الغول "ما غول إلا بني آدم" مثل شعبي فلسطيني

سبحان الله..

مضت نهارات الرصاص المدلهمة.. وأطلت الشمس ترقص في عليائها متهاديةً فوق هودج من الأزرق النظيف..

تشابكت أسراب الطيور في الفضاء، بعضها يرحل والآخر يأتي:

"في مثل هذا الفصل من السنة، يتحول فضاء قريتنا إلى ميدانٍ لاحتفالٍ عجيب، وأظنه فريداً، طيورٌ يقذفها البحر الأبيض فتمضي نحو الشرق في رحلة التعب، وأخرى تمضي نحوه، في مجاميع كبيرة وصغيرة، تتآلف في أشكال هندسية لا نظير لها، دقيقة التكوين ومدهشة".

وفي الأرض، حيثما يمكن أن يصل البصر، لم يكن هناك أحدٌ سوى (أبو جلدة) في تلك البراري الشاسعة التي تنفتح أمامنا.

كان قد حطّ جسمه الهزيل فوق صخرة مرتفعة، مثل صقر، يشرف منها على قطيع الأغنام. ومثلما في كل أيامه، كان رذاذ ألحانه المتقطعة (يرغو له) ، يتناثر فوق الربوات، النابزة على أشكال قباب تلتحم ببعضها حول جبل المنطار، وقد يتطاير الرذاذ منحدراً مع منعطفات (وادي دعوق) الذي يتوغل منحدراً نحو الشرق.

أستطيع أن أحدس الآن، أنّ عيني (أبي جلدة) انفتحتا على اتساعهما، وأنه ابتلع ريق الشهوة، ثم خفق قلبه ضارباً بقوة على ضلوع قفصه الصدري، وهو يقفز من مكانه، منجذباً إلينا.

"المرأة المشتهاة تشعُّ منها جاذبية خارقة، وتتضاعف هذه الجاذبية في حالة الرجل البهيمي، الذي هو على شاكلة أبي جلدة".

كنا ثلاثة.. أمي وجميل وأنا، ومعنا سذاجتنا ووجه أمي الذي انطفأ بريقه بعد وفاة أبي. لم تكن تلك بداية عهدنا بأبي جلدة، فقد حام حولنا منذ خرجت أمي من سجن النساء "ليس هو السجن المتعارف عليه، وإنما المقصود في حالة الأرملة عدم قعودها في البيت بانتظار الصدقات. وفي وضع أمي، فإذا كان السجن يعطل الطاقات البشرية، فإنها عندما فجرت هذه الطاقات بالسعي وراء رزقنا الحلال، تكون قد خرجت من سجن النساء التابعات للرجل الرخّ، أو الرجل الذي يضع المرأة في موقع الدُّونية".

- يا عيب الشوم!

تحشرجت الكلمات في حلقها وارتدت ثوب التذمر الذي تلونه مشاعر الإحساس بالخجل.

انبطح على بطنه فوق سجادة حيكت من الحشائش وورود الأقحوان.. ثم انقلب على يساره، وعلى يمينه، وعلى ظهره، وامتزجت حركته بصفير متقطع.

"ظنَّ أن تقليد الإنسان لطبائع البهائم، جعلني أستخدم الصفير لاحقاً إبان أيام الشيطنة. وفي ذات يوم سألتني زوجتي (فاتن): لماذا تحب النوم على بطنك؟ فقلت: لكي لا تفلت مني غزالتي.

ضحكنا معاً، ثم سألتني بدلع: أيهما أطيب: لحم الغزال أم لحم الخروف؟ فأجبتُ: ليتني أصبح رخاً.. شهقت من صدمة الدهشة، فسألتها: هل يثير الرجل الرخُّ استغرابك؟ ابتسمت وقالت: إنه يثير ما هو أبعد من الاستغراب. وسألتها: ما هو الشيء الذي يلي الاستغراب؟ فأجابتني بصيغة السؤال: هل أنت إنسان؟"..

