الزمن الجريح

نعماء محمد المجذوب

الزمن الجريح

رواية: نعماء محمد المجذوب*

19

كانت السعادة تشرق على وجه ليلى، أحست بنشوة نفسية، وشرف كبير، وهي تهدف إلى تربية ضميرها الحي اليقظ، الذاكر لله في كل حين، المراقب لله في كل آن، المستأنس لله في كل لحظة، فحررت قلبها من الخوف والتردد، وحافظت على سمعتها في المجتمع.

أما أحلام فامتلأت حياتها بالأزمات، والثغرات غير المقبولة، فكانت تحيا لأن الموت يفوتها، وتتمسك بالماضي، وترعرع الجمال في وجهها، في عسل شهي في مقلتيها، وشلال ذهبي في شعرها، ولدانة في قامتها، وضحكات تتناثر من  بين شفتيها، ولكن المواقف المؤلمة وتداعياتها جرحت نفسها، وبقي الجوع العاطفي ينهشها، ففقدت توازنها، بحيث كانت تتكئ على علاقاتها الاجتماعية، واهتمامها المتزايد بمظهرها وتحررها.

لم تستطع أن تجعل حبها سراً، تباهت بظهوره، فأحرقها بنوره، وولدت لوحات بين يديها، سرعان ما كانت تدفنها قبل أن تنتشر، اشتركت في سمة واحدة، جمعت هواجسها الدفينة في صدرها، استمدتها من واقع حياتها، وفي ثنايا الخطوط مشاعرها في أزهار ذابلة، ومنازل منهارة، وأطفال بين الأقدام، والأشلاء، وأعضاء متمزقة، وحجارة تصد الرصاص، وأقمار تهوي، وأمهات دامعات الأعين.

جمعت آلامها وأوجاعها وأوجاع الوطن فوق الورق، شرار نار، وعنفاً متفجراً، وقلقاً دائماً، وجيراناً، ورفيقات.. ودت لو بقيت بجوارهم، تحيا أو تموت معهم... ثم كان الرحيل المفاجئ، وأصيبت بتوتر عال، انعكس في تصوراتها، وانحراف سلوكها.

قالت ليلى:

- لا يرضى عمك أن تعيشي بمفردك، لابد للانتقال إلى بيته الكبير.

- لدي القدرة على الاستمرار في الحياة هنا.

- التقاليد لا تسمح بذلك.

- إذن ستزيد أحزاني.

- لا حل إلا بانتقالك من هنا، كي لا تكوني فريسة للأحزان.

كان زواج ليلى ميسراً مع زوج عطوف حنون، قربت الأيام بينهما، تزوجا بشكل طبيعي، وليس عن قصة حب أو لقاءات مشوبة... استطاعا أن يؤسسا أسرة صغيرة سعيدة، بعيدة عن المشكلات النزاعات، تميزت بالهدوء السكينة، لم يمتلكا الدخل الوفير... كانت حياتهما متواضعة يشملها الستر، قد يعرض عمها خيري المساعدة، فترفض ليلى باستمرار، وبعناد لا يلين، وتقول بأنها تملك كل شيء، وبيتها يضم كل ما في البيوت الأخرى، وتؤكد أن مائدتها عامرة دائماً.

تمضي الأيام بأحلام، وفي عينيها طيف يسري بحلم في فلاة العمر، وتمتلئ نفسها بالهواجس، ويتأرجح اللوم في فؤادها، ويدمى، تلوم نفسها لما بدر من نزوات طائشة، إنها تتمزق فيما تظنه ظلماً، وترى العدل يتهاوى في بلدها وعند الناس.

وبقيت مشدودة إلى وطنها، ولا تزال الذكرى تسكن فيها، والنوم يمل منها، وتعيش في القهر، وأحلامها وأمنياتها مغلولة. تتساءل بحزن: "كيف أعيش في سرور، وبلادي في ذل وهوان؟"

قالت ليلى:

- كل ما يفعله اليهود لا يشفي لهم غليلاً.

