محنة البيت القديم

محنة البيت القديم

د. محمد الدروبي*

[email protected]

يا نبلاء القوم،

من منكم يجرؤ على

فتح صدره للعامة؟

كان الليل بديعاً، عبقاً برائحة الأزهار ونفح النسيم. كانت نجومه تقدح كعيون حيوانات خرافية.

تحلقوا حول المائدة المفروشة تحت شجرة الصنوبر الكبيرة؛ تسعة عشر بالغاً وثمانية أطفال. هم ليسوا عائلة واحدة، لكنهم كذلك. أقارب من أجداد إخوة. الأجداد جميعاً انتقلوا إلى رحمة الله منذ زمن بعيد. أغلبهم مات في ظروف جد غريبة، جد غامضة، جد محيّرة. عائلة حرمها الله من رحمة الموت عياناً؛ هكذا يتمازحون فيما بينهم، ويغالبون خوفهم من لقاء المصير ذاته.

هم يجتمعون في أواخر الصيف من كل عام. تجمعهم المحبة والرغبة في الوصال ودعوة »العم عيسى«. حتى الشيوخ منهم يسمونه »العم عيسى«. وقاره الشديد يجعله أكبرهم. ماضيه المفعم بالنجاحات، المختنق بالغموض والانتصارات، يضعه دائماً في لوحة الإعجاب والفضول.

هو موسيقي محترف العزلة ما أمكن والصمت ما أمكن والسهر الطويل من حين إلى حين. هو رجل يبني مجده في وحدانيته.

يتناولون العشاء في عُرض الحديقة المحيطة بمنزله الضخم، والذي أشرف بنفسه على بنائه حجراً حجراً. يتحدثون بود وحرارة، ويضحكون بعمق وصدق. يسترجعون الذكريات المشتركة؛ الطيّب منها والسيّء بطريقة هزلية مكرّرة. يشكون من الأطفال ومطالبهم وهمومهم. يمدحون الأطفال وذكاءهم وطيب عشرتهم. يفعلون ذلك بمحبة جمة.

يتقولون على العمل؛ هذا الحوت الذي يبتلع الوقت بشراهة لا تنتهي. السنوات تمر بسرعة مذهلة. يا إلهي كيف يكبر الإنسان خلسة!

يسخرون من منطق الحياة ومن أحكام الزمن فكأنهم يصنعونه وكأنه لا يصنعهم. الشيخوخة قدر الإنسان المعمّر. يشاءُ اللهُ أن يُضْعِفَ الإنسانَ قبل أن يميته. الضعيف لا يطيق العيش. يتمنى الموت. الهرم والضعف يجعلان الإنسان يموت برضاه. حكمة الله أن يخيفنا من الموت إلى حينه؛ ثم يحررنا من مخاوفنا دفعة واحدة. هكذا يقولون، وعلى هذا هم متفقون. الوقائع التي تبدو بعيدةً تحرِّرُ خيال الإنسان من ضوابطه، وتجعله أكثر ميلاً إلى الترف الفكري.

ينتظرون.

فلقد كان السهر يحلو في ساعة متأخرة من الليل. كان »العم عيسى«، بعد أن ينتهُوا من الكلام ويملّوا من التكرار، يأخذ الناي ويعزف ألحاناً عذبة. الموسيقى في الليل، وسط الصمت المطبق، تسمو بالنفس؛ تسمو بذاتها نحو القدسية والخلود.

أما تلك الليلة، فقد اختلفت. لم تتخللها الموسيقى كما هي العادة، وكما هي التوقعات. لم تنته بمعزوفة »فراشات الخزامى« التي كانت تطرب الجمع في ختام السمر. كان عليهم أن يصغوا لشيء آخر؛ لشيء قاس على نحو لا يحتمل. »العم عيسى« هو الذي تكلم. لن يسمعوه مرة أخرى كما بشّرهم. ليس في الأمر موتٌ، لا أبداً. أراد أن يحكي كل ما عنده من كلام يتعفن في صدره؛ وأن يفضح كل أسراره، ثم يرحل بعيداً عن الناس، حيث سيكون الصمت أمراً واقعاً.

- جروح القلب بليغة ومنفتحة. قال »العم عيسى« وأضاف، أنا أعرف هذا وأنتم لا تعرفون. أبعدوا الأطفال من هنا.

كلهم يعلمون جيداً أن لدى »العم عيسى« الكثير من الكلام المثير عن العديد من الأشياء المخفية في ظلمات صمته. فهو رجل تكتَّم على حياته بعناية فائقة. عاش فصولاً من عمره بسرية تبعث على الريبة والتساؤل. فمثلاً، كان يتوارى عن الأعين يوماً كاملاً، أو يومين متصلين في بعض المواسم، فلا تعرف حتى زوجته أين الغائب ولماذا الغياب. من حين إلى حين، كان يقتطف أجمل وردة في حديقة منزله، فيحملها ككتاب مقدس، ويذهب إلى ضيعة الآباء في سويعات العصر. هناك كان يصعد الرابية منفرداً، ويجلس على مَقْربة من »البيت القديم« تحت شجرة فارهة قائمة وحدها في عراء المكان، ويعزف على الناي ألحاناً شديدة الشجن والحزن. وقبيل المغيب، كان يطوف مفرطاً بالخشوع والتقوى والإيمان، حول ذلك البيت الذي تعاضد الفلاحون على إهماله، لا لحقارته وحسب، بل لجليل شأنه أيضاً. إنه بناء من لبنات سميكة وطين؛ صغير بمساحته كَوَكْرِ حيوان، لكنه شاسع كمدى البيداء بأحداثه وغموضه والأحياء الذين سكنوه والناس الذين عبروا منه. كان »العم عيسى«، وبعد أن يُعييه الدوران الرتيب حول البناء البائس، يضع الوردة على مصطبته الأمامية بتأن مفرط، ويهبط إلى الوادي عبر أشجار الزيتون. هناك، في أسفل الوادي، كان يستلقي على الأعشاب الطرية صامتاً متفكراً حتى يسمع أذان العشاء من مئذنة البلدة. وعند ذاك، كان ينهض كالمثقل بالهموم ويرجع إلى المدينة، فلا يكلم أحداً إلا لِضرورة، ولا ينام إلا في ساعة متأخرة من الليل. رجل يعايش مشاعره في الظلام فكأنها عشيقة مُدانة لا يجرؤ على البوح بها. رجل يحبس في صدره أقوال حياته ومحنها كما المجرم خلف القضبان. أصغوا إليه إذن بانتباه شديد وفضول متنامٍ. ولابد من أن أذكر هنا أن مقدمة الحديث كانت ثقيلة بعض الشيء، وقد يصعب إدراك غايتها النهائية. فقد بدت معظم كلماته، مجردة من أنفاس الواقع ومتحللة من متطلباته؛ بل ومعقدة وتكاد تكونُ غيرَ مترابطة فكأنها ممضوغة بلعاب الفلسفة في فم على شفا الجنون. من بين ما قاله في تلك المقدمة الغريبة العجيبة:

»... تحتاج الروح إلى لفتة وانتباه. عقل الإنسان شيء وروحه شيء آخر. عقل الإنسان مربط لترويض الروح. عقل الإنسان عطِيل الحياة والضرورة. الروح لا! هي عصفور يغرد في قفصه. ينشد الحياة والحرية والانطلاق. الحياة الاجتماعية قفص الروح ومقتل حريتها. الحياة باعدت بيني وبين روحي حتى أضحيت أراها كالغريب. يحصل أن ألتقي بها. ألاطفها بنفور، فتستجيب بفرح وحذر. يكون ذلك في الليل عادة. في النهار ألهو بالبحث عن الوصال مع الآخر. تلومني وأعاتبها فلا نصل إلى صفاء ولا إلى قرب. طالعتني في الصبا بمطالبها فاخترت ألا ألبي. إعجاب الآخر بي كان يعز عليّ أكثر منها، ومطالبها المعقدة كانت محض هراء. جنيت مالاً أذهل الوجوه الفقيرة لكثرته والسرعة التي تم بها ذلك، وتجنيت عليها فذُهلت. إنني مصمم على امتصاص نقمتها. سأكون في الأيام القادمة، وربما في السنوات التالية، لها وحدها. روحي لا تطيق أن تراني بين البشر. تريدني سميراً حاضراً أبداً. أَثَرةٌ مفرطة لا ريب، ومع ذلك، سأنصاع لرغباتها وأهوائها. سأعتزل الناس جميعاً، وكذلك المدينة والسفر وصيد السمك وعزف الموسيقى في المحافل العامة. سأرحل إلى »البيت القديم«؛ مكمن لعنة العائلة التي لا خلاص منها، وأبحث في زواياه المعتمة عن مصابيح النفس. أضعت فيه بعض أبعادي منذ الصبا، فرمّمتُ الحياة بأبعاد الآخر حتى اليوم؛ الشيء الذي لا يصح ولا يستقيم مع الزمن. إنني بحاجة إليها كما هي حاجة عاشق مسلوب الإرادة لمعشوق متمرد. إنني أرجّح في يومي هذا الوقوف على الماضي وعلى دقائق النفس لا على الوهم ودقائق البشر.

أرى وجوهكم تحتقن بالدهشة وبشاراتِ الاستنكار والاستغراب المبكرة. أرى هذا على الرغم من أن ضوء القمر ينير الدروب لا المشاعر ولا الوجوه. لا عليكم، فليس هناك داعٍ للقلق قبل الأوان. لا شيء يستوجب الاحتقان بالفضول. إنني سأجلو الغموض من وجوهكم قبل أن ينجلي الليل. لن أدع بقايا دهشة أو بعض ريب في صدوركم. عهداً إنني سوف أفاجئكم بصراحتي بكل ما تحمله من قسوة وبكل ما تنطوي عليه من عيب. قد تغضبين يا بنتي وتنتفضين، وقد تسكنك الخيبة والانكسار يا زوجتي العزيزة. سوف تؤلمكم صراحتي وفضائحي وأسراري أشد الألم. سوف يجرحكم عري روحي عميقاً. لكنني لا أفعل هذا من أجل ذلك. لا أريد أن أنتشل الحقائق المخبأة وأنثرها أمام أعينكم لغايتي. روحي هي التي تطلب هذا، وهي التي لا تقبل الصلح معي وهي مثقلة بعيوبي. والأسرار شوهتها باختلاق الضرورة؛ وباحتضان الضرورة أيضاً. تمتلك الحياة ظروفها ومعاييرها وشروطها. هكذا كنت أقول لها في بداية كل حساب. أنا أمتلك أيضاً ظرفاً وحاجة. هكذا كانت تختم كل جلسة حساب. كانت تبتعد عني بعد ذلك.

ترى، هل ثمة ما يرضي النفس غيرُ التمردِ المتكلف على أقنعة الناس وأخلاقهم؟ دعوني إذن أبدأ من البداية. لا من الطفولة؛ بل من بداية القطيعة بين نفسي وبيني، بين حاجتها الحالمة أبداً، والشاخصة إلى أهواء الحياة، وبين حاجتي إلى غرس الإعجاب بي في وجوه البشر...«

ترى، لماذا شاء »العم عيسى« أن تكون بداية حديثه مركبة من معانٍ مجردة بهذا الشكل، تكاد تكون غامضة، تقول أشياء كثيرة ولا تقول شيئاً؟ ولماذا صمت نحو نصف ساعة قبل أن يستأنف الحديث عمَّ اكتنف حياته من أحداث ظلت طي الكتمان ثلاثين عاماً، فَظَلَّلَتِ الأصدقاءَ والأقاربَ والعدالة الإنسانية والزمن والنفسَ، ومزقت راحة الضمير على حد قوله؟ ولماذا احتقن وجهه بدماء الانفعال والخجل عندما شاء أن يبدأ حكايته من لحظة وداع محا الزمن ألوانها عند مرفأٍٍ غَيَّرَ الزمنُ حاله؟

من الحكمة أن نستمع إليه بدل أن نروي حكايته، وأن نحاول الإجابة بعد أن ينتهي من بسط حقائقه.

