فصل من رواية موت الفوات

فصل من رواية «موت الفوات»

محمد الهجابي*

 لم أذهب إلى العمل. هكذا، لم أذهب. ولم أسأل نفسي السبب. الظاهر أنّني لم أشأ أن أفتش عن ذريعةٍ أرفد بها موقفي. فكعادتي، تقريباً، كنت أفقت يوم البارحة. حلّقت لحيتي. أعددت فطوري. ارتديت لباسي؛ اللباس الذي شغلته أمس البارحة. غيّرت جوربي. تطيّبت، وتعطّرت. وإذ كنت أهمّ بفتح باب الشقّة، دهمتني رغبة بخلع لباسي، والدخول في المنامة من جديدٍ، والعودة إلى دفء الملاءة. أمرٌ غير معقول طبعاً. لكنّه حصل بالفعل.

 لم أخبر الجريدة. أقصد لم أخبر إدارتها بشيءٍ. بل إنّ رئيس التحرير عينه هو الذي اتصل ظهر اليوم الموالي. قلت له إنّني مريضٌ. وكنت أكذب. في الواقع، كنت مريضاً على نحوٍ ما. قال: خذ لك إجازةً. وفي المساء، استغلت مجيء زميلين لأحمّلهما طلباً مكتوباً بمنحي عطلةً لمدّة عشرة أيام. عنوة كتبت الطلب. أذكر أنّني لم أضع طلباً من هذا النوع منذ ارتباطي بالجريدة. ثمّ إنّني لم أقدم على هذا السلوك، لكي أنتظر موافقةً قبليةً، ومكتوبة كذلك، حتّى أشرع في قضاء إجازةٍ، أنا الذي حدّدت مدّتها الزمنية. تاريخ بدايتها كما تاريخ نهايتها، فضلاً عن مكان قضائها. اتخذت قراري، وكفى.

 لم أعد أذهب إلى العمل، ولا أبارح الشقّة، أيضاً، سوى للتبضّع فحسب. البلغة فقط. لا أقلّ، ولا أكثر. ثمّ إنّني أرسلت لحيتي. أربعة أيّامٍ، كانت كافيةً ليترقّط ذقني. وراق لي أن أمسد الشعيرات بغير قليلٍ من العطف والتحنان. كنت لا أكفّ عن التملّي في لحيتي أمام مرآة الحمام، أترسّمها. قلت آن لهذا الذقن أن يستريح قليلاً. ونكاية في أدوات الحلاقة، فقد لممتها، كيفما اتفق، في جارور بخزانة المطبخ. ولكم أعجبني قناعي الجديد. وكأنّما صرت شخصاً آخر، غير الشخص الذي كنته قبل حينٍ. وكنت فكّرت، غبّ اليومين الأولين، في الطريقة التي أصرف بها الأيّام المتبقيات. المحقّق، أنّني لن أجازف بالسفر. فهذا موضوعٌ مستبعدٌ. ضيق ذات اليد لا يسمح. عدا أنّ الجو لا يشي بانقشاع الغيوم، وانقطاع رذاذ المطر. ثمّ إنّ عزمي صمّ على أن ألبد بالشقّة. سأحتمي بها، كما تحتمي السلحفاة بدرعها. ولن أستبيح ذاتي لصنان الطغام، ولا لتفل عوادم السيارات. سأمكث هنا، أستمرئ عزلتي وتفرّدي. أفتح درفة النافذة الخشب كلّ صباحٍ، فيما أبقي على الزجاج مغلقاً. أطمس بعينيّ نحو الأفق، ثمّ أجلس إلى الطاولة القصيرة، أكتب وأكتب. كنت أفكّر في أن أكتب روايةً. لكن ماذا عساي أروي؟ ثمّ ما ألبث أن أستطيب تحرير جذاذات ورقٍ. هو كلامٌ أنثره على بياض في جملٍ قصارٍ، مكثّفةٍ، مثخنةٍ بأوجاع روحي الكليمة، وآلام جسدي الكظيمة، وضنكي المخنوق. ولم تكن كلّ أوقات نهاري منذورةً للكتابة وحدها. وإنّما كنت أقضي وقتاً، ليس باليسير، في الارتياء والإنصات إلى أنغام الموسيقى، موسيقى كناوى بخاصة.

