ [الأنبياء: 81].

    ولأن هذه الأرض أرض الأنبياء جميعاً جاء الحديث عنها في سورة الأنبياء فكان في ختامها: ﴿ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ﴾ [الأنبياء: 105].

وجاء الحديث عن بركة الأرض في الآيات السابقة وفي قوله تعالى: ﴿ وَأَوْرَثْنَا القَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَتِي بَارَكْنَا فيها ﴾ [الأعراف: 137].

   وجاء التأكيد على قدسية وبركة هذه الأرض عندما قال تعالى: ﴿ يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ ﴾ [المائدة: 21] في سورة المائدة.

 وهنا لا بدَّ من وقفة، كتب: أي فرض لكم على أن تقوموا بحقها وتجاهدوا في سبيل ذلك وحذرهم من النكوص على أعقابهم فكان جوابهم أسوء جواب ﴿ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ ﴾ [المائدة: 22]

ثم بعد ذلك أجابوا بأسوء من هذا: ﴿ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَداً مَّا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ﴾ [المائدة: 24]

فكانت العقوبة الربانية: ﴿ قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ ﴾ [المائدة: 26]

فإذن حكم الله على بني صهيون وبني إسرائيل أن هذه الأرض حرامٌ عليهم فإذا أخذوها فإنما هو اغتصابٌ واعتداءٌ وإجرام، عندما يقول لك ربك: هذا محرمٌ عليك. ثم تجترأ على ما حرم الله فأنت معتدٍ مغتصب ظالم.

ثم جاء تتويج علاقتنا بالأرض المقدسة في قلب القرآن الكريم نزولاً ومكاناً ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ﴾ [الإسراء: 1]

المسجد الأقصى في السنة:

ثم جاءت الأحاديث النبوية: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لاَ تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ: المَسْجِدِ الحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَسْجِدِ الأَقْصَى "أخرجه البخاري، والحديث متفق على صحته.

عَنْ ذِي الْأَصَابِعِ التميمي قَالَ: قُلْتُ  : يَا رَسُولَ اللهِ، إِنْ ابْتُلِينَا بَعْدَكَ بِالْبَقَاءِ أَيْنَ تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: " عَلَيْكَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَلَعَلَّهُ أَنْ يَنْشَأَ  لَكَ ذُرِّيَّةٌ يَغْدُونَ إِلَى ذَلِكَ الْمَسْجِدِ وَيَرُوحُونَ "  مسند الإمام أحمد16632).

عَنْ زِيَادِ بْنِ أَبِي سَوْدَةَ، عَنْ أَخِيهِ، أَنَّ مَيْمُونَةَ، مَوْلَاةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَفْتِنَا فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَقَالَ: «أَرْضُ الْمَنْشَرِ، وَالْمَحْشَرِ ائْتُوهُ فَصَلُّوا فِيهِ ...... قَالَتْ: أَرَأَيْتَ مَنْ لَمْ يُطِقْ أَنْ يَتَحَمَّلَ إِلَيْهِ أَوْ يَأْتِيَهُ قَالَ: «فَلْيُهْدِ إِلَيْهِ زَيْتًا يُسْرَجُ فِيهِ، فَإِنَّ مَنْ أَهْدَى لَهُ كَانَ كَمَنْ صَلَّى فِيهِ») أخرجه  أحمد.

وبناءً على كل ما مضى فكيف تتهاون الأمة الإسلامية في شأن المسجد الأقصى والأرض المقدسة؟

مخططات الصهاينة:

 مخططات الصهاينة التي لم تنتهِ منذ عام 67، بالأمس حرقوا المنبر ثم أجروا الحفريات الخطيرة تحت المسجد الأقصى، ثم سيطروا على بوابات المسجد الأقصى، والساحات حوله، وعلى ساحة البراق وعلى حائط البراق، والآن يخططون للتقسيم الزماني والمكاني بقصد الوصول إلى بناء الهيكل مكان قبة الصخرة المشرفة، أتدرون أين الخطورة الأكبر في ذلك؟

فضلاً عن أنهم يسيرون في خطى تدريجية مستمرة، وفضلاً عن أنهم يخططون لتفريغ القدس من زمن بعيد، وفضلاً عن الإحصار والإغلاق والإفقار؛ حين أن 80% من أهل القدس تحت خط الفقر، 35% بطالة متعمدة، لا يسمح بترميم البيوت، مع مصادرة البيوت من أهلها تحت شتى السبل، وبنوا عدة كُنس حول المسجد الأقصى، إنهم يسيرون بخطى نحو إقامة هيكلهم في المسجد الأقصى.