كلما دخل البيت

القديم اثنان، قتل

واحد منهما الآخر.

وقفنا على الرصيف. كان المرفأ مفعماً بالحيوية على نحو لا مثيل له في تلك الساعة السابقة للمغيب. بواخر عملاقة تموج في حضن الماء. بعضها يقترب وبعضها يبتعد وبعضها يتأهب. قوارب سريعة وبطيئة تحمل أفراداً قلائل إلى العمق؛ إلى الغايات المتلألئة في أفق البحر والحلم.

أقلع المركب الأبيض ذو العلم الأزرق المقلم بالأحمر، الغاصّ بالرجال البائسين، فتخلت أمي عن الصمت والاحتقان. أجهشت بالبكاء المرير. كان والدي يقف على ظهر المركب ودقائق اللحظة. كان يلوّح بيده ونظراته ثابتة في وجهينا. كان يقترف الجريمة بعزيمة ورباطة جأش؛ يتركنا للفقر والعوز ويمضي إلى البعيد.

يا رب، لماذا تكون أحلامُنا بعيدةً عنا دائماً!؟

أبحر المركب في وجه الموج بجبروت محركاته العملاقة. ابتعد أبي في البحر، لكن أمي ظلت ثابتة في المكان، وظلت تبكي بصمت وخشوع فكأن البكاء تقوى. ضاع المركب في المدى لكن أمي تمسكت بوهم الرؤية. ظلت تنظر في الأفق فكأنها تواري فيه ميتاً، كأنها تبحث فيه عن رحمة الله. بدأت الشمس تغيب أسرع فأسرع. عاد الصيادون بقواربهم الخشبية المهترئة محملين بالأسماك. رائحتهم من رائحة أسماكهم. كانوا يتصارخون ويربطون القوارب. كانت أصواتهم وضحكاتهم تنم عن سرور وعن صيد وفير. أمسكت يد أمي عطفاً على حالها، على حالي. نظرت إليّ. عيناها على شفا أن تنزفا. ضاع بياضهما الناصع في هيجان الحزن والاحتقان. تبسمت لي تواسيني. بسمتها وديعة دائماً، ومريحة. كنت احتاج شيئاً آخر. قلت لها:

هل ستطيلين البكاء يا أماه؟ هل ستغلقين عليك الغرفة وتبكين في الليل كما هي عادتك في لحظات الحزن أو الخسارة؟ هل ستعودين سريعاً إلى منابع الفرح فتشربين منها وتسقين من حولك؟

نعم يا بني، قالت وانفجرت بالبكاء. سأفعل كل هذا. لكنني سأعود إلى البستان في الصباح. سنذهب معاً لضرب أغصان الزيتون.

هل سيرجع أبي يوماً؟

ربما تخذله الغربة ويغلبه الحنين فيعود بعد سنوات عدة. أشياء كثيرة ستتغير، ولن تكون الأمور مثل اليوم بعد أبداً.

هل ستتوقفين عن حبه يا أماه؟ هل ستتزوجين غيره؟ هل سيتزوج في الغربة؟

بعد الموسم سنذهب إلى المدينة للبحث عن الخبز. أبوك باع البستان بتذكرة سفر نحو الأمل. جدك يأبى أن يتحمل عبئنا. لم يبق لنا في البلدة غير »البيت القديم«.

بوسعنا أن ننتقل للعيش فيه يا أماه.

لا يمكننا أن نعيش مع الجن والشر. »البيت القديم« مسكون يا بني.

نبيعه أذن ونشتري واحداً آخر.

لا أحد يقبل أن يشتريه. يُقال أن من يملكه تحل به وبأحفاده اللعنة. لو كان بوسع والدك أن يبيعه بخمس بيضات لما توانى. ولماذا يشتري امرؤ مساكن الجن؟ لا عليك يا حبيبي، سنذهب للعيش مع أختي في المدينة.

سافر أبي فجأة. قص لي مشهداً من بطولات عنترة ودفع بي إلى النوم. لم يتفوه بشيء البتة عن نيته في السفر في اليوم التالي. لم يُعلمْني أنه باع البيت بثمن بطاقة تأخذه بعيداً عنا آلاف الأميال. لم يكلمني عن الحلم وعن الرهان. رهن العائلة مقابل حلم.

سافر أبي فتغيرت أمي، وكان عليّ أنا الآخر أن أتغيّر. وضعتني أمي في الفراش، لكن على غير عادتها قبّلتني فبالغت. حاولت أن تطمئنني بالقبلات والعهود. هي لن تتركني يوماً، قالت. هي سوف تموت من أجل سعادتي. هي لم تخسر شيئاً ما دامت لم تخسرني. لكنني كنت أحس شفاهها باردة، وكانت عهودها تبدو لي استجداءً. كنت أحس في قبلاتها نوعاً من العطف، أو حتى نوعاً من العجز. تألمت. شعرت كأنني مرمي في العراء. أغمضت عينيّ بقوة. هكذا يفعل الخوافون عندما يستسلمون لأحكام القدر.

استيقظت في ساعة متأخرة من صباح اليوم التالي. صوت أمي المتهادي عبر النافذة المفتوحة هو الذي سحبني من الفراش. كانت تجلس قبالة الشمس أمام باب الدار وتشرب القهوة مع جارتنا. كانت تحكي لها عن ألم الفراق وعن الخوف من المستقبل. سمعتها تقول: المرأة المهجورة بستانٌ بلا جدار وبلا بستاني؛ الكل يستبيحه دون رادع ودون ذِمّة..

رأتني أمي مقبلاً أفرك عيني، فاستدارت نحوي ولم تكمل القول. باعدت ذراعيها ودعتني إلى حضنها. لم ألبِّ. وقفت جانباً وتطلعت إلى بستان الزيتون. لم يكن والدي بين الأشجار. هو الذي غرسها فكبرت وكبر معها حتى لقد صار جزءاً منها وصارت جزءاً منه. نظرت إلى الرابية. بحثت عن والدي حول »البيت القديم« فعسى ولعلّ. كلا، لم يكن والدي في أي مكان. والدي أضحى بعيداً ولم يبق لي غير ابتلاع مرارة الهجر. والدي لم يهجر وحسب، والدي غدر. كنت صغيراً، وكانت أمي ضعيفة فتركنا ورحل. أبقى لنا مالاً قليلاً ومصاعب جمة.

شعرت أمي أنني أكابر كي لا أبكي. صرفت الجارة ومشت نحوي. ضمت رأسي إلى صدرها. دفنت أصابعها في شعري الكث الطويل. داعبته بمنتهى الرقة، بمنتهى الحنان. في الحقيقة، نادراً ما كانت أمي تضمني إلى صدرها. كان أبي يمنعها ويقول: أحضان النساء لا تصنع الرجال.

- بل من أحضان النساء يخرج الأبطال، وإليها يعودون.

- كلام فارغ.

كان والدي يقول هذا، ويحمل سجائره الرخيصة ويصعد إلى قمة الرابية عبر بستان الزيتون. كل ما لا يروق لوالدي هو كلام فارغ. كل نقاش معه ينتهي به إلى هذا القول الحاسم والى الخروج من المنزل وفي فمه سيجارة الغلبة. كانت أمي تراعيه فتضحك وتكتم. حنقه لا يطول، كانت تقول.

لم يدم كثيراً احتضانُ أمي لرأسي. لم يرق لي ذلك على كل حال. ليس صدرها هو الذي كنت أبحث عنه في ذلك الصباح. شعرتْ بهمي. وضعت وجهي بين راحتيها ورفعته نحوها قليلاً. نظرت إليه مستطلعة. لعلها لاحظت الانكسار في عيني، وكذلك الحزن والقلق. قالت:

- لا أمتلك بعد اليوم غيرك رجلاً أعتمد عليه. هيا بنا إلى البستان.

كانت أمي متعبة. التعب مثل المرض؛ يعلن عن نفسه في الوجوه، وينتزع بريق الحياة من العيون. أنهكها سفر أبي وقلة النوم. ومع ذلك، عملت أمي بهمة لا نظير لها. ظلت تضرب أغصان الزيتون بضع ساعات فما رأيتها تتوقف عن ذلك أبداً. بدا لي أنها تستعجل الرحيل هي الأخرى. بيد أن التعب فرض نفسه عند ساعة العصر. فعلى حين غرة، رمت أمي العصا جانبا وتناولت القربة الفخارية الصغيرة الملفوفة بالقنب المبلل. شربت الماء واستلقت في ظل زيتونة. وما هي إلا لحظات قليلة حتى هدأت أنفاسها واستغرقت في النوم. إنه الاستسلام بعد عناد لا طائل وراءه. إنه الاعتراف بالعجز والخسارة.

افترشت أمي الأرض ونامت من شدة التعب. ضاق صدري حزناً على حالها. تابعت جمع حبات الزيتون ووضعها في سلة منسوجة من عيدان الخيزران. كنت أفعل ذلك بهدوء متطلعاً إلى أن تنام أمي أطول وقت ممكن. بل كنت أطرد العصافير التي تغرد على الأغصان فوق رأسها أو بالقرب منها.

بعد نحو ساعة من استسلام أمي المباغت، مر بنا أبو جمال؛ صديق أبي وصاحب البستان المحاذي. نظراته إليّ كانت تنطوي على بعض الشفقة. حياني رافعاً يده، والتقط بضع حبات من الزيتون الساقط على الأرض. تناول سكيناً من جيبه وحز اثنتين أو ثلاثة. قلّبها بين أصابعه وتفحصها بتأن. اقترب مني. وضعها في السلة وربّت على كتفي مشجعاً. وقف جانباً ونظر إلى بقايا الثمر على الشجر. رأى أمي نائمة على الطرف الآخر من صف الأشجار فأدار لها ظهره. فعل ذلك بغتة وعلى عجل! استغربت الأمر لكنني لم أتوقف عنده. كان أبو جمال صامتاً، لكنه كان يسترق بين فينة وفينة نظرة من خلفه؛ من أمي. كان يستدير نحوها خلسة بقلق وحرج. فهمت السبب حين خاطبني طالباً:

- اذهب يا ولد وغطِّ أمك. فساقها عارية.

استيقظت أمي على شد ثوبها نحو الأسفل. تبسمت لي وكأنها تعتذر وشاءت أن تستأنف النوم. لكن أبا جمال سألها عن الحال فوضع حداً لمشيئتها ولهدوئها. تركتهما يتحدثان ورجعت أجمع حبات الزيتون في السلة.

قُبيل المساء، وعلى حين غرة، أضحت أمي متحفزة على نحو غير مألوف لشيء غير معروف بالنسبة لي. أخذتني من يدي ورحنا نصعد الرابية عبر الدروب المرتفعة قليلاً بين السواقي وأشجار الزيتون. كان الحر قد انحسر قليلاً بفعل ابتعاد الشمس ونسمة خفيفة. اتجهنا نحو »البيت القديم«. بدت لي خطوات أمي قصيرة، بطيئة، مترددة. ليس بفعل الإرهاق، لا أبداً. وليس بفعل الخوف من عصابة الجن القاطنين في »البيت القديم«. كانت خائفة من نفسها أو مما هي على وشك الإقدام عليه. كانت مضطربة جداً على كل حال. وعندما كانت تلتفت إليّ، كنت أشعر أنها فريسة حذر مفرط، وأنها في حالة من الخشية والقلق عظيمين. كنت أشعر أنها تتردد في اصطحابي معها إلى غايتها فكأن في الأمر غيباً مغلفاً بالغموض، كأن سراً كبيراً على الدرب الصاعد إلى أعالي الرابية.