خلال الأيّام الأولى، استرجعت مشاهد خلتها انمحت، فيما ظلّت، هي، مطمورة في ركن ركين من مخيلتي، غافية كأنّما تترقّب الرائز الذي يجعلها تصحو وتتحرّك. أذكر، الآن، وإن بقدرٍ من الامتعاض، المشوب بلمعات الحنين الوارف، والكاسح أحياناً، تلك السنوات التي أمضيتها متنقّلاً بين المدن والمداشر، أنشر الدعوة، وأحشد الجمهور لصالح القضية. شبه متفرغ من حيث الأجرة التي كنت أتقاضاها. ومتفرغاً، بالكامل، من حيث الارتهان لممارسةٍ حزبيةٍ يوميةٍ. وعلى ما كانت عليه هذه السنوات من زحمةٍ، فلم تكن لتخلو من طرائف وحكايات.

 وحينما أكرهت على مباشرة رحلاتٍ مكوكيةٍ بين العاصمة والدار البيضاء، عثرت لدى مصطفى على أصداء أزمنة كنت أفتقدها في غمرة الانشغال الحزبي.: غوصٌ في مهاوي الشعر والشراب. إرواءٌ لمسام الجسد وشرايينه إلى حدّ الجنون. سمرٌ لا يكاد ينتهي. ضحكٌ، ولكم ضحكتُ. كنت أضحك حتّى تطفر عيناي بالدموع. وفوق هذا وذاك، تعرّفتُ على سعاد، ترتيلي اليومي المتوهّج الذي كان. فآهٍ وآهٍ. كيف جمعت بيننا شعب الدهر، وهي من القسوة والجفاء والعناد بما لا يتصور، لتفرق بيننا أكثر شعبه تخاذلاً وضعفاً، أشتاتاً أشتاتاً. أقول الساعة: إنّ البئر العميقة، التي حفرناها بالأسنان والأظافر والدم والأسياخ، ما عادت قادرةً على مدّنا بأساطير مغايرة، تكون لنا المتاع والعون والحافز. نضبت البئر، فتشذّر القوم. وها أنذا، أساكن وحدانيتي، وأتعكّف في اغترابي.

 وبحكم تجربتي، أدرك أنّ مثل هذه الأوقات، التي أخلد فيها إلى نفسي، لا تعمّر طويلاً. فهي إمّا أنّها تمهّد لأمرٍ قد أبتدر إليه لاحقاً، فتكون بذلك بمثابة فترة تفاعل لعناصر جوانية في اتجاه عملية تركيب جديدة، لربّما ينجم عنها اتخاذي لقرارٍ حاسمٍ قد يبصم مجمل مسار حياتي القادم، إن بقي هناك من مسار. وإمّا أنّ عاملاً برانياً يتدخل ليقطع انسياب هذا الحال، على ما هو عليه من سكونٍ مخاتلٍ. ممّا قد يعصف بكيمياء تكويني، ويبعثر جلّ حساباتي. أقول: إنّ للزمن مخبئات يتعسّر على المرء، مهما أوتي من فراسة ودهاء، أن يضمن على أي وجه سوف تصير أو تستقرّ.

 ففي اليوم الخامس من شهر نوفمبر من هذا اللّبد الفاتن، تناهى إلى مسمعي طرقٌ على الباب، لا هو بخفيفٍ، ولا هو بضاغطٍ. كانت الساعة حوالي الواحدة بعد الزوال. الوقت الذي أكون فيه، عادةً، أتناول وجبة الغداء، استعداداً لقيلولة قصيرة، أضحت تلازمني أثناء هذه الأيّام. لم أكن أنتظر أحداً. بالحقيقة، تصوّرت أشخاصاً من ذوي الحاجة عندي. السمسارُ مثلاً، أو حارسُ العمارة، ولعلّه جابيُ فاتورات الماء والكهرباء. ترقّبت حضور هؤلاء كلّهم، وغيرهم أيضاً، ممّن هم من عديمي الذمة والمروءة، أوممّن استباحوا حرمة أبواب الناس، متى شاءوا، من موزّعي الإعلانات، وطالبي الخبز الجاف والنخالة. كلّ هؤلاء ترقّبت حضورهم في ذلك اليوم المشهود. لكن ما لم أتصوّره، البتّة، هو أن يكون الطارق نعيمة الوليدي. ما الذي تبعّثها نحوي بعد أربعة أشهر، وزيادة، من تاريخ تلك الومضة التي كافأتني بها، قبل أن تدبر عني في قعر السيارة؟ ومن دلهّا على استعصامي بالشقّة؟ الثابت أنّ المرأة تلوب على شيء. فهي لا تسخو بزياراتها، هكذا، مجاناً. الأجدر بي أن أحترس، وفي كلّ الأحوال، فالانتباه واجبٌ مع هذه المخلوقة. إذ لا يعلم سوى خالقها عمّا تطوي كشحها عليه.