وبينما تحثنا أمي على الإسراع في جمع سيقان الزعتر، كان (أبو جلدة) يسوطنا بنظراته.. أدركت أنه يخفي نية خبيثة، وهممت من مكاني المرتفع، أن ألقي عليه جبلاً من الحجارة، ليموت تحته رجماً ونتخلص منه إلى الأبد.

قالت أمي بنبرةٍ حزينة:

- دعه يا بني.. رجلٌ لا يخاف الله، ولا يستحيي!

- ما الذي يريده منا؟

- قلة حياء!..

زعقت ألحان (يرغوله) صاخبةً في مجراها الأول، ثم بدأت تنساب هادئةً ممتموجة، راقصة.. تخيلته يريد التهام أمي، وهممتُ أن أقفز إليه لكي أقتلع عينيه.

- اتركه يا ولدي، سيتعب في النهاية، ثم يعود إلى أغنامه مثل كلب.

تسارع إيقاع اللحن، وسكب آخر ما في (اليرغول) من موسيقى، ثم انتقب حاد الشكل مثل صنم حجري.. دسَّ يرغوله في صدره، ثم بدأ يقطف الزعتر، ويزحف مثل دودة القز باتجاهنا..

كان يكدس ما يجمعه بطرف ثوبه القذر، وبعد لحظاتٍ حجل نحونا..

- الشهامة تفرض علي معاونتكم..

- بل تفرض عليك تركنا والابتعاد عنا.. قالت أمي بغضب..

- يا عيب الشوم، أردت معاونتكم..

قلت مقطباً:

- لا نريد زعترك.

- اسكت أنت يا ولد.. عندما يتكلم الكبار، يجب على الصغار أن يصمتوا.

- لست صغيراً..

تناول جميل حجراً، وصرخ:

- نحن لا نعرفك.

وضحك بسماجة:

- لكنني أعرفكم.. هذه نعيمة أمكم، أنت من زوجها الأول، وجعفر من زوجها الثاني.

وصرخت أمي، بل إنها بدت مثل لبؤة..

- اخرس يا قليل الأدب..

طأطأ رأسه، ومضى مثلما توقع أمي كأنه كلب يعود إلى قطيع الأغنام الذي يحرسه، غاب ظله بسرعةٍ، ولم يعد بمقدوري تمييزه من بين الأغنام، ضحكت، وضحك جميل، ثم ضحكت أمي على مضض.

- أنتِ بطلةٌ يا أمي..

- مثل هؤلاء الناس لا تصلح معهم غير الشدة .. اصرخ في وجوههم بيخرسوا.. اصمت بياكلوك.

إنهم يتصورون الأرملة مخلوقاً ضعيفاً، ويعتقدون أنها مثل قبرة عمياء، تحجل إلى فخ الصياد ببلاهة.

- لا أفهم!

- جدك كان يقول: إنَّ القبرة سهلة الاصطياد.

- أنتِ تتحدثين عن القبرة؟

- بل عن نفسي يا جعفر.

- لا أفهم ما تقصدينه!..

- عندما تكبر ستفهم كل شيء يا ولدي.. الراعي أبو جلدة سافل، وكان علي أن أضعه عند حده.

لم نعد نراه بعد ذلك اليوم.. كأن الأرض انشقت وابتلعته..

ولعله بحث عن مرعى آخر يقود القطيع إليه.. وانفتحت البراري أمامنا خاليةً من عيون الرعاة الجائعة..

"أغلب الرعاة كانوا بلا زوجات، وكانوا مملوكين من قبل ذوي النعمة، يعملون من أجل اللقمة فقط".

اعتدنا الخروج بعد الظهيرة، وقبل أن تغيب الشمس نعود محملين بأكياس الزعتر، ثم نسهر في مهمة شاقة، تشاركنا فيها أحياناً الجدة أم محمد السلوم، والخالة هدى، نعزل فيها السيقان عن الأوراق، التي تجففها أمي، وتطحنها بالهاون، لتبيع الصاع بعد ذلك بدينارين.

لم تعد ألسنة النساء تنهض لحم أمي! والعيون التي كانت تجحظ من الدهشة، بدأت تغسلنا بمطر الحب.. مع الأيام أصبحت أمي نعيمة، وكذلك نحن، فوق كل لسان.