توقفنا أمام »البيت القديم« على بعد ذراعين من مدخله. تلفتت أمي بكل الاتجاهات فبدت لي كإنسان فارٍّ من قتلة ولازال على خشية من أن يلمحوه. القلق والانفعال اشتدا عنفاً في مقلتيها بعد حين. ظلت تتفحص المكان حتى تأكدت مرات عديدة من أن أحداً لن يراها. عندئذ، رفعت ثوبها قليلاً وحلّت عن خصرها حزاماً قطنياً مطوياً على نفسه مرات عديدة. نشرته على الأرض، طيَّة بعد طيَّة، وما إِن وصلت إلى الطيَّة الأخيرة أبصرتُ مفتاح »البيت القديم«، صدئاً كما كنت أتخيله. التقطته أمي على عجلٍ. تلفتت من جديد يمنة ويسرة. لا أحد يراها، أو هكذا استنتجت. فتحت »البيت القديم« ووضعت قدماً في داخله. ثم، وكأنها تذكرت شيئاً مهماً للغاية، استدارت نحوي وقالت بحزم شديد:

- انتظرني هنا، سوف أعود بسرعة. حذار ثم حذار أن تدخل ورائي.

- بل، دعيني أدخلْ معك يا أماه.

- لا... لا...لا حذار يا بني أن تفعل، فلم يدخل »البيت القديم« اثنان معاً إلا وقتل أحدهما الآخر. اِبْقَ هنا، ونبهني إِنْ رأيت شخصاً ما قادماً نحونا.

طال غياب أمي داخلَ »البيت القديم«. بدأت الرؤية تضعف والظلام يخيّم، وبدأت أخاف. الخوف حررني من الوصية. ناديت أمي لكنها لم تستجب. صرخت بفزع ولم ترد. ولجت إلى داخل »البيت القديم« خطوتين أو ثلاثاً. المكان معتم والرؤية مستحيلة. مع ذلك رأتني أمي. أنا لم أرها. أنا سمعتها تصرخ من أعماق البيت والعتمة صراخاً حاداً هلوعاً. كلماتها حملت إلى مسامعي تعنيفاً شديداً. الجزع المهيب هو الذي لون صوتها أكثر من أي شيء آخر:

- اخرج بسرعة، اخرج... اخرج بسرعة.

فررت من عتبة البيت. ازددت حيرة من أمر أمي. انتظرت في الخارج نحو نصف ساعة أخرى قبل أن تندفع أمي من عتمة »البيت القديم«. خرجت تحمل بيدها كيساً مخاطاً من جلد الماعز وفي سحنتها وميض فرح وقلق. بدا لي الكيس صغيراً وموحلاً. راحتاها أيضاً كانتا موحلتين. أخذتني من ساعدي وانحدرنا نحو الوادي حثيثاً. كانت خطوات أمي هذه المرة كبيرة وسريعة فكأنها تهرب من قتلة من جديد. لكن الخطوات تباطأت تدريجياً في أسفل الوادي، حتى لقد رحنا نصعد الرابية المقابلة على مهل. قصدنا بيتنا المباع. عنفتني أمي ونحن نسير في الدرب الصاعد إلى مأوى الذكريات والطفولة. كيف صار لي أن أضع قدماً في »البيت القديم« وهي في داخله؟ هل جُننت؟ هل أرغب أن يؤول بنا المصير إلى أن أقتلها أو إلى أن تقتلني؟ قالت أيضاً:

- ليَحْمِنا الله من غضب الجن على فعلتك هذه. إنني أخشى العاقبة. حذار أن تدخل هذا المكان يوماً ما بصحبة شخص آخر، فتقتله يا ولدي أو يقتلك.

ساعتَئِذٍ أدركت لماذا لم يسمح لي أبي مرة في الدخول إلى ذلك المكان. كان يمنعني بشدة من أن أفعل سواء بصحبته أو بمفردي. لقد أقفل باب »البيت القديم« الواقع على الرابية المحاذية لبستان الزيتون وحمل المفتاح معه إلى البلاد البعيدة. وهو على الأرجح لم يكن يعلم أن أمي تمتلك واحداً، وأنني سأرثه بعد وفاتها. وعلى كل حال لم أحتجْه قط، فقد خُلع القفل بطريقة غامضة وفعلٍ مجهولٍ قبل أن أعود إليه ثانية.

هو وهي، لم يخيل إليهما حسب تصوري، أنني سأرحل إليه يوماً. سأفعل ذلك غداً. سأحمل الناي وكتباً خفيفة وذكريات ثقيلة لا زالت تدور على نفسها فكأن الزمن لا يمر عليها، لا يعنيها. سأسكن في »البيت القديم«. نعم، سأفعل ذلك. قد يمتد سكناي فيه لبضعة أسابيع، وقد يطول حتى نهاية العمر. فثمة شأن عظيم لي معه؛ عظيم جداً.

 

المجازفة تكون

خياراً أو لا تكون.

أبي باع البغل قُبيل سفره. أبي باع كل شيء ثمين قُبيل الهجر. ومع اقتراب موسم قطاف الزيتون من نهايته بدأت أمي تبيع محتويات البيت كافة. حتى ألعابي كانت معروضة للبيع. أنت كبرت، قالت.

ولقد أقبل الفلاحون بداية على شراء المعدات الزراعية والأدوات. تسابقوا على شراء طيور الحمام والدجاج والأرانب أيضاً. أمي أبقت على ديك واحد. تريد أن تحمله هدية لأختها عندما نرحل إلى المدينة. على أن بيتنا راح يفرغ بسرعة مذهلة في الأيام اللاحقة، فكأن ريحاً راحت تدور في أنحائه وتقتلع الأشياء من مواضعها. كنت أتألم أشد الألم لكل قطعة أثاث يحملها المالك الجديد على ظهر دابته ويمضي بها منحدراً الرابية نحو الوادي أو صاعداً نحو القمة. مع كل واحدة لي قصة أو فصل وذكريات. كل قطعة أثاث كانت تختزن رائحة أبي وأمي والطفولة. البيوت الفارغة تكون في الغالب منفرة. تخلو من المشاعر ومن الدفء. كان لإفراغ بيتنا من مصادر الألفة وقع جلل في نفسي. بدأت أشعر أنه قاحل كالبادية، رهيب كليلها، مشرع كأفقها، مخادع كأوديتها. صرت أستعجل الرحيل منه صوناً للذكريات الجميلة من التصدع والتلوث والتشوه. صرت أكثر التصاقاً بأمي. أينما تذهب أَمشِ وراءها. لم يكن سلوكي هذا مرغوباً منها دائماً. فلقد كانت تبعدني عنها عندما تبتغي إخفاء الكيس المصنوع من جلد الماعز. في الواقع، هي كانت تحمله معها طوال النهار. كانت تلفه بالحزام القطني حول بطنها وتتستر عليه. كانت تنام دون أن تفك الحزام. ومع ذلك، كانت من حين إلى حين تحاول أن تخفي الكيس الجلدي في مكان ما فكأنها تريد أن تستريح من حمله لبعض الوقت.

انتهى موسم قطاف الزيتون، ولم يبق لنا سوى بضعة أيام ونغادر البلدة. كما لم يبق في بيتنا سوى فراش ممزق ولحاف منتوف وأوان قليلة وعتيقة ورخيصة. بات منزلنا موحشاً، وصرت أشعر بالغربة في حجراته فكأنني لم أولد فيه؛ كأنني لم آكل من ترابه. صارت أمي تستعد للرحيل بهمة متزايدة. رمت الكثير من ثيابي ومعظم ثيابها. خاطت لي بنطالاً من قطعة قماش قديمة تحتفظ بها من أيام خطوبتها. أكثرت من زياراتها للجارات، وأكثرت الجارات من زيارتها. صرت سريع الانفعال والتوتر، لأنني لم أعد أجد ساعة أنفرد فيها بعنايتها.

ولقد بدت أمي في الأيام الأخيرة في الضيعة امرأة قوية وشجاعة، بل وغير مبالية بالتحديات التي تنتظرها أو التي هي أمامها. توقفتْ عن البحث عن مصادر القلق. امتنعتْ عن الكلام عن أبي وعن معاناتها في سفره والمصاعب التي تواجهها. تخلت عن الشكوى تماماً. وفجأة صارت تهتم أكثر بأناقتها وبكحل عينيها بعد سنوات من التخلي عن ذلك. كان يطيب لي للغاية أن أراها متزينة جميلة. كانت أمي تعرف هذا، لكنها نادراً ما كانت تقف أمام المرآة لتشدد على مواطن الجمال في سحنتها خشية من لسان القوم. إنما في تلك الأيام الصعبة القليلة السابقة لرحيلنا إلى المدينة، واظبت على أن تتزين وراء الجدران بكثرة، تتجمل وتسألني:

- إذن، ما رأيك يا حبيبي؛ هل أمك جميلة؟

- أجمل ما رأيت.

كانت تَضُمُّنِي على عجل. تقبلني وتستنشق رائحتي من عنقي بلهفة ودفء. كم كانت بحاجة إلى أنوثتها في أفواه البشر!

 واظبت أمي إذن على توسيع مقلتيها بالكحل صباحَ كلِّ يوم. يومَ السفر ذاتَه، اكتفت بالأناقة وبتمشيط شعرها وتصفيفه بجديلتين طويلتين. استيقظتْ عند أذان الصبح. ذهبتْ إلى الغرفة الأخرى واستحمت في العتبة بالماء البارد. عادت بعد حين تدلك جلدها بالمنشفة وترتجف. أشعلت النور وراحت تقلب جسدها بعينيها. كانت مبتسمة. يبدو أنها كانت راضية عنه تمام الرضا. فركت صدرها وعنقها بحجر المسك. لفتْ الكيس المصنوع من جلد الماعز بالحزام القطني فأحكمت اللف. شدته حول خصرها بتمهل وإتقان. سرحت شعرها الأسود الطويل كليل الشتاء، وجدلته. لبست ثوبها الأزرق المتدلّي حتى رسغيها وشدته على خصرها بحزام أسود منسوج من خيوط صوفية غليظة. قبّلتني بهدوء. أيقظتني على عجل. الطريق طويل ولابد من الانطلاق في الفجر الباكر.

حملت أنا الديك مدلى من ساقيه المكتوفين. كان ديكاً عنيداً؛ يصفق بجناحيه ويحتج بلا كلل. حملت أمي صرة من الثياب على كتفها وأخرى بيدها ونزلنا إلى أسفل الوادي. لم أر في وجهها علامات أسف أو حزن وهي تقفل الباب خلفنا وتناول المفتاح للمالك الجديد وتبارك له دارنا. كنت أتوقع أن تبكي أمي بعض الوقت وهي خارجة من الدار للمرة الأخيرة. كنت أتصور أنها ستشكو القدر وتذرف الدموع قبل أن تُسلم أمرها إلى الله والحظ وتمضي إلى المدينة. كنت أتخيل أنها سَتُقَبِّلُ الجدار الذي بنته بيديها وتودعه بأسف وحرارة. لكنها فاجأتني. أدارت ظهرها للماضي ومضت بعزيمة لا يشوبها اضطراب. طلبت مني أن أتبعها. كانت مبتسمة بعافية وهي تبتعد عن الدار، فكأنها تخلصت من داء أو من شقاء. لم أسألها عن سر سرورها المتزايد وهي تبتعد أكثر فأكثر عن بستان الزيتون و»البيت القديم« وبيت الزواج والزوج. وفي الوقت نفسه لم أدرك شيئاً من طبيعة سلوكها المحير. لم يكن عمري قد تجاوز الثالثةَ عشرة بعد.