زرعوا فينا قولهم: إنهم لا يغلبون.

- مشعوذون، سحرة... هيا نذهب إلى بيت عمك،.. اخرجي من عزلتك.

قالت أحلام:

- لا أعيش بعزلة، أنا مع سمير،... كنت أظن أن الحظ ابتسم لي عندما التقيته، ولكن الابتسامة لم تدم طويلاً.

- لأن سميراً يعشق الحرية، ويكره القيد، وأنت له قيد، لماذا لا تطلقينه من أسر هواك؟

صمتت أحلام، كان في صمتها معان تتراءى، ترى أنها قد خسرت كل شيء، الوطن، الأم، من أحبت.. سألت أختها ليلى:

- هل سأخسرك؟ لم يبق لي سواك يا ليلى.

أجابتها:

- بل سأبقى أختك.. اصبري، فالصبر مدرسة تهذب الروح، وتروض الفكر، ليس لك إلا الرجوع إلى كتاب الله، يندي قلبك المتوهج بالعذاب، ويبشرك بالفرج.

بمرارة تأوهت، تحسست بطنها، تخشى فضيحة أخرى... حدثت نفسها بأن تخبر ليلى.. تراجعت.

كانت ترى الحياة أنفاساً، تخطف الأنفاس، تلهث فيها، تمتص لهاثنا، تجري بنا، ونجري فيها، هي أيام ثمينة، كل امرئ يملؤها بما يحب ويريد، لا نعرف قيمتها إلا بعد أن تفر من الأيدي.. كالرمل الناعم ينزلق من ين الأصابع، بلا إرادة منا..

قالت:

- أراها ملت مني، من سخطي ومقتي، إلى أين ستجرفني؟

علمت أحلام بزواج سمير، وعلمت أنه قد اغتال حبها، وانتظارها، واستلب مرحها، ونكأ جراحها،... اشتد لومها لنفسها، وندمها، صرخت بألم:

"غاب الحبيب، وتعس الانتظار، لقد قتلني بغدره، واستهان بخفقات قلبي، وأساح دمي، وداس كرامتي".

بلوم قالت ليلى:

- ألم أنبهك إلى غدره، واستهانته بك؟

- أعترف... لقد استهنت بكرامتي، فداسني.

- هكذا الرجل، لا يحب إلا العفيفة الممتنعة، في الخارج يشدو مع الفتيات، وأنت هنا تتعذبين.. ألا يكفي أننا نعيش أسرى الخوف والقلق على وطننا، حتى غدت حياتنا ملأى بالآهات والأشباح؟

اجتاح روحها غضب.. تذكرت عينيه، كان فيهما دفء يمتد حتى عمق روحها..تتساءل: كيف خمد؟

امتد بصرها إلى البعيد، تلألأت عيناها بأشياء، نظرت ببرود ساخر، سألتها ليلى:

- بماذا تفكرين؟.. ماذا تريدين؟.. إلى أين ترحلين؟.. آمل أن يكون إلى حياة جديدة.. أم أنها نظرة فراق ووداع لشخص بعيد؟

- لا أدري... صدقيني لا أدري.

- هيا معي إلى بيت عمك.

- أنا بحاجة إلى الترويح عن نفسي في الطبيعة.

- حسن، وبعدها تعرجين على بيت عمك.

- أحاول.

عند شاطئ البحر جلست تحت صخرة مرتفعة، تفرش ظلالها فوق الرمل، وفي تجويف أشبه بخليج صغير، تتدافع إليه مويجات وديعة، يرميها البحر، ثم تتكسر فتستحيل إلى غثاء هش... أيقظ المكان في نفسها شعوراً بحنين وافتقاد، زادها شوقاً مشهد طيور بيضاء، تحوم وتحلق فوق المكان... مسها المكان بسحر غريب، وكأن الأيام تعود بجمالها، مكث الشعور لحظات يومض في داخلها، ويمضها، تساءلت بتحسر:

"أتبقى الأماكن وقد فقدت محبيها؟

أرى الوحشة ترخي عليها ظلالها.