قبل ذلك كانت النسوة يقلن:

"امرأة منفلتة.. لم يكفها أنها تزوجت رجلين وقبرتهما، تريد الثالث.. الله وحده يعلم من سيكون هذا المسكين".

لكن الحال تبدلت..

"نعيمة التي لم تفرط بصغارها.. الزاهدة الفاضلة المتدينة، ابنة الأصول، يفيض جنى كفيها على الأيتام".

وبدأت آثار النعمة تبدو علينا، من كد أمي، وتعبها، فتشتري لهذا قميصاً، وللآخر بنطالاً، ولأختنا هند فستاناً ملوناً يزيدها جمالاً بين بنات سنها.

الأخضر الحريري الناعم الذي يمتد إلى ما لا نهاية، استعار من قوس قزح خليط ألوانه الزاهية. سبحان الله الخالقّ يخرج الحي من الميت أقحوان، ونرجس.. بلابل وشحارير، هداهد وزنابق.

زنابق وقبرات تتفلى في الدفء، وصبية يسرحون إلى البراري، بين وادٍ وجبل تيقافزون، مثل ظباءٍ فرحةٍ خرجت من أوكارها إلى براري آمنة.

عندما يرزق الله مخلوقاته، يفعل ذلك بغير حساب. فاجأنا طاهر الغلبان بفكرة بديعة، صفقنا لها.. وتركنا القرية خلفنا. ويممنا وجوهنا إلى الجبال. حدث ذلك باكراً في صبيحة أحد أيام الجمع، استطعت تجميع عشرين باقة من النرجس، وبعد الظهيرة رجعت إلى أمي بدينار كامل لا ينقص مليماً واحداً:

- من أين جئت بهذا الدينار؟

- ... (ضحكت).

- تكلم، من أين جئت به؟

- بعت عشرين باقة من النرجس.

فغرت فمها باستغراب:

- ومن أين جئت بالنرجس، ولمن بعته؟

- كانوا يسألوننا عن الشومر أيضاً..

- عمن تتكلم يا ولدي؟

- عن المسافرين الذين يتوقفون عند استراحة الخروبة.

واشتد ذهولها.

- وهل ذهبت إلى استراحة الخروبة؟

- لم أكن وحدي.

- بدأت تذهب بعيداً يا ولدي، وأنا أخاف عليك.

- قولي لأخي جميل أن يذهب معنا..

- والمدرسة؟!

- نذهب بعد انتهاء الدروس.

- جعفر يا ولدي، لا أريد أن تكسل في دروسك.

- لن أكسل يا أمي..

وفي نهاية السنة الدراسية، حصلت على المرتبة الثانية، وتأهلت للانتقال إلى الصف السادس الابتدائي، ولم يذهب جميل معنا إلى المدرسة.

- يرحل! إلى أين؟

- سيذهب مع عمه إلى الكويت.

- والمدرسة!

- سوف يتعلم هناك..

- أريد أن يصبح طبيباً..

- وإذا بقي معنا.

- الدراسة في الجامعة تحتاج إلى مال.

- أما أنا فلا أريد أن أكون طبيباً.. ولعله بحث عن مرعى آخر يقود القطيع إليه، وانفتحت البراري أمامنا خاليةً من عيون الرعاة الجائعة.

"أغلب الرعاة كانوا بلا زوجات، وكانوا مملوكين من قبل ذوي النعمة، يعملون من أجل اللقمة فقط".

اعتدنا الخروج بعد الظهيرة، وقبل أن تغيب الشمس نعود محملين بأكياس الزعتر، ثم نسهر في مهمة شاقة، تشاركنا فيها أحياناً الجدة أم محمد السلوم، والخالة هدى، نعزل فيها السيقان عن الأوراق، التي تجففها أمي، وتطحنها بالهاون، لتبيع الصاع بعد ذلك بدينارين.

لم تعد ألسنة النساء تنهش لحم أمي! والعيون التي كانت تجحظ من الدهشة، بدأت تغسلنا بمطر الحب.. مع الأيام أصبحت أمي نعيمة، وكذلك نحن، فوق كل لسان..