عبرنا بستان الزيتون. شاهدت فيه عصافير صغيرة وكثيرة على غير عادة، تتطاير على الأشجار وتغرد للصباح. مررنا بجانب »البيت القديم«. كيف يصمد هكذا منهكاً أمام النسيم؟ توقفنا في أعلى الرابية ونظرنا إلى الخلف. النظر إلى الخلف يوقظ الحنين أو الشفقة أو كليهما. كانت الشمس قد أشرقت قليلاً وصار بوسع المرء أن يلحظ نورها مسلطاً على الأماكن المكشوفة والمرتفعة. بيتنا كان لا يزال في الظلال، وكذلك الجزء الأكبر من بستان الزيتون.

- لا تقلق يا بني ولا تحزن، قالت أمي بمحاولة منها لاقتلاع الحسرة من قلبي وأضافت، ففي هذا المكان تتوفر أسباب التعب والشقاء وحسب. أما في المدينة فإن إلى جانب ذلك أسباباً للأمل في الخلاص من الفقر والشقاء أيضاً. ثم، هل ثمة فوز بلا مجازفة؟

المجازفة هي خيار. أمي لم تختر.

انحدرنا عن الرابية من جانبها الآخر، ورحنا ندك الطريق الترابي في المنبسط. إشراقة الشمس كانت تتسع وتملأ الأفق ضياءً. كنا نصادف الفلاحين راكبين بغالهم وحميرهم في الطريق، ومتجهين إلى البساتين المتناثرة على الجانبين وعلى سفوح الروابي المتاخمة لبلدتنا. وجوههم في الصباح تكون هادئة كهمس الليل. كانوا يلقون التحية بنبرة مفعمة بدفء الود والسماح. كانوا يتمنون لنا سفراً سعيداً وطيب الإقامة في المدينة.

- المدينة كالبحر، كبيرُ الأسماك يأكل صغارها.

هكذا قال أحدهم. أزعجني قوله هذا. بل أخافني من المدينة قبل الأوان.

كانت أمي تجهد كي تختصر الكلام مع الفلاحين المارة. فضولهم لا ينتهي، وصبر أمي كذلك. بيد أنه كان علينا أن نواصل السير نحو قرية »الصبارة« دون إبطاء. وهي بلدة، بوسع المرء أن يرى بيوتها الطينية الواطئة وصوامع الحبوب المنتصبة على أطرافها من فوق الرابية، ومن جانب »البيت القديم«. لكنها مع ذلك، كانت بعيدة. بلدة تقع في الطرف الآخر من المنبسط الممتد على مدى النظر. كان علينا أن نسرع وأن نصل إلى وسطها باكراً ما أمكن. ذلك أن الحافلة التي ستقلنا إلى المدينة كانت تنطلق متى امتلأت بالركاب لا متى حان الوقت. لكن ليس قبل الساعة الثامنة صباحاً وليس بعد الساعة التاسعة والنصف من النهار. كانت الحافلة تذهب إلى المدينة مرتين في الأسبوع لا غير؛ يومي الخميس والأحد. ولم يكن هناك من واسطة نقل أخرى إلى المدينة سوى قوافل البغال المحملة بالفلاحين والمحاصيل الزراعية. قوافل متعبة رغم الهمم؛ تنطلق في المساء كي تصل مع حلول صباح اليوم التالي أو قبله بقليل إلى أسواق المدينة. إنها قوافل البحث عن الرزق المغموس بألوان البؤس والشقاء.

بلغنا مكان انطلاق الحافلة؛ ساحة ترابية صغيرة محاطة ببيوت متآكلة الجدران، واطئة، وبمسجد تعلو مئذنته الطينية كل بيوت البلدة، وكل أشجارها وصوامعها. لم تكن الحافلة قد وصلت المكان بعد، لكن معظم الركاب كانوا هاهنا في الانتظار. المسافرون القادمون من القرى الصغيرة المجاورة كانوا قد تناثروا في المكان ونثروا صررهم المزركشة وحقائبهم الرخيصة وقفف بيض وعلب لبن وغيرها من الهدايا التي اعتادوا أن يقدموها لسكان المدن من أقارب وأصدقاء ومعارف. العديد منهم كان مستلقياً إلى جانب جدار وقد وضع رأسه على حمولته ونام. وحيث جلسنا، أمي وأنا، كان يجلس رجل مسن، نحيل، هزيل، عيناه تقطران مرضاً ونظرته زائغة. ثمة قملة سوداء محقونة كانت تحبو في أعلى جبينه ولا قوة له على قتلها. ابنه الذي عاد إليه بعد حين هو الذي انتزع القملة من وجهه وفقسها بين اظفري إبهاميه ومسح دماءها بالأرض.

جاءت الحافلة أخيراً مدفوعة بضجيج محركها والدخان المنبعث من مؤخرتِها فكأنها محرقة متنقلة. لا أحد من المسافرين اعترض على التأخير، لا أحد منهم مل أو اغتاظ. نهضوا من راحتهم وساروا على عجل إلى الحافلة؛ يريدون أن يحتلوا المقاعد الأمامية أو تلك التي تحاذي النافذة مباشرة. لحظت الرجل المسن المريض يصل بمساعدة ابنه إلى باب الصعود الخلفي ثم يتراجع خطوة صغيرة. سار بجانب الحافلة إلى وسطها تقريباً ثم انحنى قليلاً وطبع قبلة طويلة على صورة جمال عبد الناصر الملصقة في المكان. رفع قبضته بعدئذ عالياً وصاح باهتياج المنتصرين؛ بصوت لا يحد من قوته غير المرض وشدة الانفعال:

- يحيا ناصر... يحيا ناصر... تحيا الوحدة وتحيا الأمة العربية.

تنبه الركاب لصرخته ونشوته ولرعشته فتوقفوا لحظة قصيرة. رمقوه بعين الرضا، بإكبار، بشفقة، بصمت، وتابعوا صعودهم إلى الحافلة.

لم يجرحني اتهامه

جرحني لؤمه

بداية، لم ترق لي المدينة على الإطلاق. شوارعها بلا آفاق منفتحة على السماء؛ شوارعها تخلو من العصافير ومن الهدوء ومن النور ومن التحيات والفضول. رائحتها حاصرتني كحظٍ سيء. ليست هي رائحة الأشجار والعشب المبلل بالندى الذي كان يعطر الصباح في الضيعة. ليست هي رائحة الحيوانات الأليفة المتمرغة بالتراب والعرق، والتي كانت تفرض عليّ الشعور بالانتماء العفوي إلى الطبيعة. إنها أشبه ما تكون برائحة البطاطا المتعفنة في باطن الأرض. ولعل ما كان يعزز انطباعي هذا، هو أن شقة خالتي كانت تطل على الشارع الرئيسي في وسط السوق الكبير؛ سوق الخضار والغبار.

بدا لي وقع الحياة في المدينة سريعاً وعصبياً على نحو جعلني أشعر بالقلق والحاجة الدائمة إلى التيقظ. كان يزعجني على نحو خاص ضجيج الشاحنات القديمة التي تجر عربات محملة بصناديق التمر وأكياس الرز وتشق بصعوبة بالغة طريقها المحفوف بالمخاطر في الأزقة المكتظة بالباعة والمتسوقين. كان يهزم اتزاني رؤوس الحيوانات المطبوخة المعروضة للبيع والأكل على قارعة الطريق والذباب الأزرق يتطاير من حولها ويحط عليها. كان يهز كياني بقوة أولاد بمثل عمري يبيعون متجولين أشياء بسيطة محمولة على صينية من تنك صدئ. كذلك، كانت النساء المتشحات بالسواد الجالسات على الأرض ابتغاء التسول والعطف يفعلن في نفسي سوءاً عظيماً. عموماً، كنت غريباً حقيقياً عن المدينة، وكانت هي غريبة عني بقسوة وجفاء. فالألفة تحتاج وقتاً. الشعور بالانتماء يحتاج إلى غير هذا، وإلى ما هو أكثر من هذا.

ولقد آثرت خلال الأسابيع الأولى أن أحتمي من الغربة ووقعها المدوي في نفسي في بيت خالتي. على أن بيتها المعتم كقلب حاقد، لم يكن ملجأً مثالياً، بل لم يكن ملجأً مقبولاً، لكنه كان الوحيد على أية حال. فهو بيت محقون بالتوتر والضجر. هواؤه الرطب يحمل إلى الصدر غماً وضيقاً. جدرانه المطلية باللون الأخضر القاتم والمعلق عليها لوحات كثيرة وقديمة لوجوه غبية هو شيء يطبق على النفس والتنفس. لكنه كان على الرغم من عيوبه الحقيقية أرحم من المدينة. ففي شوارعها كنت أشعر بالتيه والضياع. الضياع بين كم هائل من الناس. التيه في أزقة المدينة المزدحمة بالسِّحَنِ المجهولة، الغريبة، دمّر مساحات هائلة من منابت الحلم في روحي ووصم طفولتي المتأخرة بعدم اليقين والاضطراب.

كنت إذن أتجنب الخروج إلى شوارع المدينة ما أمكن. كنت أهرب منها إلى الماضي والذكريات أو إلى عالم أبي والحنين إليه. كنت ألوذ ساعات عديدة من النهار في الغرفة التي خُصصت لإقامتنا؛ أمي وأنا. وعندما كان زوج خالتي يعود من عمله كنت أطفئ النور وأتصنع النوم.

زوج خالتي رجل شديد السمرة، نحيف وطويل فكأنه جذع شجرة فتية في الخريف. وجهه شاحب على الدوام ويَنْضَحُ عرقاً في ساعات الأكل والكلام. مقلتاه ضيقتان تخلوان من الحرارة وأسباب الأُنس. أسنانه سوداء بفعل سجائره التي كان يشعل الواحدة منها من جمرة الأخرى بين شفتيه. هو لا يغسل أسنانه أبداً؛ حتى أنه لا يغسل وجهه في الصباح. على أنه في الحقيقة، ليس هذا هو الذي كان يضع هوة عميقة من الجفاء والكراهية والريبة بينه وبيني.

فزوج خالتي كان رجلاً حقيراً للغاية. كنت أخاف منه وأتمنى له أن يموت تحت عجلة سيارة أو اختناقاً في البحر. ليذهب إلى الجحيم. فلقد كان ذا وجهين متناقضين ونوايا يعلم الله كم هي سوداء ودنيئة. فبين الناس، أمام زوجته وأمي، كان يداعبني بيده ويلاطفني بالكلام فكأنه يضمر لي حباً أبوياً لا يعلى عليه. والحال هذه، كيف سأشكوه ومن سيصدقني؟ على انفراد، كان يرمقني بنظرات حادّةٍ مخيفة ويكلمني بألفاظ مؤلمة ويلامسني بشراسة موجعة. كان يظهر لي احتقاراً كبيراً عندما يخلو المكان من شاهد أو لائم. كان مزاجه معي ينقلب تماماً حالَما تغيب عنه العيون فَيُظْهِرُ لي حقداً وعداوة. لم أكن أرى في عينيه غير الشر. وعلى كلٍّ، فالرجل لم يكن يبذل جهداً لإخفاء مشاعره هذه. طالما تساءلت، من أين كان يأتي بتلك الألفاظ الجارحة ويرمي بها روحي الغضة وقلبي الصغير؟!