هنا كان اللقاء.. ثم فراق.. أهكذا الحياة، أم نحن هكذا؟"

في البيت وجدت ليلى في انتظارها، تقلب بعض لوحاتها، تتأملها بدهشة قالت:

- أرى في لوحاتك خطوطاً جميلة و..

ابتسمت أحلام وهي تقول:

- أراني أغرف فيها بريشتي.. في الخطوط لذعة من القلب، تماثل عذوبة النغم.

- وجدتها مطوية في الأدراج، وبعضها ملقاة تحت السرير،..

خسارة.. لم لا تنشرينها بين الناس؟

 رددت:

- بين الناس؟

بحنكة قالت  ليلى:

- الغربة تجدد الإنسان، هي تجربة في الحياة فريدة، أغنت لوحاتك، ما كانت تتيسر لك لو أنك قبعت في بلدك، الغربة أثارت لواعج الحنين الطاغي إلى فلسطين، في لوحاتك تمنيات للعودة، والعيش بين الأهل والأحبة بهدوء واطمئنان.

- أتمنى أن يكون تراب الوطن مثوى لعظامي.. سيظل الرسم هاجسي.

- استمري في هذا الاتجاه.. ما المانع؟

- أخشى أن يكون العمر قصيراً.

- تفاءلي.

- لا أقدر، هنالك ما يشدني إلى التشاؤم.

- ولوحاتك؟ من يرعاها ويحنو عليها؟

- طوى سمير بغيابه وغدره أغلى فترات حياتي، وذكرياتي، وأرى ظلالها تتمزق، لا أدري... هل ألوي بصري عن الرسم إثر الأزمة العاطفية التي ألمت بي؟.. يدور بخلدي أنني غير قادرة على الاستمرار، وأرى كل ما أرسمه ليس إلا عبثاً وسراباً.

- مأساتنا الكبرى هي مأساة فلسطين.

- أكيد... ويظل حنيني إلى حارات نابلس، ومراتع الطفولة، غرست في قلبي، وحملتها معي إلى الغربة، وتبقى جمرة الحنين تتقد في أعماقي.

انزوت في ركن الغرفة، تنثر في لوحاتها بريشتها ودموعها على تراب الوطن أندى مشاعرها، تعبر عن أحلامها الحزينة في أمكنته المجروحة،... كانت ليلى تلثم بجبينها سجادة الصلاة في الغرفة المجاورة، تبتهل باكية بأن يفرج الله عن أختها، ويفرج كربة الوطن والمهجرين.

هبت عاصفة يضيء البرق فيها أنواره، من خلال قطيع الغيوم الحالكة، ويهزم الرعد برهبة، ويتدفق المطر... ثم تهدأ العاصفة.

أثالت أحلام ريشتها على الورق من قلبها، كما لو أنها كانت تغسل جوانحها، لتعيدها إلى أحلامها المفقود، تسللت ليلى من الغرفة وهي تقول:

- غداً سأمر عليك.

في العتمة كانت أحلام تمد يديها ليحط طفل واسع العينين بداخلهما، يلتصق بصدرها، يسمع خفقات الأمومة، يتحرر من الرعب، تضمه بفرح، يخلصها من آلام الفراق، ومرارة البعاد.. كانت لحظة انعتاق من الخوف، تغشتها ظلمة... الليل صديق يكتم المعاناة، يحفظ الأسرار.. ثم لا يلبث أن يخطف اللحظة الحالمة.. ودت لو أن الليل لا يظلمها، ولا يسرق منها الحلم، وتساءلت:

"أهو الآخر خاضع للتقاليد والعادات، ويضطهد حبها؟"