قبل ذلك كانت النسوة يقلن:

"امرأة منفلتة.. لم يكفها أنها تزوجت رجلين وقبرتهما، تريد الثالث.. الله وحده يعلم من سيكون هذا المسكين".

لكن الحال تبدلت..

"نعيمة التي لم تفرط بصغارها .. الزاهدة الفاضلة المتدينة، ابنة الأصول، يفيض جنى كفيها على الأيتام".

وبدأت آثار النعمة تبدو علينا، من كد أمي، وتعبها، فتشتري لهذا قميصاً، وللآخر بنطالاً، ولأختنا هند فستاناً ملوناً يزيدها جمالاً بين بنات سنها.

الأخضر الحريري الناعم الذي يمتد إلى ما لا نهاية، استعار من قوس قزح خليط ألوانه الزاهية. سبحان الله الخالق! يخرج الحي من الميت.. أقحوان، ونرجس.. بلابل وشحارير، هداهد وزنابق..

زنابق وقبرات تتفلى في الدفء، وصبية يسرحون إلى البراري، بين وادٍ وجبل تيقافزون، مثل ظباءٍ فرحةٍ خرجت من أوكارها إلى براري آمنة.

عندما يرزق الله مخلوقاته، يفعل ذلك بغير حساب.. فاجأنا طاهر الغلبان بفكرة بديعة، صفقنا لها. وتركنا القرية خلفنا..

ويممنا وجوهنا إلى الجبال.. حدث ذلك باكراً في صبيحة أحد أيام الجمع، استطعت تجميع عشرين باقة من النرجس، وبعد الظهيرة رجعت إلى أمي بدينار كامل لا ينقص مليماً واحداً:

- من أين جئت بهذا الدينار؟

- ... (ضحكت).

- تكلم، من أين جئت به؟..

- بعتُ عشرين باقة من النرجس.

فغرت فمها باستغراب:

- ومن أين جئت بالنرجس، ولمن بعته؟

- كانوا يسألوننا عن الشومر أيضاً.. - عمن تتكلم يا ولدي؟

- عن المسافرين الذين يتوقفون عند استراحة الخروبة.

واشتد ذهولها..

- وهل ذهبت إلى استراحة الخروبة؟

- لم أكن وحدي..

- بدأت تذهب بعيداً يا ولدي، وأنا أخاف عليك.

- قولي لأخي جميل أن يذهب معنا..

- والمدرسة؟!..

- نذهب بعد انتهاء الدروس.

- جعفر يا ولدي، لا أريد أن تكسل في دروسك..

- لن أكسل يا أمي..

وفي نهاية السنة الدراسية، حصلت على المرتبة الثانية، وتأهلت للانتقال إلى الصف السادس الابتدائي، ولم يذهب جميل معنا إلى المدرسة.

- يرحل! إلى أين؟..

- سيذهب مع عمه إلى الكويت.

- والمدرسة!

- سوف يتعلم هناك..

- لماذا لا يبقى معنا؟..

- أريد أن يصبح طبيباً..

- وإذا بقي معنا..

- الدراسة في الجامعة تحتاج إلى مال..

- أما أنا فلا  أريد أن أكون طبيباً...

- وماذا تريد أن تكون؟..

- مؤلفاً..

وضحكنا.. لكنَّ وداع جميل كان صعباً.. ذرفت أمي دموعاً تشكل بحراً.. إنه الفراق الثالث بالنسبة لها.. كانت تبكي لأنها تعرف أن ذلك الحبل السري الذي يربطه بها سينقطع بخروجه من حضنها، أما أنا فقد تشابكت وإياه عند بوابة الفراق اللعين.. لماذا مات أبي؟

أستغفر الله.. بل لماذا هو الآخر مثلي بدون أب؟ عفوك يارب.. اثنان، هو وأنا، في اثنين، تجمعنا شراكة الخروج من رحم نعيمة، ويتمنا النبيل.