عاد ذات مرة من العمل قبل الأوان وكنت وحيداً في البيت. أمي وخالتي ذهبتا للتسوق في عمق المدينة. دفع باب غرفتي دون استئذان أو تنبيه، ووقف في المكان ضاحكاً فكأنه جنّي يفوز بمأرب. أخافني على نحو شديد. بسمته كانت مريضة بلا شكٍّ. أحسست أن قلبي يخفق بسرعة وتوتر، وأن أحشائي تنحسر نحو الأسفل. لم أتحرك من مكاني على حافة السرير. حقاً لم استطع. أوهنني الغموض في نواياه. ثم صرت أكثر ضعفاً وخوفاً عندما رأيته يسير نحوي بهدوء مفتعل. أخفضت رأسي وقد أضحى منتصباً أمامي وهامته تكاد تطالُ السقفَ. قبض على عنقي من الخلف وأخفض رأسي أكثر. شد عليه بأصابعه النحيلة القوية حتى صرت أتلوى في مكاني من شدة الألم. نهرني. وصمني بألفاظ معيبة. اعتبرني عنوان عار ومصدر شؤم ونحس. اتهمني بسرقة ليرة من جيبه. سألني عنها. كان قد أنقضى نحو شهر على وجودنا في بيته ولم أدخل مرة واحدة إلى غرفته. لم ألمس يوماً ثوباً من ثيابه. كانت ثيابه متسخة دائماً برائحة العرق والسجائر الرخيصة. كنت أشعر بالاشمئزاز من رائحة ثيابه؛ فكيف سأمد يدي نحوها؟ لم يجرحني اتهامه. جرحني لؤمه. قال لي فأبكاني:

- حتى أبوك هرب منك يا لعين.

- كلا، هذا ليس صحيحاً!.

بل هذه هي الحقيقة. أبوك فر منك ومن أمك. فبشاعتها لا تُحتمل؛ وثقل دمك أيضاً.

عادت أمي من التسوق عند المغيب. دخلت إلى غرفتي فوراً وسريعاً. كانت تحمل لي بنطالاً جديداً وحذاءً بلاستيكياً أسود لامعاً. كانت تتطاير كفراشة من شدة الفرح بذلك. كانت مندفعة بهديتها، وكانت تأمل أن تغرس البسمة في وجهي وتسرّب إلى صدري بعض السرور. المدينة جعلتني أقل قدرة على الضحك. كانت أمي تشعر بذلك جيداً. كانت تحزن لهذا الطالع وتقلق منه بشدة. كانت تفعل ما بوسعها كي أسترد بسمتي والانفراج في سحنتي. عبثاً كانت تحاول.

ذهبت فرحتها حالاً وحل محلها وجوم وأسَىً عندما وجدتني منكباً على وجهي وقد بللتُ الوسادة بالدموع وتلونت سحنتي بالعذاب. جلست إلى جانبي وراحت تداعب عنقي من الخلف بطراوة ورقة. حاولت أن تدير رأسي نحوها لكنها استجابت لرفضي سريعاً وتخلت عن الأمر حيناً.

- ماذا جرى؟ سألتني بعد صمت.

- لا شيء.

- استدر نحوي وقل لي يا بني، إنني أمك، وليس في هذه الدنيا من يسمعك ويفهمك ويساعدك مثلي.

- لماذا هرب أبي منك ومني؟ قلت واستدرت نحوها غاضباً.

- من قال هذا؟

- زوج خالتي. قال إن والدي لم يحتمل رؤيتنا ففر إلى مكان مجهول وراء البحار، وإنه لن يعود إلينا أبداً.

أصيبت أمي بموجة من الذهول والصمت. نظراتها شردت واحتقن وجهها بدماء الغضب. رأيت بعد حين الدموعَ تسقط من عينيها. الدموع المصحوبة بالصمت رهيبة! داعبت شعري وقالت:

- سأبحث عن بيت نستأجره في الغد. سأبحث عن عمل أيضاً. لا عليك يا ولدي.

انتقلت أمي بعد ذلك إلى سريرها قبالتي وانطوت على أحزانها وحاولت أن تنام.

إنهم فقراء مثلنا،

يبحثون عن خبزهم

بطريقة غير طريقتنا.

أخذت أمي يدي وصرة ثياب ومضينا إلى حمام المدينة وقت العصر. كان الجو حاراً، وكانت أجسادنا تحكنا من تراكم الوسخ وتقطر العرق. آنذاك، كان قد مضى خمسة أيام على »نزوحنا« من بيت خالتي الذي وصفته أمي بالمعيب والكئيب، وأقسمت ألا ترجع إليه ثانية على الرغم من عَوزِها. ولماذا يعود أمرؤ إلى مواطن الإذلال والإهانة؟!

حقاً، لقد عملت أمي ما في وسعها، وبأسرع ما يمكن، كي نبتعد عن أذى زوج خالتي المنافق، اللئيم، ذي الوجوه المتلونة. لم تتريث ولم تتأن البتة في بحثها عن بيت لنا. على أن هذا لم يكن حسناً. فلقد دفعها الحرص والتسرع والفقر إلى أن ننتقلَ للعيش في بيت حقير في حي »الدالية« الشديد الفوضى والإهمال. إنه المسكن الأول الذي عثرت عليه أمي على أية حال، ولم تكن لديها أدنى إرادة في تأجيل انتقالنا إلى مسكن مستقل. لم تكن لتهتم بسبل الراحة أو بأحوال المكان في تلك الفترة وفي تلك الظروف. كان يعنيها قبل كل شيء وأكثر من أي شيء أن تعثر على ملجأ، أي ملجأ نفرّ إليه من رجل غليظ العشرة؛ يحكي فيجرح ويداعب فيؤلم.

البيت الذي انتقلنا للعيش فيه، كان صغيراً للغاية؛ حجرة واحدة قائمة منفردة في العراء في باحة خارجية تابعة لمعمل صابون يدوي. لا أظن أن أحداً يتذكره الآن. لقد محاه الزمن، وحل محله متجر كبير لتصنيع القوارب الصغيرة وبيعها، وامتلأت مخازنه بالأخشاب وآلات الحفر. كان يُسمى »معمل هادي«، وذلك نسبة إلى اسم صاحبه الطيب.

مسكننا الجديد إذن، كان مقتصراً على غرفة تافهة واقعة على طرف المصنع. كان منظره موحشاً للغاية، وكان يزيد من وحشته أولئك العمال الغرباء الذين يمارسون أعمالهم تحت الشمس وصدورهم المصلية عارية وعضلاتهم بارزة كقدح شر. كانوا يتعمدون المرور بجانب غرفتنا، ويتطلعون إلى أمي بعطف وشهوة. كانوا، كلما سنحت لهم الفرصة، يحادثونها بتودد وتصنع وعيونهم تحكي رغبة وشبقاً. على العكس منهم، كان السيد »هادي«، صاحب المعمل والكياسة المتميزة، يدخل الطمأنينة إلى صدري. كانت قسماته مكتظة بشارات السمو والسماح، وكانت كلماته هادئة مفعمة بحسن النوايا وأمنيات الخير. رجل انار وجهه بالإيمان؛ كما وصفته أمي. كانت، رحمها الله، تنتشي وتسعد بعد كل حديث معه.

إنني أتذكر بنوع من الافتتان والامتنان السيد »هادي« وهو يقدم لنا مفتاح الغرفة ويشرح لنا حدودنا وحدودها. يا إلهي كم كان لطيفاً وخجولاً وهو يخبرنا بأنه يجب علينا أن نتدبر أمر اغتسالنا في عتبتها أو في المدينة أو عند الأقارب، أو حتى في البحر! كم من مرة عبّر عن أسفه لأنه لا يستطيع أن يساعدنا أكثر وبخاصّةٍ في هذا الأمر! كم كان حرجه كبيراً وهو يخبرنا كيف أن المرحاض سيكون لنا وللعمال في آن، وأنه سيطلب منهم تنظيفه بين حين وآخر. كان المرحاض يقع في الطرف الأخر من المصنع، إلى جانب صنبور الماء المنتصب في الفناء، وكان على أمي أن ترافقني إليه في الليل. لم أكن أخاف الظلام ولكن أمي كانت تخاف عليّ منه. كنت أرافقها إليه في الليل. لم تكن أمي تهاب العمال، لكنني كنت أخشى عليها منهم.

أتذكر أيضاً بوضوحٍ وصفاءٍ وجهَ أمي الشديدَ التوتر والاكفهرار ساعة انتقالنا إلى المسكن الجديد. لم تكن راضية عنه بحال، لكنها في الوقت نفسه لم تفكر البتة بخيارات أخرى. وأي خيارات أخرى متوفرة لامرأة ريفية مهجورة تجر ابنها والخيبة والفقر في شوارع المدينة؟ كانت همتها عالية لكن الحزن كان سطراً بارزاً في محياها. فأين يا ترى، فضاء القرية والبساتين من هذا المكان الحقير؟ أين رائحة الأرض والعشب في الضيعة من رائحة المصانع والغبار في هذه الدائرة المعزولة عن نور الصباح وشمس الأصيل؟ أين عالمي المفتوح على الله واليقين من هذا العالم المطل على الآلات والريبة؟ أين نظافة بيتنا من قذارة المكان الذي سننام ونطبخ ونأكل ونستحم فيه؟ كانت الغرفة متسخة للغاية، وكانت أمي تنظر إلى ذلك بتأفف ورفض. فلقد كان العمال في السابق، قبل أن ننتقل إليها، يحتمون بها من الحر ويتناولون وجباتهم السريعة هناك، ويستلقون أرضاً وأحذيتهم المتسخة مرفوعة إلى فوق. كانت جدرانها ملطخة بالسواد وببقايا زيت وآثار شاي، وكان لونها من لون فلترالسجائر المحترقة. ولم يكن حال الغرفة من الخارج أفضل أبداً. فقد كانت الحفر منتشرة بكثرة، وكذلك أعشاش السنونو ومخلفات الحمام. كان بابها خشبياً عتيقاً يكاد لا يقوى على صد النسيم من النفاذ إلى الداخل. ويبدو أن أحد العمال كان قد لصق عليه صورة لفتاة شبه عارية، ولم يرق الأمر لعامل آخر فحاول انتزاعها. خلع نصفها فقط فَشَوَّهَ الصورةَ والباب.

لم تتوان أمي عن الفعل. كانت تظهر لي إصراراً عجيباً على أن تخلّص الأشياء من مراراتها وأن تَجْتَزَّ التعاسة من ألوان المكان وتنثر عليه فرحاً من طبعها الفرح. كانت عزيمتها على خلق واقع جديد كبيرة؛ بل كان هذا تحدياً لا مناص من قبوله والانتصار عليه. عملت طوال الأيام الأولى على تنظيف الغرفة وترقيع الحفر والثقوب. كلّست الجدران ثلاث مرات. فعلت ذلك بهمة ونشاط لا مثيل لهما، لكن باشمئزاز يلوح في مقلتيها. كانت، بين الفينة والأخرى، تنادي والدي البعيد، التائه خلف الحلم والبحار، القابع في ظلال الذكرى بلا عنوان، متمتمة بعصبية وملامة:

- تعالَ وأنظر إلى ما تركتَ وراءك. تعالَ تفرج على آثار جنونك وعجزك.

عملت أنا أيضاً مع أمي بجدّ واندفاع. ساعدتها على أمل أن تتجاوز محنتها مع المكان وقذارته. كنت مستعداً للقيام بأي شيء مقابل أن تسترد بسمتها الدافئة كحضن السماء في الصيف. آه لو كنت أعلم فقط كيف أرد لها بسمتها المفقودة في حالة من الضياع!

