لقاء البحر

د. محمود السلمان *

[email protected]

الإهداء

إلى بلدتي الحبيبة "طيرة حيفا"، حيث جذوري؛

وإلى مدينتي الغالية "إربد"، حيث ولدت؛

هذان المكانان اللذان هما أنا؛

و إلى زوجتي والأوراق التي ما زالت تنبت: سجى وأنس ودانا ولمار

1

مع أن أُمَ يوسف استيقظت كعادتها باكراً، إلا أنه كان صباحاً استثنائياً في هذا اليوم من أيام شهر نيسان 2000. ذهبت إلى مكانها المعتاد في غرفة الجلوس، تلك الغرفة الضيقة التي ليس لها سوى نافذة واحدة، تطل على مجموعة من الدكاكين لبيع الخضار. كان الطقس ربيعياً، إلا أن بقايا الشتاء ما زالت تلقي بظلالها، فمدفئة الكاز ما زالت في مكانها وان كانت مطفئة، وبعض الغيوم الخفيفة ما زالت تحجب الشمس. جلست أم يوسف ذات الوجه الأبيض المستدير،الذي ما زال يريك عزاً فَقَدْتهُ منذ خمسين عاماً، وأبو يوسف، الذي تريك تجاعيدُ وجههِ قسوةَ الزمن، على مقعدهما المعتاد يشربان قهوة الصباح، قد خلا البيتُ من ابنهم "أحمد"، الذي سافر إلى فلسطين.

 في الغرفة المجاورة كان أبناؤها ما يزالون نائمين، لم تكن في مزاجها المعتاد، فقد كان القلق يساورها، وصورة "أحمد" لا تغيب عن بالها وهو يقول: أنه لا بدّ من أن يُحقق هدفه مهما كان الثمن. بقيت وقتاً غير قصير تشرب القهوة وتكتفي بالنظر إلى زوجها دون أن تنبس بِِبِنت شَفَة.  كان يشرب قهوته، وعلى غير عادته، بقي أيضاً صامتاً لا يعرف ماذا يقول. بدأت الحديث بصوت خافت وحزين:

- أكان من الضروري أن يسافر "أحمد"؟ قلبي غير مطمئن.

رَدّ وهو مستغرق النظر في فنجان قهوته:

- أنه عاقل ويحسن التصرف.

- لكن أنت تعرفهم جيداً! أنهم لا يحبوننا، وقد عانينا منهم كثيراً، وهو ما زال شاباً وهم لا يرحمون أحداً.

- أعرف ذلك.

 قال وهو يَهُز رأسه ملمحاً إلى إن ذلك من بديهيات معرفته لهم

- أنا خائفة.

ارتفعت وتيرة صوته وقال وهو يضع فنجان القهوة وعيناه محدقتان بها:

- الله يخليك اهدئي، فمنذ خمسين سنة وأنت تلحين على الموضوع، وأن علينا أن نفعل شيئاٴ بعد أن أصبح من الممكن أن نرسل أحد أبنائنا هناك، على الرغم من مشاهدتك بأم عينيك كيف قام هؤلاء بقتل أطفال جارنا أبي مسعد الأربعة، وكيف أنهم لا  يرحمون أحداً، وكيف أن أحدهم لم يتردد في الصعود على جثة طفل، حتى يستطيع النظر من فوق السور، لمناداة جندي آخر والاستمتاع بقدرته على قتل عائلة كاملة بأطفالها ونسائها.

أنت تعرفينهم جيداً، لكنك أصررت على إرسال "أحمد". لذلك، أرجوك اصبري وتوكلي على الله. 

- لكنك كنت مصراً أكثر. أنا فعلاً أخافهم ولا يمكن أن أنسى ما فعلوه بنا هنا وهناك. ألم يطاردونا بقذائفهم حتى بعد أن سكنا هنا في مخيماتنا الكئيبة هذه؟ هل يمكن أن أنسى كيف بقيت قذائفهم تسقط على رؤوسنا، حتى بعد عشرين عاماً من ٳقامتنا في هذا المخيم في حرب الاستنزاف؟ ألم تقتل قذائفهم تلك بسام، ابن جارنا أبي بسام ولم يكن عمره يتجاوز خمس عشرة سنة؟ ألم تمت أمه حزناً عليه بعد سنة؟ لقد قتلوها قهراً وحزناً.

نظر إليها بحنان وهمس:

- توكلي على الله. فأنا متفائل على الرغم من كل شيء . على كل حال نحن نفعل ما علينا.

وفجأة قُرِعَ الباب. وإذ "بسراج"، الملقب بأبي يزن، أخي أبي يوسف، يدخل عليهم في هذا الصباح للاطمئنان عليهم بعد سفر "أحمد".

-كيف حالكم؟ والله أنا شاعر بكم، قليل من الصبر، وٳن شاء الله يعود بالسلامة

-والله يا أخي، أم يوسف أصبحت في وضع لا تحسد عليه.

-لا تلمها. أنا نفسي لم أعرف النوم قلقاً عليه. صدقني أنني أعيش معه الآن، وأنت تعرف (معزة) "أحمد" عندي. يعني أمضيت الليل أفكر بالبلاد. والله لم تغب "الطيرة" عن ذهني. أتخيل كيف سيكون موقفه عندما يرى بيوتنا، والعز الذي كنا نعيش فيه، قبل أن يجبرنا الغاصبون على مغادرة وطننا. تذكرت كل شيء. أتذكرين يا أم يوسف كم كانت حياتنا هادئة وبريئة؟ والله لم أتذكر "الطيرة" فقط  بل أيضاً كل شيء يحيط بها: "عسفية" و"الدالية"، قرى أخوتنا "الدروز"، و"أجزم" و"عين حوض"، والبحر والنهر. تتذكر يا أبا يوسف كيف كان بيتي مليئاً بالضيوف؟! وكيف كنا نتعامل بكل طيبة مع كل شخص، بمن فيهم اليهود، الذين كانوا قلة قليلة بيننا!

نظر أبو يوسف إلى "سراج" وقال:

- أنا طبعاً أتذكر، لكن هناك أناساً كانوا يقدرون شهامتنا معهم وطيبتنا وكرمنا، ويعرفون الحقائق، حتى بين اليهود. ألم تتذكر كيف أخبرني يوماً "شبتاي"، الذي كان يسكن "حيفا"،  بأنه لا يفهم قرار التقسيم، ذلك الذي يقسم الأرض بين أناس موجودين، وهم الأكثرية، وبين أناس لم يكونوا موجودين أصلاً؟ ما زلت أتذكر جملته "أنه حرام وليس من العدل أن يأخذ زيتوني الذي زرعته بيدي ورآني وأنا أزرعه، أناس لم يصلوا بلادي بعد، ولكن النية أن يرسلوهم عما قريب إلى وطننا فلسطين!

ابتسمت أم يوسف ونظرت إلى الرجلين:

- لقد أرسلوهم! وهؤلاء فعلوا كل شيء حرمه الله من أجل ٳخراجنا. وقد رأيتم ماذا فعلوا بمن رفض الخروج من بيوتهم. ألم يجمعوا الرجال والنساء والأطفال قرب مغارة "التشتش" وحرقوهم في السهل المقابل؟ ألم يفعلوا تلك المجزرة بهؤلاء الذين بقوا في بيوتهم؟ ما زلت أذكر "دلال" بنت أبي الناجي وثوبها يحترق، وهي تركض وتصيح في سهل والدها، عندما حرقوها مع القمح الذي زرعه والدها وأمها بيديهما، ذلك القمح الذي اعتقدت أنها سوف تأكل خبزه يوماً، والآن يأكلها بنيرانه! كان في مرحلة ’الصفير’. هذه المرحلة التي كانوا ينتظرونها بفارغ الصبر حتى يحصدوا نتاج تعبهم. لم يكن يعلم أبو الناجي أن ابنته سوف تحرق أمام عينيه في قمحه الذي راقب نموه لحظة بلحظة! كان الرجال مقيدين والبنادق مصوبة تجاه رؤوسهم، والجنود ما انفكوا يقهقهون ويضحكون، وهم ينفذون أوامر رؤسائهم بضرورة فعل كل أنواع المجازر حتى يجبروا السكان على مغادرة وطنهم. لقد حرقوا في ذلك اليوم مائتي رجل وامرأة وطفل.

-على كل حال لقد أرسلتم "أحمد" ودعونا ننتظر. تخيل أننا بعد خمسين عاماً ما زلنا نتكلم عنهم وعن إرهابهم، تماماً كما تكلمنا عنهم وعن إرهابهم قبل خمسين سنة. إنهم ما زالوا يكررون مذابحهم وجرائمهم في كل قرية ومدينة هناك. انظر ماذا حل بنا، لقد قاموا بطردنا من بلادنا واستأثروا بكل ما نملك، الأرض والجبل والبستان! لم يكفهم وضعنا هنا في هذه المخيمات، التي بدأت خيماً تطير مع الريح، وعندما وصلت أعلى درجات تطورها أصبحت "برّاكيات" مبنية من صفائح الزنك والطين ولا تتجاوز مساحتها 68 متراً مربعاً. ألا تتذكر يا أبا يوسف كيف كنا نعيش وكيف كان بيتي يتجاوز ال 300 متر مربع مع حديقته وأشجاره ووروده؟ بأي حق يأخذون بيتي ويستمتعون بما بنيت وشقيت من أجله؟ أعرفتَ الآن لماذا ما يزالون يطاردوننا ويعذبوننا؟ ٳنهم يعلمون ما جنت أيديهم، لذلك ليس لهم إلا الإرهاب والكذب لٳسكاتنا عن المطالبة بحقنا أولاً، ولقلب الحقائق وتزيفها ثانياً.

هز أبو يوسف رأسه ونظر إلى "سراج"، وقال:

-  من منا لم يكن سعيداً وهنياً؟ وكيف لا نكون سعداء، وقد كنا نعيش بأرضنا وجبالنا وبحرنا؟ إنها مصيبة على الكل. ألم يمت "الحلبي" قهراً بعد أن وجد نفسه في هذا المخيم في غرفة واحدة هو وأحفاده الذين وصل عددهم عشرين شخصاً، بعد أن كان يملك خمسَ معاصر زيتون في "حيفا" و"الطيرة"، وأربعة بيوت في "هدار الكرمل". والمئات من دونمات الأرض التي يقيم عليها الآن أناس لا يعرفون حتى من هو "الحلبي". وتذكر أبا الراشد الذي وصل به العز ليملك شركة حافلات بعد أن عمل وكافح ليل نهار حتى يحقق هذا النجاح؟ بأي حق يأتي الغرباء ليأخذوا حافلاته وأرضه، ويخطفوا نجاح عشرات السنين وكفاحها بلحظة؟ إنه الظلم؟!    

بعد هذا ذهبت أم يوسف إلى غرفة أبنائها، جلست صامتة تفكر في أحمد ، كيف قبلت أن ترسله بعد أن وصل لهذا العمر ، وتعبت عليه وتعب على نفسه كما لم يتعب أحد، منذ كان في سن العاشرة بدأ العمل مع خاله مرزوق الديك في المحددة لمساعدة أهله في تحمل نفقات الحياة، ولم يتردد يوماً في الذهاب للعمل مع باقي أسرته للعمل في الزراعة في تلك الأراضي القريبة من منطقة القويسمة جنوبي المخيم ، كانوا يأخذون تلك الأراضي لزراعتها كضمان لمدة محددة من السنة ، وكان يعمل معهم أحمد حتى الغروب ، وعندما يصل البيت لا يعرف شيئاً غير الدراسة حتى يحافظ على تفوقه في مدارس وكالة الغوث التي درس فيها ، وبعد ذلك غالباً ما كان يمارس هوايته بالرسم في تلك الغرفة الضيقة ، فحتى في أيام الصيف اعتاد أن يذهب لمساعدة أبيه في صناعة صناديق الخضار التي كانوا يسمونها (بوكس). وبعد ذلك يذهب على عربة صغيرة يجرها بنفسه إلى سوق الخضرة القريبة من الوحدات لبيعها. ومع أنه كان هادئاً بطبعه إلا أنه لطالما تعارك مع بقية الصبية الذين كانوا يحاولون استغلال صغره في بيع حصته من الصناديق، ولم يتردد يوماً في التصدي لهم للرجوع إلى البيت بالمال المساوي فعلاً لثمن تلك الصناديق. كان أبوه يكتفي بالنظر إليه مع ابتسامة صغيرة دون أن يتفوه بكلمة ، حتى عندما أنهى دراسته الثانوية في جبل التاج ، وحصل على معدل مكنه من دراسة الهندسة، اكتفى والده بالابتسامة وضمه دون أن يقول شيئا، لكن غالباً ما تقيل أحمد عذر أبيه، فقد كان والده يعمل طيلة النهار إما بالأرض الضمان التي لا يملكها، بعد أن كان يملك الأرض التي يزرعها ويحصدها، وإما بصناعة (البوكس). وعندما يعود للبيت كان يلاحظ أحمد حزناً  دائما في عينيه.  وفي أحسن الأحوال عندما كان يستريح في البيت لا يشاهد إلا نشرة الأخبار. أما أم يوسف فقد كانت الأنشط بالحقل. وعندما تلاحظ بأن زوجها مكتئب من العمل في غير أرضه تذكره بنجاح أبنائه وبأن ذلك ما قد يتمناه أي إنسان لأبنائه. لذلك تابعت دروس أبنائها على الرغم من أميتها من خلال أبنتها الكبرى تغريد. حتى وهي تحضر الطعام كانت تغادر المطبخ بين الفينة والأخرى لكي تطمئن بأن دراسة الأولاد تتم على أحسن الأحوال. لا ينكر أحمد بأن هذه الأشياء لم ينسها يوماً في أيام الدراسة. وكان كلما تذكرها يغادر زملاءه ويذهب للمكتبة إما للمطالعة وإما لقراءة الروايات والأدب. وحتى في أوقات الفراغ الأخرى كان يذهب للمرسم التابع لدائرة الفنون.    

2

وصل "أحمد" حدود فلسطين، وكان يتحتم عليه أن يمر عبر بوابة كبيرة تؤدي إلى ممر ضيق، يوصل إلى مبنى كبير، يتم فيه التفتيش وختم جوازات الداخلين.  دخل "أحمد"، الشاب ذو القامة الطويلة والبشرة السمراء تلك البوابة ووصل إلى طاقة شباك. كان أمامه بعض الشبان وامرأة. تخيل في تلك اللحظة طاقة الشباك فوهة مدفع، لا يمكن أن يكون بداخلها أقلام أو أختام أو أي شيء مدني. لا  يمكن أن يكون بداخلها إلا رصاص أو أشياء تتعلق بالحرب. وفجأة وبينما هو يفكر بكل ذلك أتته مجندة، وسألته بالإنجليزية عن جواز سفره وعن سبب زيارته، تخيل أن كل هدفها كان التأكيد عليه أن يستخدم جواز سفر،وأنه يقوم بزيارة وليس عودة. شعر بأنَّ شيئاً مقيتاً سرى بجسمه. أجابها بثقة مصطنعة بأنه ذاهب لزيارة "حيفا" ورؤية البحر. حاول أن يجيبها بطريقة تشعرها بأنه سائح ليس أكثر. حاول أن يخفي مشاعره الجميلة الجياشة نحو بلده، لأنه خاف أن يُسرق منه شيء جميل آخر. خاف على مشاعره أن تؤخذ منه بعد أن أخذوا منه البحر والجبل والسهل. شعر أن بذلته الرسمية وشاربه كانا السبب الرئيس الذي جعلها تختاره من بين كل من كان يصطف بالطابور لتسأله عن جوازه حتى قبل أن يصل شباك استلام الجوازات. لقد اختار تلك البذلة الرسمية بعناية ليبدو رسمياً وليضفي على نفسه نوعاً من الرصانة، تجعل من الآخر يتعامل معه بلا ريبة أو اشتباه، وتوحي له أنه إنسانٌ صاحب منصب ومكانة،وكانت السبب الأساس أيضاً الذي أشعره أنه يختلف عن هؤلاء الذين يصطفون معه وأنه يثير الريبة والشك ذلك لأنهم جميعاً كانوا يرتدون ملابس عادية بسيطة، لا تتعدى حذاءً خفيفاً و (تي شيرت). لقد لعبت بذلته دوراً عكسياً. كل الأناقة والرسمية والمكانة الرفيعة التي كان يشعر بها قبل لحظات على الطرف الآخر من الحدود تلاشت على هذا الطرف. كل شيء كما هو البذلة والحذاء والربطة إلا أن الشعور انقلب رأساً على عقب. شعر بأن شيئاً ما من ثقته بنفسه تلاشى، وأن استخدامه للإنجليزية في هذه المرة بالتحديد لم يكن إلا ضعفاً وتظاهراً بالمعرفة. كل الأناقة التي كان يشعر بها عندما يرتدي تلك البذلة تلاشت، وشعر بأنَّ مكانة المرء في المكان الذي يرتدي فيه الأشياء هي ما يحدد الشعور بالأناقة أو أي شيء آخر يتعلق بالنفس.

 وصل شباك الجوازات. أدار وجهه بينما كان الجندي يقلب أوراق جوازه. لا يريد أن يرى اللحظة التي يختم بها هذا الجندي جواز سفره، ويحدد بها مدة قامته، ويجعل بذلك من العودة زيارة. هذا الشخص الذي يقرر دخولي والذي لا يعرف أبوه أو جده شيئاً عن هذا المكان كما يعرف أبو أحمد أو جده عن تفاصيله قبل أن يقيموا به هذا البناء.

عندما انتهت تلك اللحظة القاسية دخل بلاده، وأطلق لمشاعره العنان لتتحرك كيفما شاءت. عاد شعوره ببذلته كما كان. شعر ثانية أن حذاءه أنيق وليس ضخماً كما ضخمه إحساسه قبل قليل، وشعر أيضا بأنه نظيف وبأن ربطة عنقه في مكانها الصحيح بالضبط كما يريد، وبأن الزر العلوي مغلق كما يجب. بدأ يركض كالطفل .فتح يديه كأنه يضم المكان. هذا المكان يعيد له إحساسه بالبذلة وبكل الأشياء. هذا الشعور بأنه ليس متطفلا في الزيارة، وبأنه يزور مكاناً ينتظره، وبأنه يستطيع زيارته دون موعد. كانت الطريقة التي استقبله المكان بها والفرحة بلقائه التي رآها في عينيه وعيون أشجاره وريحه وترابه قد أعادت إليه توازنه وكل شيء.

وصل "بيسان". ابتسم المكان وتجمع كل شيء حوله. شعر بأنَّ "بيسان" تفتح له يديها وتضمه بقوة، وتقول له أنت من أريد! شعر بأنها تهمس بأذنيه وتقول: هون عليك يا حبيبي فهذا الختم جزء من عتادهم الحربي، ومن تلك الكذبة الكبيرة التي ما يزالوا يمارسونها منذ خمسين عاماً. ابتسم فأنت وحدك لي وأنا لك . أنا الحقيقة "بيسان" الأرض والشجر والورد الذي لا يعترف إلا بك. هم ليس لهم من هذه الأشياء شيء. حتى اسمي يخطئون به ويقولون (بيت شان). هم سمحوا لك بالدخول إلى ذلك الاسم الخطأ. فهم يدخلون ويخرجون إلى ذلك الاسم. وعندما يدخلون، علي أن أخبئ رأسي أنا والتراب والورد وحتى الصخر. أنا أطمئنك منذ خمسين عاماً لم يلمسوا شيئاً من أجزائي، التراب والحجر . أما أنت فأنت في "بيسان" الأرض والسهل والورد والروح. أنا يا "أحمد" أمضي أوقاتي منذ خمسين عاماً بهذه الطريقة. أخفي رأسي وأظهره. لا أظهره إلا عندما ترنو إلى مسامعي أسماءٌ كاسمك. وأخفيه عندما أسمع أشياء غامضة من شاكلة(بيت شان). أنا الآن أنا. أنا "بيسان". وأنت "أحمد" "بيسان". فأنا الآن عائلتك وبيتك وأبوك وأمك. أما هذا الختم الذي سودوا به جوازك، فهو شيء كأنه لم يكن، لأنه يتعلق بشيء لم يكن اسمه بيت شان. أما أنت فأنت في "بيسان" الأرض والهواء وأنا من يقرر.والآن أنا قررت أن تدخل وترى كل الأشياء كما تحب لأننا لك. هم لا يعلمون أنهم لا يرون شيئاً من طبيعتنا؛ لأن كل الأماكن تمارس ما أمارسه منذ خمسين عاماً؛ نخفي رؤوسنا عند مرورهم أو سماع أسمائهم، ونظهرها عندما تمر أسماء كاسمك أو اسم "عبد الله" أو "جورج" أو"علي" أو "عيسى".هذا ما تفعله "حيفا" و"يافا" و"عكا".  هم لا يعلمون أنهم من يحتاجون لأختام، لأنهم لا يعلمون أنهم منذ خمسين عاماً لا يرون الطبيعة كما هي وكما تراها أنت، لأنهم دخلوا دون إذن. عليهم أن يعلموا أن الطبيعة هي من يحق لها أن تجيز الدخول أو تمنعه.أنت الآن في الأرض الطبيعية، وسوف ترانا كلنا كما نحن "حيفا" و"يافا" و"مرج ابن عامر" كما كان يرانا أبوك وكل أحبتنا الذين نحن لهم. هذا قرار منا وليس منهم. هم لم يروا ولن يروا جمال شعر رأسي كما تراه أنت الآن. فهذا الشعر لا يمكن أن يراه غريب.

أكمل مسيره في أرضه. كل المدن والسهول التي مر بها كانت جميلة. وقد ميزها جمال شعرها. ذلك الشعر الذي لم ير الضوء منذ خمسين عاماً. منذ خمسين عاماً لم تسمع اسمها الحقيقي بلفظ أصيل كما تسمعه الآن فأحمد ظل يتمتم بأسمائها كلما مر بإحداها.

 وصل "حيفا"، فبدا البحر من بعيد تماماً كما وصفه أبوه له. تمنى أن يرى أي جزء منه كما هو. أقترب أكثر فابتسم البحر، وابتسم هو. كان اللقاء حميماً ببحره. بدأت نسماته تعود كما كانت وأمواجه تستعجله المسير. بدأ بالركض وما هي إلا لحظات حتى كان في أحضانه. قبله وضمه وأودعه قليلاً حتى يرى قريته.

استمر في مسيره وهنا وصل الشارع المتفرع من أوتستراد "حيفا" "يافا"، وهو الشارع المؤدي إلى قريته "طيرة حيفا". تلك القرية القابعة في مكان جميل من جبال الكرمل على سفوحه الشمالية الغربية.

 على المثلث المؤدي إلى القرية شاهد شاباً، بادره ذلك الشاب بكلام عبري لم يفهمه. أدرك الرجل أن "أحمد" لا يفهمه، غيرّ الشاب حديثه إلى العربية وسأل وابتسامة ودية ترافق كلامه

 -أنت عربي؟

حَارَ "أحمد" فيما يقول، لأنه لا يعرف بعد ما قد تعني هذه الكلمة في هذا المكان لشخص لا يعرف عنه شيئاً. ومع ذلك أجاب:

 -أنا عربي من تلك القرية التي تراها من بعيد.

 -تعني "طيرة الكرمل"؟

 -سمها كما شئت، فكل هذه الأسماء لها. سمها طيرة الكرمل أو "طيرة حيفا" أو "طيرة اللوز". فكلها أسماؤها.

-ما اسمك؟

لم يعجبه السؤال بهذه الطريقة المباشرة، وشعر أنه جزء من تحقيق ربما بدأ منذ الآن. لكنه تحقيق كان مهيأ له، وربما يكون سؤالاً بريئاً، ضخمته هواجسه وخوفه وأعطته أكثر من حجمه.

-"أحمد"، قالها متردداً.

-وأنت؟ سأل وهو لا يهدف إلى معرفة الجواب بقدر رغبته في توجيه سؤال مشابه لذلك الذي لم يعجبه

-عمير

-عمير! عمير أم "عمار"؟

-عمير. لكن ربما "عمار" عندكم بالعربية.

-آه. إذاً أنت.....

-نعم أنا يهودي. لكنني أحب العرب.

أجاب عمير مع ابتسامة لتخفيف مفاجأة الجواب.

-هذا جيد.

قال "أحمد" هذه العبارة مع ابتسامته أيضاً لإخفاء حيرته وحتى خوفه من الجواب. لم يكن يعتقد بأن لقاءً مع يهودي سيتم بهذه السرعة. وعلى الرغم من أنه هيّأ نفسه جيداً لاحتمال هذا اللقاء إلا أن سرعته أربكته.

-نعم أرتاح للعرب لأنني أعرفكم عن قرب، ولي العديد من الأصدقاء العرب. فقد كان لأبي دكان لبيع "التتن" وأنواع الدخان المختلفة في أحياء العرب، لكن أجبني لماذا تقول طيرة "حيفا"؟ فهي على حد علمي اسمها "طيرة الكرمل"، وصدقني لا أعلم إذا كان لها أسماء أخرى كتلك التي ذكرت، مع أنني أعيش قريباً منها منذ عشر سنوات تقريباً.

-لا تعلم؟على كل حال هذا شيء طبيعي، فهذا النوع من المعرفة لا يأتي من عدد السنوات التي نعيشها قرب المكان بقدر ما يأتي من عدد السنوات التي عاش فيها المكان بداخلنا. إنها قريبة جداً من "حيفا" لذلك سميت "طيرة حيفا". فقد كان ينتقل أقاربي على الحمار من "الطيرة" إلى "حيفا" خلال ساعة فقط.

-أنا لا أعلم  شيئاً عن هذا! فوسائل التنقل مثل "الحمير" لا أعرف عنها شيئاً، فهي أشياء قديمة كانت قبل وصول عائلتي إلى هنا.

 -إن هذا الالتحام بين الطبيعة والطفولة والحيوان والشوارع بتلقائيتها الطبيعية دون أن يغير شكلها أشياء "كالإسفلت"، هي أمور تجعل للطفولة والذكريات معاني استثنائية.  لذلك فوصية أبي الوحيدة، التي دائماً يذكرنا بها، أن يدفن هنا قريباً من "الكرمل"، في "الطيرة" التي كثيرا ما رعى عنزاته السوداء فوق هضابها وتغبر بترابها الذي طالما تغبر به، وبحرها الذي لم يذق غير ملحه، ولم ينم إلا على أصوات أمواجه التي كانت تصل إلى مسامعه من بعيد.

 -لا،  أنا كانت وصية أبي الوحيدة أن يدفن في النمسا، وكان دائماً يذكرنا بشوارعها التي عاش فيها طفولته وجزءاٴ من شبابه. ألم يربِ والدك الجمل؟

-لا. ٳن هذه منطقة جبلية. لذلك كان على أهل المنطقة تربية الماعز الأسود، ذلك أنه رشيق وخفيف الحركة ويستطيع التكيف مع المناطق الجبلية.حتى الخراف البيضاء لا تناسب المنطقة لأنها ليست رشيقة كالماعز، لذلك كانوا يربون "الخراف" فقط في مناطق سهلية مثل "الزمورة" و"خربة شيحا" و"البيادر الغربية". أنا سعيد بمعرفتك يا "عمير"، ولكن علي أن أكمل مشواري وأدخل قريتي.

-هل لديك مانع أن أرافقك؟

تردد "أحمد". شعر بأنه لا يرغب بذلك، ليس لأن "عمير" شخص لا يعرفه ولم يْلْتَقِهِ من قبل، بل أيضاً لأنه ينتمي للقوم الذين ظلموا وشردوا أهله وأقاربه وأبناء وطنه جميعاً وما زالوا يفعلون ذلك. شعر بأنه لا يستطيع الوثوق بنواياه سريعاً، لكنه في الوقت نفسه، لا يستطيع أن يقول له لا، لأنه لا يضمن ردة فعله. لذلك قرر أن يقول نعم خوفاً، وهو يشعر بأن "عمير" قد فرض نفسه عليه. أحس "عمير" أيضاً بتردده. لكنه تقبل وتفهم هذا التردد. فهو يعلم جيداً ما تفعله دولته بشعبه. لكنه نظر إلى "أحمد"، وبصمت تمنى أن يعلم أنه ليس من هؤلاء المؤيدين لما يحصل لشعب "أحمد". وأنه من هؤلاء الذين تظاهروا ضد حائط العزل العنصري، وأنه من هؤلاء الذين خجلوا مما فعله جنودهم في مخيم جنين، ومن استخدام طائرات "ف16" ضد مدنيين عزل يقيمون في مخيمات بائسة على بعد عدة أمتار من أراضيهم التي طردوا منها وحرموا من العودة إليها، حتى يقيم فيها أناس جيء بهم من أصقاع الأرض  ليحتلوا المكان ويسكنوه بدلا  منهم. في تلك اللحظة تمنى أن يعلم "أحمد" عدد المرات التي قرر بها مغادرة هذه الدولة لأنه لا يستطيع تحمل الظلم الذي تفعله بسكان الأرض الأصليين.

 -بإمكانك فعل ذلك.