أخرج يده من نافذة السيارة، وظلَّ يلوح بها، كأنه ماضٍ إلى عالم بعيد، لا يؤوب منه، بينما الريح تعصف بنا، ونحن نتشبث بقاماتنا لئلا تنهار أمام هرمنا المفاجش.. لم أجد في قبضتي سوى الحزن، وبقية من مكابرة فارغة.. أما أمي، فأسندت ظهرها إلى الحائط، وبدأت تحوك ثوباً آخر لحزنها الصوفي المدهش..

غطست الشمس في البحر، وتناثرت تسريحة النهار، وعادت الدجاجات إلى أقنانها، والأرانب إلى جحورها، وبقيت أمي ملتصقةً بباب الدار، كأنها تتحاشى النظر إلى الداخل:

- هيا ندخل يا أمي..

- ادخل أنت يا جعفر..

- وأنتِ، هل ستنامين عند باب الدار؟!

- سأدخل عندما أتعب..

- أنتِ حزينةٌ على فراق جميل، أعرف هذا..

لم تتماسك نفسها.. اغرورقت عيناها، ثم سال الدمع فوق خديها، شحيحاً، ثم مدراراً يحفر له مجريين عميقين:

- دوماً تثير مواجعي يا جعفر..

- أنا مثلك حزينٌ على فراق أخي، ولكن هل قال لك بأنه سيزورنا؟

- نعم، سيأتي مع عمه في العطلة الصيفية.

ملأت الساحة أمام الدار صخباً.. انبثق من غرفة الجدة أم محمد نور شاحب، فأطلت تحمل قنديلها الأثري.

"تتباهى دوماً بالقنديل، وتفاخر بوصوله إليها من سادس جد"..

- ها .. ما به جعفر فرحاً؟..

تساقطت الكلمات من بين بقايا أسنانها التي أكلها السوس..

- جميل سيزورنا يا جدتي، قلت..

قرقرت ضاحكة، ثم اقتربت تجرّ عجيزتها الناتئة:

- أين الأولاد يا نعيمة؟

- ناموا يا عمتي..

- ما بك يا نعيمة؟

- ما بي شيء يا عمتي..

- عيني لا تكذب..

فقلت:

- نعم يا جدتي.. أمي حزينةٌ على فراق جميل..

باندهاشٍ قالت الجدة:

- حزينة!

- فراقهم صعبٌ يا عمتي..

- العني الشيطان..

- اللعنة على الشيطان الرجيم..

- سيتعلم الولد عند عمه، أتكرهين له الخير؟

- أعوذ بالله.. أنا أكره الخير له؟!

خطرت لي فكرة طارئة:

- أنا جائع..

قالت أمي:

- ادخل وكل أي شيءٍ..

- أريد بندورة مقلية..

- ادهن لك رغيفاً بالزيت والزعتر.. واحمد الله.

- الحمد لله، ولكنني كرهت الزيت والزعتر..

قالت الجدة أم محمد:

- عندنا فاصولية، اذهب إلى خالتك هدى.

- أريد بندورة مقلية..

- أطعمي الولد يا نعيمة..

رقصت أحشائي من الفرح، فأمي بدأت تلين، لم يكن من المعقول لحظتها أن أتراجع، والأمر مجرد خدعة، وددت من خلالها انتزاع أمي من جلستها المشؤومة.

"في المأثور الشعبي عندنا، أن الجلوس عند العتبة يمنع الملائكة من دخول البيت، فيبقى ميداناً فسيحاً تتقافز فيه الشياطين سابحةً في ضوئه الباهت الكئيب"..

قامت على مضضٍ متثاقلة، فجريت وراءها، وأنا أكتم ضحكةً كادت تفضحني، اندفعت إلى المكان الذي ينام جميل فيه.. تلاشى ذلك الفرح الذي اعتراني، وأخرسني الألم للحظات

قالت أمي:

- هنا كان ينام.. كنت أستيقظ في الليل فأضع الغطاء فوقه.. كان يحب النوم على جانبه الأيمن.. أحياناً كان يشخر، فأعدل الوسادة تحت رأسه فيصمت وينقطع الشخير..