على كل، بذلت ما تصورته ممكناً وجيداً. نقلت لها الماء من الصنبور البعيد في وعاء طبخ معدني صغير. سندت السلم الخشبي حينما كانت تصعد عليه لتكليس السقف أو المناطق المرتفعة من الجدران. واسيتها بالقبلات واللمسات متطلعاً إلى أن يأخذها ذلك إلى شيء من الهدوء وإلى شيء من الرضا. نظفت الباب من بقايا الصورة المشوهة ومن قشور الدهان المتشقق النافرة. جمعت المعلبات الفارغة المتناثرة حول الغرفة. كنست التراب الناعم المتراكم عند حافة الباب. عالجت بؤر النمل الكثيرة المتواجدة حولنا. تجنبت السؤال أو الحديث عن والدي لعلمي أن ذلك كان يغضب أمي ويجعلها حادّة المزاج ومنطوية على نفسها.

ولقد طاب لأمي تضامني الشديد معها، لكنه حقن صدرها بمزيد من الحزن. فهي لم تكن ترغب في رؤيتي كبيراً، محملاً بهموم الكبار، قبل الأوان.

على أن روح أمي هدأت في نهاية المطاف؛ بحلول اليوم الخامس بعد انتقالنا للعيش في تلك الغرفة الحقيرة. ذلك أن كل شيء فيها أضحى نظيفاً. أما جسدانا والثياب فلا. فرائحة البؤس كانت تفوح منهما، وتغالب رائحة الزيوت في المعمل. ولذا قررنا أن نذهب بعد الظهر إلى حمام المدينة للتخلص من آثار التعب والقلق والعرق. تجملت أمي طويلاً قبل أن نمضي فكأنها كانت تخبئ عيباً. ضياع الهوية في المدينة سمح لها بأن تشدد على أنوثتها بالمساحيق دون خجل أو خشية من ملاحظة جار أو من ملامة أب. مررنا عبر السوق الكبير في طريقنا إلى الحمام. الباعة يجمعون خضارهم وفواكههم التالفة في صناديق خشبية على جانب محلاتهم. ذباب وزنابير ومتسولون يرتعون في تلك الصناديق. الباعة يرتبون بضاعتهم ثمرة ثمرة، ويدعون المارة إلى الشراء. إغراءاتهم عديدة لكنها لا تنطلي على الكثيرين. اشترينا حبتين من التفاح الأحمر ذي العطر القوي. كان البائع السمين كبرميل زيت يَرمُقُ أمي وكأنه لم ير امرأة منذ أعوام. التهمها بعناية. قال لها كلاماً لطيفاً. كانت تبتسم له على مضض. من المرجح أنها كانت غير مرتاحة لإطرائه وغير مهتمة بنواياه، لكن الضعيف يضحك للذي يسبّه أو يسبّ الذي يضحك له. أهداني حبة ملبس بيضاء كبيرة كان قد أخرجها من جيبه أمام ناظري. طبطب على ظهري بتودد. أخذتها منه ومضيت دون أن أشكره.

على أطراف السوق الكبير من جهة الشمال استوقفنا طفل يبيع متجولاً صوراً كبيرة لجمال عبد الناصر وأشياء أخرى. كان رث الثياب، عصبي المزاج، كثير الكلام. شكا لنا من الحر واليتم والفقر بجمل متواصلة فكأنه تدرّب عليها وحفظها ليثير الشفقة. والدته ميتة، قال، وزوجة أبيه ظالمة؛ تعضّ ساعده وتطعمه خبزاً يابساً. تبسمت له أمي بصدق. الابتسام لا يعنيه. طفل متعوّد على الشك في نوايا الناس، ولا يقيم وزنا للمشاعر الطيبة. وماذا يفعل جائع بحسن الكلام؟ بحثت أمي عن شيء ما بين بضاعته المحمولة فلم تجد ضالتها. عبّرت له عن أسفها وشكرته بلمسة حنان وعطف. غضب لأنها لم تبتعْ منه شيئاً. توجهت إلى طفل ثانٍ كان واقفاً على الجانب الآخر من الشارع وعيناه الصارمتان بغموض تنظران إلينا بثبات ممل. اشترت منه أداة حلاقة مصنوعة من بلاستيك أصفر رخيص وعلكة. شاءت أمي إذن، أخيراً، أن تزيل الشعر عن جسدها؛ الأمر الذي كانت تفعله في حالات نادرة.

وصلنا إلى ساحة »الدوار الكبير« فكانت المفاجأة التي حملتني إلى غربتي وقلقي والرغبة المتجددة في الهروب إلى الوحدة خلف الأبواب المقفلة. لا جدوى من الحنين إلى الضيعة المفتوحة على البساطة وبساتين الزيتون. لن ترجع أمي إليها أبداً. لم يبق لها هناك غير ذكرى أطياف من المرارة.

- وماذا لنا في هذه المدينة؟ سألتها ذات مرة محتجاً.

- الأمل، قالت باختصار ولزمت الصمت.

المفاجأة في ساحة »الدوار الكبير« جعلتني أبحث عن والدي في الوجدان الممتد إلى الرابية وإلى أطراف »البيت القديم«. حاصرتني في أعوام الطفولة الأولى. الغربة ليست شعوراً وحسب، ليست واقعاً يفرض نفسه بقوة فيعكر صفاء النفس، هي قبل كل هذا، أكثر من ذلك، تحديات متواصلة وخوف وقلق. كان علينا أن نعبر الساحة ونستأنف الدرب إلى حمام المدينة الواقع في عمق حي »السرايا«. لكن هذا الأمر بدا غير ممكن. فليس من سبيل للتقدم في الساحة وصولاً إلى الشارع العريض المؤدي في نهايته إلى غايتنا. ذلك أن حشداً مهيباً من الجماهير كان يملأ المكان صراخاً وحماساً وأعلاماً وصوراً ويافطات. شعارات لا تحصى يقول بعضها:

الوحدة...الوحدة.

تسقط سايكس – بيكو.

يا ناصر انصر ناصر.

قطع الإقطاع ولا قطع الأرزاق

الصهيونية مشروع استعماري بريطاني.

الصهيونية عيب الغرب في بلادنا.

شعارات أخرى كثيرة، كانت مسطرة بالمغرة الحمراء على القماش الأبيض. رجال الشرطة المدعمين بعدد كبير من الجند، كانوا يحيطون بالمتظاهرين مسلحين بالبنادق الأوتوماتيكية والهراوات. كانوا يرصدون بعيون متفجرة باليقظة مواطن الشغب. كانوا يسجلون كل حركة وكل صرخة، وقسمات كل شخص. شعرت بالخوف يموج في أوصالي أمام ذلك الكم الهائل من الرجال المسلحين بالجدية والبنادق والأزياء الرسمية. أحسست بالقشعريرة بمواجهة تلك الجمهرة الكبيرة من الناس المندفعين المتدافعين. بحثت عن راحة أمي وتركتها تضم راحتي.

غير أن المشهد، بالنسبة لوالدتي، كان مدغدغاً للمشاعر ومثيراً للفضول. امسكت أصابع يدي بقوة وتوقفنا جانباً. تفرجنا على المتظاهرين عن بعد، بصمت، وذهول، ونوع من الإكبار والإجلال. كانت أمي هادئة فكأنها بين قومها، بينما كنت أشعر بأن روحي تنسلخ من رحمها فكأنها تولد في العراء. كنت أشعر بها تنزلق بعشوائية فكأن سيلاً من ماء عكر يتقاذفها في واد عميق. هي الأرواح تولد أكثر من مرة، بطرائق مختلفة وبهيئات متجددة. دعوت أمي للذهاب والابتعاد عن الضجيج وعن النفوس الهائجة. تمنيت عليها أن تسحبني من حيرتي من هؤلاء الناس المنفعلين. رجوتها أن تنتزعني من الخشية من أولئك المتظاهرين غير القادرين على ضبط انفعالهم وسلوكهم. لكنها واستني بلمسات أناملها الدافئة اللطيفة كنسمة هادئة وقت الظهيرة. دعتني إلى التريث. قالت لي:

- لا داعيَ للقلق يا بني. إنهم فقراء مثلنا يبحثون عن خبزهم بطريقة غير طريقتنا.

لم يخفف قولها من رغبتي في الابتعاد شيئاً. وهل أشرس من رجل يبحث عبثاً عن طعام يومه؟ وقفتنا طالت، وصرت أشعر بالملل يشد على صدري وبالتعب يتسرب إلى ساقيَّ. لكن أمي كانت في حالة وصال لصيق مع الأمل الذي كانت تبعثه بعض شعارات المتظاهرين وخطاباتهم في نفسها.

قُبيل المغيب بنحو ساعة وصل إلى المكان تباشير حشد آخر من الجماهير. أصواتهم الصاخبة، الغاضبة كانت تسبقهم إلينا. جاؤوا من الجانب الآخر من الشارع الواسع حاملين يافطاتهم وأشعارهم وعصيهم. شعاراتهم كانت مختلفة، وكذلك مراميهم ومطالبهم. كان هديرهم صاعقاً؛ يعبر عن إرادة موت أو مس جنون. لا شك في أنه كان حشداً هائلاً ومهيباً. على أن اقترابهم من ساحة »الدوار الكبير« لم يكن حسناً ولا حكيماً. فلقد تغير على حين غرة مزاج المتظاهرين في الساحة. خف ضجيجهم قليلاً؛ أولاً، ثم ساد ارتباك وكثر الكلام. وما هي إلا هنيهة قصيرة حتى صاح أحدهم بحماس شديد عبر مكبر صوت يحمله بيده:

- عليهم يا شباب، مرغوا أنوف هؤلاء الانفصاليين الخونة بالوحل.

 تعالت بعدها صيحات »الله أكبر« من الجانبين، واندفع المتظاهرون في الساحة متحمسين للقاء الحشد الآخر بالقبضات والعصي والسكاكين. تشابك الحشدان بالأيادي وتداخلا سريعاً. سمعنا أطلاق رصاص، فأخذتني أمي بهلع بالغ وهربنا نحو الخلف؛ نحو السوق الكبير. ثم انحرفنا نحو شبكة الشوارع الضيقة. ابتعدنا عن المكان وبلغنا حمام المدينة التفافاً، لكن أصوات إطلاق الرصاص كانت تشتد كثافة، وكانت ما تزال تسمع جيداً.

تنبَّهت في الحمام إلى أن أمي لا تحمل الكيس المصنوع من جلد الماعز ملفوفاً حول خصرها بالحزام القطني كما كانت تفعل دائماً. بل، انقضت أعوام كثيرة بعد ذلك دون أن أراه خلالها، لم أنسه تماماً، ولكني لم أهتم بشأنه كذلك.

كانت غربتي

تكبر بين الناس.

صارت أمي تتركني نائماً وتذهب في الصباح الباكر إلى معصرة الزيتون الواقعة في قلب المدينة القديمة. بدأت تعمل عند السيد »هادي«؛ صاحب الثراء الكبير وسلسلة من المعامل وغرفتنا الحقيرة. كانت تنهض من فراشنا المشترك بعد قليل من سماعها أذان الفجر القادم من مئذنة مسجد قريب؛ نشطة دائماً وحيوية. تمسح جسدها بماء ساخن وزيت عطر مستخلص من خليط أعشاب برية يغلب عليها الشيح. تسوي شعرها على مهل فكأنها تتغزل به فتؤازر النفس. ترسم عينيها بالكحل البلدي بتأن شديد. تعد لي طعام الظهر وزاداً تحمله معها وتمضي. كان عليها أن تمشي بسرعة وهمة أكثر من نصف ساعة حتى تبلغ المعصرة. فالطريق طويل وليس من واسطة نقل تحملها إلى المكان.