3

من بعيد ظهرت ملامح المكان الذي طالما حلم "أحمد" برؤيته. كان الجو صافياً إلا من بعض الغيوم التي تظهر أحياناً. جبال الكرمل، وما عليها من أحلام وقصص وأشجار، أصبحت على وشك اللقاء بإنسان أنبتته هنا وولدته في مكان بعيد. هكذا شعر. لذلك وقف طويلاً ينظر من بعيد قبل أن يبدأ المسير. في هذا الصمت الكلامي أصبح كل شيء صامتاً، وأقرب لحالة الترقب منه لعادية الحركة. وبعد التقاط الأنفاس بدأ يسير باتجاه "الطيرة"، وفي تلك اللحظة بدأ يتفحص كل شيء، ويريد رؤية كل شيء. وما أن وصل سهول القرية حتى بدأ يلاحظ أن تضاريسها تماماً كما وصفت له. توقف قليلاً، وبدأ يدرك أنه في سهل يقال له "تل القرع". تنهد وقال لنفسه:

-ما أجمل سهول بلادي!

    انهمر الدمع من عينيه وبدأ يحدث نفسه:

-لا بد أن هذه بعض سهول بلادي:  سهل "تل القرع"، و"الخوانيق"، و"القرانيف"، و"درب البحر" و"خربة شيحا". في هذه السهول الجميلة الريفية البريئة بداية قريتي، أقام الإنجليز أول معسكراتهم في قريتنا كما أخبرني جدي. فكانت بقايا المعسكر أولى الأشياء التي رآها في بداية الطريق. في هذا السهل وعلى أبواب القرية كان يقام معسكر "سبلاي دبو". قريباً من هذا السهل، وعلى طرف الطريق كان هناك بيت معروف يعود لرجل أسمه "عصقول". لم يبق َمن ذلك البيت إلا بقايا حجارة وأعمدة يظهر منها قضبان حديدية.  ذهب "أحمد" لتفحصه. لمسه كأنه يلامس التاريخ! كان هذا البيت بالنسبة له أول شيء "طيراوي" يراه في حياته في مكانه الطبيعي –"الطيرة". كل شيء هنا أصيل؛ المكان وكل شيء فيه. لأول مرة أرى التراب الذي أريد أن أراه، والورد الذي أريد أن أشعر بعبقه، والسهل الذي أريد أن أختفي بين سنابله. كل شيء أصيل، لا شيء تقليدي. لا أحتاج الآن أن أقول إن هذا السهل أو التل أو التراب يشبه سهل أو تل أو تراب بلادي. هو سهل بلادي أوتله أو ترابه .

 تابع طريقه وعيناه مشدوهتان تريدان أن تريا كل شيء، فقد طبع والداه في ذهنه صورةً واضحة ودقيقة لمعالم القرية وتفاصيلها. كان يعلم تماماً ما كان موجوداً من سهولٍ وبيوت وذكريات. وفي كل الأحوال كان ينطبق كل ما يشاهد مع الوصف الدقيق الذي أصبح جزءاً من عقله ووجدانه. أصبح في لحظات لا يعلم أهو يرى شيئاً قد وصف له؟ أم شيئاً كان قد رآه سابقاً؟! شعر بألفةٍ غريبةٍ مع الأشياء والمكان. أحس في تلك اللحظة أنه يسير بعينيّ والده، وبهما يرى الأشياء، لذلك كان يبحث فقط عن الأشياء التي لا بد أن والده تمنى أن يراها ثانيةً، لم يكن شيئاً غريباً أن يرى المعسكر الإنجليزي القديم بطريقة المتبصر لتاريخ المكان وذكرياته الأليمة. لم ير فقط بقايا الأماكن القديمة في ذلك المعسكر، بل رأى أيضا كل الذكريات وبعضاً من الجنود الذين عملوا في هذا المعسكر، وألف أبناء قريتي أسماءهم من كثرة تردد اعتقالهم به أو عملهم عنوةً فيه عمالاً بأجور زهيدة. وقف أمام المعسكر القديم ودقق النظر فيه كأنه فعلاً يرى أشياء متحركة. رأى جيشاً وقوة وعسكراً وسلاحاً ورائحة غريبة ليست من إفرازات المكان. رأى "ساميل"،"السيرجون البريطاني" ، أو (الشاويش) بلغتنا، يأمر أبناء قريتي بحمل "الكاوشوك" من مكانٍ إلى آخر. رآه أبيض رفيعاً طويلاً كما هو يأمر رجالاً أشداء خدعهم الزمن، وبقربه "الكبرل فريدمان"،  أو (العريف) بلغتنا يلعب الكرة، قرب سياج المعسكر، مع "اللانس كبرل كومز"، (الجندي الأول) بلغتنا، وأقاربي ينظرون إليه وهم يحملون أشياء له  تخصه ولا تخصهم. كان قدر أبناء قريتي أن يعملوا دون مقابل، وهؤلاء أن يلعبوا بمقابل! المشكلة ليست باللعب أو عدمه. المشكلة بأن هؤلاء الذين يلعبون كانوا يدركون ما سوف يحل بأبناء القرية، الذين يشغلونهم الآن، بعد أيام أو أشهر من عذاب وتشرد علي أيدي من يتدربون في معسكراتهم. كانوا يعلمون أن أبناء قريتي يعيشون الآن في الوقت الضائع ما بين دفء القرية والعشيرة والأهل، وما بين أيام قاسية تنتظرهم وتنتظر أطفالهم ونساءهم، الذين لا يعلمون أيضا كما لا يعلم أبناؤهم وأزواجهم شيئاً عن المجهول الذي هو معلوم جيداً لهؤلاء الذين يخططون لتلك الأيام القاسية الموحشة المظلمة!

المشكلة أن أبناء قريتي كانوا يشترون الأشياء ويخزنونها للصيف القادم الذي لن يأتي، كانوا يخزنون "الزيتون"،  وينشفون "التين" لأيام قادمة سوف تأتي ولن تجدهم. سوف تلتهم من قبل أناس غرباء لا يعلمون شيئاً عن المكان ولا شيئاً عن محتواها وكيفية تخزينها! أناس سوف يدخلون إلى بيوتهم، بعد أن يجبروهم على المغادرة، ويخطفون كل شيء منهم. كانوا لا يعلمون أن عشاءهم الأخير سوف يتبعه الفطور الأول لأناس لا يعرفون شيئاً عن المكان. وسوف يأتي العشاء الجديد غريباً تختلف به كل الأشياء وسوف لا يكون امتدادا لشيء، ولا علاقة له بأي عشاء سابق.  حتى عدد حبات الزيتون بالصحن سوف تختلف وشكل الصحون وأماكن وضعها وطرق الجلوس وشرب الماء ومعاني الوقت!

استمر بمسيره إلى أن وصل أولى أشجار الزيتون في الطريق إلى القرية. أقترب منها ولامسها وكانت المرة الأولى التي يرى فيها زيتونا قديما يملكه ويعنيه! كل الزيتون القديم الذي كان رآه قبل الآن كان شيئاً لا يحق له أن يربطه به أو أن يتبادل وإياه العناق! لا يستطيع الإنسان أن يملك شيئين قديمين في مكانين مختلفين! كانت هذه الغربة بين الذات والزيتون القديم الذي لا يحق لك أن تعانقه يحفر الشوق في النفس، ويجعلك تتوق للتكلم عن هذا الزيتون في كل الأوقات. لم يُحزنه شيء في حياته، ولا سيما عندما كان طالباً في المدرسة، أكثر من سماعه أحد زملائه، في المدرسة، يقول إنه سوف يذهب إلى البلد-ويعني القرية- في نهاية الأسبوع. كان يتمنى أن تكون قريته هي أيضا في متناول اليد كباقي زملائه الذين كان يحبهم. كان معظم زملائه في موسم الزيتون يعودون لقراهم. كان يشعر أن هذا الموسم يبكيه ويثير أشواقه. كان يشعر أن "الجداية" التي كان أقاربه يستخدمونها لقطف الزيتون قد هرمت وأصبحت لا تصلح بسبب عدم الاستخدام، كان يشعر عندما  يتكلم عن زيتونهم انه  يعوض نقصا فرضه المحتل عليه تجاه الأرض والطبيعة والزيتون. لكنه الآن يستعيد الوعي والماضي ويشعر بأنه عائد في نهاية الأسبوع إلى قريته تماما مثل زملائه وأنه يعود طالبا في مدرسته ينتظر يوم السبت، الذي كان أول أيام الأسبوع، ليأتي ويحدث زملاءه عن أوقاته مع جده وأرضه و"الأشواك" و"القعقور" و"المرياع" و"الران" و"السيرة".

  استمر بالسير والنظر هنا وهناك، وما هي إلا لحظات حتى كان في قلب المكان، لم ينظر إلى شيء كما نظر إلى الأرض والسماء، عندها نسي "عمير" وتجرد من كل الخوف الذي ساوره. شعر بأنَّ المكان يقويه ولا يخذله أو يتنكر له. بدأ يتصرف بكل تلقائية دون أن يكون للهواجس التي ساورته أي أثر، استقبلته بصمت. تمنى أن تتكلم بأي شيء، كان صمتاً قاسياً مستمراً منذ خمسين سنة، منذ انتهاء الحرب. لقد صمتت منذ أن صمتت أصوات المدافع، تلك المدافع التي لم تصمت إلا بعد أن أصمتت أصوات مآذننا وقرعات أجراس كنائسنا. لكن ما هي ٳلا لحظات وإذا بالشجر والورد ينطقان، بدأ كل شيء يتحرك، الطرق بدأت بالدوران. وفي اللحظة التي كان يقترب فيها من أي مكان، كان المكان أيضاً يقترب منه. استمر بالسير وإذ به في الحارة الشمالية. استمر إلى أن وصل "ساحة المنزول". تلك الساحة التي كانت بمثابة مُجمع للناس والمركبات التي كانت تقلهم إلى "حيفا". رآها في هذه اللحظة كما تمنى أن يراها. لم يرَ فيها في تلك اللحظة إلا تلك الوجوه التي كانت قبل أن يلوث المكان، رجالاً أنقياءً يرتدون حطات بيضاء منقطة بالنقط السوداء، أو حمراء منقطة بالنقط البيضاء، أو بيضاء دون نقاط، أو طربوشاً تركياً أحمر، و"قنبازاً" حريرياً من النوع اللامع أو النوع "الروزي" البيجي اللون يسيرون في المكان ويتكلمون بلغة واحدة تغلب عليها القاف. كلهم يعرفون بعضهم بعضا، وليس هناك غريب في المكان. تماماً كما كان. وتعود حكاياتهم كما كانت وضحكاتهم حقيقية كما كانت أيضاً، من الأعماق. وتعود المقاهي التي دمرت كما كانت، أمامها كراسي صغيرة، مصنوعة فقط من الخشب والقش، ولا تقدم إلا الشاي في كؤوس سموها "دبل"، أو القهوة.

استمر بالسير إلى أن وصل الحارة القبلية، بدأ ملامسة التراب. شعر بأن أقرب شيء له هو تراب هذا المكان، بدأ يحدث نفسه، من هذا التراب بالذات أنا خلقت، أشعر أنني حفنة منه أجبرها الزمان على التحرك إلى مكان أخر. ولكن في هذه المرة ليس بحكم العوامل الطبيعية، التي تحرك الرمال والتراب حيثما شاءت، وبهدوء وعلى مراحل، والى أماكن قريبة، وفي كل الأحوال في ﺇطار هذا المكان، ومن غير أن نشعر. في هذه المرة حركته مرة واحدة، وككتلة واحدة، إلى مكان بعيد دفعة واحدة.أشعر الآن أن كل شيء يناسب كياني. فالتراب الذي أنا منه تكيف مع الرطوبة، ومقدار البرد أو الحر الذي صمم لهذا المكان منذ أن رقد هنا مواجهاً البحر.لذلك أنا الآن لا أشعر بالحر عندما تبزغ الشمس، ولا بالبرد عندما تغيب. كل أجهزة جسمي صممت لتكون هنا. لكنني الآن لا أستطيع أن أتمتع بكل هذه الحقائق والمزايا إلا كما قرر ذلك الختم في جواز سفري. لذلك فهذا الختم لا يحدد مدة إقامتي، إنما مدة حق التراب الذي أنا منه للاستقرار في المكان الذي غادره دون نصيحة الريح والهواء والطبيعة.          

 المكان الأول الذي وصلاه في الجزء القبلي من القرية ،وكان مظهره يدل على أنه مبنى قديم جديد، كان بيتاً مبنياً من الحجر الأبيض يتألف من طابقين، على واجهة البيت لوحة كبيرة كُتب عليها شيء بالعبرية لم يفهمه "أحمد" لكنه تمنى أن تعني تلك العبارة مركز شرطة!  لأنه إذا كان كذلك فلا بد من أن يكون هذا منزل عمه الكبير. فقد سمع أن منزل عمه الذي كان بناه قبل أن يجبر على مغادرة المكان تحول إلى مخفر، وأنه من المنازل القليلة التي أبقوها كما هي.

نظر أحمد إلى "عمير" وباندفاع سأله:

 – ما معنى تلك العبارة المكتوبة على هذا البيت؟

أجاب "عمير" بلا مبالاة:

-بوليس. فهذا هو مخفر القرية.

 تفاجأ "أحمد" وانتفض كل جسده وبدأ يحس أنه يستطيع أن يسير وحيداً قوياً، إذ أنه بدأ يشعر بأن المكان بدأ يكون كما يجب مألوفاً، متحركاً، خرج عن صمته المميت. شعر بأن ذلك المنزل كتلة ضوء كبيرة تضيء له المكان. بدأ يشعر أن الاتجاهات بدأت تأخذ أبعادها الطبيعية، القبلية والشمالية كما كانوا يقولون.

-إذاً نحن بالتأكيد في الجزء القبلي من البلدة، قالها بفرح، هذه يا "عمير" الحارة القبلية. بدأ بعد ذلك الحديث بصوت عالٍ:

الحارة القبلية، الحارة الشمالية وديرها القديم و"الحنت" و"مغارة البقرات" و"مسجد الأربعين".

-وكيف عرفت؟ وكيف عرفت كل ذلك؟

 قال "عمير" ذلك بكل دهشة واستغراب.

قفز أحمد فرحاً وبدأ ينظر في كل اتجاه ويقول:

-لأن بيت عمي في الحارة القبلية! هذا بيت عمي قالها بأعلى صوته.

-أكانت مقسمة إلى حارات.

- نعم. فقد كانت الحياة بريئة ونقية إلى هذه الدرجة. فلم يكن في المكان غيرهم. فكانوا من شدة الصلة بينهم يعدون الذي يسكن في الحارة القبلية بعيداً عن ذلك الذي يسكن في الحارة الشمالية.

 وصلا المنزل ودخلا، قابلهم ضابط ، بادر "عمير" الضابط بكلام عبري لم يفهمه "أحمد". بعد أن تحدثا مدة دقيقة تقريباً بدأ الضابط الحديث مع "أحمد" بالعربية.

-أهلاً بك

-أتعرف العربية؟

-نعم. أعرفها وأتقنها. أنا من الهدار

بعد ذلك نطق "أحمد" بسرعة وبلا شعور

 -هدار الكرمل؟.

 تفاجأ "عمير" وسأل:

أتعرف المكان؟

- لا أعرف المكان، لكنني أعرف القصة والأحداث. فنحن أبناء من كان ملك هذا المكان لا نرث الأرض وإنما نرث الأحداث والقصص التي حدثت عليها. نحن منذ خمسين عاماً نسمع ولا نرى لكننا نحس أننا سوف نرى مرة واحدة ما لم نره في خمسين عاماً. فنحن ورثنا المعرفة المتعلقة بهذه الأرض، التي هي نتاج خبرات طويلة من التفاعل مع هذه الأرض، التي كان آباؤنا أيضاً قد ورثوها من أجدادنا الذين لا يعرفون مكاناً غير هذا المكان. لكن الفرق بيننا وبين آبائنا أنهم ورثوا الأرض ولم يسمح لهم الظلم أن يرثوا غير ما يعرفونه عنها . لذلك حدثتك عن "العنز" الأسود وعلاقته بالجبل والمناطق الوعرة وعن تلك الحفر القريبة من البحر التي لم تكن تعرف سبباً لوجودها.

-ما اسم عمك؟

 سأل الضابط.

 - "سراج".

 -أرجوك اسحب هذا الكرسي وضعه هناك، مشيراً إلى الزاوية الشرقية للغرفة.

صعد "أحمد" على الكرسي، وبعد ذلك أعطاه الضابط عصا مكنسة طويلة.

-الآن أرجوك أرفع قطعة من مربعات السقف المعلّق.

 وفعلاً فعل. ثم سأل الضابط:

 -الآن هل تستطيع رؤية شيء؟

-  نعم هناك حجر، لكنني لا أستطيع رؤيته جيداً.

بعد ذلك جلب الضابط مصباحاً صغيراً وطلب منه أن يحاول تسليط الضوء عليه وقراءة ما هو مكتوب. وما أن فعل حتى رأى أشياء مكتوبة لم يملك بعدها إلا البكاء بشدة. فقد نقش على الحجر اسم عمه وسنة بناء هذا المنزل. كان الحجر مخفياً.

نظر الضابط إلى "أحمد" وقال منفعلاً:

-انزل بسرعة! لأنني لا أريد أن يلاحظ أحد أنني فعلت ذلك

صمت "أحمد" وقال لنفسه:  "لا يريد أن يعلموا أنه  سمح لي برؤية ما هو مخفي!"

ربت الضابط على كتفه وقال بصوت منخفض:

-  آسف يا "أحمد".

نظر "عمير" إلى الضابط وسأله:

-  لماذا يبكي "أحمد"؟

لقد شاهد الحجر الذي عليه اسم عمه.

هز "أحمد" رأسه مستهزئاً وتمتم:

-  الحجر الذي تم نزعه من مقدمة البيت، حتى يتم أخفاء مالكه الحقيقي. الحجر الذي تم وضع عبارة ’بوليس’ بدلاً منه. 

سأل عمير الضابط:

-          لماذا تضعونه هنا؟

أدار الضابط رأسه وأجابه:

-  إن هذا الحجر كان مثبتاً على واجهة البيت الأمامية، لكن الأوامر كانت أن نزيله ونخفيه هنا، وقد أخفيناه منذ ستة وخمسين عاماً. وضع عمير يده على كتف "أحمد".

-أنا حزين لحزنك!

-لكن يا "عمير" الموقف قاسٍ.

-نعم قاسٍ جداً وأنا اشعر الآن بذلك. ولكن ماذا علينا أن نفعل؛ ﺇنه الظرف قد فرض عليك وعليّ.

 صمت الضابط قليلاً ثم سأل "أحمد":

- هل استطيع أعادة الكرسي حيث كان.

طبعاً طبعاً.

-  يبدو أن أباك كان غنياً؟

ليس الموضوع غنى، فالكل كان يعيش بوضع مالي جيد. لكن جمال البيت يأتي لأنه مبني من حجارة وادي فلاح. ﺇنه أحد أودية قريتنا وقد انتشرت به المحاجر. أيضاً. قام ببناء البيت رجل بناء اسمه "أبو حمود". كان هذا من أفضل الرجال في هذا المجال. أتشاهد تلك الشبابيك:؟

نظر الضابط وأجاب:

نعم.

-  -إن عمي أصر أن لا يعملها إلا شخص في "حيفا" يلقب بالطحطح. وكما تلاحظ فإن الصالة التي نجلس فيها مستديرة الشكل.

أجاب الضابط:

-  نعم ولكن لماذا مستديرة؟

لأن عمي قد صممها غرفة جلوس تشرف على البحر، عندما أهداه صديق له يسمى الحلبي طقم جلوس دائري .

بعد هذا الحديث الطويل نظر "عمير" إلى "أحمد" وقال له:

-لا بد أنك الآن تشعر بالجوع.

- نعم.

 نظر الضابط إلى "أحمد" وهو حائر ماذا يقول بعد أن هم "أحمد" بالخروج. التزم الضابط الصمت واكتفى "أحمد" بمصافحته دون أن يقول أي كلمة.

-  ما بك يا "أحمد"؟

-  نه شيء قاسٍ أن يغادر الإنسان مكاناً يملكه مستأذناً المغادرة من شخص لا يعرف حتى وادي الفلاح والحجارة التي جلبت منه لبناء هذا البيت الذي بقي به وغادرته أنا. لقد أخبرني عمي أنه اختار ذلك المكان لبناء المنزل حتى يكون ملتقى للأحباب والأهل وحتى يكون قريباً من الزلاقة حيث يقطن أقاربه، والبحر الذي تبادل وإياه الحب.

غادر بيتهم وهو يشعر بأنه أقرب ما يكون إلى الحقيقة التي أتى من أجلها.

4

في أعالي جبال الكرمل وجدت "عسفية"، تلك القرية التي غزلت ذكرياتها في جديلةٍ واحدةٍ وطيرة "أحمد". أصبحت بعد كل هذا الوقت مدينةً مزدهرةً. وأصبحت حكاياتها مع "الطيرة" بعد كل هذا الحصار نادرة الحدوث. مطاعمها وفنادقها انتشرت في كل مكان. قرر "عمير" أن يدعوه إلى أحد هذه المطاعم في "عسفية". ذهبا إلى المطعم وجلسا يتجاذبان أطراف الحديث. بعد أن تناولا الطعام قال "عمير" ل"أحمد" سوف أطعمك ألآن نوعاً من الحلوى التي أعشقها في هذا المكان وقد ذقته هنا لأول مرة قبل عامين.

وما اسمها ؟

  -ما زلت أخطئ باسمها.

 وبعد أن طلب "عمير" تلك الحلوى وجلبها النادل ﺇليهم صمت "أحمد" قليلاً وبطريقة يملؤها الحزن ورافقتها دموع بدأت تطل برأسها ببطء وصمت من طرف عينيه لتبدأ فجأة بالسقوط كالمطر على وجنتيه. وفجأة استهل "أحمد" حديثه:

- إن هذه الحلوى التي ما زلت تخطئ باسمها تسمى قزحه. اعتادت أمي وجدتي أن يعملانها أيام الأعياد.

-ولكن لماذا هي سوداء؟

- لأنها تعمل من الحبة السوداء التي كنا نشتريها من "حيفا".

في تلك اللحظة أخذته الأفكار بعيداً إلى إربد وتذكر أكثر ما تذكر أم غازي. تلك المرأة الطيراوية بثوبها التقليدي، التي لطالما أستمتع بالقزحة المصنوعة بيديها. تلك المرأة التي حدثته طويلاً عن المكان الذي يقف قريباً منه. فعسفية تجاور "الطيرة" من الشرق. وشعر بحزنٍ أكثر عندما تذكر أنه كان يرى أم غازي هناك دون المكان، والآن يرى المكان دون أم غازي.يرى قزحة دون مناسبة يأكلها والدمع بعينيه بدلاً من ابتسامته ودون طفولته. تلك الطفولة التي كانت أم غازي تعشقها كما كان يعشق قزحتها.تحول البسمة إلى دمعة عندما نأكل القزحة يعني أن أحداثا جساما قد وقعت على الأرض حتى تحدث هذه الطفرة الشعورية-حزن بدل الفرح ودمعة بدل البسمة. ترك الوطن لا يمكن إلا أن يغير كل الأشياء ويدخل بأدق التفاصيل كتلك التي يصل حجمها حبة قزحة.

-تعرف يا عمير، أنني فعلاً اشعر بصداقتك

-نعم، نحن أصدقاء.

-لذلك أشعر الآن أن بإمكاني أن أحدثك عن سبب وجودي هنا. هناك مغارة تسمى لحف المغر. بينما كانت قريتنا تقصف في حرب 1948 قامت أمي بإخفاء أخٍ صغيرٍ لي في تلك المغارة. بعد ذلك تعرض بيتنا لقصفٍ كثيف مما أجبر أمي على الهرب ولم تستطع الوصول إلى المغارة التي غادرتها لبعض الوقت لإحضار بعض الملابس من البيت لأخي. في تلك اللحظة كانت قد وصلت بعض وحدات جيشكم إلى منطقة المغارة ولم تستطع الرجوع  إلى هناك. استمر الجيش بطرد السكان. بقيت أمي تصيح وتقول ابني لكن كل كلامها طار في الهواء. لقد هددها أفراد الجيش بالقتل إذا لم تغادر دون أن يلقوا بالاً لدموعها أو كلمة "ابني". استمرت بالصراخ "ابني في المغارة أعطوني إياه فقط،، وانأ سأغادر أرضي وبيتي". لكنها منعت. فهؤلاء الذين لا يفهمون العربية استمروا في الصراخ عليها بكلمات غريبة غير عربية تماماً كغربتها عن المكان.  لغة هي لم تفهمها تماماً كما لم يفهموا دموعها. كان صراعاً بين لغتين. ﺇحداهما لا تريد أن تفهم الأخرى وتصر على عدم فهمها بطريقة قاتلة. لغة تصرخ ولغة تبكي. لغة قد وصلت للتو للمكان وبدأت تقتل وتقاتل.  لغة ببزة عسكرية وبندقية ولغة ترتدي فستاناً ريفياً ارتُدي على عجل، وشالاً لم يلفﱠ على الخصر كما يجب من الخوف والحيرة، وبقايا شعر تظهر بعشوائية من أسفل حطة الرأس، (وشحاطة) في القدم تختلف عن الأخرى لاضطرار صاحبتها المغادرة على عجل من الخوف والارتباك تحت وطأة أصوات قصف وشظايا تسقط على رؤوس سكان القرية البريئة. . لغة بدأت تسيطر عليها مصطلحات ممنوع، اخرج، قف، ولغة بدأ يسيطر عليها مصطلحات ممكن، أرجوك، اسمح لي، لا تقتلني. وعندما أصبح التفاهم بين اللغتين معدوماً قاموا بدفعها تحت تهديد السلاح الذي سمعت عنه لكنها كانت المرة الأولى التي تراه . تلك اللغة التي يرتدي المتكلمون بها لباسا حربيا وسلاحا، وتلك اللغة التي يرتدي متكلموها ثوبا ريفيا لا يساعد مرتديه على الحركة. قاموا بدفعها وهي لا تملك إلا النظر إلى الوراء وهي تصيح: مغارة لحف المغر،لحف المغر. وهؤلاء الجنود لا يستوعبون ما معنى مغارة ولا يعرفون شيئاٴ عن لحف المغر الذي أصبح الآن تحت سيطرتهم، وفي القريب ربما يصبح مكاناً يروجون فيه سياحتهم ويصبح أحفادهم أدلاءه السياحيين!. أكثر شيء آلمها يقول "أحمد"، هي تلك الضحكات التي كان يطلقها بعض الجنود وهي تكاد تموت من البكاء على ابنها. تلك الضحكات التي أصرت أن تكون ضحكات في تلك اللحظة حتى تكون نقيضاً لنا في كل شيء. فحيث ثمة حزن لنا يجب أن يكون لهم فرح .وأكثر شيء قتلها هو تحول أل ح إلى خ في لحظة. فلحف تحول إلى لخف. إذ استمر بعض الجنود بالاستهزاء منها مرددين كلماتها لحف المغر بلخف المغر.

تركته باللفة وقد زينتها بقطعة ذهبية مكتوب عليها بالخط الرقعي، الله أكبر. كان الطفل "يوسف" في تلك اللحظة ما يزال في المغارة ينتظر الصدر الدافئ الذي اعتاد أن يضمه، واليدين اللتين تلامسانه كل الوقت بحنان ومحبة. لن يأتي هذا الصدر ولن يشعر بدفئه كما اعتاد. كان في تلك اللحظة يسمع صراخاً لا يستطيع تمييزه. كان صراخاً أعلى من صراخه. في تلك اللحظة كان في أعالي جبال الطيرة من كان يحضر قذيفة من أشد الأنواع فتكاً. كان ما زال بيت أبي يوسف قائماً وحوله تهدمت من جراء القصف المتواصل كل البيوت التي كانت من أسعد البيوت قبل، أيام وأصبحت من أكثرها حزناً هذه الأيام. استدار الجندي قليلاً ووضع يديه على أذنيه وهو يبتسم بعد أن قام بتثبيت هدفه على ذلك البيت الذي تقف صاحبته على بعد بضعة أمتار منه فقط  وابنها الحبيب الطفل ما زال يواصل الصراخ. أطلقت تلك القذيفة لتصيب في لحظات بيت أبي يوسف وليسقط مباشرة على ذلك المكان الذي كان يشهد صراخ يوسف الأخير. فلم يبق من ذلك المكان شيء. وشيء أحمر خرج من المكان مع الغبار.  في هذه اللحظة كانت ما تزال تستدير برأسها تجاه بيتها حيث تركت ابنها. فرأت كل شيء في لحظات. نفضت يدها من يدي الجندي وهرعت مسرعة تجاه البيت. تركها الجندي وهو يبتسم. فهو يعلم أنها لن تجد شيئاً بعد الآن. وصلت ركام المكان وهي تصرخ، يوسف يوسف، لكن الصمت كان المجيب الوحيد. رأت شيئا أحمر لم يكن موجوداً قبل لحظات عندما غادرت المكان. حاولت إقناع نفسها  بأنه ربما يكون شيئاً آخر غير الدم. ربما يكون شيئاً آخر من تلك الأشياء الحمراء التي كانت تخزنها لتناولها في رمضان الذي كان على الأبواب. في تلك اللحظة القاسية أحبت أن تتذكر أن بعض مخللات رمضان أضيف لها الشطة الحمراء لإعطائها طعما خاصاً. وبعد لحظات وإذ هي وجها لوجه مع جسد يوسف ملطخاً بالدم.  لا مجال الآن إلا للدم الغالي الذي يحرق القلب والذي إذا ما سال وتطاير بهذه الطريقة لا يكون هناك مكان إلا للدمع والموت والخوف والحزن والضعف. هذا الضعف والدمع والحزن والموت الذي لا يمكن أن يكون إلا وقود قوة وعز وإرادة لفكرة المواجهة والتحدي والانتصار. لذلك صمتت أم يوسف فجأة. ونظرت إلى كل شيء حولها وخرجت من بين دموعها ابتسامة خفية صغيرة لم ترها إلا شجرة الخروب لتشير إلى تصميم على قبول المواجهة التي أصبحت شيئاً لا لا بد منه. هذا الصبر والعزيمة الذي بدأت بذوره الآن بين الركام وأشلاء أحب إنسان وسوف نرى ذروته في مخيمات الهجرة البعيدة عن الديار وإصراره على العودة والانتصار وإعادة الحق والعودة إلى فناء الوطن. مرت من قرب الجنود. لم يلحظ أحد منهم تلك الابتسامة الخفية إلا واحد. استدار ذلك الجندي تجاه جندي آخر وهمس: هذه الابتسامة لا تبشر بخير.إن كان الآن أو في المستقبل، الذي قد نراه أو لا نراه ولكن بالتأكيد أحد أحفادنا لا بد من أن يراه. استمرت بالمسير رفعت رأسها أكثر إلى السماء، رأت الكرمل من بعيد، حدقت بعيونه ابتسم لها وحرك إحدى يديه التي سارت كل تلك المسافة وشدت على كتفها ورجعت وهي تمر من عند وجوه الجنود من غير أن يروها.