"لم يكن قد ضلَّ طريقه في صحراء حارقة تبتلع الإنسان"..

وبعد رحيله بشهر وصلتنا رسالة منه:

"أمي الحبيبة:

تمضي الأيام هنا ثقيلةً، وأستعجلها للعودة إليكم في العطلة القادمة.. الناس يعيشون في علب باردة، وفي الخارج تمطر السماء رملاً ناعماً، يسمونه الطوز، وأنا أسميه الموت الأصفر.. تجهَّم وجه عمي، وزجرني بقسوةٍ، ثم طلب مني الامتناع عن هذه السخرية الجارحة.. قال: نحن أغرابٌ، والغريب يجب أن يحترم نفسه.. المهم، لقد اشترى لي ملابس جديدة، وذهبت إلى المدرسة. خليط من الأولاد: فلسطينيون، أردنيون، عراقيون، سوريون، مصريون، ومما أثار دهشتي، أن صفي البالغ العدد، لم يكن فيه غير خمسة طلاب كويتيين، أظنهم من الفقراء". وأجهشت أمي باكية:

- يا ولدي، يا حبيبي، كيف تأكل وتنام؟!

قال جميل في رسالته:

"اليوم، حول مائدة الطعام، اختنقت أكثر من مرة، لم يكن بمقدوري ابتلاع اللقمة بيسر، وقد جف ذلك اللعاب الذي ملأ فمي عندما شممت رائحة السمك المشوي.. سمكٌ كبير لم نأكل مثله في حياتنا.. وحده عمي أدرك ما يدور في ذهني، وأمام إلحاحه العجيب، أكلت دون أن تفارقني صور أفواهكم وهي تلتهم العدس"..

صرخت أمي:

- قل له يا جعفر أن يأكل جيداً، ولا يفكر بنا.. حياتنا مستورةٌ والحمد لله.

- حاضر..

- قل له إننا أكلنا سمكاً كبيراً.

لم أستطع إخفاء دهشتي:

- هل أكذب عليه؟..

- نعم، أقصد.. لا أريد أن يحزن بسببنا..

- حاضر..

- قل له: إننا مشتاقون إليه، وقل له: إنني لا أعرف طعم النوم، وإن صورته لا تغيب من أمام عيني.

- مثل هذا القول يجعله يحزن..

فتداركت أمي:

- نعم، لا تقل له هذا..

وانفجرت باكية مرةً أخرى.. كنت أسمع خرخشه الكلمات تتكسر في حلقها:

- إن لم تكفي عن البكاء، فسوف أخبره بذلك..

صفعتني بصرختها الحادة:

- هل جُننت يا جعفر ..أما تكفيه غربته؟!

- أرجوك أن تتوقفي عن البكاء إذن..

- سأتوقف .. نعم، لن أبكي بعد اليوم.. جميل سيتعلم، هذا هو المهم، قل له أن يكون شاطراً، أتفهم؟ - نعم.. فهمت..

مسحت دموعها بطرف ردائها.. لملمت أحزانها وألقتها في بئر النسيان.. بعد تلك الرسالة، تجمعت فيها قوة مئة لبؤة، لا يهز جذعها قصف المشاكل التي يمكن أن تواجه امرأة مثلها..

- مستقبلكم في خطرٍ إن لم أعمل ما هو أكثر..

- ولكنك تعلمين!..

- ما أبيعه من بيض ودجاج وعكوب ولوف وأرانب وزعتر يا بني لا يكفي..

- وماذا ستعملين أيضاً؟

- سأشتغل في روضة الأطفال..

قرصتني مشاعرٌ خجولة مما هي ماضية إليه، لكنها سرعان ما أعادت إلى روحي بهجتها..

- ليس العمل عيباً يا جعفر..

- أعرف، ولكن..

- أترضى مني أن أخون وصية المرحوم أبيك؟

- لا...

- العمل في الروضة سيمنحنا دخلاً إضافياً يا ولدي، في اليوم الأول عادت إلينا تحمل قدراً مملوءاً باللحم والباذنجان.. ثم حملت إلينا قطعة كبيرة من جبن الكاشكوان الأصفر..