في الغالب، كانت أمي ترجع إلى البيت في أوقات باكرة من المساء؛ فتستنشق رائحتي وتقبل عنقي وتداعب شعري قبل أن تخلع حذاءها وقبل أن تضع حقيبتها جانباً. نعد العشاء معاً وهي تحكي لي يومها، وأنا أحكي لها يومي. فالشوق هو عنوان اللقاء. غير أنها، وبعد شهرين أو ثلاثة، صار يحدث أحياناً أن تصل إلى البيت في آخر السهرة وشارات التعب والإنهاك بادية في محياها، فتستلقي سريعاً وتضمني إلى صدرها وتحافظ على الصمت فكأنها في حال من الضياع أو الشرود. كما أنه صار يحدث أن تعود أحيانا جد متأخرة؛ بعد أن أنتظرها طويلاً بلا جدوى فأتعب وأغفو. بين ذهاب أمي وعودتها؛ أو لا عودتها، كنت أتقلب في جحيم الفراغ والهلوسة. أصلب أبي على مذبح اللعنة. أناديه بهمس فكأنما أقترف جرماً. أمي لا تطيق ذكراه، لكنه لا يخرج من ذاكرتي. أعود إلى الطفولة الباكرة وأصعد معه الرابية في الضيعة راكباً على حمار يجره بطرف حبل فيتسع الرضا. أسير معه في البستان، بين أشجار الزيتون أو على حافة الساقية الضيقة في أسفل الوادي، فأرى حدود العالم بحدود الرؤية. كان والدي واحة أمان؛ وكنت في حلٍّ من أمري.

بداية، رحت أمضي نهاري وحيداً في مدار الغرفة. أتجول في محيط المعمل دون غايات. الغايات تتحدد على الطريق. أقترب من العمال. أقف على بعد أمتار قليلة منهم وحيداً، تائهاً، مضطرباً. أراقبهم وهم يقطعون ألواح الصابون الممدَّدة على الأرض. أجسادهم صلبة، وكذلك نظراتهم. بين الفينة والأخرى يغني أحدهم. يغنون معه فرادى أو جماعة. يحدون للحب والحبيب. وعلى الأرجح فإنَّ معظمَهم لم يعرف هذا ولا ذاك، لكنهم مع ذلك، ينشدون لهما. حتى غناؤهم يميل إلى البؤس والشقاء. الفراق والقسوة واليأس والإجحاف وعدم الوفاء من خصال المعشوق في تلك الأغاني. ولماذا يحن أمرؤ إلى شخص يخون؟ لماذا أحن إلى أبي؟ »أحمد« كان أشدهم قرباً مني. وهو شاب في العقد الثالث من العمر، قصير، أصلع، قلبي الخطاب ومشغول الذهن في الغالب. كان يبادلني الحديث باستمرار. شرح لي مراراً أحوال العمل فكأنني رجل كبير، كأنني صديق. لم أكن أعلم هل كان يفعل ذلك عطفاً على حالي أم تقديراً لي أم أنه كان يتخذ مني مدخلاً محتملاً إلى قلب أمي. كنت أرتاح إليه كثيراً على أية حال، حتى لقد صار جزءاً من يومي، وجزءاً من كلامي. وعندما تعرّض لانزلاق مفاجئ وسقط على شفرات المقصّ الكبيرة، ففقد نصف قدمه وتوقف عن القدوم إلى المعمل، اضطربت كثيراً وتكدرت. ذلك أن غيابه المفاجئ، المأساوي، أعادني إلى عالمي المتقوقع على ذاته وسط عالم المدينة. الحادثة التي قضت على نصف قدمه وعلى وجوده في حياتي هي التي نسفت بوادر الألفة التي كانت تتكون وتنضج في نفسي. في الواقع، خسرانه على هذا النحو جعلني أرى الغربة أفقاً مفتوحاً لا حيلة لي للتغلب عليه. الغربة وحش تتجدد فيه الحياة كلما مات، هكذا بدت لي الأشياء في تلك الفترة من العمر، وفي تلك الظروف.

لطالما تمنيت في الأيام اللاحقة أن يعود »أحمد« إلى المعمل؛ لكنني كنت أعلم جيداً أنني أقذف أمنيات في الفراغ. حتى عندما يستعيد عافيته لن يزاول قص ألواح الصابون ثانية. عاهته ستمنعه، وكذلك ذكرى الألم. فكما كان يؤنسني وجوده في المكان، أضحى يحزنني غيابه عنه. كنت أحتقن مرارة كلما لمحت مكان الحادثة أو آثار دمه القاتم المتيبس على عارضة خشبية ملقاة أرضاً.

بعد فترة وجيزة من إصابة »أحمد«، صرت بدوري أبتعد عن العمال أكثر فأكثر. ثم، ما لبثت أن توقفت تماماً عن الانتصاب على مقربة منهم تحت الشمس ساعات طويلة متواصلة من النهار. ذلك أنهم نادراً ما كانوا يظهرون اهتماماً بوجودي أو لباقة بالتعامل معي. إهمالهم لي كان يدخل إلى قلبي الشعور بالقلق والوحشة. بل إنهم كانوا عندما يدعونني لتناول كأس من الشاي معهم في فيء الجدار الطيني، وقت الظهر، يتهامسون على أمي، فأغرق في الحيرة من أمرهم ومن أمري. كلهم يشتهونها بقوة الحرمان المزمن. يريدونها للمتعة. يريدونها لليلة أو لليلتين ملونتين بلون الخمر وجسدها العاري. فرغباتهم المحاصرة منذ التكوين كانت تطغى على كل شيء، وتحررهم من الأدب والأخلاق ومساءلة الضمير. رغباتهم المكبوتة كانت تخط اللوعة في تطلعاتهم وتلقي بظلال المرض والحسرة في سحنهم الجافة. وبالرغم من أنني كنت متيقناً من أن تطلعاتهم إلى جسد أمي هي مجرد هوس لن يتحقق، وأن كلامهم عنها يجف في حينه فلا يؤدي إلى فعل ولا يترك أثراً، إلا أنني كنت مع ذلك، أخشى نجاح رجل منهم في إيجاد مكانة له إلى جانب مكانتي في قلب أمي. الوقائع تنذر بالخطر، لكن الحرص الشديد قد يخلق الوهم به، وهذا أشد وقعاً وأنكى.

ابتعدت عن العمال لِما كانوا يثيرون في صدري من قلق وشعور بالإهمال والدنيوية المفرطة. صرت أخرج من دائرة المعمل فأتجول حوله بدل أن أدور فيه. فعلت ذلك بحذر كبير في بداية الأمر. فما أن كنت أبتعد عنه قليلاً حتى كانت تزداد مخاوفي من الضياع والغرباء، فألقى نفسي عائداً إلى حاضرته على عجل. بيد أنه مع مرور الأيام اكتسبت المزيد من الجرأة والثقة بالنفس. اتساع الفراغ وتغلغل الملل دفعني إلى التحرر من الأوهام التي حملتها معي من الضيعة كما حملت اسمي وأحلامي ولهجتي. حثني على القيام بشيء ما في سبيل الانعتاق من المخاوف. المغامرة هي طريق الإنسان إلى العظمة، كان يقول أبي. وقد تكون طريقه للهلاك، كان عليه أن يضيف. ولكنه لم يفعلْ. مشيت عبر الشارع الطويل حتى بلغت نهايته، ثم انعطفت نحو ساحة تستدير حول محطة النقل؛ ساحة مختنقة بالمتاجر والباعة المتجولين والشطائر والحافلات والمسافرين. تأملت الناس بعينين ضائعتين ولغايات غير محددة. شاهدت أولاداً بمثل عمري يطوفون في الساحة وبين مقاعد الركاب ويبيعون مرطبات وهدايا. بعض منهم كان يعرض على المسافرين بالونات ملونة وصافرات ورقية طويلة، وينادي على بضاعته بصوت عال. لم يخفف حالهم من ثقل حالي شيئاً. الغربة تزداد، فكأنها حيوان يسمن بالأحداث، أو كأنها بالون في يد واحد من أولئك الأطفال؛ يجب أن ينتفخ كثيراً قبل أن ينفجر. كانت غربتي تكبر بين الناس.

ذات يوم ذهبت أبعد من ذلك بكثير. تجاوزت وصايا أمي وحدود الحذر. مشيت في شوارع لم أمر بها من قبل، وعبرت حارات لا أعرف أسماءها، وألفيت نفسي في نهاية المطاف، في مكان يخلو من البشر، لكنه مليء بالشجون. وصلت بمحض الصدفة والتيه إلى مكان مرتفع من المدينة وصار بوسعي أن أرى؛ إن استدرت إلى الخلف، امتداد البحر بعيداً بعيداً فكأنه عملاق يصلني ويفصلني عن أبي في آن. أمامي، أبصرت بقايا مجد مهشم وآثار تاريخ عظيم؛ بناءً حجرياً حطمه الزمن والرغبة في النسيان. ما زال حتى اليوم يدعى »قلعة الخواجة«. كان الحاكم العثماني للمدينة في زمن السلطان عبد الحميد الثاني يقيم في ذلك المكان مع حاشيته ونسائه، ومن هناك يراقب البحر وأحوال الناس. قلعة مدمرة ومهملة بشكل رديء، ولم يبق لها من حصانة ولا تحصين غير أقوال المؤرخين وذاكرة القوم الجماعية. تجولت بين الغرف المهدمة وفي أروقتها الضيقة. نزلت إلى السراديب وصعدت إلى أبراجها. استكشفتها بشغف. مخابئها كثيرة جداً، وكذلك أوساخها وحراذينها وفئرانها وزنابيرها وخنافسها وعناكبها. هي واحةُ حشرات كانت. تسلقت على جدار عريض لازال يقاوم الزمن بثبات. جلست على حافته مدلى الساقين ورحت أنظر إلى البحر بفضول. كان الميناء مرئياً جلياً. هناك ودعت أبي بلوعة وصمت، ومن المحتمل أن ألقاه يوماً ما في المكان نفسه. لن ألومه. سيكفيني عذراً له أنه عاد.

من فوق الجدار المرتفع نحو ثلاث أذرع، شاهدت البواخر الضخمة تندفع نحو غياهب الأفق. تحمل مسافري العمل والأمل إلى ديار الخير الموعودة. لمحت أيضاً بواخِرَ كبيرةً تنبثق من بوابة الأفق؛ تترنح مثقلة بالعائدين إلى الأهل والديار من رحلة الحلم والتعب. وعندما اقترب المساء ودنت تلك البواخر من الميناء، أبصرت مئات من طيور النورس ترفرف في الفضاء فوق الشاطئ فكأنها رايات بيضاء تلوح بالفرح والتحية للقادمين.

صرت أكذب عليها

وصارت تصدقني

على مضض.

انقضت بضعة أشهر ولم نسمع خبراً عن أبي أو منه. هو يعيش في بلاد بعيدة، بلا عنوان معروف، ونحن نحتمي من الفقر في غرفة منسية على أطراف المدينة. دروب اللقاء به مجهولة، ودروب البحث عن أخباره أيضاً. خيوط الوصال تمزقت أو تكاد، واتَّسع الزمن بينه وبيننا. ملامحه أخذت تبهت في المخيلة شيئاً فشيئاً، لكن الحاجة إليه كانت تكبر أكثر وأكثر. بل إنه، وبمرور الأيام، بدأت تظهر على أمي بوادر الانشغال عليه والحنين إليه. بدا لي أنها اقتلعت أنانيته وطيشه من ذاكرتها. حاجتها إلى رجل في البيت كانت أقوى من كل الذكريات، ومن كل أحلامه المدمرة وجنونه. لعلها صارت تحس أن المسؤولية هي حمل ثقيل، وأن العمل في معصرة الزيتون قدر سيئ للغاية. ومن المؤكد أنها كانت تواجه مصاعب أخرى حقيقية ومشاكل معقدة. فالرجال المهووسون بالشهوة كانوا ينصبون لها إغراءاتهم وإزعاجاتهم على جانبي دربها. امرأة بلا رجل هي امرأة لكل الرجال. هكذا يقول المثل النافر على ألسنة الأهالي في المدينة. ولماذا لا تكون امرأة ليست لأي رجل؟ امرأة لنفسها، أو لابنها، أو حتى للشيطان؟ لا جواب. الشهوة تقتل الحكمة. بعض الرجال كالذئاب؛ يتهافتون على الضعيف من النساء. قد تكون أمي سقطت بين ذراعي أحدهم مرة أو عدة مرات.