أخرجت أمي، يقول "أحمد"، وقطرات الدمع بدأت ترسم على وجنتيه خطوطاً بكل تجاه. في تلك اللحظة بدأ "عمير" يربت على كتفه ويحاول جاهداً أن يشعره بمدى حزنه وأسفه على ما جرى.

-آسف فأنا لا أعرف ماذا أقول لك. كل ما حصل كان خطأ لا يغتفر، وأمك الفاضلة كان يجب أن تبقى حيث غرست بيديها زيتوناتها.صدقني، سأفعل المستحيل من أجل أن أساعدك.

 صمت للحظة. وأشعر "عمير" بالامتنان لما يقول.  

- الشيء المهم الآخر يا "عمير" أن لأبي كان زوجة ثانية.

-زوجة ثانية؟

-نعم. وهي من قرية قريبة من الطيرة.

-وأين هي الآن؟ وهل تعلمون عنها شيئا؟

 -طبعاً لا نعلم عنها شيئا. فأنا الآن لي هدفان. الأول رؤية بيتنا القديم. ذلك البيت الذي عاش فيه أبي وأمي. والثاني رؤية خالتي. فنحن نسمي زوجة الأب خالة. فهي في مقام الأم.   

5

الهدار مكان يطل من بعيد على "الطيرة". في هذا المكان أقيم العديد من المنازل التي تصنف على أنها الأكثر رقياً. على هضبة صغيرة في هذا المكان اعتاد بعض سكان "الطيرة" إقامة أماكن لصنع قوارير الفخار وبيعها.  في هذا المكان وجدت بناية كبيرة تتألف من عدة شقق. إحدى هذه الشقق كانت "لعمير". وما هي إلا لحظات حتى كان عمير يدعو "أحمد" لزيارته في هذا البيت:

- الآن أتمنى أن تقبل دعوتي إلى بيتي. أنا الآن أعيش آلامك وأعرف مدى الجرح الذي أصابك.

-لا يوجد عندي مانع من قبول دعوة إنسانٍ بمثل طيبتك.

قبل دعوته لأنه شعر برغبة شديدة أن يخترق مجتمع هؤلاء حتى يعرف عن قرب طبيعتهم من الداخل لكي يستطيع تفسير مقدرتهم على فعل كل هذه الويلات بشعبه دون أن يتوقفوا عن ذلك منذ أكثر من خمسين عاماً. رغب أن يرى التركيبة الداخلية لهؤلاء الذين يستطيعون قصف بيت بائس في مخيم وهم يعلمون أنه مليء بأطفال نائمين، فقط لقتل رجل كل جريمته أنه قال لا لاحتلال أرضه وتدمير شجره!

 بالمقابل هدف "عمير" من دعوة "أحمد" إلى بيته، تعريفه أن هناك أناساً هنا يحزنون ويرفضون هذا الظلم الكبير الذي وقع وحصل لشعبه. فزوجة "عمير" كانت قد اعُتقلت عدة مرات لأنها رفضت الخدمة العسكرية ومحاربة شعب لم يفعل شيئاً وكان هنا يعيش بسلام واستقرار، إلى أن تآمر الأنجليز وعصابات الصهاينة ضدهم وتم طردهم من أرضهم.   

-أريد أن أعرفك على زوجتي وابني.

لم يرغب بالتعليق. ذهب معه إلى بيته. وعندما دخلا حضرت زوجته. كانت تلك المرأة في غاية الهدوء. نطقت بالأنجليزية مرحباً بك. كانت ٳنجليزيتها طبيعية ولكن بلكنة بولندية إذ أنها أصلاً من بولندا كما قالت. وبعد قليل جاء ابنه،الذي لا يقل هدوءاً عن والدته، ويتكلم الإنجليزية بطلاقة، ولكن بلكنة أمه نفسها.

في تلك اللحظة بدأت أفكار "أحمد" تأخذه بعيداً وقريباً. نظر إلى الطفل وشعر بأنه أول مرة يرى فيها يهودياً عن قرب دون شاشة تلفزيون. نظر إلى يديه وشعره وحتى حذائه. كان يشعر بأنه لا بد أن يرى شيئاً مختلفاً. نظر إلى المرأة بالطريقة ذاتها. نظر إلى عينيها وحتى نظارتها وطريقة وضعها على الوجه. لم ير شيئاً مختلفاً.بدأ "عمير" بامتداح زوجته وكيف أن الله عوضه عن أشياء كثيرة بها. وفجأة سمع الجميع صوت رجل يصيح في الشقة المقابلة. فسأل "أحمد":

-خير، لماذا يصرخ هذا الرجل؟

نظر "عمير" إلى زوجته وابتسم، ثم إلى "أحمد" وقال:

هذا جارنا الذي لا يصمت صوته ولا يوجد أحد هنا إلا واختلف معه وأوصله إلى المحاكم. فأنا أكرهه واكره أمثاله من قلبي.

 سرح "أحمد" بأفكاره ثانيةً. يا للمفاجأة هناك يهودي يكره يهودياً. كان يظن أنهم كتلة واحدة في الجهة المقابلة. لم يكن يشعر بأنهم استقروا إلى هذه الدرجة حتى بدأوا يختلفون على قضايا اجتماعيةً وبدأوا يمارسون حياة طبيعية؛ حبا وكرها، تفاهما وخلافا، محاكم وقضاة؟لا يعلم لماذا عندما ذكر كلمة محكمة بدأ يفكر بالمكان والأرض التي أقيمت عليها تلك المحكمة.لا بد أن تكون تلك المحكمة مقامة على أرض تعود لٳنسان يخصه.أي أن عدالتهم تقام على أرض مسروقة! ألا يتذكر القاضي هذه الحقيقة عند النطق بكل حكم ينطقه أو ينشد به العدالة؟!ألا يشعر أنه في مسرحية؟! أرض مسروقة،ربما تكون لأبي علي أو لأبي خالد أو لأبي فلاح، يقام عليها بناء للحكم بين الناس بالعدل؟إ

 كانت المرة الأولى التي يتحدث بها مع يهودي وكانت المرة الأولى التي يذكر بها كلمة يهودي ويمتزج حديثه بمصطلحات مثل الحب والطلاق وأسماء الأكلات.

وفيما هو مشتت الذهن سمع صوت "عمير" من بعيد يسأله:

-أترغب بفنجان شاي أم قهوة؟

-شاي، أرجوك. لكن كيف نبدأ بالبحث؟

- أعتقد أن علينا أن نبدأ من حيث كان بيتكم. دعنا نذهب إلى هناك ونستفسر ونعرف من الذي قطن بيتكم بعد أن أجبرتم على المغادرة إلى الأردن. إن المشكلة هي كيف تتعرف على موقع بيتكم بالضبط؟

- هذه ليست مشكلة. فقد أخبرني أبي أنه قريب نسبياً من بيت عمي الذي جعلتم منه مخفراً.هناك توجد تلة قريبة من منزل عمي، تلك التلة تضم بيتنا وتلك المغارات العزيزة المسماة لحف المغر.

-لكن هناك تلالاً كثيرة قريبة فكيف ستعرف تلك التلة؟

- فقط دعنا نعود إلى هناك وسوف ترى ماذا أنوي فعله.

- إذاً دعنا نفعل ذلك غداً.

-بالطبع يا "عمير". غداً إن شاء الله.

6

في أحد الفنادق المتواضعة في ضواحي "حيفا" أقام "أحمد". وعلى الرغم من كل الخدمات المقدمة له في هذا الفندق إلا أنه لم يستطع النوم كما يجب طيلة مدة أقامته. كانت غرفته الصغيرة تطل على أوتستراد "حيفا"- يافا الذي كثيرا ما  سمع عنه من والده. غرفة صغيرة لكنها أنيقة. امتلأت بقلقه ودموعه وأمله على الرغم من قصر المدة التي أقامها. في اليوم الثاني من وجوده استيقظ مبكراً وكان شديد الشوق للقاء "عمير" للبدء بالخطوة الأولى في البحث عن خالته. وفجأة قرع الباب. عرف أن ذلك الشخص لا بد أن يكون "عمير". فلا أحد يعرف أنه يقطن هنا غير "عمير" حتى يزوره. وفعلاً كان الطارق "عمير".

- هيا يا "أحمد". أتمنى من قلبي أن أجلب لك البسمة وأعيد الفرحة إلى والدك ووالدتك التي أحس بحزنهما وقسوة الفراق الذي عانت منه.

 غادر الأثنان المنزل وبدأت رحلتهما في الطيرة. وعندما وصلا نزلا قرب منزل عم "أحمد" الذي جعلوا منه مخفراً.

- قل لي ماذا ستفعل الآن يا "أحمد"؟

- اسمح لي أن أستخدم هاتفك النقال وسوف ترى.

- حسناً هذا هاتفي؟

التقط الهاتف، وبعد أن استأذن "عمير" بالاتصال بالأردن، قام "أحمد" بالاتصال بأهله لكنه وجد الخط مشغولاً ولم يستطع الصبر. لذلك قام بالاتصال بعمه عبيدة الذي يقطن عمان وقد كان عمره أربعة عشر عاماً تقريباً عندما غادر قريته "الطيرة". وبعد قليل جاءه صوت عمه. قام عمه بأخباره وبلهجته الطيراوية بأنه عليه أن ( يشرق لفوق) وبعد، تقريباً، مائة متر سوف يجد بيتاً أخر يعود إلى محمد العبد.  مقابل ذلك البيت توجد تلة. على ظهر تلك التلة يوجد بيتهم. وبأنه يستطيع تمييزه من المغر الكثيرة القريبة منه وخاصة لحف المغر.

 كان يتابع مسيره وهو يحدث عمه ،وفجأة وجد بيتا مهجورا مقابله تلة، شعر وتمنى أن تكون هي.

نظر عمير إليه وسأله مندهشاً :

- كيف يستطيع عمك تذكر كل ذلك وقد غادر المكان قبل أكثر من خمسين عاماً؟

- إنه حب الأرض والحرمان من رؤية ما تحب. فعمي والكثيرون من أمثاله الذين أجبروا على مغادرة المكان وقبعوا في غرفة في المخيم بنيت من الطين بعد أن اعتادوا العيش في هذه الأماكن الخصبة وقرب هذا البحر الجميل، لم يبق لهم إلا تذكر هذه الأيام والعيش على ذكراها لكي يهربوا من قسوة الأيام التي فرضت عليهم من غير ذنب. إن الاستمرار في ذكر هذه الأيام الجميلة وتذكرها والاحتماء وراء الذكرى للهروب من واقع صعب فرض عليهم.

أنهم يتذكرون أدق التفاصيل ويجعلون صور هذه الأماكن التي نسير الآن أنا وأنت فيها حاضرة في البال كل الوقت، وفي أنصع الصور وأوضحها. لذلك ليس غريبا أن يتذكر عمي كل شيء بهذه الدقة. فهو مثلاً كان يحدثني عن قريتنا قبل يومين من مجيئي إلى هنا. وفي كل مناسبة نجتمع لا بد من الحديث عن هذا المكان العزيز. وهناك أشياء لا تنتهي لأنها تصبح جزءا من واقع الذات والحال والهوية. فأنا مثلاً وعلى الرغم من أنني لم أولد في قريتي، إلا أنني أُعرَف على أنني "أحمد" الطيراوي. وهذا الاسم أُخذَ من هذا المكان. فكيف أستطيع أن أنسى هذه الحقيقة؟ أيمكن أن ينسى الإنسان اسمه؟! وربما لم يعلم الذين سرقوا هذا المكان أن إجبارنا على الخروج ودفعنا للعيش بمكان غريب آخر سوف يؤدي إلى ارتباط اسم المكان بنا أكثر. فمثلاً ليس من الممكن أن يسميني أحد "أحمد" الطيراوي وأنا أعيش في "الطيرة". ذلك لأن الكل هنا طيراوي. لذلك فإن استخدام كلمة طيراوي لن تكفي لتمييز من هو "أحمد" المقصود. ولكن في مكان الغربة حيث هناك أناس كثيرون غيرنا ينتمون لأماكن عده سوف يصبح ربط اسمي بطيراوي يكفي لتميزي على الأقل من عديدين. وهذا أيضاً سبب آخر لتقوية علاقاتنا ببعض. فنحن هناك كلنا طيراويون حيث جمعنا اسم القرية وأبعدنا عن تسميات العائلات المختلفة.

7

وضع عبيدة أبو خالد السماعة ورمى نفسه على الكرسي القريب من مكان الهاتف. وضع يده على خده وأخذته الأفكار إلى كل بقعة في قريته. نظر إلى جانبه فوجد زوجته تضع يدها على كتفه

-هل وصل "أحمد"؟ قالتها بحزن وخوف

-نعم نعم. تخيلي أنه في هذه اللحظة يرى ما رأيناه قبل خمسين عاماً. تخيلي أنه الآن بين بيوتنا الحقيقية. أنه في "الطيرة". سوف يرى بعد قليل بيتنا وبيتهم. أنه الآن في هذه اللحظة قرب الزلاقة. سوف يصعدها كما كنا نفعل كل يوم. أنه الآن يتنفس الهواء الذي تنفسناه قبل خمسين عاماً. هواءَنا يا أم خالد. هواءَنا الأول يا أم خالد.

-لماذا لا تتصل بأبي "يوسف" وتخبره عن اتصال "أحمد" بنا

-معك كل الحق. والله نسيت نفسي.

التقط السماعة وانتظر أن يرد عليه أحد بفارغ الصبر. وبعد قليل ردت أم "يوسف" على الهاتف. قام بأخبارها عن وصول ابنهم. وقد عمت الفرحة أرجاء البيت في تلك اللحظة.

     في هذه اللحظة كان كل أفراد العائلة حول أم يوسف يحاولون أن يسمعوا أي خبر عن "أحمد". شعرت بالراحة بعد سماع القليل عن أحمد. نظرت حولها فوجدت نفسها في غرفتها الضيقة. لم تشعر بضيق المكان منذ زمن طويل كما تشعر به الآن. اعتادت ضيق الأشياء وقسوتها في هذه الأيام كما اعتادت وسعها، وجمالها وأريحيتها وهي تعيش أيامها الجميلة في قريتها "الطيرة". تذكرت أنه يرى الآن كل ما رأت قبل خمسين عاماً. لكنها تخيلتها كما رأتها هي آخر مرة. ولكن هل سيجد ما يراه بعد كل هذا الزمن؟ قالت لنفسها. أخذتها أفكارها إلى تفاصيل بيتها. وبالتحديد إلى تلك المغر القريبة من البيت. أخذتها إلى لحف المغر حيث استشهد ’مهجة قلبها‘، كما كانت دائماً تقول. تذكرت نشرة الأخبار وابتسمت. تذكرت كيف أنها إلى اليوم لم تسمع شيئاً تماماً كما جرى! لم تسمع شيئاً مباشراً حول ما جرى دون تنميق وتلوين للمصطلحات. الظلم الذي أحست به قبل خمسين عاماً عند اقتلاعها من أرضها وما زالت، تحس بوخزه بنفس الشدة الآن. تذكرت قسوة الطريق وظلم الجلاد الذي لم يسمح لها حتى بالنظر إلى الخلف لتوديع المكان. أحست بخوف شديد على "أحمد" في هذه اللحظة. لكنها أحست بأنه الآن يسير في المكان الذي يملك. شعرت أنها فعلاً مشتاقة للحاجة تمام. فهي بعد هذا الخلع ألقسري من المكان لم يعد هناك حسابات أكبر من حساب خسارة الوطن. لم يعد هناك عدو أو ضرة أو خصم غير ذلك الذي قتلنا واقتلعنا من أوطاننا ومن غير أن يميز بين واحد وآخر.

"أحمد" الآن ليس في إجازة أو رحلة أو غربة. أنه الآن في مكانه!نحن المسافرون! هو قريب ونحن في مكان بعيد! الإنسان يكون بعيداً أو قريباً بمقدار بعده من البحر والزلاقة. أنه الآن أمام البحر. وإذا كان قد بدأ صعود التل يصبح البحر على بعد ثلاثة كيلو مترات. ،إذا سار قليلاً إلى الغرب يصبح تماماً في أرضنا. وإذا تحرك نحو الشرق يصبح في أرض عبيدة وإذا تحرك نحو الجنوب يقترب من مزارع سراج، وإذا وجد نفسه في الجنوب يكون قرب "مقاثي" جده. نحن إذا تحركنا غرباً أو شرقاً أو شمالاً أو جنوباً ندور في نفس المكان.

بعد قليل عاد زوجها إلى البيت. وفي نفس اللحظة بدأ أولاده وأحفاده بالصراخ بسعادة وأخباره عن وصول "أحمد" واتصاله بعمهم عبيدة

نظر إلى زوجته وبسعادة ودهشة بدأ يتمتم:

-"الطيرة"! فلسطين. "أحمد" في "الطيرة" الآن! سوف يرى بيتنا!وشجرنا وأرضنا.

أحس بفرح كبير. شعر بأن امتداداً له يرى في هذه اللحظة شيئاً ما زال يحلم برؤيته كل يوم منذ خمسين عاماً.

8

 في هذا الأثناء كان "أحمد" و"عمير" يحاولان الوصول للمكان

بعد قليل وصل الأثنان قمة التلة. نظر "أحمد" يميناً فرأى بقايا بيت. اقترب قليلاً فوجد بيتا آخر بقربه. حاول الأثنان أن يجدا أي مغارة في المكان. وفجأة صاح "عمير":

- انظر هناك مغارة تغطيها بعض الأعشاب وأخرى بقربها. نظر "أحمد" ثم بدأ بالركض. وعندما وصل وجد  بعض المغر وبالقرب منها بقايا منزل.

-هذا هو بيتنا.

-أمتأكد؟

- نعم، هذه هي المغر. إضافة إلى ذلك، انظر إلى ذلك الدرج قرب البيت! لقد كان بيتنا المنزل الوحيد كما أخبرني والدي الذي بجواره درج كان يستخدمه السكان للنزول من هذه التلة إلى الشارع الذي يمر من أمام منزل عمي سراج. الذي هو الآن مخفر.

- لكنني أعتقد أن أناسا قد سكنوا منزلكم بعد رحيلكم. وأن الدهان على ذلك الجدار المهدم حديث نسبياً.

- ربما! ولكن الآن ما عسانا أن نسأل وكيف نعرف من سكن ببيتنا بعد رحيلنا؟ فأنا أعتقد أن هؤلاء قد يكون لديهم شيء يقولونه.

- نعم، نعم. أنا أؤيدك بذلك.

- ولكن كما ترى لا توجد بيوت مسكونة قرب بيتنا. فالتلة مهجورة والمكان يخيم عليه السكون. وهذه الأعشاب التي تغطي الجدران تدل على أنه لم يُسكن منذ زمن بعيد.

-لكن ثمة بعض البيوت القريبة نسبياً من المكان. دعنا نذهب ونسأل ربما ساعدونا بأي شيء.

-ولكن هل تعتقد أنهم سيتفهمون ألمي ومشاعري مثلك؟

-حقيقة أنا لست متأكدا!فقط علينا أن نحاول.

-إذا هيا.

 وبعد مسيرة عشر دقائق تقريباً وصلا مجموعة من المنازل الحديثة.

- أنا هنا لا أستطيع أن أفعل شيئا. أرجوك أطرق الباب فأنت تعرف لغتهم وعاداتهم. طرق عمير باب أحد البيوت. وبعد قليل فتح رجل في الخمسين من عمره تقريباً. بدأ معه "عمير" الحديث بالعبرية. وبعد أن أنهيا حديثا استمر دقائق، أخبر "أحمد" بأنه سأله عن كيفية التعرف على المنازل المهجورة التي تقع في تلك التلة المجاورة.

- وماذا قال لك؟

 -أخبرني أن هناك مكتبا يتبع لبلدية قريتك قريبٌ من منزل عمك. هناك أشخاص يعرفون الكثير ولا سيما عن البيوت المتبقية وعن كل شيء تقريباً.

- لكنني لاحظت أنه كان منفعلاً كثيراً وشعرت بأنه لم يتكلم معك بشكل مناسب. نعم. بعد أن عرف أنني أحاول مساعدة شاب عربي لم يعجبه ذلك.وربما لاحظت من نبرة صوته أنه شتمني وشتمك.

-يشتمني؟ يشتمني وهو يستوطن أرضي!

 ذهب الأثنان مسرعين إلى المكان. وعندما وصلا سألا عن الشخص الذي يمكن أن يرشدهم حول بيوت القرية ولا سيما الأماكن القريبة، فأخبرهم الرجل الجالس على (الكاونتر) أن هناك رجلا متخصصا بذلك في غرفة رقم  12 يستطيع مساعدتهم، ولأنه أيضا عربي من إحدى القرى المجاورة. ذهبا إلى ذلك المكتب وعندما وصلا وجدا رجلا تدل ملامحه على أنه عربي. لذلك بادر "أحمد" فوراً بالتكلم معه بالعربية.

-مرحباً.

- أهلاً.

- أنا "أحمد"، أصلي من هذه القرية، الطيرة، وأهلي من العائلات التي شردت من هنا عام 48.أنا هنا في زيارة لقريتي هذه "الطيرة".

- إذاً أنت طيراوي؟

 قالها الرجل بلهجة مرحة مما أراح "أحمد" وجعله يشعر بأنه يستطيع الآن التكلم بأريحية أكثر.

- نعم نعم أنا طيراوي.

-أهلا بك وأنا سعيد برؤيتك. أنا نضال. متى وصلت؟ وابن من أنت؟ فأنا لا اسمع من أبي وأجدادي شيئاً أكثر من سماعي أشياء عن "الطيرة" وشهامة رجالها؟

 -عدت إلى هنا البارحة فقط؟

    وبعد أن جلسا طويلاً وشربا القهوة بمعية "عمير" سأل "نضال" "أحمد" عن أي خدمة ممكن أن يقدمها له، أجاب:

- أشكرك. القصة أنني قبل قليل زرت موقع بيتنا جنوب الطيرة. لكنني وجدته مهجورا.  أريد أن أعرف شيئا عن هؤلاء الذين سكنوا بيتنا مباشرةً بعد أن أجبرت عائلتي على مغادرة الطيرة.

- لماذا؟

- الحق أن في ذهني سؤالاً أريد الإجابة عنه.

 - إذاً دعنا نذهب معاً ونرى مكان بيتكم. فأنا أعمل في هذه القرية منذ خمسة وعشرين عاماً. لذلك أعرف تاريخ معظم هذه البيوت ولا سيما القديمة منها.

 ذهب الثلاثة في تلك السيارة الجيب، وبعد مسير عشر دقائق تقريباً وصلوا مكان البيت.

-أين بيتكم؟

-هذا القريب من الدرج.

- آه أعرف هذا البيت. لقد سكنت فيه امرأة من السويد لمدة عشر سنيين تقريباً، ثم أجبرت بعد ذلك على مغادرته. وأنا أتذكر أنها انتقلت للسكن في منطقة الهدار.  لكنني لا أعرف أين تسكن بالضبط الآن. كل ما أتذكره هو اسمها وأنها كانت تعمل معلمة. لا أذكر اسمها الكامل الآن. لكن هناك معلومات تفصيلية عنها في سجلات المكتب.

-هل هي عربية أم يهودية؟

-لا.هي ليست عربية وليست يهودية أيضا. هي سويدية  وهي زوجة لرجل عربي توفي بعد الحرب. وكانت هذه المرأة تعمل ممرضة أثناء الحرب وممن تعاطف مع العرب وما أصابهم. لذلك قررت البقاء هنا لفعل أي شيء لهؤلاء العرب الذين بقوا هنا.

-حسناً. إذاً دعنا نعود إلى مكتبك، ونبحث عن اسمها

- حسناً دعنا نعود. ما رأيك يا عمير؟

- أنا أقول إذا عرفنا اسمها من الممكن أن نتصل بمقسم الهاتف فربما ساعدونا بالحصول على رقمها وعنوانها.

- هذا ممكن. عندما نصل مكتبي سوف نحاول ذلك.

 بعد قليل عادوا إلى المكتب. وفوراً بدأ نضال بالبحث في السجلات. وفعلاً وجد الاسم.

-هذا هو اسمها.

-بدأت الفرحة على وجه "أحمد" وبسرعة طلب من نضال الاتصال والاستفسار عن اسم تلك المرأة ورقمها. قام نضال بالاتصال.

أقترح "عمير" على "أحمد" الذهاب إلى مديرية التربية التي تتبع لها منطقة الهدار، للسؤال هناك عن اسمها.

 ودع الأثنان نضالا وانطلقا مسرعين بسيارة "عمير" إلى منطقة الهدار. وما أن  وصلا حدود المنطقة حتى اندفعا بالسؤال عن موقع مديرية التربية. وبعد قليل وصلا إلى مكان التربية. فنزلا وطلبا مقابلة المدير،  وبعد قليل سمح لهما بذلك. طلب "أحمد" من "عمير" أن  يتكلم عنه.

- مرحباً. كيف يمكنني خدمتكم؟

    تكلم المدير تلك العبارة بكل لطف.

- أنا "عمير" وهذا صديق عربي من الأردن جاء لزيارة "الطيرة" فهو أصلاً من هنا. وجاء للبحث عن بعض أقاربه.

    بعد معرفة المدير بأن الشخص الذي يرافق "عمير" عربي تبدلت معالم وجهه، وبدا عابساً، وأجابهم بطريقة فظة بأن ذلك شيء قديم جداً وأنه من السخف التكلم عنه.

أخبره "عمير" بعد ذلك بأن مكتب الجمهور التابع للمجلس البلدي أعلمهم بأن امرأة اسمها (ليديا إيفانفنا) وهي سويدية الأصل هي الشخص الوحيد الذي سكن بيت "أحمد" مباشرةً بعد أن هاجر أهله. لذلك فهو يأمل أن يكون لدى تلك المرأة أي معلومات عن زوجة أبيه وبعض أقاربه. أخبرهم المدير بأنه يعمل هنا منذ سنتين فقط. لكن مع ذلك سوف يستفسر من سكرتيرته عن ذلك. وفعلاً قام المدير بطلب سكرتيرته وطلب منها بنبرة لا تخلو من استهزاء تزويده بأي معلومات عن هذا الاسم.

 أخذت السكرتيرة الاسم وذهبت. وبعد قليل رجعت السكرتيرة وأخبرت المدير أن هذه السيدة قد عملت في ﺇحدى المدارس التابعة لهذه المديرية. لكنها تقاعدت قبل مدة طويلة، وتوفيت قبل خمس سنوات. نظر "عمير" إلى "أحمد" فوجده شديد الحزن.

بعد ذلك لم يتردد المدير من زيادة إحباط "أحمد" بالقول وبطريقة استهزائية دون أحساس بألمه وشوقه:

-إن كان هناك أصلاً قصة من هذا النوع تكون هذه القصة قد ماتت بموت هذه السيدة.

- خفف عن نفسك، الأمل ما يزال موجودا، قال "عمير" وهو ينظر بغضب إلى المدير. سال المدير السكرتيرة عن أسم المدرسة. فأخبرته بأنها ثانوية الزهور التي تقع قرب المكتبة العامة.