 كانت آثار الدهشة منعقدةً على وجهي، وأنا استقبلها عند الباب. لم أفسح لها في التوّ. لاحظت هي هذا الارتباك الذي أسفرت أنا عنه. تلكأت لهنيهةٍ، إذ فاجأتها لحيتي. ثمّ ما أبطأت أن ضحكت ضحكة مغناجاً، أعقبتها بلفظة: surprise ! ثمّ إنّها تقحّمت الداخل من غير استئذانٍ. في الداخل لم تمكث بالردهة، ولم تسأل إن كان برفقتي أحدٌ، وإنّما طاوعت سجيتها التي أفتت عليها، في الإبّان، بالعبور مباشرةً إلى الغرفة الوحيدة بالشقّة، غير عابئةٍ بما قد أكون أضمره من ضيقٍ. ولوقت، وهي منتصبةٌ إزاء النافذة المشرعة، بان نصفها العلوي، كما لو كان مثبتاً في بروازٍ، لكن في صورةٍ لم يحسن التقاطها، فبدت، بعكس الضوء، كابيةً، فيما سطعت حواف البلوفر بلونٍ كميتٍ. كانت قد أبقت على قصاصة شعرها المشدود إلى الخلف على غرار ثنّة الفرس. وكانت ترتدي سروالاً قطنياً أسود، وأشارباً برتقالياً تلّفه حول الرقبة. في حين، تدلّت من على كتفيها إلى الحجر حقيبة حمراء، ناصعة، كأنّما خصبت بدهانٍ. اقتعدت جنب السرير، فاستوت الحقيبة على الركبتين. ودون أن تنزع اليد اليسرى عن وجه الحقيبة، اتكأت على اليد اليمنى إلى الوراء قليلاًً. كانت ذات جمالٍ آسرٍ. وكأنّني لا أكتشف هذا الجمال الذي ترشح به سوى الآن. لم تكن الابتسامة تفارق محياها، وهي تتذيّل في كلامها، وتسألني عمّا إذا كنت مخاصماً لها ما أزال. ولست أعلم كيف فوّتت أنا هذا الإنزال القاصف، حتّى أنّني رحت أضحك، وأتحرّك وسط الشقّة بجذلٍ ظاهرٍ. أيّ سحر هذا الذي تبثّه الأنثى في الكون الذكوري، فتحيل مواته إلى حياةٍ، وبواره إلى خصبٍ!

 وها هي نعيمة تمتصّ كلّ المساحات والفراغات، فتصيّرني لا أقوى على إظهار ولو القليل من علامات البرود أو آيات العتاب. وها هي، وقد تبعّث منها ما يشبه مذاق المزّات المدوّخة، تنسيني، وإن لوقتٍ، الانتصار لكبريائي المخدوش، والانتقام لرجولتي المجدوعة. ولقد أحسستني منقاداً لوقر حضورها، لا أملك عليه سلطة. بل كلّ السلط، اللّحظة، هي ملك قبضة يدها. هل أصابت نعيمة مقتلاً منّي؟ وهل من علاقة بين وجود امرأة في شقّتي اليوم، أعني الوجود الفيزيقي، وبين عدمه خلال الأيّام الفارطة؟ منذ متى لم أقرب امرأة؟ شهر، شهران، خمسة أشهر؟ لم أعد أتذكّر. ما أعيه، الساعة، هو أنّ نعيمة رجّت أعشاب الدخيلة، وخضّت نافورة دمائي بعد يباسٍ. وكأنّ حوبائي إنّما كانت ميالةً إلى الاستسلام، على نقيض ما تحاول ادعاءه من نسكٍ. حقاً، أحمق من يدعو إلى القنوت أمام هذا البهاء. لكنّ توجساتٍ جاشت في أعماقي. ثمّ إنّني خاطبتني سراً، أثناء ما كانت، هي، تكرع قهوتها، فقلت: ليس لي من مصلحة في استباق مآلات الأمور. حسبي فقط أن أفكّر، هنا والآن، في كيف أحسن تدبير هذه النهزة الموهوبة لي من السماء.

                

*محمد الهجابي، موت الفوات(رواية)، أفريقيا الشرق، 2005، الدارالبيضاء، المغرب.