فقد صار يحدث أن ترجع إلى سريرنا المشترك في ساعة متأخرة من الليل، فتداعبني وتقبلني ولا تغفو إلا قليلاً قبل أن يَحينَ موعد ذهابها إلى العمل. كانت تظهر لي حنيناً استثنائياً في مثل تلك الليالي. أمي فضلت أن تخفي عني دقائق يومها وعظيم أمرها. حاولت أن تبدد قسوة العيش بالأمل والعمل. دللتني بكثرة، برقة متناهية، وتَتَبَّعَتْ أحوالي وتمسكت ببسمة التفاؤل والخير. مدتني بأسباب الفرح والسعادة ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، وأظهرت رضاً عن يومها وعزيمة على تجاوز الحال. لكن القناع كالزمن، كلاهما مخادع. بدعة هو لإخفاء المضمون لا لتغييره. ففي الليل، ومن وقت إلى آخر، كانت تستيقظ في ساعة متأخرة، فتنهض من الفراش بحرص وهدوء. تتأكد أن انسلال ذراعها من تحت رأسي لم ينتشلني من أعماق النوم، وتمشي إلى خارج الغرفة متهادية. تقف متكئة على الجدار وتبكي. وفي بعض الأحيان كانت تتكاسل فتذرف دموعها في الفراش بتكتم شديد وحرص. لم أواجهها بمعرفتي بالأمر إطلاقاً. لم تكن تعلم أنني أستيقظ على أنفاسها إذ تضطرب، وأنني شاهد صامت على تجرعها مرارة النهار في الليل.

إن العذاب الذي كانت أمي تعاني منه وتتكتم عليه هو الذي جعلني أكذب عليها. فذات يوم فاجأتني بقول حازم وقاطع:

- لا ترجع إلى »قلعة الخواجة« ثانية، أبداً.

- لماذا يا أماه؟ ماذا حصل؟

- علمت أن المجرمين يخبئون أفعالهم بين جدرانها. القلعة تتنفس الجريمة، فلا تأتها مرة أخرى.

هكذا نهتني أمي، لكنني لم أستجب لنهيها. رغبتي كانت كبيرة جداً في أن أجنبها المزيد من المواجهات والتحديات. بدأت أكذب عليها وصارت هي بدورها تصدقني على مضض. رجعت إلى »قلعة الخواجة«. تسلقت جدرانها المهدمة وتجولت في أروقتها وسراديبها المظلمة بشكل يومي. فكما واظبت أمي على الخروج إلى العمل في الفجر، دأبتُ على الذهاب إلى القلعة في الضحى والكذب في المساء. فالمكان شدني إليه بقوة الحنين إلى البلدة واللعب.

في الواقع، ألفت »قلعة الخواجة« بسرعة ويسر. أحببتها فكأنني ولدت بين أحجارها. شعرت بالارتياح الملفت والأنس الكبير في بيئتها. بين ركامها، كنت أشعر أن الغربة والعجز هما أقل وطأة. العزلة لا تداوي الغربة؛ تُسكّن آلامها حينا وحسب. خلوة هادئة هي، وواحة واسعة لتجليات الروح. نافذة مفتوحة على آفاق البحر والأمل. أبراجها القديمة ترصد ذاكرة الماضي وتحييها، فكأنها تطل على هضاب الضيعة وبساتين الزيتون ورحيل أبي. قلعة هجرها الناس، وهجرت أنا الناس، فالتقينا على قارعة الزمن والحياة.

ولئن تخليت عن الرضا في القلعة وكففت عن الذهاب إليها بعد حين، فإنني لم أفعل ذلك بناء على رغبة أمي ووصيتها. لا أبداً. ثمة شيء آخر وضع حداً قسرياً ومفاجئاً ونهائياً لعلاقتي الطيبة برياض العزلة تلك.

فذات يوم، وكما هي العادة، مضيت إلى »قلعة الخواجة« في ساعة متقدمة من الضحى. كان الجو دافئاً على الرغم من ريح تهب من جهة البحر وتحمل الرطوبة إلى أحشاء المدينة وأجساد البشر. سرت في الأزقة متثاقلاً، مضطرباً، مُعَبَّأً بالغم من شأن أمي وبالحيرة من حالها. أمي تأخرت جداً في المجيء إلى البيت في الليلة السابقة. لم تتمدد إلى جانبي في الفراش حين وصولها. لم تترك أصابع يدها تدِبُّ بين خصلات شعري الطويل. لم تقبّل عنقي أو تستنشق رائحته. بدل ذلك، أشعلت السراج وانتصبت على مقربة من وسادتي وراحت تنظر إلى وجهي النائم والكرب والأسى يحرق الجمال في محياها. راقبتها بعمق وبشيء من العطف. لا شك في أنها تحبني كما الحياة. لكن وقع الأمومة صارخ ومؤذٍ حينما يقترن بالحاجة والعوز. بعد تأمل طويل، خرجت أمي إلى أمام الغرفة وبكت بكثرة، بشدة. شعرت أن قلبي يتقطع حزناً عليها. نهضت من نومي الكاذب ومشيت بدوري نحوها. باغتها في حال من العذاب والمعاناة. وَثَبَتْ من مكانها؛ في مكانها. مسحت دموعها ومددت بسمة متشنجة على شفتيها. أبدت خجلاً مني لأنها تبكي. لم تشأ يوماً أن أرى دموعها تسقط على هذا النحو الغزير، المرير. سحبتني من يدي إلى الفراش من جديد. رائحتها كانت غريبة، مختلفة عما ألفته؛ وأشبه ما تكون بمزيج من العطر القوي وعرق التعب أو القلق.

حالاً، حينما بلغت »قلعة الخواجة«، وقت الظهر، تسلقت الجدار الحجري المهدم المطل على أفق البحر. أرخيت حبال الشجن. طيرت الخيال في الفضاء الواسع. تطلعت إلى تجاوز الممكن. الأمنيات لا تعرف حداً أو منطقاً. خاطبت أبي عبر البواخر المغادرة. توسلت إليه أن يرجع إلى أمي. إنني أحمل همها، وتحمل هي همي، وكلانا يقاسي ويداري ويخبئ سره. تمنيت أن يعود من تلك الديار البعيدة التي تغري الرجال بأكثر مما تفعله الأسرة وبيوت الحنان وطول العشرة. وبأي مال سيعيد الدفء إلى الأيام؟ وأي أموال تلك التي يمكن أن تعوض المرء المصلوب أعواماً على عارضات الشوق والحرمان؟ أي أموال تملأ الفراغ الذي يخلفه الفراق في الحياة؟ صوتي كان يموت في صدري. لكنني كنت، مع ذلك، أشعر بأن البواخر المسافرة تحمل رسالتي إلى أبي. تلوّح له بها من بعيد وهو ينتظر على المرفأ من الجانب الآخر من البحر. لا بد من أنه يأتي إلى المرفأ الغريب مع فرق العمال المهاجرين ليستقبلوا أفواجاً أخرى من العمال وطائفة من أخبار البلاد. على الأقل، هكذا سمعت أمي تقول وهي تبحث عن شخص ما قد يحمل له رسالة.

نزلت عن الجدار منزعجاً فكأنني أعاتب أبي وألومه. ندائي له متواصلٌ، لكنه لا يجيب. مشيت نحو أعماق القلعة، حيث يوجد خلوات وسراديب كثيرة بين الركام والأحجار الكبيرة. شئت أن أنزوي تماماً، وألا أرى شيئاً أبداً. فليس لي رغبةٌ، في تلك اللحظة، حتى الرغبة في رؤية النور. مررت عبر البرج المخروطي المتصدع. هبطت الدرج الترابي الصغير ومشيت في الدهليز الداخلي الواقع في الأسفل؛ تحت البرج مباشرة. بلغت نهاية الدرب وولجت الغرفة التي كانت تمثل سجناً للسياسيين الكبار في عهد الاستعمار العثماني. سجن هدمه الزمن والمقاتلون من أجل الاستقلال الوطني. وهناك كانت المفاجأة. فبالرغم من أن الغرفة كانت معتمة شيئاً ما، حيث أن ضوء النهار يدخل إليها عبر فتحة ضيقة في السقف، شاهدت على حين غرة رجلين عاريين يتناكحان في أحدى الزوايا الداخلية. دهشت، وثبتُّ في المكان للحظة. ثم ما لبثت أن أدركت الموقف، فأدرت لهم ظهري وأقفلت عائداً. غير أنه في الحال، صار علي أن أهرب. ذلك أن واحداً منهم تبعني بغية القبض عليّ. ركض خلفي وهو يرفع بنطاله ويتحشم. سبني بغضب شديد فزادني خوفاً. كنت أسرع منه على كل حال. ابتعدت عنه. رماني بأحجار عديدة وقد فقد الأمل بأن يمسك بي. لم يصبني بأذى، لكنه توعدني بأعلى صوته:

- يا ابن العاهرة، سأدوسك بحذائي عندما أمسك بك، سترى.

              

*-  محمد الدروبي ، مواليد القريتين- حمص ، سوريا ، 1/12/1958،  سويسري، مقيم في سويسرا .

التحصيل العلمي

-  ليسانس بالصحافة ، كلية العلوم السياسية ، جامعة بلغراد ، 1985 .

-  ماجستير أعلام دولي ، جامعة بلغراد 1989 .

-  دكتوراه بعلوم الأعلام والسياسة. جامعة بلغراد 1991 .

صدر له

1)   The structure of information-communication subordination in developing countries, Beograd 1990.

2)   التعاون الإعلامي العربي بين الواقع والمنظور. رسالة دكتوراه، باللغة اليوغسلافية، بلغراد، 1993.

3)   الصحافة والصحفي المعاصر، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1996.

4)   الأنظمة الإعلامية المعاصرة، ترجمة، طرابلس،1991 .

5)   وعي السلوك، كتاب فكري،  دار كنعان، دمشق، 2004.

6)   السيد يلعب غميضة، رواية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1998.

7)   الرقص في هياكل الشرق، رواية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1999.

8)   عُشاق الدير، رواية، دار كنعان، دمشق، 2003

9)   محنة البيت القديم، رواية، الدار العربية للعلوم، بيروت، بالتعاون مع منشورات الاختلاف في الجزائر ودار كنعان في دمشق، 2006.

10)   حكواتي ليس إلا. رواية، دار كنعان، دمشق 2007.

11)   مجموعة كبيرة من الدراسات الفكرية والفلسفية في الصحف والدوريات العربية (دراسات عربية، الحياة، الزمان، القدس، ...). مجموعة من القصص القصيرة المنشورة في صحيفة الحياة. عشرات المقالات في الصحف السويسرية.

اللغات

1)   العربية،

2)   الفرنسية،

3)   الانكليزية،

4)   الصربية والكرواتية،

5)   كما يمكن فهم البلغارية والتشيكية والروسية إلى حد كبير.

خبرات

1)ملحق ثقافي في السفارة الكويتية في بلغراد

2) مدرس  في جامعة الفاتح

3) صحفي وباحث  مستقل

الهوايات

التنس، السباحة، المشي، الشطرنج