     استأذن "أحمد" وعمير وقررا أن يذهبا إلى تلك المدرسة. وصل الأثنان ولكن طلب "عمير" من "أحمد" أن يبقى صامتاً لأن بعض هؤلاء الناس لا يتحملون حتى فكرة اسمه. دخلا فوراً إلى مكتب المديرة. وجدا في مكتبها العديد من المدرسات. وبدأ الحديث مع المديرة.

- في الحقيقة نحن هنا للاستفسار عن معلمة عملت هنا قبل مدة من الزمن. واسمها؟ ليديا إيفانفنا.

 -آه، ليديا! لقد توفيت هذه المعلمة الرائعة قبل سنوات.

- نعرف، لكن هل من الممكن أن تخبرونا عن مكان سكنها؟ فربما وجدنا أحدا من ذويها للاستفسار عن أمر خاص يخص صديقاً لي. نظرت المديرة إلى إحدى المدرسات وعرفتها على أنها صديقة ليديا المقربة. مرحباً بك، قال "عمير" موجهاً كلامه إلى المعلمة.    

-أهلاً.أرجوك ساعدينا بذلك.

-الصحيح إن ليديا توفيت ولم يبق لها إلا ابنة اسمها "أولا".

- أيمكن أن نزورها؟

- نعم. ولكن علي الاتصال بها والاستئذان منها.

    قالت ذلك ولم تدرك أن مرافق عمير عربي، لأنه بقي صامتاً، بناءً على طلب عمير

- ومتى يمكننا زيارتها؟

- أعطني رقمك وسوف أتصل بك قبل المساء.

        في اللحظة التي هم بها الاثنان بالمغادرة بدأ المطر بالتساقط. هذا المطر الذي غالباً ما ياتي في هذا الوقت من نيسان ويصفونه على أنه يأتي لوداع فصل الشتاء. نظر "أحمد" إلى السماء وتنهد.

- آه يا عمير! هذا هو المطر الذي أحب وتمنيت أن أرى. هو المطر الذي رآه أبي وأمي. كم هو جميل! أرجوك دعنا نعود ثانيةً الآن إلى "الطيرة" حتى أراه هناك. حول عمير اتجاه السيارة وبدأ القيادة باتجاه "الطيرة" التي لا تبعد إلا دقائق. وبعد الوصول ترجل "أحمد" من السيارة وبدأ بالمشي تحت المطر.اشتد المطر واشتدت سعادته به.

-آه ما أجمل حباته وقطراته. هذا المطر الذي طالما انتظره أبي من أجل أرضه ،والآن أنا أنتظره من أجل هدف لم يخطر ببال أبي يوماً بأنه سيكون سبب انتظار. وبدأت أصوات الرعد بالارتفاع والبرق والمطر.

- آه ما أجملك! أحبك يا مطري ويا برقي ورعدي. نظر عمير إلى "أحمد" وهو يسير تحت المطر ويضم حباته ويفتح أذنيه للرعد أكثر ويحدق بالبرق دون خوف أو تردد.

- ما أجملكِ من أصوات. كأنني يا عمير أسمع الرعد لأول مرة، وأرى البرق لأول مرة، ولأول مرة أرى وأميز شكل الماء الذي أشربه. أين أنت يا لحف المغر وأين أنت يا بئر فضل وبئر بثينه؟ هل ما زلتما تنتظران هذا المطر؟ وهل ما زلتما معنيين بالامتلاء بعد أن أجبر على هجركما الأحباب؟هل ما زال المطر يسير إلى موقعيكما كما كان بعد أن ذهب هؤلاء الذين لم يكونوا معنيين بشيء كما هم معنيون بضمكم ؟  وكيف تكونين الآن تحت المطر؟ وهل ما زالت هناك بعض بقراتنا وماعزنا التي اعتادت أن تجد بك ملجأها الأخير تحت هذا المطر الجميل قريبة من المكان؟ ابتسم المطر من جديد وبدأ يداعبه ثانيةً ويأتي ﺇليه من اليسار ومن اليمين؟ شعر بأنه يهطل من أجله حتى يجعله يراه.بدأ من أجله يستعرض كل أشكاله. مطر هادئ وصاخب بينما البرق يضيء مكان اللقاء والرعد يطلق العنان لصوته الجميل.  برد و مطر.أحب  شعره كما لم يحبه يوماً وهو يراه مبتلاً بمطر أبيه وعمه وأجداده، وحبات المطر تتساقط منه على جبينه. شعر أن الله قد حباه بأن سمح له اللقاء ليس فقط بأرضه بل أيضا بمطره. هذا المطر الذي قرر زيارة المكان فقط حتى يقابله.

- أرجوك لا تنه زيارتك فأنت الوحيد من تبقى لي من أهلي في أرضي الآن بعد أن ضربها الزلزال.أنا وأنت فقط نسير بين الأنقاض.لا يغرنك ذلك البيت الجميل الذي ما زال قائما فقد دمره الزلزال من الداخل وحوله إلى مخفر. لا نحب النوم به بعد أن كنا لا نستطيع النوم إلا به؟! ابق رعدك فأنا لا أفهم غير لغته بعد أن غابت لغتي عن المكان، وأبق برقك حتى يضيئه في هذا الشتاء الذي لا بد أنه يفقد كما أفقد الرؤوس التي اعتاد أن يهطل عليها.لا بد أنه كما أنا يفتقد الروح الجميلة والعصبية الطيبة التي يمتاز بها سكان هذا المكان الجميل والذين كانت تصيبهم عندما كُنت تفاجئهم بمطرك الجميل من غير أن يكونوا جاهزين بعد، فتبللهم وتجبرهم على الرجوع إلى بيوتهم، وهم  يرتعدون خوفا من أن يطولهم البرد الذي أتمنى أن يطولني أنا الآن! فأنا أتخيلهم كيف كانوا يحنقون عندما يبلهم مطرك في هذا الشارع الذي كان جميلا!  استمر "عمير" بمراقبته وهو لا يستطيع أن يرى غير مطر ولا يسمع غير رعد! بينما "أحمد" في حفل لقاء ضم لفيفا من الحب والذكريات وقطرات مطر!

      توقف المطر وعاد إلى السيارة.

- علينا أن نأخذ قسطاً من الراحة قبل أن نبدأ بحثنا من جديد.

  أدعوك إلى الغذاء. هناك مطعم رائع قريب من الدالية، قال ذلك وهو يحدق ب"أحمد" وهو يعيش كل هذه السعادة. 

-لكن اعتبرني أنا الداعي.

-لا يوجد فرق بيننا، وأنا أعرف كرم العرب الأصيل

 وصلا المطعم، واستمتعا ببعض الراحة، وبعد أن انتهيا من الغذاء ذهبا إلى بيت عمير.

                                                                  8

     في مساء جميل وبينما كان "أحمد" وعمير يشاهدان التلفاز، وتقريباً في الثامنة، رن جرس عمير.

-         نعم أنا عمير. أهلاً سيدة تريزا. حسناً. سوف نكون عندك في العاشرة بالضبط. وبعد أن أغلق الهاتف، أخبر  "أحمد" إن ابنة "ليديا" وافقت على لقاءهم غداً في العاشرة والنصف. لكن عليهم لقاء تاريزا قبل ذلك  في العاشرة.

بعد ذلك غادر "أحمد"، وفي الطريق أراد أن يشتري زجاجة ماء معدنية من دكانٍ في الطريق. وفي لغة إنجليزية بسيطة سأل الرجل الذي يعمل في الدكان ﺇذا كان يستطيع أن يتكلم معه بالإنجليزية. لكنه لاحظ أنه لم يفهمه. فسأله ﺇذا كان يعرف اللغة العربية. فأجابه أنه يعرف القليل من العربية. لكنه بعد ذلك بدأ يتعامل معه بأسلوب غير مريح، بينما الشبان الذين كانوا حولهم بدأوا يتمتمون بكلمات عبرية لم يفهمها "أحمد"، كان الاستهزاء واضحاً فيها، إذ ﺇنها ترافقت بضحك وغمز ولمز. وفي لحظات جاء شاب كانت ملامحه تدل على أنه عربي. وما هي إلا لحظات وإذا بالشاب يتجاذب حديثا حادا مع أحد الشبان بعد أن لامس ظهره عن دون قصد مفتاح الكهرباء. وفجأة نطق كلمة بالعربية تأكد بعدها أحمد أنه عربي. فقال له:

- ما بك، وما بال هذا الشاب؟

-لا شي، فقط لا يتحملون وجودنا. الشيء الوحيد الذي فعلته أن ظهري لامس مفتاح الكهرباء كما رأيت، مما أدى إلى انطفاء حوض الماء الذي به السمك للحظات لم تتعد ثواني كما رأيت. لكنه بادل اعتذاري بشتيمة

-لكنك لم تفعل شيئا وقد اعتذرت.

-لا أحتاج أن أعمل شيئا حتى يعاملوننا هكذا

وفجأة جاء شاب طويل، وبعد أن تبادل بعض الكلمات مع ذلك الشاب اليهودي نظر باتجاه "أحمد" والشاب العربي، وكان واضحاً انه أخبر بالجدل الذي تم، وصفع الشاب العربي على وجهه، وما هي إلا لحظات حتى كان الكل ينهال عليه بالضرب مع أن بعضهم كان بعيدا والمفترض أنه ليس طرفاً بالنقاش. وبعدها بدأ الشاب يصيح يا أخي يا أخي. وما هي إلا لحظات حتى جاء اثنان منهم قرب "أحمد"، ودون أن يتكلموا بشيء قام أحدهم بركله على بطنه، وما أن وقع على الأرض حتى بدأ الجميع بركله وشتمه. حاول كل جهده الدفاع عن نفسه لكن عددهم كان كبيراً. ﺇن أكثر ما أحزنه كان منظر ذلك البائع كبير السن  هو وسيدة أخرى كبيرة كانت بقربه وراء (الكاونتر)، وهما يضحكان ويشجعان وكأن الذي يضرب ليس من البشر. استمرا بالضحك حتى عندما كان يحاول إيقاف الدم من أنفه ومن وجه الشاب العربي. أحزنه أن شيب رأسيهما وكبر عمريهما لم يمنعانهما من الصلف والضحك بموقف محزن كذلك الموقف.

-أنا آسف يا أخي لما حصل

-أرجوك أوصلني فقط للشارع الرئيسي وأنا أستطيع تدبر أمري بالذهاب إلى قريتي

    مشى الأثنان متثاقلين إلى أن وصلا الشارع الرئيسي. وبصعوبة وتعب وحزن سأل:

-ما اسم قريتك؟

أجاب وهو يتألم

-أنا قاسم، فلسطيني من قرية المكر.

-أنا "أحمد". وأين تقع قرية المكر هذه؟

-قرب عكا. أنا أصلاً من المنشية القريبة من عكا، إلا أنهم أفرغوا القرية من سكانها العرب وجمعونا في قرية المكر. قال ذلك ويده على بطنه من الآلم

وبعد أن وصلا الشارع الرئيسي بقي برفقة قاسم ولم يفارقه إلا بعد أن أطمأن أنه يستطيع الذهاب وحده.

سار "أحمد" وحيدا بعد ذلك، وصورة الرجل العجوز وهو يضحك لا تفارق رأسه. لم يستطع الذهاب مباشرة إلى سكنه. وعندما وصل مكان السكن لم يدخل إلى غرفته مباشرةً بل تبادل الحديث قليلاً مع المناوب الليلي في غرفة الاستقبال الذي التقاه في اليوم السابق وتبادلا الحديث بالانجليزية

-مسا الخير سيد عايزر

- كيف كان يومك؟ وما به أنفك؟ لم يشأ الإجابة لأنه لا يريد تذكر ما حدث ولا يريد أيضاً إثارة الموضوع مع أحد لا يعرف حقيقة إحساسه من الداخل

-كان جميلاً لكنه ليس كذلك الآن.

-خير ماذا حصل؟

-ليس لي رغبة بالتحدث. المهم أنا بخير.

-على فكره. ما هي مهنتك؟

-أنا مهندس.

-وأنت؟ أتذكر أنك قلت لي البارحة أنك تعمل هنا دون تفرغ ليس أكثر

-نعم. أنا طالب. وأعمل هنا جزئياً.

-ماذا تدرس؟

-آثار وسياحة.

-لكن لغتك الإنجليزية ممتازة.

-نعم. أنا أتعلم الإنجليزية منذ صغري، لقد كان أبي يعلم الإنجليزية في إيران.

-إيران؟!

-نعم. فنحن يهود من إيران

-إذا أنت تتقن الفارسية أيضا؟

-لا.

-لا! لماذا؟

-في الحقيقة أنا كنت مضطرا لتجنب هذه اللغة وأنا صغير لا سيما في المدرسة كي لا يعلم زملائي أنني يهودي من إيران. فقد كنت أتظاهر أنني من يهود الكرمل.

-ولماذا يهود الكرمل؟

-لأنه ينظر اليهم كطبقة أرقى وأغنى. لكنني الآن أشعر بالندم لأن مثل هذه الأفكار جعلتني أخسر فرصة تعلم لغتي الأم. أي لغة ثالثة

-أنا فعلاً سعيد بالحديث معك. لكن عليّ الذهاب للنوم بعد هذا اليوم الصعب. تصبح على خير سيد عايزر

-وأنت من أهله

9

كانت تريزا تقيم في بيت لا يبعد كثيراً عن وسط المدينة في ضاحية "شفيديا". جلست في حديقتها تفكر في هذا اللقاء المرتقب مع عمير. وفجأة قرع الباب    

 كان عمير و"أحمد" قد وصلا بيت تاريزا. وبعد قليل فتحت تاريزا الباب. ابتسمت وقالت:

- مرحباً بكما. تفضلا.

نظر عمير إليها ثم إلى "أحمد" وقال:

-لا أرجوك دعينا نذهب بسرعة فأحمد لا يستطيع الانتظار.

-         "أحمد"؟ قالت ذلك بدهشة

-         نعم. مرافقي اسمه "أحمد"!

بدا على تاريزا الذهول. لكن لم يكن هناك مجال للتراجع. فقد كان "عمير" لطيفاً جداًً، لذلك كان من الصعب التراجع. لكنها بقيت صامتة لبعض الوقت

حسناً إذا كانت تلك رغبتكم.

انطلق الثلاثة بالسيارة، وبعد قليل وصلوا ضاحية "دينيا"، في جبل الكرمل حيث تقيم "أولا".

-هنا تقيم "أولا"، وهذا هو بيتها،

. أحس "أحمد" بقلبه ينبض بقوة، وشعر بأن أمله هنا سيبدأ أو هنا سينتهي. طرقت تاريزا الباب. بعد قليل فتحت الباب امرأة بيضاء طويلة القامة، ذات عينين زرقاوين، تبدو عليها الملامح الأوربية بشكل واضح.

- مرحباً "أولا"،

قالت "تاريزا" ذلك وهي تضمها. ثم أكملت حديثها:

-هذا عمير وصديقه "أحمد".

ابتسمت "أولا" وقالت:

 - تفضلوا.

 جلس "أحمد" وبدأ ينظر في كل اتجاه كأنه يأمل في رؤية أي شيء يتعلق بعائلته. وبعد أن أحضرت القهوة سألت "أولا":

-كيف يمكنني مساعدتكم؟

نظر "عمير" إلى "أولا" وقال وهو يضع يده على "أحمد":

- أنا هنا من أجل صديقي "أحمد".

في هذه اللحظة نظرت "أولا" بسرعة إلى "أحمد". وبعدها استهل عمير كلامه

-         مع أنني أصبحت مدركاً حتى لتفاصيل قصته، إلا أن "أحمد" يستطيع توضيح الأمور أفضل مني. فهي قصته.

رحبت "أولا" بذلك وقالت:

-أرجوك تكلم. وتستطيع أن تحدثني بالإنجليزية أو العربية، إذ إنني من أصل عربي. لذلك أتحدث العربية أيضا ولكن بمستوى أقل، قالت ذلك بلكنة.

 بدأ يحدثها عن أخيه الذي لم تستطع أمه جلبه من "لحف المغر" وكيف أن الجنود منعوها من الوصول للمكان. لكن هدفي الآن معرفة أي شيء عن زوجة أبي التي كانت أيضا تعيش في بيت قريب من بيتنا. 

وما أن أنهى حديثه حتى كانت "أولا" مشدوهةً بهدوء "أحمد" وفصاحة لغته وجمال تعبيرها وقوة تأثيرها.

- أنا آسفة وحزينة لما أسمع ولكن لماذا تريدني أن أساعدك بذلك؟ وما علاقتي بما تقول!

-هذا صحيح. لكن أمك هي أول امرأة سكنت بيتنا بعد الهجرة. فأنا اعتقدت أنها ربما كانت تعرف أي شيء عن هذا.

- صدقني لم أسمع عن شيء مما تقول.

 شعر بالإحباط وطلب المغادرة. لكنها رجتهم البقاء لشرب القهوة وأصرت. فقد كان أسلوب "أحمد" وهدوؤه مصدر اطمئنان وراحة لها.

-قل لي. مع أن الموضوع بعيد نوعاً ما عن غايتك من الزيارة. أين تعلمت الإنجليزية؟

-في البيت. فأنا قارئ نهم للآداب ومهتم بالأدب المقارن.

أجاب عن ذلك مع أنه لم يكن بمزاج للتكلم عن أي شيء آخر غير ذلك الذي آتى من أجله. مع أن "أولا" استمرت بالأسئلة:

-لماذا الأدب المقارن؟

-لأنني أعتقد أن ثم علاقة وطيدة تربطنا نحن البشر جميعاً كأناس قبل أن نكون أي شيء آخر. أنا أعتقد أن الأدب أجمل وأنسب شيء نستطيع البحث فيه عن مثل هذه الرابطة!

-ما رأيك لو قلت لك أنني متخصصة بالأدب الإنجليزي؟

-أكون سعيداً بذلك. لكن أرجو أن تكوني مهتمة بكتابات جوزيف كونراد؟ فهو كاتبي المفضل.

-لا أبالغ إذا قلت لك أنني قرأت معظم رواياته.

- إذاً ما رأيك بروايته "قلب الظلام"؟

-أنها من أعظم ما قرأت!

-لكنني أختلف معه. فأنا أعتقد أن الإنسان في الأصل جيد، ربما الظروف تجعله غير ذلك

 بعد شرب القهوة أستأذن "عمير" و"أحمد" بالمغادرة. غادر الثلاثة،  وبقيت "أولا" تفكر بهذا الغريب وتتذكر منظره عندما أعلمته أنها لا تعلم شيئا. كيف أصبح محبطاُ وحزيناً. لكنها تذكرت أكثر وعيه وثقافته. حاولت أن تفسر لنفسها رغبتها الشديدة لرؤيته عندما هم بالمغادرة! لقد نظرت إليه وشعرت بأنها أسعد عندما رأت به أدباً وخلقاً يتناسق تماماً مع ثقافته ولغته. شعرت بأن شيئاً ما تحرك بداخلها تجاه هذا الإنسان. شيء تشعر به للمرة الأولى تجاه رجل. قررت أن تساعده. في غمرة هذه المشاعر والحزن والحيرة، خطر على بالها أن تذهب إلى صديقة والدتها "جوليانا" الأيطالية، التي كانت تعمل راهبة في دير في حيفا وممرضة لمعالجة المصابين في زمن الحرب والتي أصبحت بالنسبة لها مكان والدتها بعد أن توفيت.

10

أحست بأن ثمة شيئاً ما في نفسها تود أن تفرغه لشخص آخر تثق به حتى تشعر بالراحة. في اليوم التالي ذهبت إلى منزل  "جوليانا" التي تقطن قريبة من وادي النسناس.

في التاسعة صباحاً كانت تطرق بيت "جوليانا". فجوليانا هي السيدة التي تستطيع أن تحدثها بكل شيء بما في ذلك مشاعرها الخاصة التي تحركت تجاه "أحمد". كانت تحتاج أن تفرغ شيئاً ما بداخلها. 

-أهلا "أولا". كيف أنت؟

مشتاقة يا خالتي، "فهي كانت بالنسبة لها بمقام خالتها".

-لم أرك منذ فترة؟

 كنت فعلاً أنوي زيارتك.

-شكراً يا خالتي. فأنت صديقتي الغالية.

وأنت يا "أولا" حبيبتي.

نظرت "أولا" إلى خالتها وصمتت قليلاً ثم قالت بصوت متردد:

-لقد زارنا عربي البارحة، وهو من الأردن. استمرت بالنظر إلى خالتها منتظرةً الإجابة وردة الفعل.

-لماذا زاركم؟

-أتعرفين بيتنا في "الطيرة"؟ أو قولي بيتهم.

-ماذا؟ ماذا تقصدين؟

-أنه ابن صاحب البيت الذي سكنا فيه.

-ماذا؟

-نعم. المشكلة أنه زارنا باحثاً عن زوجة أبيه التي  فقدوها خلال الحرب.

ماذا يا "أولا" ماذا؟زوجة أبيه؟ ما اسمها؟ ماذا قال؟ أرجوك أخبريني.

-لم يقل أي شيء تفصيلي لأنني قطعت عليه النقاش، وقلت له إنني لا أعلم شيئا مما يقول.

يا الهي يا "أولا" يا الهي!-

-ماذا يا خالتي؟ لماذا تقولين ذلك؟

تماسكت خالتها قليلاً. وأكملت:

-نعم أتذكر تلك المرأة. لقد بقيت تسكن هناك لبعض الوقت ثم  انتقلت للسكن في منطقة تينة البستان القريبة من الدالية. نعم كان يسكن بالقرب من البيت الذي سكناه امرأة عربية. في الحقيقة إنها درزية. وأعلم أنها هجرت وذهبت للسكن في منطقة الدالية لأنها أصلا من هناك. وما زلت أذكر أنها أخبرتني بأنها ستسكن منطقة زراعية تسمى تينة البستان.

وما أن أنهت حديثها حتى كانت "أولا" تقوم بالاتصال بأحمد

-ممكن أن نتقابل اليوم؟

-طبعا طبعا. هل لديك أي أخبار؟ أرجوك تكلمي.

-نعم نعم. سوف تسمع ما يسرك. أرجوك دعنا نتقابل الآن وسوف تسمع كل شيء.

-أين نتقابل.

-في بيتي. سأعطي "عمير" العنوان.

"عمير" بالتأكيد يتذكره، ولكن أي ساعة؟

-الثالثة عصراً.

-حسناً.

في الثانية وخمس وأربعين دقيقة كان "أحمد" وعمير في بيت "أولا".

-أخبريني ماذا تعرفين. قال، فأجابت:

-زوجة أبيك تسكن منطقة اسمها تينة البستان في الدالية. هذا ما أخبرتني به خالتي التي كانت في سن (في ذلك الوقت) يمكنها من تذكر الأشياء.

-آه يا "عمير". لماذا لم يخطر ببالي السؤال عنها في الدالية؟

-لا. أجاب "عمير". من الصعب إذا  لم يكن لديك تفاصيل عن عنوانها. فالدالية أصبحت مكانا كبيرا.

في غضون ساعة من الوقت كانا في الدالية يسألان عن تينة البستان. وبعد نصف ساعة تقريباً كانا يسيران في طريق زراعي أوصلهما إلى بيت يحيط به بستان.  توقفت سيارتهم. وفجأة على صوت السيارة خرجت امرأة طاعنة في السن من البستان.

اقترب الأثنان أكثر وإذ بالمرأة التي ترتدي لباساً عربياً تقليدياً تصيح وتسألهم عن سبب وجودهم في أرضها.

تفاجأ أحمد أنه يسمع شيئا عربياً يفهمه جيدا ويشبه إلى حد بعيد لهجة هؤلاء الذين لم يحب يوماً أحدا كما أحبهم

أجاب:

- إنها أيضا أرضي قالها مداعبا

-نعم، أجابت بعصبية أحبها فهو أيضا معتاد على هذا النوع من الانفعال الذي ما يتبعه عادة مسامحة ومحبة.

-تقول أرضك. هذه أرضي وأرض أبنائي. لكنك عربي. (من أنت يا ولد)، ومن أين أنت؟

-أنا اسمي أحمد. أصلا من الطيرة ومن هؤلاء الذين أجبروا على مغادرتها يوماً

-(يعني أنت طيراوي؟)

-نعم

وما أن سمعت كلمة نعم حتى صرخت:

-(ابن من أنت يا حبيبي)

قالت ذلك وهي تقترب وتبدأ بملامسته كأنها تلمس شيئا خاصا بها ومن حقها الطبيعي والشرعي أن تلامسه

-أنا ابن رجل يقال له سعيد أبو يوسف.

-سعيد من؟

قالت ذلك بأعلى صوتها وعيناها مشدوهتان

-سعيد الأسعد

-سعيد الأسعد؟ تقصد الراوي

-نعم هذا كان لقبه بالطيرة

-يا حبيبي يا عمري

قالت ذلك والمفاجأة تأخذها وهي تضمه وتصيح وتقبله وتضمه

-تعرف من أنا قالت ذلك وهي تنظر إلى "عمير" وتصيح وتنادي أبناءها،

أجاب وهو ينظر إليها بكل ما أوتي من مشاعر الحب والاشتياق

-طبعا أعرف. أجاب حتى قبل أن يتأكد منها بالضبط من تكون. فقد كان إحساسه كافيا للتأكيد له إنه يقف أمام الحاجة تمام. فأنا هنا من أجلك.

-من ثيابك أستطيع أن أقول من انت!

-أنا الحاجة تمام الملقبة بأم الهند

-نعم. قال أحمد ذلك بدهشة أكبر. يعني أنت الحاجة تمام فعلاً، قالها ثانية وهو يضمها بكل قوته.

-نعم نعم

-"عمير" هذه الحاجة تمام التي أخبرتك عنها. هذه أمي أنت أمي. بدأ يقول ذلك بطريقة مهلوس وهو يكاد يطير من الفرح والمفاجأة والسرور وعدم التصديق.

في هذا الأثناء أتى كل من كان في البيت على هذا الصريخ وبدأوا  ينظرون وهم لا يعلمون ما يجب فعله أو ماذا يحصل.

- زوجي أبو يوسف. زوجي  زوجي أبو يوسف. بدأت تكرر تلك الكلمة أكثر من مرة وكأنها تريدها أن لا يكون في هذا الأثناء حقيقة أكثر منها كأنها تريد أن تعوض كل السنيين التي لم تقل بها هذه الكلمات.

وفجأة صمتت وسألت أحمد وهي تضم شابا في ربيع العمر طويلا أبيض البشرة ووسيم وشكله إلى حد كبير لا يبدو غريباً

-هل تعلم من هذا؟!

 وقبل أن يجيب  وبينما الجميع التزم الصمت وبدأ ينتظرها لتكمل كلامها أجابت وأحمد يفتح فمه منتظراً مفاجأة أكبر لكنها كانت أكبر من كل ما توقع

-هذا فايز

-فايز؟ من فايز؟ قال ذلك وهو ينظر إليه

- ابن أخيك يوسف

-يوسف؟

لكن أخي يوسف استشهد في الحرب وهو ما زال في لفته

-لا يا حبيبي

في هذا الأثناء نظر أحمد إلى فايز ولم يستطع حتى ضمه أو الاقتراب منه قبل أن يسمع شيئاً.

وفي سعادة غامرة وبينما هي تهم في تكميل الحديث خرج من الكرم رجل طويل وسيم ملامحه صامته لكنها ليست غريبة على الإطلاق ينظر إلى كل المتواجدين. أكملت حديثها وهي تشير إلى الرجل وهذا هو يوسف أبو فايز

أوشك أحمد على السقوط في هذه الأثناء وهو لا يعرف ما يفعل وهول المفاجآت يتساقط على رأسه. فانهار وجلس على الأرض

ركض الكل إليه وحملوه إلى الداخل.

حتى يوسف ركض من غير أن يعلم أي شيء عن تفاصيل المشهد

بدأ يلامس يوسف ويقول:

- أنت يوسف كيف كيف؟.

كان الشبه الكبير بين يوسف وأبيه هو ما شجع أحمد وأثار مشاعر أحمد من بين هذا البركان من المفاجآت وجعله يتصرف على هذا الشكل.

وبسرعة سأل يوسف أمه عما يحصل

فصرخت:

-يا يوسف هذا أحمد ابن الحاج سعيد. يعني أخوك. أخوك قد آتى إلى هنا لزيارة الطيرة للبحث عني. عندما ذكرت أمه اسم  أبيه نظر وشعر بأنه بدأ يستوعب ما يحصل.

كان الموقف يتطلب الهدوء والحديث بوضوح أكثر لأن الأمور كان لا بد من توضيحها وشرح ما يحصل أكثر.