كانت الصور تتداعى، مغلفة بمشاعرها وأفكارها، وهي تسرح في المدى البعيد.. وجدت نفسها وأختها في طريقين مفترقين، ليلى التزمت الحجاب، يغمرها الأمان في نفسها، تهتدي بعلامات إلى المحطة الأخيرة لتصل بسلام، والجنة نصب عينيها، بحيرة تساءلت:

"وأنا ماذا عني؟.. أسير في الطريق اليسار في الظلام، أتعثر بعقبات، وإرهاصات، وتشوش، وتتقرح أجفاني، ويوشك ذهني أن ينفجر".

تسللت من فراشها، نظرت حولها باستغراب، البيت خاو، فيه فراغ موحش، فراش أمها مسند إلى الجدار، بقايا أدوية فوق المنضدة، نباتات في أصص زرعتها بيديها، أحست وهي كبيرة أنها طفلة.. مهما كبرت أو استطالت تظل أمها حاملة أسرارهما.. تذكرت أشياء كانت تعملها حين ألقت بنظرها على كومة الغسيل الجاف، حين كانت أمها تخبئ بعض أسرار الشمس في الثياب المغسولة، حين كانت تجمع الغسيل بعد جفافه عند الأصيل، والشمس تودع البلد في رحلة هبوطها قبل المغيب، وعلى الخوان ترتفع كومة الثياب النظيفة، كانت أحلام تدس أنفها فيها لتمنحها أنفاسها رائحة الشمس ودفئها،.. تتساءل:

"هل أستطيع أن أشم هذه الرائحة بعد موت أمي؟"

التقت قطعة من الغسيل النظيف، أغرقت وجهها  فيها، تبحث عما كانت تخبئه أمها بعضاً من الشمس في ثيابها.. تبحث عن عطر أمها.

ينام الناس، ولا تسهر غير المصابيح المرتعشة في الشوارع، تتذكر، وتمعن في التذكر، وتستحضر الماضي بالذي كان الزمن  يمضي إلى الأمام، ويوصد كل شيء، ولكنه يفتح بتذكرها لكل شيء.

عرجت ليلى في الصباح على أحلام، باستنكار قالت:

- ليس مستحباً وجودك وحيدة في البيت.

- أنا معكم جميعاً، في كل شيء تلمسه عيناي، ويداي.

كانت دموعها تنهمر وهي تتحدث مع ليلى، بين فرح شديد، وحزن عميق.

سألتها ليلى:

- لم هذه الدموع؟ هي وسيلة الأطفال للتعبير عن غضبهم، وإثارة انتباه الآخرين. لما يعانون من آلام.. عبري بكلماتك.

- إنه التعبير عن ظلم ألم بي، عندما تعجز كلماتي عن وصف تلك الشدة، وتصوير ما أحس من غبن.. دعيني يا ليلى أبكي بدموع حارة في مثل ظروفي هذه قبل أن أكتمه بالغيظ.. أكاد أجن.. أكاد أصرع.

بعد إلحاح خرجت أحلام من عزلتها إلى بيت عمها، تحمل بعض لوحاتها، وفي عينيها دموع، وفي صوتها رعشة.. في الطريق نبهتها ليلى إلى طريقة معاملة زوجة عمها،.. إطاعة، اتقاء غضبها واستعلائها والكف عن الجدال.

انتابتها رهبة، سألت ليلى:

- أيمكن أن أتعرض لمواقف تؤذيني؟

- كل شيء ممكن، تجلدي إلى أن يفرج الله عنك.

20

كان استقبال زوجة عمها لها فاتراً، وبابتسامة باهتة، أحست بالضعف، ثم على مدى الأيام ظهرت قسوة قلبها بطريقة تفسد عليها حياتها، وإن غضبت لأمر ما مزقت لوحاتها التي ترسمها في وقت فراغها، واشتد طغيانها.. بتعجب تساءلت أحلام: "ما الداعي لذلك..؟ لا أدري."