- كيف جئت بهذا كله؟

صرخت ملتاعة:

- جعفر .. أنا لا أسرق.. ولا أرضى أن يدخل الحرام في بطونكم..

- لم أقل هذا يا أمي..

- السيدة نبيلة، مديرة الروضة، هي التي تعطيني كل هذا..

- لأننا أيتام؟!

- لا.. لكي لا يلقى في الزبالة..

- ولكن..

- أعرف ما في نفسك..

- أنت علمتنا على رفض الصدقات..

- هذه ليس صدقة.. إنها مقابل عملي هناك..

لم يكن عملها يسيراً.. كان إطعام أربعين طفلاً.. وفي المساء تعجن كميةً كبيرة من الطحين، تحملها قبل شروق الشمس إلى فرن الشيخ إبراهيم..

كان الفرن بعيداً.. خلف ليلٍ معتمٍ يجثم مثل كابوسٍ مرعبٍ فوق صدر قرية لا تعرف الكهرباء.. قرية تلوك ألسنة الناس فيها قصص الغيلان والجن! غيلان تعسكر في المسافة بين دارنا وفرن الشيخ إبراهيم! وجنٌ كافرٌ يصفع الوجوه، فتميل الأفواه متهدلة إلى أحد الجانبين إن لم تذكر اسم الله مع كل خطوة.. كنت أخشى أن أثير أمام أمي حكاية غول أنيس العساف.. ذلك الذي حدثتنا عنه، ليلةً ظهر على هيئة خروف سمين، أمام الحاج نافع.. ولكن الحاج نافع طرده بعد أن كاد يفتك به، من كثرة ما ذكر اسم الله.. وتساءلت مع نفسي: ماذا ستفعل أمي إذا ظهر لها الغول؟ هل ستلقي العجين عن رأسها وتهرب؟ من يقول: إنها ستتمكن من النجاة قبل أن ينشب الغول أظافره الطويلة في عنقها، ليخنقها ويصحو الناس في الصباح التالي ليروها جثة هامدة تغرق في بحرٍ من الدم الذي لن يجف، طردت كل تلك الوساوس، بعد أن اقتنعت أن الله لا يمكن أن يغض السمع عن توسلات طفل يتيم: اللهم احفظ أمي وأبعد عنها أي مكروه..

صحوت على طرقات عنيفة على الباب.. أحسست كأنما جدران الغرفة كلها تهتز.. لم تكن أمي بيننا في الفراش، وبرغم جفاف حلقي صرخت:

- من عند الباب؟ حمل صوتها المرتبك المتقطع خوفاً امتدَّ بتأثيراته إلى مفاصلي:

- افتح الباب يا جعفر..

قفزت من فراشي، فتحت الباب، واندفعت أمي ذاهلةً تئنُّ مثل طير جريح .. صفقت الباب خلفها بشدة، وكان لارتطامه قصف رعدٍ ملأ أركان الغرفة، فتململت هند صارخة بفزع، ثم نامت من جديد..

- هل طلع الغول لك؟

- نعم..

- والعجين؟..

- سقط عن رأسي وهربت..

- ألم تذكري اسم الله..

- حاولت، لكن لساني التصق بحلقي فلم أستطع المواصلة..

- ألم تصرخي؟..

- صرخت، فما خرج أحدٌ لمساعدتي..

- اتركي هذا العمل يا أمي..

- إذا كانت طريق الفرن مليئة بالغيلان، فليس معنى هذا ترك العمل..

- وأين ستخبزين؟..

- سوف أخبز في الطابون مثلما كنت أفعل سابقاً..

- هذا تعبٌ لا يحتمله إنسان..

- ولكنني لا أحتمل الغيلان من البشر..

- وهل الغول إنسان يا أمي؟

- "ما غول إلا بني ادم" يا ولدي..

- لا أفهم..

- عندما تكبر سوف تفهم، ولكن لا تنسَ أبا جلدة..

- نسيته يا أمي..

- لا تنسه يا ولدي، فهو الغول الذي طلع لي.. لعنة الله عليه..

وسوم: العدد 778