هنا بدأ أحمد بالحديث

-لكن أمي أخبرتنا أن يوسف قد قتل وشاهدت ذلك بأم عينيها؟

-تنهدت الحاجة تمام. وبدأت تحدث قصتها

أبوك يا أحمد غالي على. غالي جدا سعيد. بعد أن علمنا بمغادرة أهل الطيرة القرية وعلمنا بقصفها أتيت فورا من بلدتي الدالية إلى الطيرة للاطمئنان عليكم. وصلت البيت فوجدته خالياً. انفطر قلبي حزناً عندما وجدته خالياً من أبي يوسف وأم يوسف. انفطر قلبي حزناً عندما وجدته كما هو مليئا بخيراته إلا ممن يملكه. وفجأة وأنا أتجول بين الغرف تفاجأت بوجود يوسف يغطي وجهه الدم ومصاب في أماكن عدة. حملته وركضت به إلى المسجد حيث كان ما زال بعض الطيراويين يختبئون هناك. وجدناه ما زال حياً. وقد صاح بذلك الشيخ سلوم الذي كان حكيماً للقرية في تلك الفترة إضافة إلى عمله كحلاق. تولى الشيخ سلوم توقيف النزيف وقامت العديد من النساء وخاصة "الشوكانية" أم العبد بإرضاعه. بقينا في المسجد أربعة أيام. انتقلنا بعدها إلى الهدار ومن ثم انتقلت أنا وحدي مع يوسف إلى بيت أهلي في الدالية. وبعد أيام قررت أن أعود إلى الطيرة ثانية  حيث أن هذا بيت زوجي وقبل أن يأخذه اليهود ويعتبرونه أملاك غائبين. لكنهم طردونا ومنعونا من البقاء في بيتي. فعدت أنا ويوسف إلى هنا وأقمنا وطورنا كل شيء في هذا المكان الذي هو أيضاً لأبيك وحافظنا عليه. لذلك كما تلاحظ أننا العائلة الوحيدة التي تعيش في المكان. لكن الحمد لله كل بساتين وأملاك والدك ما زالت باسمه ونملكها نحن.

كان الكل يستمع باهتمام. حتى هؤلاء الذين يعرفون القصة مثل يوسف نفسه الذي لطالما سمعها من الحاجة تمام. وحتى "عمير" كان لا يصدق ما يسمع ويشعر بإحراج ما مما سببته دولته لهؤلاء الناس. اقترب يوسف من أحمد وفجأة وبعد أن استوعبا ما يحصل ضم الأثنان بعضهما.

-أخي حبيبي. قال أحمد ذلك وهو لا يصدق ما يقول. وفجأة تذكر أمه فهمس ماذا ستفعل أمي عندما تعرف؟

عندما سمع يوسف كلمة أمي من أحمد شعر للمرة الأولى بعاطفةً من نوع ما تتحرك بداخله. شعر بأنه بدأ يقترب من شيء لا بد من الاقتراب منه بعد أن سمع الحقيقة. أنه يستطيع أن يقول ثانية أمي. حتى لو لم تكن لأمه "تمام". الشيء الوحيد الأكيد أن تلك الأم قد قالت لي يوما ابني وأنها لم تنقطع عن الهمس بها في كل المناسبات. شعر بأنه بدأ يحب شيئا ما. كانت تخيفه فكرة أنها لا تعيش في فلسطين. لكنها أم أكثر من كونها أي شيء آخر. وأنا كنت ابنها عن قرب لمدة ستة شهور. ها أنا أعود لشيء كنته ولن أكون شيئا لم أكنه. قام وجلس على السرير وترك الكل وشعر بأنه أقوى. شعر بأن الفكرة لا تخيف. بدأ لأول مرة يتخيل شكل تلك المرأة التي لا بد أنها تحبه وأن حرمانها منه لا بد جعله عندها أغلى شيء في الكون. علي أن لا أخاف من الحب. لكنها تعتقد أنني ميت؟ هناك حب لي مكتنز ومخزون في صدر لا بد أن يكون حنونا وإنسانيا. لكن الحاجة تمام هي أمي وهي من أنقذني ومن أرضعني ومن ضمني عندما كنت فعلاً بحاجة للضم والحنان. وقد كانت كبيرة في سلوكها وإيمانها كما كانت في كلامها عندما أخبرتني في مرحلة مبكرة عن حقيقة أنها لم تكن أمي الحقيقية وأن هناك أم عظيمة لي فرض عليها القدر والزمن وقسوة الزمن أن تغادرني مجبرة كما فرض ذلك على كل أبناء القرية. لا بد أن أمي تلك فعلاً عظيمة، كيف لا وقد أخبرنا أحمد أنها من أصر عليه للقدوم هنا للاطمئنان على الحاجة تمام والبحث عنها مع أنها في العرف الغالب هي زوجة منافسة. إذاً أنا أبن لأمين عظيمتين، واحدة كانت كذلك عندما كانت الأم الفعلية وحاربت الجنود وتحدتهم من أجلي فكانت أما مثالية، وأخرى كانت كذلك عندما فرض القدر عليها أن تكون أماً لي. فكانت خير أم أيضاً.  

      بدأ يحب "أحمد". ذلك الرائع الذي هو هنا للبحث حتى عن الحاجة تمام. أين "أحمد"؟ لا بد أنه توارث حبي من أمي. كيف أخاف من الحب؟ كل الذي يحدث حب! رجوعه هنا في أول فرصة سمحت له بالقدوم حب، تذكرها لي إلى اليوم حب. حزنها الذي لا بد كان كبيراً حب أيضا. حتى أنه يبحث عن الحاجة تمام بين العائلات اليهودية. لا شيء يهمه، سوى العثور عليها. أصبح الحب عنده والرغبة في إيجادها أهم من كل القضايا والأحزان والسياسة والحرب والهزائم والنصر. وتلك المرأة كنت يوماً أقرب إنسان إليها. ألم أكن يوماً في أحشائها؟ حتى بعد ولادتي كان من المفترض أن أكون قريبا لولا حدوث تلك الطفرة التاريخية التي جعلت مني بعيدا. وماذا عن أبي؟ لا بد أنه أيضا تواق لرؤيتي. وماذا عن إخوتي وأخواتي؟ فهم كما كنت أسمع يحبون الأولاد. لذلك لا بد أن لي إخوة وأخوات عدة. شعر بالسعادة لأنه استطاع أن يقول أبي وإخوتي. فكرة استعادة الأم أسعدته. لكنه كان يشعر بأن جزءا من السعادة يتأتى من فكرة استعادة "الحاجة تمام" كأم وتجسيدها في أمي الجديدة لكنها الحقيقة. شعر بأنه انتقل من الطفولة إلى الرجولة دون المرور بكل المراحل التي يفترض أنها تتوسط هاتين المرحلتين. شعر بأنه طفل تحرك من اللفة ليقف على قدميه، عمره خمسون عاماً. شعر أن مذاق  الحليب ما زال في فمه وأنه بدأ شربه وهو ممدد في لفته وأنه يمسح بقاياه الآن بعد أن وقف على رجليه. شعر أن المسافة بين الأرض التي كان ممددا عليها بلفته ووقوفه خمسين عاماً. شعر بأن هناك خيطا من الحليب يربط فمه وهو واقف في الخمسين من عمره وفمه وهو ممدد وعمره ستة شهور يجعل من الفمين فماً واحداً.

عندما رأى يوسف كل هذه السعادة في عيني "أحمد" شعر بأنه مهم من جديد، وبأنه ليس ورقة في مهب الريح. شعر بأن هذا الحب الذي في قلب هذا الشخص سيفيض عليه. شعر بأن عليه أن يتجهز لموجة حب وعاطفة مكتوبة و كبيرة قبل أن ينبس بكلمة واحدة

-أنا الطفل!

قالها يوسف بشكل مفاجئ.

-ماذا؟

-هذا أخوك يا "أحمد" وهذه الأشياء التي كانت معه وما زلت أحتفظ بها.

نظر "أحمد" إلى أخيه ثانيةً وفعل يوسف الشيء نفسه

-أنت "يوسف"؟ قالها وهو يلامس يديه. وما أن جاءه الجواب بنعم حتى ضمه. ووجد "يوسف" نفسه يضم "أحمد" بالقوة نفسها. شعر بأن شيئا صادقا وحقيقيا وجميلا بينهما في تلك اللحظة. لكن "أحمد" تمالك نفسه ورغب بالتأكد من أنه فعلاً مع "يوسف". لذلك نظر إلى وجه "يوسف" ثانيةً ورأى ولاحظ الشبه الكبير بينه وبين أبيه. وكان هذا السبب المباشر الذي جعل "أحمد" يتقبل الفكرة، ويصدق ما يدور ومع ذلك أصر وبطريقة لطيفة ومهذبة على مشاهدة كل شيء في "يوسف" وعن يوسف. وما أن رأى ذلك وتأكد من كل شيء حتى ضمه من جديد. وفي كل مرة يضمه يبعد قليلاً وينظر إلى وجهه.

وبعد أن جلسا قليلاً بدأ "أحمد" ينظر إلى "يوسف" وهو بجواره.

-آه كم تشبه أبي. الآن بدأ يدقق أكثر في وجهه ويميز ملامحه ويقارنه بهؤلاء الذين يشبهونه.

-"عمير" إنه يشبه أبي. أخي "يوسف" يشبه أبي جداً.وضع يده بالمحفظة وأخرج صورة أبيه

أنظروا كم يشبه أبي؟ ولكن كانت أمي تقول إن أكثر ما كان يلفت نظرها وأنت صغير هو أن أصبع قدمك الكبير أطول بشكل ملفت من باقي أصابعك. وهذا ما يميز أصابع أبي أيضا. أرجوك أرجوك اخلع حذاءك

-حسنا حسناً. لكن دون أن أخلع حذائي أنا فعلاً أصابع قدمي كذلك.

-(يا الله أخي) ، أخي حبيبي

وما أن خلع "يوسف" حذاءه حتى وجد أصابع قدمه تماماً كما قال "أحمد". لكن ذلك كان أوضح بعد نمو الأقدام. ضحك الجميع على ذلك بينما يكاد أحمد يطير من الفرح.

غلب على "يوسف" الصمت في تلك اللحظات. كانت حقيقة أن عليه أن يبدأ شيئاً جديداً تغتال كل شيء حتى سعادته. لكنه كان سعيداً بلقاء هذا الإنسان المخلص "أحمد".كان يعرف أنه سيمارس هذه السعادة بلقاء أخ له بعد خمسين عاماً في اللحظة التي يتخلص بها من قسوة المفاجأة في اكتشاف أنه إنسان سيعيش حياة جديدة ليست تلك التي عاشها لمدة خمسين عاماً. كان يبادل "أحمد" كل شيء الضم والحب والسعادة لكنه لا يبادله الكلام عن هذه السعادة. كانت هناك أفكار كثيرة تؤرقه تجعل من سيطرة فكرة واحدة فقط على دماغه شيئا صعبا جداً. بالنسبة ل"أحمد" كان أنه وجد شيئا دون أن يفقد شيئا. أما بالنسبة ل"يوسف" فقد وجد شيئا ولكن عليه أن يفقد أشياء. ليس أقلها شخصية عاشها مدة خمسين عاماً إلا ستة أشهر وأمرأة عاشت كأمه الحقيقية كل هذا الزمن. كانت تلك الستة أشهر أكثر عامل راحة لديه وأكثر شيء يقربه ويجعله يتقبل الحقيقة. حتى أصابع قدمه لم تستطع فعل شيء كما يفعل ذلك الغطاء الأزرق الذي لامسته يد أمه الحقيقية قبل أن يلامسه شخص أخر.  أشعره أنه ليس ذاهباً من النقيض إلى النقيض.

            بعد هذا اليوم التاريخي ذهب "يوسف" إلى فراشه. أخذته أفكاره ثانيةً.

كان عليه أن يبدأ حوارا ًقاسياً مع الذات. شعر بشعور وطني جارف اجتاحه في تلك اللحظة. شعر بمهزلة ما كان يسمعه من ادعاءات غير دقيقة وغير منطقية من زملائه اليهود الذين درسوا معه أو عملوا، معه لكن أكثر ما يتذكر قبل أن يبدأ حواره مع ذاته أنه لطالما تساءل بينه وبين نفسه عندما كانت تحدثه "ميراف"، وهي زميلة له في العمل، عن حقهم المطلق بهذه الأرض، كونهم كانوا بها قبل أربعة آلاف عام، أنه كان يجد ذلك يتناقض مع منطق الأشياء. فكيف يكون ذلك وهذه المنطقة كلها محاطة بالعرب وبلغتهم. إذاً على الأقل عليهم أن يعترفوا حتى لو سلمنا بأنهم كانوا هنا منذ أربعة آلاف سنة بأننا أيضاً كنا هنا. إذا كان ذلك صحيحاً فبأي حق يطردوننا بناء على اعتقادهم بأنهم كانوا هنا قبل أربعة آلاف سنة. علي أن أكون الآن فقط فلسطينياً في أرض فلسطين. حتى لو رغبت أن أتنكر لهذا الواقع الجديد بشكله الواسع المطلق، فكيف يسعني أن أغمض عيني عن الحقيقة التي مفادها أن المرأة التي فعلاً حملتني في أحشائها وتحملت اهانات الجنود من أجل أن لا تتركني في تلك المغارة كانت تعيش هنا هي وأقاربها وأحبابها وجيرانها؟ فهم من أجل الاعتقاد أنهم كانوا هنا قبل أربعة آلاف سنة يبررون كل ما يفعلوه بنا، فكيف لنا أن لا نبرر ما نفعله من أجل حقيقة ما زالت حاضرة وليست تاريخا. أن أقاربي كانوا هنا قبل بضعة سنين فقط . كيف أستطيع أن أتنكر لتلك المرأة التي هي الآن أمي وكانت فعلياً تعيش هنا وتمارس حياتها الطبيعية كما يمارسها أي مخلوق على الأرض. ألم تكن هنا تعيش في بيتها هذا. ألم تلدني هنا؟ ألم يجدوني هنا؟ وهو الشيء الذي لا يمكن أن يعني إلا أنها كانت أيضا هنا مع زوجها وأولادها وبطبيعة الحال مع أبيها وأخيها. ألا تعلم "ميراف" وغير "ميراف" بذلك؟

بعد أيام أخبر أحمد الحاجة تمام بأن عليه العودة:

-أنا مضطر للعودة بعد يومين إلى الأردن. ما رأيك يا يوسف؟

-سأرى يا أحمد.  أهم شيء لدي الآن هو رؤية أمي وأبي لكن هناك أشياء علي إنهاؤها.

أنا أرى أن أذهب بعد غد، و"يوسف" يمكن أن يأتي بعد ذلك. فأنا أعتقد أن عليً تهيئة أمي لهذا الخبر السعيد.

    شعرت "أولا"  التي كانت قد أتت لرؤية أحمد في بيت الحاجة تمام، بحزن لفكرة مغادرة "أحمد". لذلك نظرت إليه وقالت:

- هل تقبل دعوتي إلى فنجانٍ من الشاي في إحدى المقاهي القريبة. أشعر برغبة في تكملة حديثنا عن الأدب الإنجليزي قبل سفرك.

-طبعاً لا أمانع، قال ذلك وهو يشعر بسعادة خفية لهذه الدعوة. كان يشعر براحة لا يستطيع تحديد طبيعتها تجاهها. فالحديث مع "أولا" شيء ممتع أو كان شيئا ممتعا أيضاً ورافقه شيء من التوافق على أشياء كثيرة أيضاً.

ذهب الاثنان وحدهما. وفي مقهى مطل على الكرمل جلسا

-         إذاً، أنت معجب أيضاً بجوزيف كونراد

-         نعم يا "أولا". فروايته قلب الظلام ما زالت تتفاعل في داخلي على الرغم من مرور سنين عديدة على قراءتها

-         إذاً أنت متفق معه بنظرته إلى الإنسان ؟

-         ليس بالمطلق. فأنا أعتقد أن الإنسان يولد بالأصل جيداً. هي الظروف فقط قد تجعله غير ذلك. لا أعتقد أن تلك القيود التي توضع لنا والقوانين هي ما يجعلنا نسير كما يجب. في داخلنا أشياء أقوى من ذلك- الإيمان مثلاً، والاعتقاد بالله.

-         لكن أليس هذا نوعاً من القوانين والقيود؟

-         بالطبع لا. الإيمان يجعلك في كل الأوقات إنسانا جيداً. القوانين الوضعية قد تجبرك على السير بطريقة معينة في فترة معينة وفي وجود أناس معينين. لكنك قد تتجاهلينها في ظروف أخرى، لا سيما إذا لم يكن هناك عقاب مباشر.

-         انك مدهش يا "أحمد"، واسمع منك أشياء جديدة. همت بأن تتكلم بأشياء بداخلها لكنها أحست أن الظروف لا تسمح. فهواجس "أحمد" الآن متعلقة بأخيه وبالحاجة تمام وفرحته بإيجاده والعودة به إلى أمه. لذلك حولت حديثها، وعادت ثانيةً للتكلم عن "يوسف".

-         أرجوك اعتن "بيوسف". إنه كما يبدو انسانٌ حساس وراقٍ ولن تجد ألطف منه

-         أنه أخي وسوف أعوضه عن كل الحنان الذي فاته

-         أرجوك أعطني عنوان البريد الإلكتروني الخاص بك. أريد أن نبقى على اتصال.

-         بالطبع. لكن دعينا نغادر الآن. أشعر بأنني لا أريد أن أبعد عن "يوسف".

غادر الأثنان و"أولا" تشعر بسعادة كبيرة للحديث مع شخص مثل "أحمد" والالتقاء مع هذا النوع من الناس في هذا الزمان الصعب. أسعدها اتفاقها على التواصل مع "أحمد" بعد سفره!  رجع "أحمد" إلى البيت للقاء "يوسف" والحاجة تمام.

                                                         13

في صبيحة يوم الجمعة كان "أحمد" يطرق باب بيتهم في الأردن. فتحت الباب أخته (نور). --"أحمد". أمي "أحمد" عاد. ومن المطبخ انطلقت أم "يوسف" فور سماعها بعودته

-أمي أنا سعيد جداً. افرحي يا أمي. لقد وجدت الحاجة تمام

شعرت أم يوسف بفرح حقيقي لذلك. فالحاجة تمام الآن إنسان فلسطيني معتقل ومضطهد في بلاده قبل أن تكون أي شيء آخر، مثلاً، ضرة سابقة.

-تمام؟ ما زالت حية؟

-نعم نعم، وهي تهديك كل الحب والسلام.

-لماذا لم تحضرها معك؟

هذا شيء ليس سهل. فصحتها لا تسمح.

ولكن هناك شيء أهم يتعلق بيوسف!

-يوسف؟ ماذا؟ وجدت قبره؟

-وجدته كله!

-ماذا

أحس أن عليه أن يتوقف. فقد خاف من وقع المفاجأة أن يحدث مكروه لأمه.

- خبر يتعلق ب"يوسف".

-ماذا ماذا؟

-أنا واثق .... لم يستطع أن يكمل

-ليس قبره يا أمي. فيوسف ليس بالقبر. قال ذلك وهو لا يدرك ما يقول وبكل تلقائيته.

-فترت الأم، وفي لهجة محبطة أجابت

- قل لي أرجوك؟ ماذا عن يوسف

أحست للمرة الأولى بأن هاجسها أن يوسف ربما لم يكن ميتاً في اللحظة التي رأته مصاباً وبالندم الشديد بأنها لم تستطع الاقتراب منه أكثر، ربما يكون هاجساً حقيقياً. هذا الهاجس الذي لم تكن تستطيع البوح به خوف من وصفها بالجنون وبتجنب تعب الضمير بسبب عدم تمكنها من تفحص جسده بسبب ما قام به الجنود، وخوف من عصبية أبي يوسف كلما ذكر. صمتت وتخيلت في لحظة أنها فقط تتخيل بأن أحمد سيقول شيئاً تتمنى أن يكون.

-نعم سمعت شيئا.

في هذه اللحظة دخل أبوه.

-الحمد لله على سلامتك يا حبيبي. 

وجدت الحاجة تمام؟

-نعم نعم

-الحمد لله، قالها ودمعة بدأت تسيل في عينيه. الحاجة تمام بخير. كيفها وكيف صحتها، أخبرني، قال ذلك وهو يهز يد أحمد كأنه يستعجله البوح بما يعرف.

-يا أبا أحمد الحمد لله إن الحاجة تمام ما زالت بخير ولكن اسمع، يقول ٳنه سمع شيئا يتعلق ب"يوسف".

-نعم يا أبي. لقد وصلت بيتنا وعلمت أن بعض الناس وجدوا طفلاً أنا آمل أن يكون أخي

-وأين دفنوه؟ في المقبرة القبلية؟

-لا لا

-إذاً أين؟

- لم يدفن؟ يوسف، ولم يكمل الحديث.

      -ألم تستطع معرفة أي شيء؟

كان هدفه من عدم قول الحقيقة دفعة واحدة هو خوفه على صحة أمه.

-عرفت لكن مدة إقامتي كانت قصيرة، والآن أنتظر اتصالا مهما من بعض الأصدقاء فور سماعهم لخبر جميل.

بعد ذلك انفرد بأبيه.

-أبي

 قالها وهو يغلق الباب

-نعم حبيبي. خير؟

-لدي خبر سعيد جداً لكنني لم أشأ قوله مرة واحدة خوفاً على أمي من الفرحة.

-ما هو؟

-أخي ما زال حياً

-نعم، نعم. كيف عرفت؟

كانت رجولة أبي يوسف وما رآه في هذه الحياة من مآسي مكنته من البقاء متماسكاً حتى تحت وقع خبر كبير بهذا الحجم.

-عرفت وقابلته أيضاً

-حبيبي ماذا تقول. أنا لا أصدق

-صدق يا أبي وما هي إلا أيام ويكون بيننا.

قام من مكانه وجلس قرب أبنه. وبصوت خافت طلب منه أن يخبره بكل شيء. وما أن أنهى حديثه مع "أحمد" حتى قام وجلس وزوجته في غرفتهم

-أم "يوسف"

-نعم

-أنا أشعر بأن أبننا حي ، وأننا سوف نراه قريباً

-بالله عليك تقول الحقيقة. يوسف؟ ماذا. يعني لم يكن في تلك اللحظة؟

كانت تلك الهواجس التي لطالما عاشتها في أن يوسف ربما لم يكن ميتاً هي العامل الأهم في تخفيف وقع وكبر المفاجأة عليها.

لكن علينا انتظار تأكيد الخبر لذلك علينا انتظار هاتف مهم

نعم سوف ننتظر، قالت ذلك وهي ترجف.

-دعنا ننتظر ذلك الهاتف. نعم دعنا ننتظر ذلك الهاتف، قالت ذلك بطريقة هلوسية

-اعتبري أن الهاتف قد جاء

-ماذا تعني؟

-ابننا حي يا أم "يوسف"!

-ٳن شاء الله

-ٳن شاء الله  فهو حي، وقد رآه "أحمد"

-نعم؟؟

-كما تسمعين

-لكنه لم يقل ذلك؟

-لقد خاف عليك من المفاجأة!

-"يوسف" ابني

-نعم

-يا إلهي. كيف؟ أخبرني؟

وقام بسرد القصة التي سمعها للتو من "أحمد".

                                                       

                                                14

استيقظ "يوسف" في الصباح الباكر. كانت كل حقائبه جاهزة للسفر. كان الجميع في وداعه وخاصة الحاجة تمام التي ما انفكت تبكي وتصيح.

      حملت الحاجة تمام نفسها وذهبت إلى غرفتها، جلست ومن غير أي مقدمات انفجرت بالبكاء، بدأت تنظر إلى كل أركان غرفتها وتتذكر اللحظات التي  أمضتها معه، نظرت إلى أسفل سريرها ،وتذكرت تلك البرتقالات التي اعتادت أن تخبئها بعد التقاطها من أشجارها فقط ليوسف. تذكرته عندما كان يعود من العمل ويصيح بكلمة(يما). خافت أن لا تسمعها من جديد. وفجأة تذكرت الحاجة سروة "أم يوسف". تذكرت أنها أخذت منها أبو يوسف يوماً والآن بعد خمسين عاماً تأخذ يوسف. لكنها فجأة صمتت وصرخت: لا هي لم تأخذ زوجي بل هو من أخذها، وهي لم تأخذ يوسف مني بل أخذه القدر. وهو القدر نفسه من أعاده إليها. وهي من أرسلت أحمد، الذي هو ابنها الذي لم أره من قبل ولا أشاركها به، إلى هنا للبحث عني وليس عن يوسف. للبحث عني أنا فهي كبيرة بحبها ولم نكن لبعضنا يوماً إلا الحب. أم يوسف لن تسمح لأي ظرف من حرماني منه، فهي لم تسمح في يوم من الأيام من حرماني من أبي يوسف مع أنها كانت قادرة بجمالها وشبابها على فعل ذلك.

      تذكرت يوسف من جديد. تذكرت اللحظة الأولى التي وجدته فيها، وتذكرت كل مراحلها معه. وجدته ملطخاً بالدماء، ونبضه ضعيف إلى الدرجة التي جعلتها تعتقد انه قد فارق الحياة. أخذته الى بيتها بعد أن تم إسعافه وإنقاذه في المسجد. بدأ ينمو هناك كابنها الحقيقي. إلا أنها كانت مصرة منذ البداية أن تعلمه في أوائل مراحل وعيه أنها خالته، وليست والدته. كانت لا تريد أن تحرم أم يوسف من أمومته حتى وهي تعتقد أنها فارقت الحياة. لذلك فهو نفسه لا يعرف اللحظة التي ميز بها بأن الحاجة تمام هي خالته وليست أمه، مع إنها بكل الظروف كانت أما. ألحقته بأفضل المدارس العربية في منطقتها. وعلى الرغم من محاولاته المتكررة في عدم تكميل دراسته إلا أنها أصرت على استمراره في الدراسة، وهو الشيء الذي ما زال يشكرها عليه. وقد كان أيضا أبناً مخلصاً. عمل معها في الحقل في كل الأوقات. ولطالما خفف عنها عندما كانت تشعر بالكآبة والحزن بينما كانت تعمل في الحقل عندما تشعر بأنها حتى في أرضها لا تستطيع زراعة بعض المناطق إلا بعد أخذ أذن من سلطة الاحتلال. كان يوسف يستغرب هذا الحزن في بعض الأحايين، إذ أنه فتح عيونه على هذه القيود ولم ير من قبل كيف يكون الحال عندما تعمل بأرضك ولا يحيط بك أحد غير أحبابك. كانت لا تصر عليه للعمل وتقوم به كله وتتركه يقضي أوقاته مع أصدقائه كما يشاء! لذلك كانت علاقاته الاجتماعية مع الجيران جيدة والكل يبادله الحب والاحترام. بعد أن أنهى دراسته في جامعة حيفا لم يشأ إلا العمل في نفس حيفا، حتى يبقى في مدينة أبيه، وقريباً من الحاجة تمام وجيرانه الذين أحب. وحتى زوجته التي أختارها كانت من قرية(أجزم) المجاورة للطيرة. هذه العلاقة الحميمة التي أنشأها مع جيرانه والتي لم يستطع ولم يشأ أنشاؤها مع زملائه من غير العرب الذين التقى بهم في الجامعة. فصورة نفسه وهو ملطخ بالدم كما وصفتها الحاجة تمام انطبعت في ذهنه ولم تغب عن باله يوماً. كان كلما تذكر تلك الصورة والفكرة يغادر الجامعة ويذهب مباشرةً إلى أرضه ويباشر في الحرث والغرس ومساعدة الحاجة تمام. كلما تذكر تلك اللحظة، كما وصفتها له الحاجة تمام، يشعر بالحزن على إنسان قد حزن عليه يوماً, ولم يشأ القدر أن يوقف عليه دمعه من الحزن والقهر إلى اليوم.

      وفجأة وفي غمار هذه اللحظة تفاجأ الجميع بقدوم أولا. لقد قررت "أولا" أن تأتي لوداع يوسف لأن قصته مع عائلته وأحمد أثرت بها إلى الدرجة التي جعلتها تعيشها تماماً. وكانت تلك الأيام الجميلة التي عاشتها مع عائلة أحمد خلال وجوده والمشاعر الخاصة تجاهه جعلها تشعر بأنها جزء من كل ما يحدث وخلق بينها وبين يوسف علاقة جميلة كباقي أهله.

-         يبدو أنك جاهز سيد يوسف؟

-         نعم

-         لقد أتيت لتوصيلك بنفسي إلى الجسر، فسيارتي واسعة وتستطيع استيعاب كل حقائبك

-         لا، قال يوسف ذلك متردداً أنا قد اتفقت مع سائق من البلدة لذلك.

-         أريد أن أوصلك وأنا مصرة على ذلك.

لم تنكر "أولا" بينها وبين نفسها بأن ما أصبح لأحمد بداخلها كفتاة كان عاملاً إضافياً أيضا لحب هذه العائلة وتأثرها بما حدث.

نظر يوسف إلى الحاجة تمام وشعر أنها تشعر بأن ما بنته في خمسين عاماً تلاشا أمام واقع أنها ليست أمه. لكن حبه الشديد لها الذي لا يقل عن حب إنسان لأمه الحقيقية جعله يركض إليها ويضمها ويقبل يديها ويصر على تقبيلهما بشدة وقوة وكأنه يقول لها، أنت أمي وقلبي وحبي فتقبيل الأيدي بهذا الشكل الصادق لا يكون لأي إنسان ألا إذا كان أما أو أباً.