أخطار وتحديات :

كما تتجسد الأخطار المحدقة بالانحراف الفكري والسياسي والعقدي؛ إذ سيأتي يومٌ وأنا أحذر ولا أبرر ولا أتشاءم ولا أيِّــأس، سيأتي يوم ستجدون من يفتي للساسة باسم الدين أن يشاركنا اليهود في أرض الأقصى.

ويأتي من يقول لك: الأقصى فقط هو المسجد القبلي، أما ساحات الأقصى فهذه ليست هي المعنية. هذا خطرٌ كبير، الأقصى كل مافي السور 144 دونم، احذِّر مرة أخرى من الانحراف الفكري والسياسي والعقدي، لماذا؟

التاريخ يحذرنا من ذلك، عندما بدأ مشروع التقسيم رفضه العرب، ثم جاء من قبل بما دون التقسيم، وعندما قام السادات بمبادرته رفضها العرب، ثم جاء من قبل بما دون ذلك، ولهم مؤيدون كثر في العرب، وتدحرجت القضية ومن يومين أزهري كان قد تحدث من قبل عن انبعاث موسى وهارون من جديد، يقول (سعد الدين الهلالي): (لا يجب أن ندافع عن المسجد الأقصى حتى لا ندخل في حرب دينية مع إسرائيل). "وكأنها لم تبدأ وكأنهم لم يغتصبوا كل شيء ولم يعتدوا؟!؟!" ويقول: (من يتحدث عن النخوة في الدفاع عن الأقصى يجب أن يتحدث عن النخوة نحو الإنسانية، فالإنسان أهم من الكعبة ومن المسجد الأقصى). "أما عندما يسحق أسياده الإنسانَ المسلم ظلماً فلا يتكلم"، ويقول: (من يتحدث عن نصرة الدين هذه مصيبة، كل شخصٍ ينصر دينه لنفسه، لا يوجد ما يسمى انصر دين الله، ومن يقول ذلك فهو متاجر بالدين). " وأين قوله تعالى: (لينصرن الله من ينصره) (إن تنصروا الله ينصركم)"، ويقول: (المسجد الأقصى لم يكن ملكاً للمسلمين في عهد الرسول). "وتجاهل أن المسجد الأقصى لله يورثه عباده الصالحين، مصداقاً للآية الكريمة في سورة الأنبياء وغيرها"

سياساتهم المتدحرجة:

فإذا كان هذا المتقول المفتري يقول هذ الكلام الآن فستتدحرج السياسة لتجد مفتين مفترين يبررون تقاسم المسجد الأقصى،إنهم الآن يمضون في سياسة الامتصاص والتنفيس والتدرج والمكر، وإنهم الآن يضغطون على الأمة في كل مكان؛ مزيداً من القتل والتمزيق ويمتصون عواطف الناس تجاه القدس امتصاصاً؛ حتى يوصلوهم إلى مرحلة اليأس والقنوط والاستسلام، ويتكلمون عن التحرير وحقنا في القدس من باب ذر الرماد في العيون، والتنفيس.

متى نحرر المسجد الأقصى؟

 أقول لكم متى نحرر المسجد الأقصى، عندما تكون الإجابة صحيحة على التساؤلات التالية:     

  من تؤيد الأمةُ اليوم؟  أو كثيرٌ منها؟

من تناصر؟       

  من توالي؟؟

 من تحب؟؟

عمن تدافع؟؟

لمن تصفق؟؟

ما هو المنهج الذي نسير عليه في حياتنا؟؟

عندما يكون الجواب صحيحاً قرآنياً واقعياً نحرر المسجد الأقصى.

من يحرر المسجد الأقصى؟

  إنهم كما قال تعالى: (عباداً لنا أولي بأسٍ شديد)، وكما قال r: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لعدوهم قاهرين لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم) (مسلم بألفاظٍ متقاربة).