بادلته الحب والضم في تلك اللحظة وبقوة وبعزة عرفت بها تماسكت وقالت:

-الله يرضى عليك هيا حتى لا يغلق الجسر، قالت ذلك وبهذه القوة تحت الشعور بأن من يقبل يدها بهذا الحنان لا بد من أن يكون أبنها الحقيقي، الذي سوف يغيب لفترة ويعود، وبأن هؤلاء الذين سيذهب إليهم هم أيضاً من الأحبة ويكفيهم ما ذاقوه من العذاب. فيوسف الآن ليس فقط شخص أنما فلسطين كلها.   

تحركت السيارة وبدأت تشق طريقها باتجاه جسر الملك حسين. بدأ يمر بالمناطق التي مر بها أخوه "أحمد" عندما جاء إلى الجسر، ولكن من الجهة الأخرى؟ شعر بأنه يرى الأشياء بطريقة أخرى

-"أولا"

-نعم سيد يوسف؟ كان عمر يوسف وهيبته تفرض عليها استخدام كلمة سيد.

        شعر بأنها ربما تكون المرة الأخيرة التي سوف يسمع بها هذا الاسم بهذه الطريقة؛ يوسف دون أبي يوسف وأم يوسف. شعر بأن هذه الحدود لا تقسم المنطقة فقط جغرافياً بقدر ما تقسمها اسمياً. ٳن الفرق بين الأسماء التي هي هنا في هذا الجانب من الحدود والأسماء التي في الجانب الآخر منه تجسد تماماً الفرق الذهني والثقافي. تقسمهما

- صدقيني بقدر ما ظهرت حقيقة أنني أخو "أحمد" وأنهم لي، هي أيضاً حقيقة أنني والأرض التي وجدوني عليها لهم! تخيلي أن هذه الأرض التي نمر عليها الآن كان يجب أن أمر عليها قبل خمسين سنة أنا والحاجة تمام، ولكن بشكل آخر! تخيلي أنه مر عليها أناس كان يجب أن أكون معهم. أناس ربما أمضوا وقتهم ينظرون إلى الوراء وهم مضطرون للسير إلى الإمام، الذي هو سير للخلف بالشكل الذي كان عليه، لأنهم لا يريدون مغادرة الأرض والأيام التي ستصبح مجرد ذكريات. لا يمكن أن يكون سيرا إلى الإمام إلا بمعناه الجغرافي! لكنه لا يمكن أن يكون إلا سيراً للخلف ذلك الذي يؤدي بالإنسان للبعد عن أشيائه وأملاكه ومسيرته الطبيعية وتحويله من غني سعيد مستقر في أرضه إلى لاجيء بائس مشرد. تخيلي لو كنت هاجرت معهم قبل خمسين عاماً لكان علي أن أثبت أنني كنت هنا  ،أنني من هنا وأنني أعرف الهواء والسماء والبحر وكل الأشياء التي هي هنا حتى يصبح لي الحق في أن أكون هنا ثانيةً! تخيلي أن هذه الأرض، التي نمر عليها الآن، مر عليها أناس قبل خمسين عاماً ولم يستطيعوا أن يمروا عليها ثانيةً رجوعاً فقط لأن سكان هذا الكيان لا يريدون! بأي حق لا يريدون؟ تخيلي أناساً كثيرين منهم دخلوا حيث كان هؤلاء، من الجهة الثانية-من البحر- أو من الثالثة -من السماء-  لم يصلوا بعد إلى هذه الأرض التي نمر عليها الآن ولا يعرفون شيئا عنها فقط لأنهم يريدون أرضاً. لكن هؤلاء الذين كانوا فعلاً هنا لا يريدون أرضاً فقط وإنما حقاً وذكرى وفرحاً حصل بالفعل ما زالوا يتمنون أن يروا مكانه، وحزناً حقيقياً ما زالت أثر دموعه تحوم في المكان حصل أيضاً بالفعل. هؤلاء لم يدخلوا- فقط خرجوا-فقد كانوا هنا دون دخول. هم نبتوا في المكان، تماماً كما نبتت شجرات الكرمل. أنا لم أدخل، الم تجدني الحاجة تمام هنا؟! أعرف انك تعرفين ذلك فأنت عربية مثلي فرض عليك القدر أن تعيشي غريبة في وطنك. كل هؤلاء تنطبق عليهم حالتي. كلهم نبتوا هنا وتم اقتلاعهم ورميهم بعيداً؟ يا "أولا" أنا فقط أصبحت صورة مصغرة لحقيقة كبيرة تنطبق على ملايين ممن كانوا هنا. بوضوح حقيقة أنني "يوسف" الذي وجد في لحف المغر التي تقع في طيرة "حيفا" التي تقع قرب البحر ويحيط بها الكرمل والشلالة والقرانيف والقطعة وساحة المنزول والسياح والقف وفرش الزلاقة وبير بثينة ووادي ابو الجاع والعين، كان هؤلاء موجودين. تخيلي أن أحمد يعرف كل هذه الأسماء وتفاصيلها مع أنه لم يلد هنا بينما الذين اغتصبوا وطننا لا يرونها إلا ككتلة واحدة متشابه دون معرفة بتفاصيلها وتفاصيل أسمائها، أو حتى فيما إذا كان لها أسماء! تخيلي أن أحمد طلب مني أن أريه هذه المناطق الذي بدوره عرفها من والده الذي هو أبي. إن هذه المعرفة التي تختزن في ذاكرة والد "أحمد"، ورسمها ل"أحمد" على ورقة، ووجد "أحمد" بأن ما هو موجود على الورقة ينطبق تماماً على الأرض يجعل الأعمى يرى بأن الناس الذين يعيشون هنا هم أكبر وأطول كذبة في التاريخ. صدقيني هذا هو إحساسي كإنسان وليس له علاقة بكينونتي "يوسف" الذي يعيشونه غريباً في وطنه. حتى تلك المغر التي لا يرونها إلا مغراً صامته لا معنى لها، رآها "أحمد" بطريقة ثانية. رآها قصة. أحياناً محزنة وأحياناً مفرحة. ولكل مغارة من هذه المغر هوية، واسم اشتق من قصة حدثت قرب هذه المغارة أو تلك.

                                                           15

على الطرف الآخر كان "أحمد" في استقبال "يوسف". وما هي إلا لحظات وإذ به يشاهد "أحمد" من بعيد. توقف قليلاً وبدا النظر إلى أخيه كأنه يستشرف ما ينتظره من أحداث. أحس بخوف من شيء جديد قادم. خوف من المجهول الذي هو في الواقع أكثر شيء حقيقي وواقعي!مواجهة الواقع شيء ندخل إليه بشجاعة انعدام البديل عن المواجهة. تقدم نحوه ولم يبق في فكره إلا حب هذا الشاب النبيل الذي جاء للبحث عن الحاجة تمام على الرغم من تناقض ذلك مع قناعته  بأن الوطن لا يطرق بابه ويأخذ الأذن بالعودة إليه ممن يجب أن يحصل على إذنٍ للدخول إليه.

نظر إلى "يوسف" وقفز قلبه فرحاً عندما تذكر أن أباه وأمه سيريان بالفعل "يوسف" في هذا اليوم. تقدم باتجاهه وهو يشعر أن كل متر بينهما يطول ولا يقصر. وما هي إلا لحظات حتى كان الأثنان في نقطة واحدة. ضم أخيه بحرارة وكذلك فعل "يوسف". ذهب الأثنان إلى السيارة. نظر  إلى "أحمد" وبهدوء يرافقه ابتسامة خفيفة ورغبة شديدة بالمعرفة سأله:              

-أخبرتهم؟

نظر "أحمد" إله واثقاً وأجاب مبتسماً:

-سوف ترى سعادتهم. أمي تكاد تطير من الفرح. ومنذ يومين والأفراح في بيتنا. غناء ورقص وزغاريد. أتعرف الزغاريد؟ وهم فرحوا بأخبار الحاجة تمام. وبأنها ما تزال بصحة جيدة وعلى قيد الحياة. أجبني. هل تعرف الغاريد؟

-تقريباً

وما هي إلا لحظات حتى كانا قرب البيت. جمع من الأقارب وسكان المخيم كانوا ينتظرون. كان البيت قد زين من الأمام تماماً كما يفعلون عندما يكون هناك عائد من الحج.وفي لحظات كان "يوسف" بين جمع من الأهل والأقارب.نظر إلى "أحمد" وبكلمات انطلقت من العيون وليس من الفم سأل عن أمه. وفي تلك اللحظة كانت تتقدم امرأة تهمس وهي آتية "يوسف" "يوسف"

-تلك المرأة هي أمنا

توقفت للحظة ونظرت إليه وكأنها تريد أن تتأكد بحدسها وأمومتها أن من هو أمامها فلذة كبدها "يوسف". ركزت نظرها على شعره وتفاصيل وجهه. عندها اندفعت نحوه وهي تصيح "يوسف" ابني. ضمته بقوة كأنها تريد أن تختزل فراق خمسين عاماً. شعرت بأنها تضم ذلك الطفل الذي غادرته منذ خمسين عاما وهو طفل رضيع. شعرت إن حليب صدرها يتحرك من جديد لطفلها الذي فقدت. أرخت لذلك يديها قليلاً خوفاً على جسده. عادت إلى ذهنها في تلك اللحظة صورة الجنود وهم يمنعونها من الوصول إليه باستهزاء. عادت تضمه بقوة خوفاً عليه وكأنها ترد لنفسها لهفتها. تحرك كل شيء في جسدها. عادت بلحظات أما لطفل. كان قبل خمسين عاماً ممددا وبقي كذلك، والآن وقف على رجليه للمرة الأولى. كانت تنظر بين الفينة والأخرى إلى وجهه ولا ترى غير وجه "يوسف" الطفل الذي انطبع بذهنها كما لم ينطبع شيء من قبل. "يوسف" الذي بانطباع وجهه في ذهنها انطبع به كل شيء في المكان حتى غدا والمكان شيئا واحدا. تلك المغر، وصوت العصافير التي أرعبها صوت الرصاص الآتي من جهة واحدة. ضمت كل شيء في تلك اللحظة الأرض والجبل والبحر وحتى الفضاء وغيوم المكان التي تجمعت يوم الفراق. وضعت يديها على فمه وكأنها تريد أن تمسح بقايا الحليب المتبقي مثلما اعتادت أن تفعل بعد إشباعه. ضمها "يوسف" وكان يحاول أن يكون ابناً احتراما لهذه العاطفة الأمومية الصادقة الغريبة المفاجئة. لكنه لم يقل أمي. تذكر بينما كانت تضمه أكثر ما تذكر "الحاجة تمام".لكنه بعد لحظات وتحت وقع هذا الصدق الغريب عاد طفلاً. غاب عن باله كل شيء إلا نفسه كطفل مفقود قد عاد للتو بعد أن وجده أهله وعمموا صفاته في كل الكون لأنه غير قادر على الكلام وعلى تعريف نفسه. استسلم للقدر وترك نفسه ليكون أبناً لهؤلاء الذين يصرون حتى بدموعهم على استعادته إلى حظيرتهم. عاد كالطفل الذي يفرح عندما يرى وجها مألوفا له بعد فترة تيه وضياع. أحب تلك المرأة في لحظات. أحب صدقها ووفاءها وشعر للمرة الأولى بسخافة ما يتعلمه الغاصبون في مدارسهم من أنهم العاشقون الوحيدون لصهيون ورهانهم أن الزمن كفيل بالنسيان. ومن بين الجموع خرج صوت "أبي يوسف". ذلك الصوت الرزين الذي اختنق منذ خمسين عاماً، والآن انطلق كما كان، صوته الجبلي عاد كذلك بعد أن كبته ضيق المكان. عاد كرملياً قوياً واضحاً.

-(خليلنا شوي يا أم "يوسف"(

-"يوسف" يا أبا "يوسف". "يوسف". وساد هذا الأسم وغطى المكان والزمان. هذا الأسم الذي لم ينقطع عن هذا البيت يوماً كما لم ينقطع اسم المكان عنه.هذا الاسم الذي كان يحوم بالمكان دون جسد والآن يلتحم به، وتلك الأسماء التي ما زالت تحوم بالمكان وتنتظر أن تلتحم به تفاءلت من جديد. وهي تشعر بأنها قريباً ويوماً ما سوف تلتحم بأجسادها من جديد،  وتعود كما عاد "يوسف". تلك الأسماء التي أبت إلا الهجرة معهم والبقاء بحقائبهم المعقودة إلى أن يعودوا وتعود معهم لينتشروا من جديد في أماكنهم الطبيعية. تلك الأسماء التي أبت أن تغطى بأسماء اصطناعية للدلالة على أجسادها وتضاريسها تماماً كما فعلوا ببيسان التي جعلوا منها بيت شان، و(الكرمل)الذي جعلوه (هاكرمل)،و(عكا)التي جعلوها (عكو)،فكانت عصيةً على ألسنتهم أسما. 

-حبيبي "يوسف". وقام بضمه وما زال يفعل ذلك حتى بدأت دموع الحرمان تنهمر من جديد لتكمل رحلة بدأتها قبل خمسين عاماً،ولتسير بين تجاعيد وجه اشتد من جديد. في تلك اللحظة لم تطغ على فكره صورة كما طغت صورة وجه "الشوكانية"، الداية، وهي تبتسم وهي تفتح باب الغرفة،  لتبشره أن الله رزقه طفلا. كان ابنه الأول. تذكر في تلك اللحظة وقوفه على تلك التلة قرب بيته يرمي الحلوى على الأطفال وهو يبتسم. شعر بأنه الآن يحتفل ثانية بتلك المناسبة بعد أن جمدها هؤلاء. شعر بأن الزغاريد التي يسمعها الآن هي تلك التي سمعها وهو يسمعها ثانية لتبشر باستمرار ميلاده. لم ير إلا "يوسف" الصغير. كلمه كأنه صغير، قبله كأنه الطفل الذي رآه لأخر مرة قبل قليل، قبل أن يذهب إلى "حيفا" لشراء فتيلة سراج كان يعلم أنه سيحتاجها بسبب الحرب عند اضطرارهم للبقاء بالمغر وإخفاء "يوسف". كلم "يوسف" حتى بلهجة الأطفال والدموع تنهمر من عينيه وهي تعوض حزن السنين. كانت لحظة سعيدة قاسية غريبة لم يستطع أن يشعر بها، إلا أنه في حلم أو لحظة خارج الزمان أو شيء يصعب تفسيره. أغمض عينيه وهو يضمه وتخيل في تلك اللحظة أنه لن يرى إلا "الطيرة" عندما يفتحها ثانية. شعر "يوسف" بأنه يحب هذا الشخص وأنه لا يمكن أن يكون إلا قريبا. شعر بأنه لا يستطيع التنكر لكل ما أحيط به من حب ودفء وصدق لم يشعر بمثله في حياته.

       وراء هذه الجموع وقفت أخوات يوسف: مريم وآمنه وتغريد. كن ينظرن إليه بكل حب وشوق ولوعة. لوعة ومحبة انتقلت إليهن عبر القصص المستمرة التي كن يسمعنها من أمهن عن يوسف. بهذه القصص وهذه المحبة التي استقرت في أحشائهم زمناً طويلاً، ركضن نحو يوسف دون أي تردد أو اعتبار لوجود أناس آخرين من سكان المخيم حولهم. كانت تغريد الأجرأ بحكم العمر والمعرفة المسبقة بيوسف. فهي أخته الكبرى التي ما زالت تتذكره، وعاشت معه ستة شهور. أخته الكبرى التي ما زالت تتذكره ولا يغيب عن بالها. تكلمت معه كأنها أمضت الخمسين عاماً بقربه ومعه.

-يوسف أنا تغريد. قالتها كأنها تستصرخ بداخله تلك اللحظات الجميلة التي كانت بها تحمله وتناجيه. صرخت بقوة اسمها له كأنها تريد لهذا الصوت أن يخترق صمتاً وفراقاً استمر خمسين عاماً.

-أنا تغريد يا يوسف، رددتها ثانية وكأنها تقول له عليك أن تتذكرني، أنا التي لم تنسك. كأنها تريد أن تقول أنها ليست المرة الأولى التي نجتمع بها، فقد اجتمعنا هناك. في هذه اللحظة وبقوة هذه الذكريات هجمت على أخيها يوسف ومن حولها مريم وآمنةً.

-وأنا مريم وهذه آمنةً أختك أيضا. قالت ذلك وهي تبكي فرحاً وأبوهم وأمهم ينظرون إليهما بكل فرح وتأثر.  

دخل الجمع إلى البيت وجلس "يوسف" بينهم حائرا مما يحصل، سعيدا وحزينا، وأحياناً يتصرف كأنه في حلم أو شيء من أشياء خارج الواقع.

-أهلاً "يوسف". شرفتنا جميعاً

-أهلاً يا "أحمد"

-أتمنى أن تكون سعيدا

-طبعاً سعيد

-(يمّا أخوك بشبه أبوك مش هيك)

-هذا أول شيء لاحظته وأنا هناك.

-(طبعاً مش أنا أبوه؟)

نظر إلى أبيه ولاحظ الشبه الشديد بينهما. شعر بأن هذا الشيء يقربه منه ويساعده على الاقتراب أكثر. استمر أقاربi بالقدوم. وعند قدوم كل شخص كان على "أحمد" تعريفه وتقديمه. كان يحس بأن "أحمد" هو الأقرب له وأنه من خلاله كان يحاول الاقتراب من كل شيء جديد. هذا الجديد الذي لا يستطيع رفضه رغم قسوته . لكنه الحقيقة التي لا بد من احترامها وحتى تعليم الذات حبها إذا ما كنا معنيين بالانسجام مع الذات واحترام إنسانيتنا.

وبعد أن فرحوا وغنوا وضحكوا وبكوا جاء المساء وبدأ الضيوف بالمغادرة. وبقي في البيت أبو "يوسف" وأم "يوسف" و"يوسف" و"أحمد" ، وبقي أخوته وإخوانه "عمر" و"إبراهيم" و"حسين" و"عبد السلام" و"ديما" و"نور" و"سارة"     

-ﺇذاً أنتم تعيشون هنا!

-نعم. نحن منذ فارقناك نعيش هنا، قال "أحمد" ذلك وهو يبتسم

-لكن السكن يتكون من غرفتين فقط

-نعم. لكن لا تقل سكنا. هذه وحدة سكنية. بمعنى أن لكل عائلة وحدة سكنية للعيش بها إلى حين العودة.

-أنتم تعيشون هنا منذ خمسين عاماً وعددكم عشرة؟

نعم. عشنا هنا وعددنا أربعة وبقينا هنا عندما أصبحنا خمسة حتى وصلنا عشرة. لذلك حتى لو أصبح عددنا مئة لنا فقط وحدة واحدة. فالمخيم له حيز مكاني واحد لا يتجاوز الستة وتسعين متراً مربعاً ولا يمكن توسيعه. فوكالة الغوث أعطتنا وحدة سكنية قبل خمسين عاماً. درسوا وضعنا كأربعة وكرمت علينا بتلك الوحدة التي هي غرفتان. حتى إن فكرة الوحدة السكنية التصقت بالأماكن التي نقيم بها وأصبحت اسم مكان. لذلك هناك مخيم اسمه الوحدات. هذا الاسم الذي اشتق من فكرة الوحدة السكنية كونه يتألف من وحدات سكنية. حتى لو أقيمت به الدكاكين والطوابق ما زال اسمه وحدات لأن ملامح الوحدة وفكرتها وأسباب وجودها ما زالت تسود المكان.

 -لكن كيف تنامون؟ سأل وهو ينظر إلى السقف وهو يتخيله آيلاً للسقوط في أية لحظة.

-اعتدنا! اعتدنا هذا الوضع. علينا أن نتكيف! قالها وهو يبتسم ويضع يده على كتف "يوسف"

لكن لا تخف. سوف نوفر لك أجمل جو للنوم.

-لا، أرجوك دعني أنام كما تفعلون ولا تجعلني أشعر بأنني مميز عنكم.

ونام وعندما أتى الصباح لم يمارس روتينه المعتاد. شعر بأن فكرة الحمام اليومي تحتاج إلى مشروع كامل من تسخين الماء ونقله إلى الحمام وتبريده وﺇخلاء الممرات حتى يصل إلى الحمام.  لم يدر بخلد "يوسف" أنه سوف يمر بكل هذه التجربة، تلك التجربة التي يمر بها أهله وسكان المخيم كل يوم منذ خمسين عاماً. اعتاد هناك- كما يفعلون جميعاً- أخذ الشور (الحمام) اليومي فالماء متوفر والمكان فسيح إذ ﺇنه يخلو من أصحابه الأصليين الذين هم الآن هنا محاصرون بهذه الوحدة التي تخلو من النوافذ،  فكل وحدتين تشتركان بالحائط، لأن المكان ضيق ولا يتسع  لعدد معين من الوحدات السكنية في الوقت الذي يقطنه مئات الألوف من الأشخاص.

-(صباح الخير يما)

-صباح النور. وبعد توقف أكمل كلمة (ماما) بعد تردد على شفتيه.صباح النور (ماما). تفاجأ بأمه قرب رأسه عندما استيقظ من النوم. كانت سعيدة وحنونة، لكن طبيعتها الخجولة كانت واضحة كما لم تكن من قبل. كان شيئاً غريباً محيراً أن تشعر بالخجل من الابن الذي أنجبت، من قسوة الواقع وضيق البيت والمكان.

-إن أمي تقف عند رأسك منذ الخامسة صباحاً. مرت ساعتان وهي قرب رأسك، تنظر إليك ولا تريد مفارقتك

-اسأل أخاك يا "أحمد"-قالت ذلك بهمس- (نام كويس). كان ما زال ثمّة خجل في العلاقة تشعر به أم "يوسف" تجاه "يوسف". عندما كانت تسود مثل هذه الفكرة كانت تهرب إلى صورة الطفل الذي أرضعته وكان لا يتقبل مخلوقاً مثلما كانت تتقبله.وعندما تسود هذه الفكرة كانت تتشجع وتتكلم  وتشعر بأن من حقها أن تحبه وتضمه وتحدق بوجهه كيفما شاءت حتى لو لم تكن استجابته تشجعها على ذلك. لقد ران عله الهدوء والميل إلى عدم التحدث والاكتفاء بالابتسامة وإشعار الآخر أكثر ما يمكن أنه سعيد.

-(كيف كانت النومة)

- جيد جدا

-(إذاً غسل وجهك ودعنا نشرب الشاي من يدي أمك)

-حسناً

وبدأوا بشرب الشاي. صمت "يوسف" قليلاً وبدأ يحدق بالكاسات. لاحظ أن أشكالها كانت مختلفة. فكل واحدة منها كانت من طقم مختلف قديم تكسرت معظم كاساته.  استعاد بخياله  تلك الكاسات الثمينة التي كانت تحتفظ بها "ليديا"،أحدى زميلات عمله، والتي أخبرته يوماً أنها وجدتها في البيت الذي استملكته بعد خروج الفلسطينيين منه بعد الحرب. البيت الذي عرف فيما بعد أنه لعائلة طيراوية ذبح معظم ابنائها بأيدي هؤلاء الذين يشربون في كؤوسهم. تلك الكؤوس التي تدل على عز وراحة بال مثلما تدل هذه الكؤوس على بؤس وفقر وضيق وإحباط. لاحظت أم "يوسف" أن "يوسف" يحدق بالكؤوس ويدقق بأشكالها. شعرت بالحرج فمالت إلى زوجها، وهمست

-(مش قولتلك اشتري طقم كاسات جديد!)

-(ما كان معي يا أم "يوسف")

-(كان ما في داعي تشتري تفاح، واشتريت كاسات.)   

                                                                  16

في "حيفا" كانت صورة "أحمد" و"يوسف" لا تغيب عن بال "أولا" سارت في حديقتها وهي تتذكر "يوسف". تذكرت تلك الأيام الجميلة القليلة التي جمعتهما. شعرت أنها مشتاقة ل"أحمد" ول"يوسف". "أحمد" هذا الذي أوجد في قلبها شيئاً اعتقدت أنه لا وجود له في الحياة. تذكرت حياته وكلماته ولغته التي تأتي من عالم كان مجهولاً لها. تمنت لو سمحت له التكلم بالعربية حتى مع أنها لا تتقنها كما يجب. كيف يمكن أن يقول "أحمد" كلمة أحبك بالعربية. صحيح أن إنجليزيته أدهشتني، لكنني دهشت مما قال . الحقيقة  التي لا يمكن أن أخفيها هي إنني رأيت نفسي أمامه فتاة أكثر من كوني أي شيء آخر. هل من الممكن أن يكون في الحياة عوائق تمنع شيئاً طبيعيا وصحيحاً.

                                                                 17

في ذلك اليوم جلس "أحمد" في فراشه وأخذته أفكاره إلى "حيفا" والبحر و"أولا". تنهد وقال لنفسه:

فلسطين وطن جميل، البحر والميناء والنهر. هذا الزمن قاس،وغابته أبشع غابة عرفها التاريخ، إذ لا يمتعنا إلتهام الفريسة بقدر ما يمتعنا معرفتها بأنها التهمت ومعرفة ذويها بذلك. على الأقل الفريسة تلتهم دون سابق إنذار.

على الأقل لا يوجد موت. القسوة مقابلها البساطة والحرية وعدم التعقيد. في الغابة لا يوجد أشياء كالهزيمة والحرب. في الغابة حب وحياة وموت، لا شيء آخر. أجمل شيء أن التطور يفسد ما بداخلنا ولا يمس جذور إنسانيتنا. يجب أن نبقي في داخلنا غابة وربيعاً بريئاً من صنع الطبيعة. دعونا نعيش دون "المكياج" الذي يشكله الشيطان فينا.

      

                                            17

في اليوم التالي من وصول "يوسف" قام عمهم  الحج (سراج) بدعوتهم للغداء.

بعد قليل جاء ﺇخوته الآخرون. أصبحت الغرفة تضيق بالحضور.  والغرفة الأخرى ضاقت بالضيوف أيضاً إذ استخدمت من قبل النساء للجلوس والطبخ ذلك لأن المطبخ لا يستوعب إلا قدر طعام واحد وشخصا واحداً بجواره. لاحظ "أحمد" حيرة "يوسف" من ضيق المكان ورائحة الطبخ لأن قدور الطبخ كانت قريبة جداً.

إذاً هذا هو عمي سراج صاحب البيت الذي جعل منه مخفراً؟ وبلا شعور، وجه كلامه لعمه الحاج سراج.

-عمي بيتك جميل!

-آه يبدو أن "يوسف" صاحب نكتة مثل أخيه حسين؟هذا ليس بيتاً يا ابن أخي. هذه وحدة سكنية تعطى للفقراء والمشردين؟

-لا لا يا عمي. أنا أقصد بيتك في "الطيرة".

-آه بيتي. الكلام لا يفيد يا ابن أخي. بيتي الآن بعيد. وقد سمعت أنهم حولوه إلى مخفر؟

-نعم نعم. إنه مناسب لذلك. فهو كبير كما تعلم ومطل على البحر.

-وبيتي هذا مطل على الماء، الم تر قنوات المجاري المكشوفة وأنت قادم إلى هنا؟

-ضحك الجميع وبادر "أحمد" قائلاً

-يبدو أنك أنت يا عمي صاحب نكتة مثل حسين.

-أحياناً يجب أن نكون كذلك! اسمع يا ابني، أنا لم أر الرجال تبكي كما رأيتهم يبكون بعد النكبة. هؤلاء الرجال الذين لم تنقصهم رجولة ﺇنما نقصهم العتاد. العتاد كان ممنوعا عليهم وكان الحكم على أي شخص يحمل ولو سكينا سنة سجن، إذا لم يكن أكثر، في الوقت الذي كان تدريب "الهاجانا" و"شتيرن"، الذين شكلوا نواة الجيش الصهيوني فيما بعد، يقوم على قدم وساق في معسكرات "الٳنجليز". هؤلاء "الٳنجليز" الذين كانوا يجمعون سيارات العرب في تلك الفترة لاستخدامها مقابل أجر زهيد بحجة نقص عدد السيارات لديهم ولا سيما الشاحنات بسبب ظروف حربهم القاسية مع الألمان. هؤلاء "الٳنجليز" الذين كانوا وللأسف يعطون بعضا من هذه الشاحنات إلى الصهاينة لنقل العتاد الحربي المهدى إليهم من قبلهم إلى المستعمرات التي كانوا يقيمونها لهم بعتمة الليالي. كانوا يستخدمون سياراتنا لنقل الأسلحة التي صممت لقتلنا. وفي يوم من الأيام رأيت سيارة رجل يقال له أبو المقاثي- بسبب كثرة المقاثي لديه، كان الٳنجليز قد صادروها منه، تحمل أسلحة ومتجهة إلى المستعمرة الصهيونية "أخوزة صموئيل" القريبة من "الطيرة". وعندما أخبرته بذلك لم يستطع الاحتمال، وذهب إلى "حيفا" محاولا أن يستعيد سيارته. لكننا ومنذ ذلك اليوم لم نره ثانيةً. فقد قتل الرجل لأن مبدأ أن تراجع وتجرؤ على مخالفة قرار كان يعتبر خطاً أحمرَ يمنع تجاوزه. وبعد أيام قاموا بدفنه قرب مغارة أسميناها فيما بعد مغارة أبو المقاثي. لكن وللأسف ٳن بعض "الٳنجليز" أحسوا بالندم والذنب ولكن بعد فوات الأوان.

مثلاً تتذكرون ماذا كان يتكلم انس ابن عمكم وهو في بريطانيا."انس"، يا عمي يا "يوسف"، كان طالباً متفوقاً. لذلك كان الأول في الثانوية العامة والأول في الجامعة على الرغم من الظروف القاسية التي كان يدرس فيها هنا في المخيم. وقد حصل على بعثة لدراسة الهندسة في بريطانيا.

يذكر أنس أنه في يوم من الأيام في أول أيام وصوله إلى بريطانيا وبينما كان يحاول إيجاد مدرسة قريبة من منزله الجديد لابنته الطفلة سجى، التقى برجل إنجليزي كبير السن يتجاوز الثمانين. سأله البريطاني عن اسمه فأجابه أنس. ولغرابة الاسم سأله عن موطنه. فأجابه أنه من "حيفا". وبعد ذلك تفاجأ أن ذلك البريطاني يعرف "حيفا" جيداً إذ أنه كان قد خدم في "حيفا" جندياً عندما كان في العشرين من عمره. فأخبره الجندي أنه عمل في بلادنا وأنه شاهد بأم عينيه كيف كان يدخل اليهود إلى بلادنا بطريقة غير شرعية وتحت حماية بنادقهم. ولذلك قام بضم أنس وبحرارة غريبة. بعد ذلك نظر أنس إلى عينيه فوجدهما تمتلئان بالدموع. وأصر ذلك الجندي على دعوته في اليوم التالي. وعندما ذهب تفاجأ بأن أحفاد ذلك الرجل الرائع كانوا  يعرفون فلسطين وخاصةً "حيفا" ويتعاطفون مع قضيتها. وشعر بالحزن والفرح عندما سمع من أحفاد هذا البريطاني بأنه كان يقول على الدوام بأن بنادقهم التي كانوا يرفعونها لتغطية دخول هؤلاء بطريقة غير شرعية كانت يجب أن ترفع لمنع أي مخلوق من اخراج هؤلاء الفلسطينيين من بلادهم بالقوة وبطريقة غير شرعية. لذلك كان دائماً يقول ٳن تلك هي المبادئ التي تعلمها في المعسكر الذي تدرب فيه في ليدز، المدينة البريطانية المعروفة، قبل أن يتوجهوا إلى الشرق الأوسط. كان على الدوام يشعر أن ما فعلوه في فلسطين يتناقض مع تلك المبادئ. لكنهم كانوا جنودا لا يستطيعون فعل شيء غير تنفيذ الأوامر التي تناقضت في كل الأوقات مع إنسانيتهم التي لم يكونوا قادرين على ممارستها والآن يمارسها على نحو رائع هذا الإنسان الكبير. وبعد ذلك قرر ذلك الٳنجليزي أن يؤجر ٳحدى مساكنه "لأنس". فسكن قرب ذلك البريطاني الذي كان اسمه "ستيف". وكانت المفاجأة الكبرى أن "ستيف" لم يقبل أي ٳيجار من أنس الذي سكن بشقته أكثر من سنة. وقد بكيت كثيرا ًعندما حدثني "أنس" عن قصة مثيرة أكثر تتعلق براهبة بريطانية كرست حياتها هي وأخت لها لجمع تبرعات لفقراء فلسطين بعد أن رأتا معاناتهم في مخيمات اللاجئين المقامة بالضفة الغربية. فأخبرني أنس أنه وبينما كان يقوم بتصوير بعض الأوراق في جامعته قابل رجلا ٳنجليزيا يعمل بالجامعة بشكل مؤقت. وعندما عرف أنه من فلسطين أخبره بقصة الراهبة وحبها وتعاطفها مع الفلسطينيين. وبعد يومين رتب موعدا له لمقابلتها في القرية التي كانت تسكن فيها والواقعة قريبة من "نيوكاسل". وعندما قابلته أخبرته أنها ذهبت لزيارة الأراضي المقدسة هي ووفد سياحي يتألف من ثلاثين سائحا. كان معظم أعضاء الوفد يحمل وجهة نظر خاطئة عن الصراع الموجود في المنطقة. وبعد الزيارة أصبح معظم أعضاء الوفد يتعاطفون بشكل استثنائي مع معاناة الفلسطينين في مخيماتهم بعد أن رأوا الظلم الواقع عليهم.    

كان يستمع "يوسف" ويستغرب مما يسمع. لأول مرة يسمع الأشياء من الجهة المقابلة.

        نظر "يوسف" إلى عمه وشعر بأن كلام هذا الرجل يخبئ ألماً مدفوناً تنكر له حتى مسببوه وشعوراً بالأمل يبعثه بداخل نفسه من خلال قصص كتلك التي رواها أنس، عن أناس بدؤوا يحسون بجرحه وألمه ويتعاطفون مع أوجاعه. قد لا تعيد صحوة الضمير هذه شيئا مما فقد وربما لا تستطيع  إيقاف قسوة الحياة التي وضعوه فيها منذ خمسين عاماً إلا أنها بالتأكيد تعكس بداية الأمل من أن الحقيقة بدأت تسود. هو الشعور بالظلم الذي يسبب مثل هذا اليأس وأقسى أنواعه هو عدم اكتفاء الظالم بظلمك والهروب، بل إصراره أيضاً على قلب الحقائق، وإظهار ذاته على أنه المظلوم والمظلوم بامتياز على أنه الظالم.

                                                     18

        في اليوم الثالث كان أبو "أحمد" يقيم وليمة كبيرة لأقاربه من أجل "يوسف" وليعرفه على أقاربه وخاصةً الصغار. عند الظهيرة بدأ الأقارب يتوافدون إلى المنزل. بدأ الكل يتحدث مع "يوسف" بسعادة وهو كذلك. بدأ الحديث ابن خال له يقال له الطريش بسبب كثرة الأغنام التي كان يملكها في "الطيرة".- فقد كانوا يطلقون كلمة طرش على الأغنام أيضا:ً

-         حدثني يا "يوسف" عن "وادي العين" و "وادي أبو الجاع". لقد كانا المكانين المفضلين لي لرعي أغنامي. فقد كانا دائمي الخضرة طيلة السنة. بسبب قربهم من الماء. تذكر يا أبا "يوسف" نبع وادي العين؟ مع أنك كنت تفضل المحرقة القريبة من مغارة التشتش لرعي أغنامك حتى لما كان عندك فقط منوحة ليس أكثر.

-         طبعاً أتذكر. (حدثنا يابا يا "يوسف"). الناس هنا متعطشة لسماع أي شيء.

-         وادي العين ما زال بخير. لكن هناك أكثر من وادي في "الطيرة". أي واحد تقصدون في "أبو الجاع"؟

- "أبو الجاع" هو الوادي الذي يلتقي مع وادي العين في بداية السهول الجنوبية الغربية للطيرة.

-         نعم تذكرته. لكنني لم أصل ذلك المكان منذ سنة. فأنا مشغول في عملي.

في هذه اللحظة ذهب بعيداً فكر أبو راجح، الذي كان يجلس قرب الباب لضيق المكان، وهو زوج عمة "يوسف"، الذي غادر "الطيرة" وعمره عشرون عاماً، وبدأ يحدث نفسه، بحزنٍ واستغراب: إنسان لا يبعد إلا بضع أمتار عن "وادي أبو الجاع" ليس لديه وقت لزيارته؟! ونحن لنا خمسون عاماً نحلم فقط به وبعشبه وبأيامنا هناك.

وبدأ يمسح دموعه ويحاول جاهداً إخفاءها. لاحظ أبو "يوسف" ذلك. فتوقف عن الكلام ونظر إلى "يوسف" وقال:

-(يابا يا "يوسف"). هذا الرجل، قال ذلك وهو يشير إلى "أبو راجح"، كان يملك أراضي كثيرة في وادي "أبو الجاع" وأبوه كان يملك أكبر مزرعة في تلك المنطقة.

        أستمر الحديث عن البلاد بنفس الطريقة. كل يذكر ذكرياته مع المكان والزمان الذي أمضاه فيه. هذا أبو علي يتحدث بالتفصيل عن مسحب النمل، وهذا أبو سالم يتذكر الشلالة  والقعاقير الكثيرة التي كان يقيمها في المكان، وهذا أبو العبد يتذكر بلقه الذي لطالما استخدمه في طروم سليمان وكيف أنه لم يكن يتردد في اعارته لكل من كان يحتاج إليه. 

شعر "يوسف" بحيرة كبيرة مما يسمع. كيف لم يكن يعلم بكل ذلك. لأول مرة يشعر ويعي معنى لاجئين. هؤلاء كانوا فعلاً هناك ويعلمون عن المكان ما لم يعلمه المحتلون في حياتهم. ذكر الأسماء المتكرر لمناطق المكان أشعره كيف أن أهله جزءاً لا يتجزأ من المكان. كل شيء قالوه كان صحيحاً ودقيقاً. شعر بأنهم فعلاً طيراويون وحيفاويون. كيف من الممكن أن نحرم إنسانا من مكان يحمل اسمه؟! من مكانٍ يبكيه ذكر اسمه؟! وفي لحظة مفاجأة قام من مكانه على الكرسي، إذ لم يكن متعودا الجلوس على الأرض، وتعمد الجلوس بين الضيوف على الأرض متلاصقاً معهم. مد يديه وبسطهما فوق كتف أبي سالم الذي كان يجلس على يمينه وأبو العبد الذي كان يجلس على شماله. بدأ يبتسم لكل هؤلاء الذين أحبوه وجاءوا لرؤيته. طيبة لم يتخيل وجودها يوماً في الحياة.       

في المساء جلس "أحمد" و"يوسف" يتحدثان طويلاً:

-ما رأيك بكلام عمي يا "يوسف"؟

- لقد مررت بنفس تجربة هذا الرجل. لقد تم استعادة اسمي – "يوسف" بمحتواه الحقيقي– بعد خمسين عاماً ولا بد إذاً أن يتم استعادة بيت عمي وبيوت أقاربي الأخرى ما دام هناك إرادة بالبحث كتلك التي ملكها أبي وأمي. لا بد أن يعود كل شيء كما كان.لكن يجب أن نتذكر أن بيت عمي الذي رفض أن يقلب مخفراً وتقلب الحقائق بذلك، لا يمانع في الوقت ذاته من مجاورة بيوت يكون فيها أناس بطيبة "عمير". الحب يجعل من النسيان مستحيلا ويجعل من العودة حلما ليس مستحيلا. الحب أيضاً لا يمكن أن يكون أعمى أو متعصباً ليرفض التفاهم والتصادق والتجاور مع أناس يعترفون بحقنا.

- ولكن قل لي كيف تفكر أنت وكيف تعتقد أن بيت عمنا سيعود؟

-سوف يبقى اسمي "أحمد" الطيراوي، وستبقى اسماء أحفادي كذلك، ومهما امتدت سلسلة أحفادي هذه قبل العودة سيبقى رأسها في اتجاه هذا المكان مهما كان اتجاه جسدها، وسوف تبقى هذه السلسلة تسير في اتجاه مستقيم إلى أن تعود إلى المركز الذي انطلقت منه وإلى أن نعاود الالتحام بالمكان ويصبح دفننا في أعالي الكرمل نتيجة واقع لا نتيجة وصية، ويبقى لون التراب في قبري واحدا حتى بعد أن يتحلل جسدي،ذلك لان تراب جسدي قد خلق من جينات هذا التراب، فاللون واحد.  فعندما تحدد الهدف يصبح تعبيد الطريق قضية وقت ليس أكثر. وإذا ما سار الإنسان في طريق مستقيم لا بد أن يعود إلى نقطة البداية التي هي النهاية. 

19

في اليوم التالي استيقظ  "أحمد" باكراً بعد أن أستلم رسالة وصلت إلى هاتفه الخلوي من "أولا" للالتقاء معها من خلال الإنترنت. أيقظ "يوسف" وأخبره بذلك. ضحك "يوسف" فرحاً وقال

-أرى أن "أولا" تذكرتك ولم تتذكرني

- لا، فقط أنا وهي تواعدنا أن نواصل الحديث من خلال الإنترنت

-سلّم عليها وسوف أتحدث معها أنا أيضا لاحقاً.

 كان ثمة شيء من المشاعر المتبادلة بين الاثنين تبادلاها عن طريق العيون دون الإفصاح بها، لأن الهدف الذي كان "أحمد" من أجله هناك كان شيئاً كبيراً لا يترك مجالاً للحديث بأي شيء آخر.

 كان الاثنان واعيين وناضجين إلى الدرجة التي استطاعا فيها أخفاء كل شيء وتأجيل الحديث عنه إلى الوقت المناسب. لذلك كان حديثهما بالإنترنت، تكملة لشيء بدأ الحديث به في العيون

في تلك اللحظة كانت "أولا" ما زالت في سريرها. كان بالنسبة إليها صباحاً جميلاً لأنها على موعدٍ للحديث مع "أحمد" على الإنترنت. كان الموعد في العاشرة صباحاً. تناولت فطورها على عجل وفي العاشرة صباحاً كان "أحمد" ينتظرها:

- لا أستطيع نسيان لطفك معي، وأشكرك ثانيةً على مجهودك معنا ونحن هناك. صدقي أنت لا تغيبين عن بالي

-         كيف "يوسف"؟ خبرني عنه أرجوك.

-         "يوسف" في أحسن وضع. وهو يرسل لك السلام. وهو بيننا سعيد وكأنه في أجمل حلم. وأمي سعيدة به. صدقيني إنني أشعر أنها عادت شابة من جديد

-         أنت يا "أحمد" رائع وثقافتك وخلقك وهدوؤك صور لا تغيب عن بالي

-         وأنت كذلك. لقد جعلتني أفكر بأشياء كثيرة من جديد. كانت تجربة ناجحة لضرورة التعامل مع الآخر على أنه ليس بالضرورة أن يكون شيئاً آخر

-         وأنت كنت رمزاً للصبر والإصرار اللذين لا يخرجان إلا عندما يكون الإنسان فعلاً على حق. إن حقيقة عودة "يوسف" لأهله وظهور هذه الحقيقة جعلني أحس بأن كل شيء هنا لا بد من أن يكون شيئا أخر. أحس بأن كل شيء هنا لا بد وراءه حقيقة ثانية، غير تلك التي نرى. أصبحت أخاف من كل شيء.

-لا يا "أولا". وبكل الأحوال "يوسف" عاد، وقد كان عند أمه الثانية، الحاجة تمام. نريد فقط الحقيقة، ولا نريد شيئا أخر.

-         هذه أخلاقك التي جعلتني لا أملك إلا احترامك والإعجاب بك. أنت فعلاً مدهش

-         وأنت إنسانة يا "أولا".

-         "أحمد"، هناك أشياء كثيرة أتمنى أن أحدثك بها. كنت أنوي أن أفعل ذلك وأنت هنا في "حيفا". لكن  ظروف لقائك  ب"يوسف" ووضعك النفسي ووضعه كانا أكبر من أن أستطيع الحديث في أي موضوع آخر. لكنه قراري أن أحدثك بكل شيء من أول لقاء بيننا في الانترنت. فهذه الأشياء تتطور في داخلي من أسابيع، وهي تختزن في أعماقي.

-         تكلمي يا "أولا"، فأنت أيضاً لك مكانة كبيرة عندي الآن. تحدثي كأنك تحدثين نفسك

-          لقد غيرت حياتي يا "أحمد"!  أنت الرجل الأول الذي استطاع تحريك مشاعري كما لم يستطع شاب في الحياة. إنه وعيك وثقافتك وخلقك.

صمتت للحظات، وكان لا بد أن تجهّز عباراتها بدقة فالخجل قد سيطر في تلك اللحظة. ومن ثم أكملت وكانت عباراتها متقطعة وخجلة

-          لقد رأيت في عينيك خلقاً ولطفاً لم أر مثلهما في أحد، ورأيت فكراً وعمقاً وذكاء لم أتخيل وجودهما بهذا الشكل المكتمل بأحد. لقد بهرتني. "أحمد"! أنا أحبك. كلمة لم أستطع قولها مباشرة وأنت هنا، لكنني أشعر الآن بقوة في قولها من وراء الشاشة.

تفاجأ بهذا الزخم من المشاعر والكلام. تفاجأ بوضوحه وثقة المتكلم به. شعر بقوة المتحدث به. أسعفه على استيعابه بسرعة، وجود المشاعر نفسها بداخله اتجاهها. لذلك شعر بفرح وأحس أن "أولا" اختصرت مسافات طويلة بينهما. زاد ذلك من مشاعره اتجاهها وشعر أنه مقتنع بذلك أكثر من أي وقت مضى

-         أنت أيضاً يا "أولا" مدهشة ورائعة، ولا أملك إلا أن أقول لك أنا أيضا أحبك.

شعرت "أولا" بسعادة لسماع تلك الكلمة. امتلأت عيناها بدموع الفرح لسماع تلك الكلمة.

-         أصبحت مسكونةً بحبك ولا أستطيع تخيل نفسي من دونك. ماذا فعلت بي. أنا فعلاً احبك ولا يهمني شيء إلا أنت. أنا مستعدة أن أفعل أي شيء من أجلك. كم أتمنى لقاءك

-         وأنت كذلك. صدقيني إنني معني أن نكون مع بعض ونعيش مع بعض

-         إذاً دعنا نلتقي ونمضي العمر معاً.

-         أنا على استعداد لفعل أي شيء من أجلك

-         وأنا مستعدة لأي شيء من أجلك

-         انك مدهش، وأسمع منك أشياء رائعة

-         وأنت أيضاً مدهشة، ولن أنسى لطفك في حياتي

- لم أقابل رجلا في حياتي بأخلاقك وثقافتك وعمقك

-لا يا "أولا". أنا إنسان عادي.

- أنا منذ مشاهدتي الأولى لك شعرت بأنني أقابل إنسانا استثنائياً. كل شيء فيك مدهش، لغتك، صوتك، ثقافتك.

-وأنا أيضاً رأيت فيك كل ذلك.

- أنا أحبك. أعرف أن ذلك يبدو غريباً وبتلك السرعة. لكنه الحب، شعرت به تجاهك منذ الجملة الأولى التي سمعتها منك.

-الحب يا "أولا" لا يعرف التوقيت. أنا أيضاً يا "أولا" ارتحت لأسلوبك ولطفك. لكن الحب بالنسبة لي مشروع وبداية أشياء لا نهايتها. وظروفنا تجعل من تلك حكاية يصعب اكتمالها. مع أنني على استعداد لفعل كل شيء من أجلك.

-أعرف هذا. وأنا كنت أستطيع إخفاء مشاعري أكثر من ذلك. لكن حقيقة أنك لست أمامي فعلاً أشعرتني بشجاعة أكبر في قول حقيقة إحساسي. شعرت أنني سوف أقول شيئا أحسه للمرة الأولى. لكن ردة فعلك وهدوئها وحكمتك يجعلني الآن أتعلق بك أكثر

-أنت رائعة أيضاً وصراحتك هذه تبهرني. تجعلني أرى الحياة أسهل وأكثر انفتاحا وأقل تعقيداً

-إذاً أنت تحب في شخصيتي ما تفقده بنفسك- الجرأة مثلاً وخاصةً فيما يتعلق بالتعبير عن المشاعر، ،وأنا أحب بك ما أفقده بنفسي –فلسفة الأمور وحتى الأدب. لقد أحببتك يا "أحمد". وأنا لا أرى شيئا غير هذا الحب. أحببت ثقافتك ووعيك وحتى صوتك وهدوءك

-وأنا يا "أولا" أحببت إنسانيتك وانتصارك لها على الرغم من قسوة الظروف.

- أنا لا أرى شيئا إلا أنت. يقولون أن لكل فتاة فارس أحلام. لا بد يوماً من أن تلتقي به. وأنا التقيت بك. كان دائماً هاجسي هذا الفارس، ولم أكن يوماً مهتماً لجنس أو لغة أو حتى دين هذا الشخص. في الحقيقة لم أفكر يوماً بهذا. كلما نظرت إليك أو سمعت حديثك لا أرى إلا هذه الحقيقة-إعجابي وتعلقي بك.

-لكن "يوسف" يقول إن الظروف المحيطة صعبة. ونحن لا بد لنا من الاختلاط في هذا المجتمع الذي سوف لا يرى بي إلا عربياً نشازاً ونقيضاً له في كل الأحوال لو عشت هناك. وأنا لست على استعداد لتبديل لوني أو حقيقتي أو حتى إخفاء حقيقة مشاعري سواء أكانت مشاعر فرح أو حزن.

-هل حدثت "يوسف" عني بشيء؟

-نعم. لكنه كان حديثاً عاماً. لم أقل له عن شيء من مشاعري بشكل مباشر. 

-أنا من أجلك مستعد أن أطير حيث تشاء. لن أسمح للمكان أن يحرمني منك. لقد حاولت مرات عدة مغادرة هذا المجتمع لأنني كنت أشعر أنهم كذبة كبيرة أقيمت على أنقاض حقيقة وأوجاع وآلام أناس شردوا عنوةً. وربما يكون هذا جزءاً من الأسباب التي زادت تعلقي بك.

-ماذا تقترحين إذاً؟

-أقترح أن نبقى مع بعض!

-         على كل حال نحن التقينا على المشاعر. وهذا هو الأساس لأي علاقة ناجحة. سوف نناقش كل الأمور وكل البدائل.

-         حسناً. وأنا سعيدة بسماع ذلك. أنتبه لنفسك فأنت الآن تعني لي الكثير

-          وأنت كذلك. أنت فعلاً جميلة

-         وأنت أروع شخص رأيته في حياتي

نظر إلى كلامها في الشاشة كأنه يراها وابتسم. وفعلت الشيء نفسه.

-         دعينا ننتهي الآن، عليّ لقاء "يوسف"

20

بعد أن أمضى "يوسف" تلك الأيام الجميلة بين أهله قرر أن يعود إلى "حيفا". فهناك بعض الالتزامات عليه من عمل ومواعيد وأشياء أخرى كثيرة. دخل أبو "يوسف" حيث يجلس ليتبادل معه الحديث بعد أن علم أن الرجعة إلى "حيفا" باتت قريبة

نظر إلى أبيه بمحبة وابتسم.

-          أنا فعلاً سعيد بينكم

أصبح الحوار الطبيعي بينهما يسود بسهولة. المحبة التي أحاط بها الأهل "يوسف" جعلت الحقيقة تفرض نفسها عليهم. هم بيت أبي "يوسف" وهو "يوسف" البكر. في هذه اللحظة دخلت أخته أمنه ومعها ابنتها دانا. نظرت أمنه إليه وقالت بصوت فرح

-كيفك يا أعز أخ. ثم نظرت إلى أبيها وقالت:

-يجب أن نحمد الله كل وقت. الذي جمعنا ثانية

نظر إليها وقال بحزن:

-لكنه مصرّ على العودة إلى "حيفا"

-لا يا أبي. أنا سأعود ولكن لن أتوقف عن زيارتكم. كذلك ستقومون أنتم بزيارتي والعودة يوماً ما. نظر إلى أمنه وأكمل حديثه، وستكونين يا أمنه أول شخص يزورني. فأبي وأمي لا يقبلان العودة الآن إلى هناك لأنهما يقولان أنهما لا يستطيعان تحمل رؤية أملاكهما بحوزة غيرهم. وأنا أتفهم مشاعرهما.

-أتمنى أن أزور بلادي. هذا حلمي الوحيد.

صمت وتمنى لو يعلم أبوه ما يدور برأسه ويعلم حقيقة الهدف الذي من أجله قرر العودة إلى "حيفا". لكنه لم يفضل الحديث تاركاً الأيام تتحدث.

بعد يومين كان يودع أهله. مشاعر الحزن والحرمان والحيرة والبعد اختلطت ثانيةً. لكن نظر إلى الجمع وقال قولا أرجع الابتسامة إلى وجه أمه وأبيه: أبي، أمي أنتما تعيشان ألان هنا، مشيراً إلى قلبه، وهناك حيث سأعود الآن، مشيراً إلى الغرب، ولن نفترق أبداً بعد أن التقينا. سأعود حتى أبقى جذركما هناك. وعندما أزوركما ثانية سأكون ورقاً أخضر وأغصان مبتسمة لشجرة جذرها هناك ولا تستطيع فراق الأرض التي بها نبتت.  أنتم هنا ورق وأغصان، كحالي، لأشجار جذورها هناك.  فأنتم هنا لكنكم هناك. فحق عودتكم يأتي من حيث أنكم لم تفارقوا أصلاً.

-أهتم بالحاجة تمام. والله لا يوجد أعز منها،قال ذلك وهو ينظر إلى أم يوسف التي اكتفت بهز رأسها لان الموقف أكبر من الحسابات الصغيرة التي لم يكن شيء اكبر منها يوماً.    

21

في الظهيرة وصل إلى بيتهم في الدالية. وما أن رأته الحاجة تمام من بعيد حتى صرخت دون أن تدري. "يوسف"، بدأت بالبكاء والعتاب بينما كانا يتعانقان.

-(أهلا يما). وبلهجة لا تخلو من العتب والاستهزاء معاً أكملت حديثها طبعاً إذا سمحت لي أن اسميك (يما).

-يا خالتي مكانك في أعماقي ولا يستطيع شيء ملامسته أو تغييره وغير قابل للتغير سواء كنت هنا ام هناك. قال ذلك وهو يبتسم لها ويضمها ويسندها على كتفه.

-أنا احبك أنت ولا يعنيني الاسم الذي تحمل.

قالت ذلك وهي تبادله العناق والمحبة.

-أنا أقول ذلك لأنني حزينة لفراقك. لقد افتقدتك وأنت في الأردن. أحيانا أحس أنني اكره هؤلاء الذين أخذوك وأحيانا اشعر أنه لا يحق لي وبأن عليَّ أن أحبهم بدلاً من ذلك. كيف لا وهم من منحوا يوسف الذي أحب، دفء العائلة وحقيقة من يكون.

في تلك اللحظة ضمها يوسف. وبعد أن جلسا طويلاً شعر أن عليه أن يقول شيئاً ما بغض النظر عن طبيعة الحديث الذي يدور.

-يا خالتي أرجوك افهمي. المشكلة الآن بالنسبة لي ليست أنني يوسف الذي أصبح بأم وأب جديدين. المشكلة أنني رأيت شيئاً يخفي ظلما ًتهتز له الجبال، إذا عرفته. تصوري يا خالتي  أن الرجل الذي يملك ذلك البيت الجميل الذي حول إلى مركز شرطة، يقبع الآن في بيت لا تستطيعين أنت حتى النظر إليه. تخيلي أن أبي الذي سكنت في بيته، لا بيت له. تخيلي أن سهول القمح التي كانت تحيط ببيته تحولت الآن إلى مجاري ومكاره صحية تحيط في تلك الغرفة التي أجبر على السكن فيها بعد تهجيره من موطنه. تخيلي أن من كان يملك وطناً وأرضاً تحول إلى إنسان بلا وطن أو أرض. أنا أحبك وأحبهم ولكن هم المظلومون أكثر. ونحن نعيش بين هؤلاء الظالمين. أنا كنت ظالماً عندما كنت لا أفكر بهم كل يوم. أنا أريد فقط التخلص من كوني كنت يوماً سلبياً. 

في اليوم التالي أستيقظ "يوسف" في غرفته الخاصة في بيته عند الحاجة تمام. نظر إلى سقف الغرفة  يساراً ويميناً وكأنه ينتظر أن يسمع صوتاً أعتاد أن يوقظه في الصباح الباكر كل يوم وهو هناك في بيت أبيه. إنه صوت بائعي الخضار الذين يأتون مبكرين لعرض خضرواتهم في سوق الخضار القريب من بيتهم في المخيم. هذا الصوت الذي لطالما أختلط بأصوات الحمير التي كانوا يأتون على ظهورها بخضرواتهم. أبتسم ووقف على رجليه. عندما أقترب من مغسلته الفاخرة توقف قليلاً وتذكر ذلك الإبريق الأحمر في حوش بيتهم وكيف كان يتراكض أخوته إليه في الصباح لسكب الماء على يديه لمساعدته على غسلهما. تذكر الماء الذي كان ينزل على "لجن" النحاس ورغوة الصابون والصابونة الموضوعة على "بلوكة". تذكر "الزريعة" في "تنكات" الحديد التي كانوا يحتفظون بها في الحوش وعلى أطراف الحائط لإضافة أي شيء أخضر لتلك الغرف البائسة التي يعيشون فيها. بدأ يغسل وجهه وبين الفينة والأخرى ينظر إلى المرآة. شعر بأن كل الوجوه التي كان يراها في المخيم تنظر إليه في تلك اللحظة . وكأنها تلومه على هذه المغسلة التي ما كانت لتكون لو لم يكن ثمنها هذا البؤس الذي يعيشون. لكنني "يوسف"، صرخ فجأةً، وأعيش بملكي، وبدأ بالبكاء وبصوت عالٍ. لم يشعر قط من قبل برغبة في الأقتراب من يوسف اللاجيء كما يشعر الآن. "يوسف" "يوسف" "يوسف"، أنا "يوسف" وأنا هنا حق في بحر من الباطل. أختلف عن كل من يملك مثل هذا البيت والمغسلة في هذا المكان. هذا حقي فأنا "حيفاوي". أنا أبو "يوسف" و"أحمد" وعمي سراج والحلبي والراشد ولا أسكن إلا في أشياء لأناس أنا منهم. أجهش بالبكاء ثانية، بكاء كان يحس برغبة فيه وهو هناك لكنه أنحبس بصدره. بكاء يغسل ما تبقى به من تعب الضمير والحزن لأنه يعيش ويملك بيوت هؤلاء الأحباء الذين لا يستطيعون الاقتراب منها. أنا "يوسف" سعيد "يوسف". اسمي لم يأتِ من فراغ؟ اسمي لم يأتِ صدفة.أسمي حلقة في سلسلة فصلها الظلم بالجغرافيا عنوةً وقسوةً. أسمي "يوسف" لأن هناك "يوسف" آخر عاش في المكان أشبهه ،أنا ابن ابنه! أنا كل شيء؟ هناك فقط "يوسف" دفنت وتشوهت حقيقته منذ اقتلاع التراب من التراب! عليّ أن أكون أنا وعليّ أن أتحمل مسؤولياتي تجاه حقيقة من أكون. عليً أن لا أكون مواطن يكفيه أنه لم يزل حياً وليس ممنوعاً من النوم في عقر داره. كيف أستطيع أن أهرب من أوجاع هؤلاء الطيبين؟ كيف أستطيع أن أهرب من بؤسهم وشدة قسوته؟!