 أما المقاومة المزعومة اليوم فهي تقتل شعبها وأخرى تشاركها القتل، فمن يقتل شعبه لا يمكن أن يحرر المسجد الأقصى، ومن يقتِّل المسلمين لا يمكن أن يحرر المسجد الأقصى، ومن يحاصر المصلحين ويقتِّلهم ويسجنهم لا علاقة له بالمسجد الأقصى، ومن يشتم الصحابة لا علاقة له بالمسجد الأقصى، ومن يشكك بسنة المصطفى لا علاقة له بالمسجد الأقصى، من يفرِّق بين المساجد الثلاثة لا علاقة له بالمسجد الأقصى، ومن يزاود بالخطب والمقاومة ويدعو إلى الجهاد وواقعه لا يمت إلى الإسلام بصلة لا علاقة له بالمسجد الأقصى.

واجــــبـــــنــــا:

لا معنى لفلسطين ولا القدس بلا المسجد الأقصى، ولا معنى لقضية فلسطين بلا المسجد الأقصى، وفي ضوء النصوص فإن تحرير المسجد الأقصى والدفاع عنه واجبٌ بل فريضة تــتــقدم على كل الفرائض، كما لو اعتدي على المسجد الحرام أو النبوي، فالمسجد الأقصى بالنسبة للمسلم عقيدةٌ وإيمانٌ وقرآنٌ و وجودٌ وشرفٌ وعزٌ وطهارةٌ؛ كيف لا وقد مضى ما ذكرنا من النصوص، وقد روّى أصحاب رسول الله r هذه الأرض ، وكانت العهدة العمرية التي تحرم على يهود أن يكون لهم وجودٌ في هذه الأرض المقدسة.

يجب أن نعيش الحقائق كما هي، ودورنا الآن توعية وإيمان وإخلاص الولاء لله وحسن فهمٍ لهذا الدين والقرآن وحسن تطبيق بل وصحة تطبيق، وأن نربي أجيالنا على الحقائق الإيمانية والعقدية والقرآنية، وأن فلسطين كل فلسطين للمسلمين، وأنه لا يمكن أن تتنازل الأمة أبداً، ولا تحرِّف قرآنها وعقيدتها، كما أن من واجبنا أن يكون هنالك دورٌ للشعوب في دفع حكوماتها لاتخاذ إجراءات سياسية واقتصادية لحماية المسجد الأقصى، لن نقول لهم أعلنوا الجهاد لأن الله تعالى يقول: ﴿ وَلَوْ أَرَادُوا الخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ القَاعِدِينَ ﴾ [التوبة: 46]

واجبنا أن ندعم صمود أهلنا المرابطين بالقدس والمسجد الأقصى.

واجبنا الثبات على مبادئنا في أحقيتنا بالأرض كلها من بحرها إلى نهرها، وأنه لا يمكن أن يكون هنالك تفاهمٌ مع يهود؛ لأن الله يقول: ﴿ أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً ﴾ [النساء: 53]، وهم الذين نقضوا المواثيق مع الله وقتلوا الأنبياء وكذبوا الرسل، وكان فيهم القردة والخنازير.

القدس ميزان ووجهة وفاضحة:

ستبقى قضية القدس ميزان الأمة ومعبرة عن صحوة الأمة ووجهة الأمة وقلب الأمة وحيوية الأمة ،وستبقى قضية المسجد الأقصى الفاضحة الكاشفة المغربلة، ستأتي أحداثٌ شداد لا بدَّ أن يتميز الناس فيها تميزاً كاملاً، وينكشف كل شيء على حقيقته، ويتضح من موقفه مع الله والحق والأقصى بحق، فالأيام كاشفة، والمسجد الأقصى عنوان ذلك.

لا بدَّ أن نقول كلمة التحية والتقدير والإكبار للمرابطين والمرابطات في المسجد الأقصى الزائدين بصدورهم وإيمانهم.

المرأة المرابطة:

لقد كان دور المرأة المؤمنة المترابطة متميزاً فاعلاً مؤثراً مثيراًـ تخلى العالم ولم تتخلى المرأة المؤمنة في القدس، وهي رسالة لكل أمٍ وامرأةٍ مؤمنة وفتاة مؤمنة: أن دور المرأة عظيم في بناء الأجيال وتحرير المقدسات وتربية الأبناء على

طريق تحرير المقدسات.

وسوم: 634