     خرج من البيت مسرعاً وبدأ يسير في شوارع "حيفا" وكأنه يراها أول مرة. بدأ يراها  بطريقة جديدة وأكثر نقاءً. بدأ يفكر بهؤلاء الذين يأتون إلى هنا من مخيمات الضفة والقطاع للعمل كي يعيشوا، وأصولهم من هنا وليس لهم إلا إنهاء أعمالهم والعودة بنفس اليوم. فقط لهم القدوم هنا كعمال. هل على كل واحد يعيش هنا أن يتحول من إنسان إلى إنسان حتى يرى الألم الذي يعيش فيه هؤلاء وهم يعملون في مزارعهم التي ملكها آباؤهم وأجدادهم، كعمال في أرضهم؟ أنا واحد من هؤلاء العمال إلا أن قدري كان أن أترك لتجدني الحاجة تمام وتنقذني. كانت سياستي تجنب التفكير في الماضي والتاريخ والواقع والحقيقة لكي أستطيع العيش. أي عيش هذا الذي يشترط علي نسيان أناس مثل أبي وهؤلاء الذين يعيشون بعيدين عن وطنهم في المخيمات؟ كان علي القفز عن كل مراحل التاريخ. كيف يفكر هؤلاء العمال إذاً؟ وهل يدركون بأنني منهم وبأنني احترق حزناً عليهم؟ هل ينظرون إليً على أنني أصبحت شيئاً آخر؟ في أكثر الأحوال من عرب هذا المكان ليس أكثر وبأنني فعلاً أصبحت ليس منهم؟ لا أنا فلسطيني من حيفا وهم كذلك ولا يفصل بيننا غير الظرف الذي لا يعدو شيئاً وهمياً مؤقتاً. أنا الآن أعيش على الأمل بأن الحق لا بد أن يظهر ويدرك العالم أن أبا "يوسف" وأمثاله كانوا هنا ولا توجد قوة في الدنيا غير قوة الكذب،التي يسمونها إعلاماً، تستطيع أن تنكر ذلك.

    مرت الأيام وبقيت هذه الأفكار تسيطر على نفسه وحديثه. بدأ يفكر بالأخبار بشكل آخر. بدأ يسمعها بشكل أخر. بدأ يفكر بالسياسة ويشعر بأن عليه أن يفعل شيئاً لهؤلاء الذين ظلموا بهذا الشكل! كيف؟ أأساعدهم من خلال كوني هنا فقط وأمثل جزءاً من الجذر الذي بقي؟ أم أساعدهم من خلال كوني "يوسف"العربي؟ أحد عرب هذا المكان؟ ولماذا اختاروا هذا الاسم؟ عرب هذا المكان؟ ربما لأن اسم عربي يمكن أن يكون من أي مكان عربي آخر ومن ثم لا يشكل تناقضاً صريحاً مع كذبتهم؟ وربما يدل أنه دخل؟ لا لا. أنا فلسطيني أشتق اسمي من هذا المكان! المكان كالزمان لا يمكن تغييره! وهؤلاء البائسون يسموّنَ مخيماتهم مخيمات لاجئين فلسطينيين لأنهم أتوا من هنا.وأنا منهم لكن الزمن فرض النسيان بحكم عدالته حتى أبقى البذرة التي لا بد أن تنمو يوماً وتنتشر غصونها من جديد في كل مكان.  حتى أن بعضهم يسمى عكاوي وحيفاوي. إذاً لماذا علىّ أن أصبح شيئاً آخر إذا بقيت؟ أنا هنا من هذا المكان؛ من اسمه: أنا فلسطيني. بقوة هذا التناقض وإخفاء الحقائق الواضحة عليّ أن أكون أنا "يوسف" العربي بكل وضوح. فالظلم لا يمكن تسويغ قبوله من أي شخص مهما كانت جنسيته ومهما كان دينه. الظلم لا يمكن أن يكون شيئاً قابلاً لنقاش وأشد أنواعه إنكار الجذر الذي منه نبتنا. كيف يمكن أن أكون شجرة وجذري شيء آخر؟ كيف يمكن أن أكون "حيفا"و"يافا" وجذري شيء أخر؟ لا يوجد ظلم أشد من ظلمي لنفسي إذا تنكرت لنفسي!  كل الأشياء والامتيازات التي ربما أحصل عليها من اسم مواطن من هذا الكيان هي أشياء مقيتة لأنها كالكذبة التي ربما يحصل صاحبها على بعض الامتيازات بسببها إلا أنه في أعماق داخله يوخزه الضمير ويخطف فرحته الحقيقية.

بدأ منذ ذلك اليوم يقدم نفسه على أنه "يوسف" الفلسطيني الطيراوي. لا سيما لهؤلاء الذين لا يوجد بينهم وبينه معرفة سابقة وحتى لهؤلاء الذين كان يجاملهم على حساب عروبته. بدأ يرى بأعينهم نظرات الشك وأحيانا عدم الاستلطاف لمجرد ذكر كينونته عربياً. حتى الابتسامة له كانت تفتقد الصدق ويغلفها الجمود وغالباً ما كان يتبعها إنهاء الحديث.

    أصبح يرى الأشياء محكومة بحالتين: الفكرة العامة والحالة الخاصة. العلاقة بعمومها والعلاقة بخصوصيتها. العيش هنا يعطيك الفرصة  لتجريب هذه العلاقة الخاصة التي بدورها تعطيك الفرصة لرؤية الأشياء بطريقة ثانية. العيش هنا يعطيك الفرصة مثلاً أن تعرف "عمير" أو زوجته كأشخاص قبل أن تعرفهم كجنسية. فإذا كان الشخص كريماً طيباً صادقاً فهو لا يمكن أن يكون إلا كذلك. وإذا كان عكس ذلك فهو كذلك أيضاً. هذا يخفف من وطأة الصراع والتناقض. من بعيد لا يمكن رؤية الأشياء بتفاصيلها ولا ينبع الحكم إلا من الفكرة العامة.  محتل ومحتل. غاصب ومغصوب. الاحتلال هي فكرة ينفذها جنود ينفذون أوامر دون التفكير بالتفاصيل. لا يوجد أدنى هامش للإنسانية لتتحرك أو تتدخل. أنت تحب "عمير" وامثاله: فهو طيب صادق مخلص إنسان. تبدأ تخاف عليه وتقلق عليه إذا حصل له مكروه في مكان هو فيه. ويبادلك الحب الشخصي ويبادلك الفرح عندما تنجح حتى في نشر بحث جيد أو أنجاز أي عمل جيد. كيف تخرب إذاً هذه الفكرة وما يطرأ عليها؟! لا بد انه الشيء الذي يجعل الآخر يرى نجاحك فشلاً له. ولكنه ما هو الشيء الذي يجعلك ترى نفسك شيئاَ والأخر شيئاً أخر؟ هو التركيز على الهوية الخارجية أكثر من الهوية الداخلية؟! الايدولوجيا هذه الفكرة التي يغرسها بعض الناس في داخلنا ويتركنا نصارع قسوتها مدى الحياة. دعني أنا احكم. إن تجربتي الشخصية هي أيديولوجيتي. علمني الصدق وربني عليه واجعله وحده أيديولوجيتي حتى أرى الأمور كما يجب واتركني من الأحكام المسبقة. كيف يتوقع أن لا أحترم "أحمد" وأتمنى العيش بقربه إذا تركت تجربتي الشخصية فقط، من يحكم حتى لو لم يكن أخي؟ كيف لا يمكن أن أحب "أولا" وأحترمها بنفس الطريقة وأتمنى أن تبقى بقرب أحمد على الرغم من أن ثقافتها سويدية أكثر منها عربية؟ ألا أتمنى أحيانا أن ابعد كل البعد عن بعض هؤلاء الذين يعتبرون الأقرب إلى إيديولوجيتي؟هل من الممكن أن تخيف عودتي امثال "عمير". هي لن تخيفه بل سوف يتمناها. وهل من الممكن أنا أن اقبل أن تكون عودتي على حساب وجوده؟ بالطبع لا؟ إذا سمحنا لهذه الفكرة أن تطغى علينا فسوف تعلم "جوليانا" التي فرحت وساعدت في وصول أحمد إلى الحاجة تمام ولي، و"عمير" أن هناك ألافاً من نوع "أحمد" في عالمه وسوف يعلم "أحمد" أن هناك ألافاً من نوع "جوليانا" في عالمها. الهوية الخارجية غالباً ما تكون وهماً وليس بالضرورة سبباً للانسجام! ألا نختلف مع أخوتنا أحياناً ونجد أنفسنا في قمة الانسجام مع أناس لا يحملون هويتنا الخارجية نفسها؟! نستطيع أن نكون جميعاً شيئاً واحداً في أرض واحده.

    

                                                22

    شعر باشتياق كبير إلى الجميع. احتار ماذا يفعل بعد ذلك. أيتصل "بأولا" ويخبرها عن عودته حتى يوصل ما استأمنه أحمد أن يوصله إليها؟ أم يذهب إليها مباشرة؟ قام مسرعاً وبدقائق كان جاهزاً. قاد السيارة مسرعاً باتجاه بيت "أولا" التي كانت معرفته بها جديدة إلا أنها كانت من البداية عميقة بحكم ظروف اللقاء. وما هي إلا دقائق حتى كان يطرق الباب. وما أن فتحت ورأته يقف على الباب حتى صرخت:

يوسف! وكأنها أمضت حياتها تعرفه. فما فعلته كان أكبر من أن يقاس بطول الأيام.

ومع أن كل ذلك حصل بثوان إلا أن عقله لم يستطع تجاوز  التفكير بالاسم دون أي لقب. لكن "أولا" هجمت عليه معانقةً إياه بقوة وبفرحة جعلته لا يعرف ماذا يجب أن يفعل. فالعقلية الغربية ما زالت تحكمها وتحرك تلقائيتها.

- "أولا"؟ لقد اشتقت لكما جميعاً.

-وأنا يا يوسف. اشتقت لك كما لم اشتق لشيء في حياتي. قالت ذلك وكأن ما تكنه لأحمد وما وصلت إليه علاقتهما تبرر هذا الإطراء.

مر اسم يوسف من فمها من غير كلمة "سيد " دون أي إحساس بشيء غريب. لقد كانت لحظة الاشتياق وتفريغها أكبر من التفكير بأي شيء آخر خارج الحب والصداقة وصدق المشاعر وارتباط الأرواح بهذه الطريقة الكبيرة. تلك المشاعر الصادقة السريعة التي تجعله يشعر في هذه اللحظة بأنه يجلس أمام أقرب شخص إلى نفسه. في هذه اللحظة تذكر ذلك الحب الجميل الذي يملكه الآن. حب أم يوسف وأبي يوسف واحمد. حب أتى كنسمات البحر يأخذك معه حيث يشاء ولا تملك إلا الشعور بالدفء والمتعة وهو يعانقك وينقلك معه حيث يشاء. نسمات لها خصوصيتها لأنها لا تأتي صدفة ولأنها ليست نسمات أي بحر. فقط هي نسمات البحر الأبيض المتوسط وفقط تلك النسمات التي تأتي من تلك الجهة من البحر التي كانت وما زالت تعانق قريتي وقرية أقاربي ومكان مولدي. حب أمين يخاف عليك حتى قبل أن تشعر بمبرر لهذا الخوف. حب يأتيك جاهزاً لكن تكوينه أخذ سنوات. حب رأيت أنت فقط  زهوره لكنك لم تر غرسه والدموع التي بقيت تسقي ساقه لمدة خمسين عاماً حتى يستمر بالنمو والصعود والتمدد حتى يضللك يوماً بأغصانه كما تستظل الآن. أجمل ما في هذه الأغصان أنها أغصان شجر لم أره إلا هنا. حب بدأ هنا وهجر إلى هناك والآن يرافقك ثانية حيث نشاْ.

بعد هذه الدوامة من الأفكار تمالك نفسه واستمر بالحديث مع أولا.

-كيف خالتك "جوليانا". أرجوك بعد أن نشرب الشاي أريدك أن ترافقيني إلى هناك.

-جميعهم بخير. وقد أمضت خالتي "جوليانا" الأيام تسأل عنك متمنية أن تكون سعيداً. كانت كلما تتصل بي تسأل عنك وتختم الكلام بالقول المهم أن تكون سعيدا. وكيف الجميع في الأردن؟

-جميعهم بخير وأحمد قد أرسل لك هدية جميلة.

-هذا شيء رائع.

أرجوك أريد أن أعود الآن إلى بيتي لأن الحاجة تمام لا تغيب عن فكري.

        بعد ذلك قرر زيارة "عمير". وما هي إلا لحظات حتى كان في طريقه إلى منزل" عمير". وعندما وصل، وجد "عمير" في انتظاره في ساحة المنزل. وبكل حب واشتياق تعانقا. جلسا في حديقة البيت وبدأ يوسف في الحديث لعمير عن زيارته:

-أنهم يا "عمير" أناس لطفاء طيبون ومظلومون إلى أبعد الحدود.

-أصبحت أعرف أكثر يا صديقي. فأنا منذ مغادرة أحمد وأنا اقرأ كل شيء عن هؤلاء الناس. نعم نعم لقد ظلموا وقد مارستم كل شيء من اجل أن لا تتركوا أمامهم سوى خيار المغادرة يا "عمير".

-لا تقل مارستم. فأنا بالمبادىء التي احملها اشعر بهمهم تماماً كما تشعر أنت.

-"عمير". لأنك مثقف أحس إنني أستطيع التكلم حول أي شيء بكل أريحية. أرجوك ادعوني يوسف الفلسطيني.

-لا تشعر بأي حرج. كن من شئت. وأجمل ما نكون أن نكون حقيقتنا.

- صدقني يوسف هو الحقيقة وأي شيء آخر هو الزيف بعينه. يوسف هو التراب والرمل وصخر هذه الأرض، والأسماء الأخرى الغريبة لا يتعدى عمقها طبقة الأسفلت التي صنعتم. هو الرمل المخلوق وكل تلك الأسماء الغريبة لا تتعدى شيئاً مصنوعاً، تماماً كالإسفلت. يوسف شيء حقيقي كلما حفرت لا ترى إلا صور أعمق وأجمل له. عمق جذر الذين حلوا محل هؤلاء لا يتعدى طبقة الإسفلت التي  فوق حقيقتهم تمشون وتنامون. خمسون عاماً استطعتم أن تكونو فقط  طبقة إسفلت.

- انتم الرمل يا يوسف ولا يحتاج المرء إلا النبش قليلاً حتى يرى هذه الحقيقة. وأنا رأيتها. كل جملة سمعتها من أخيك أحمد، وكل معلومة سمعتها منه عن هذه الأرض جعلتني أشعر بحجم الكذبة التي نعيشها أكثر وأتمنى أن تكون لي قصة تماماً كقصتك حتى أبرر وجودي في أرض وماء لا أملكه. كل هذه الديمقراطية التي نمارس والعبرية التي نحكي والأسماء التي نطلق لا تمارس إلا فوق طبقة سوداء أسميتها أنت إسفلت ولم ولن تلامس حقائق الأرض من تراب وصخر ورمال. أحب أن احبك أكثر وأحب احمد أكثر لأنني بهذا الحب أشعر بأذن منكم أن أعيش هنا في أرضكم التي سرقها من يحملون اسماً كاسمى. بهذا الحب أشعر أن لي خصوصية الصداقة التي تمنحني إذناُ مؤقتاً في العيش بأرض أصدقائي الى أن يعودوا إليها. لا أريد أن أكون منهكاً أو جزءاً منهم في هذه الجريمة. لا لا أنا صديق أحمد ويوسف وحتى أبيه وعمه سراج الذي اعتقلنا بيته ثم جعلناه سجناً . منذ اليوم الذي التقيت به أحمد وأنا اشعر بأنني غريب في هذه الديار، وأنني متعب ومرهق وكاذب. أحمد الذي يعرف ثلاثة أسماء لقريتك: "طيرة حيفا"، و"طيرة الكرمل"، و"طيرة اللوز"، وأنا لا أعرف غير اسم واحد لها على الرغم من انه يعيش هناك وأنا أعيش مكانه هنا. أصبحت أرى الأشياء بطريقة مختلفة. المدرسة والطلاب والأناشيد التي كنا  ننشدها في كل صباح. لا أعرف كيف كانت تتحمل أذان الجبل تلك الأكاذيب التي كانت تحملها كلمات نشيد الصباح وهو نفس الجبل الذي كان يرى أطفال غيرنا يمرون من أمامه الى مدارسهم قبلنا. أطفالاً اختفوا وقضضنا مضاجعهم وأمرنا أهلهم أن يهجروا وهجرناهم من هذا المكان لنأتي نحن وننشد أشياء عن الحب والتسامح والسلام. قمة الجريمة أن نعلم طفلاً كيف يكذب  وكيف يقتل وكيف يكره، وقد فعلوها معنا. علمونا أن نكره ونقتل أناساً أبرياء كانوا يعيشون هنا بكل امن وسلام. ذنبهم الوحيد أنهم لا ذنب لهم.

23

في اليوم التالي كان عليه أن يذهب إلى تلك الشركة التي عمل فيها مدة طويلة بعد انتهاء إجازته. كان عليه أن يكون يوسف العربي. كان مصراً أن يكون عربياً قوياً يعيش في وطنه ولن يضطره شيء ليجامل بمبادئه. سيبتسم عندما يكون عليه أن يبتسم ويفرح كعربي، وسيبكي ويحزن عندما يكون عليه كعربي أن يبكي ويحزن. لن يجامل في ردات الفعل أو يخفي مشاعره كما اعتاد أن يفعل عندما كان يشاهد نشرة الأخبار عند وقوع حدث مهم مع بقية من يعمل معهم في الشركة. وصل مدخل الشركة. دخل ذلك المبنى الضخم. لم ير في داخله إلا عبارات عبرية. كيف أكون يوسف وسط هذه الحروف التي أصبحت غريبة؟ كيف يمكن أن يكتب اسم يوسف بهذه الحروف؟ من أين أتت هذه الحروف أصلاً؟ دخل إلى مكتب المدير العام. قابلته السكرتيرة. لا يعلم لماذا كان متشنجاً في تلك اللحظة بهذا الشكل عندما دخل مكتبها. افترض أنها لن تكون معه طبيعية بسبب ما حصل له من تغير في داخله تجاه الأشياء.

-كيفك يوسف؟

قالتها بنفس الطريقة التي اعتادت أن تقولها له وبكل حميمية. صمت قليلاً وقال لنفسه إنها ما زالت تراني من الخارج. عربياً عليه المجاملة وإخفاء مشاعره شاء أم أبى. تدارك الأمر وابتسم وحاول جاهداً أن يكون طبيعياً.

 -بخير يا ليزلي.

-كيف كانت أجازتك؟

شعر أن سؤالها يخفي معرفة بالمكان الذي كان فيه. أجابها:

-أرجو أن تخبري السيد توم أنني قد وصلت.

-يمكنك الدخول. دخل المكتب فوجد توم جالساً.

-اهلاً يوسف

-اهلاً سيد توم.

-سمعت انك كنت في الأردن؟

هنا أحس أن عليه أن يكون جاهزاً لكل الاحتمالات.

-نعم نعم. كنت عند أهلي.  شعر بعدها أن عليه أن يقول كل الأشياء دفعةً واحدةً. كان هروباً للإمام دفعه إليه شعور عارم، كان قد تسلح به من أنه لا يحق لمخلوق حرمانه من أن بكون نفسه وبأنه  السيد الحقيقي في هذا المكان.

  - ماذا؟ لهذه الدرجة أصبح الناس هناك في مقام الأهل؟ أم أنتم العرب تعدون أي عربي جزءاً من الأهل؟

- هذا صحيح. لكنني الآن أعني أهلي. أبي وأمي وأخي أحمد وعمي سراج. شعر أنه تعمد ذكر تلك الأسماء التي لا تكون إلا عربية.

-لا أفهم يا يوسف ماذا تقول.

قال ذلك وهو يجلس ويخلع نظارة القراءة عن عينيه.

وبسرعة وبدون أي تردد أو مقدمات بدأ يروي إلى المدير كل تفاصيل الأحداث الأخيرة في حياته.

شعر المدير بان إحساساً معيناً تجاه يوسف قد تغير بثوانٍ، لكن شدة الصدمة جعلته لا يملك إلا أن يصمت. لكنه تمالك نفسه وقال:

-         حقيقة أنا لا اعرف ماذا أقول لك الآن. لكنني أقترح أن تذهب الآن ونلتقي غداً في نفس الموعد.

ما أن غادر يوسف المكتب حتى التقط  السيد "عمير" سماعة الهاتف وأجرى مكالمة مهمة!؟

عاد يوسف في اليوم التالي. بدا  كل شيء غريباً. شعر أن كل شخصين يتحدثان لا بد أنهما يتحدثان عنه. وما إن دخل مكتبه حتى قام بعض من زملائه بمغادرة المكتب حتى من دون أن يردوا السلام. وفجأة وبعد مرور بعض من الوقت الذي كان ثقيلاً  والذي لم يتكلم أي منهم معه خلاله، وقف وصاح:

ما بكم؟ أنا يوسف. أنا هنا قبل أن يكون أي منكم هنا. أنا لست متهماً انتم المتهمون. أنا عربي واسمي يوسف. أنا من عاش أبوه وأمه هنا ولم يأتيا من البحر. انتم الغرباء.

فجأة صاح احدهم: أخرجوه من هنا. هذا الشخص يجب أن لا يبقى هنا.

في هذه اللحظة حاول أحدهم ضربه بمزهرية إلا أن صديقاً ليوسف قام بمنعه. وكان الشخص الوحيد المدافع عن يوسف في تلك اللحظة القاسية. من المكتب المقابل جاء شخص وهو يصيح:

-هذا الشخص يجب أن يفصل من هنا اليوم قبل غد.

- لا اهتم. ولو كان هناك عدلاً لفصلتم جميعاً وبقيت أنا. من اليوم لن أعمل في هذه الشركة. ولن يكون لي هدف بعد اليوم إلا كشف الحقيقة. قال ذلك وغادر المكان مسرعا.ً

ذهب فوراً إلى منزله. جلس في غرفته المطلة على البحر ورآه للمرة الأولى باسمه العربي: البحر الأبيض المتوسط. رآه حزيناً كما لم يره من قبل، ولكن رآه أيضا بريئا كما لم يره من قبل. قرر أن يكرس كل حياته لرفع الظلم عن هؤلاء الذين وقع عليهم الظلم. قرر أن يفعل المستحيل ليكشف الحقيقة.

بعد أيام كان في قاعة كبيرة يلقي الندوة الأولى من سلسلة كبيرة من الندوات التي قرر أن يبدأ بإلقائها ، وعلى يمينه "أولا" وأمام حضور كبير. وفي الصف الأول تجلس "جوليانا"  وعمير.  تحدث عن كل شيء. تحدث عن المخيم والغرف الضيقة وقلة الهواء. تحدث عن إنسان ولد هنا وبقوة الباطل حرم من أن يموت حيث ولد!عن إنسان مات قبل الأوان قهراً وعن إنسان يحرم من رؤية المكان الذي من أسمه اشتق اسمه.

أحسستُ وأنا اقرأُ رواية الدكتور محمود السلمان- أنه يسردُ سيرتي أنا، بكل تفاصيلها. كيف لا وهو ابن عمي الطيراوي النبيل، الذي "قوص أهله، الذين هم أهلي، البحر، لأن موجةً من موجاته تجرأت على أن تلامس أقدام الحبيبة، التي كانت تسير بمحاذاة البحر، مع الحبيب.. المزنر دائماً بالمسدس (جرياً على عادة الطيراويين في ذلك الزمان البعيد). وتقول الحكاية إن الحبيب نبه البحر، وأنذره ألا يعيدها.. وحين أعادت الموجة فعلتها أطلق عليها الرصاص!

قد لا يكون هذا الذي أقوله في السياق الروائي ولكنني أُؤكد أن السياق كُله فيه.. وإن كان الكاتب، الذي تخصص في اللغة الإنجليزية ونال درجة الدكتوراه من أهم جامعات بريطانيا.. مـتأثراً بالطريقة الغربية في سرد أحداثٍ "طيراوية" بعينها..إلا أن الرواية-التي يمكن القول إنها مختلفة عن الأنماط المعروفة-تُعتبر إضافة مهمة للرواية الأردنية والعربية بشكل عام..وأنا جد سعيد، بالكتابة عنها باختصار شديد.

معالي الشاعر حيدر محمود

هذه الرواية أشبه ما تكون برواية واقعية، ترسم حدثاً أشبه ما يكون بالحلم تمكن فيها الدكتور محمود السلمان من أن يصنع مكاناً في نفس شخوص الرواية يشبه المكان الحقيقي بكل جمالياته التي تتداخل في صنعها هوى القلب وعبق الذكرى، كما استطاع أن يبدع زمناً حوله ببراعة من زمن رواية إلى زمن داخل النفس، سرمدي يكاد يطغى على الخيط التاريخي الشفيف الذي غلف الأحداث ومنحها جمالاً حزيناً، دون أن يغفل الخيط الدرامي الرومانسي-على الرغم من واقعية العمل السردي.لقد تمكن الكاتب من تقديم صورة ليست نمطية للبحث عن الأمل عبر أسلوب تبشيري يبشر بالآتي عبر إعلانه عن العودة السيكولوجية إلى الوطن (الطيرة) تمهيداً للعودة الطبيعية إلى فلسطين كلها.

الأستاذ الدكتور يحيى عبابنة

محمود السلمان صوت له هويته الإبداعية، ويرى أن الكرة الأرضية ضاقت كثيراً

 حتى أنها لم تتسع لوطنه كاملاً. أنه يترجم إحساسه كلمات،فكتب بناية الجرح رواية تعيد لنا توازننا الإنساني وصورتنا العربية. روايته تجيب عن أسئلة وجدانية غاية في الشفافية والصدق:

_ كيف يكون لقاء الإنسان مع الأرض التي عاش لها؟

- ما شكل الخطاب مع من يغتصب الأرض؟

الكاتب المسرحي حسن الناجي

              

* التعريف بالكاتب

الاسم: محمود أحمد (محمد سعيد) السلمان

أستاذ مشارك

 الأردن-عمان-جامعة البلقاء التطبيقية

المؤهلات الجامعية:

1- بكالوريوس إنجليزي

1- دكتوراه لغة إنجليزية -  جامعة درم -  بريطانيا 2003

2- كورس متقدم حول الثقافة و الحضارة الأمريكية-جامعة نيويورك-الولايات المتحدة الأمريكية 2006

3-ماجستير لغة إنجليزية

4- ماجستير أنثروبولوجي (علم الإنسان) -  بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف الأولى -  جامعة اليرموك

البحوث والدراسات الميدانية:

1- العلاقة بين التغيرات اللغوية والعوامل الاجتماعية في الكرك -  الأردن

2-لهجة طيرة حيفا. جامعة انديانا في الولايات المتحدة.2003.

3- تغير المفردات القديمة في لهجة طيرة حيفا

4- اللهجة في تونس وعواملها الاجتماعية

5-  العلاقة البربرية العربية في المغرب اجتماعياً ولغوياً

6- التنافس السياسي اللغوي والهوية في المغرب-الأمازيغية والعربية كمثال.

البحوث المتعلقة بالانثروبولوجيا  (علم الإنسان)

الدراسات الأدبية

1- طيرة حيفا ما بين 1900/1948 -دراسة تاريخية اجتماعية-دار قدسية للنشر.وهو أول كتاب عن قرية طيرة حيفا باللغة العربية.صدر 1991

2- مأساة في طيرة حيفا-قصة قصيرة

3- لقاء البحر رواية

الجوائز:

1-جائزة جامعة اليرموك للطالب المتفوق 1994

2- الأستاذ المتميز: جامعة البلقاء التطبيقية 2007