كثيراً ما كتمت أحلام غيظها، وخشيت التمرد على ما تلقاه من عنف، حتى إن عمتها، كانت تجامل زوجة أخيها، فتتعاونان عليها، فلم تجد ف أحلام الراحة في هذا البيت الواسع، وتتمنى أن ترجع إلى البيت القديم، وتعيش مع عزلتها السوداء، ورفيقها قلم وورق، وكتب وذكريات تستثيرها بطريقة أو بأخرى، ولم يفلح أسلوبها في إلانة زوجة عمها، وتخفيف حدة توترها، وما حصل كان غير ذلك.

كانت كثيرة النقد لأحلام، كثيرة الإزعاج، وكان عصيان أحلام في إحدى الغرف، والعم خيري في حيرة بين الطرفين، حاولت أن تعود إلى البيت السابق، وترى البعد وسيلة للراحة، ولكن العم خيري كان يحول دون ذلك.

في صباح يوم خرجت أحلام من الغرفة، قابلتها زوجة عمها بابتسامة ساخرة، أحست أحلام بالارتباك، لم تعرف كيف تجاملها، فقط سألتها:

- هل من شيء؟

ضحكت.

- لم تضحكين؟

- لو شاهدت نفسك في المرآة لضحكت.. خرجت بثوب النوم من الغرفة، هذا ليس من عادتنا، هل فهمت نظامنا هنا؟

أخذت أحلام تشغل نفسها بالنظر إلى جدران الصالة الفسيحة.. لوحات لرسامين عظام، وثريات متدلية من السقف، وكراسي مغلفة بالقماش الوردي.. كانت تحاول الاستسلام في نظراتها، ولكن كان صدرها يشتم ويعربد.. ثم أتت الخادمة بالقهوة الممزوجة بالحليب، المحلاة بالعسل، أخذت تشرب، وعيناها تخترقان زجاج النافذة، تتلاعب مع مويجات البحر، فيزول عنها الخوف، وتنتابها راحة.

بابتسامة قالت:

- بيتك جميل يا امرأة عمي، وذوقك الفني يضفي عليه فريداً من الجمال.

- هكذا أنا، أحب أن أستمتع بحياتي، وأحيط نفسي بالأشياء التي أهواها.

شردت أحلام وهي تصغي إليها، وتتساءل:

"ما موقع فلسطين من نفسها يا ترى؟

هل ألقت الذكريات في سلة المهملات، وبدأت حياتها من جديد؟

لماذا لم تفعل أمي ذلك، لماذا؟"

بسخرية قالت زوجة عمها:

- أبوك ضيع عمره بالقتال مع اليهود.

بصوت خافت قالت أحلام:

- وأنت وعمي ضيعتما ذكرياتكما، ووطنكما، وبعتما الأرض والبيت لليهود.. هكذا يخيل إلي.

شعرت بكل ما حولها قذر، بخس، لأنه من مال خبيث، من اليهود.. انتفضت من الخوف، أحست بالضياع وهي تتذكر حالتها.. أمها قد رحلت إلى الأبد، وأبوها تركته وصورته في ذهنها.. لم يدفن في قبر، كان تحت الأنقاض.. هبت مشاعر الشقاء في نفسها، ظلت تنتفض وترتعد، ودموعها تهطل بغزارة.

رأى العم خيري أحلام، بدهشة سألها عن حالها، أجابته العمة:

- يقولون إن الدموع تنظف مرآة النفس من الهموم المتراكمة عليها، أحلام مفجوعة، إن لم تنفس عنها بالبكاء تبق مهمومة، مغمومة، حتى إذا تفجرت دموع الحرقة من عينيها لتمسح همومها، وتزيل رواسب النكد عاد لنفسها صفاؤها، واتزانها،.. أنا أعرف ابنة أخي حق المعرفة.

قال:

- وأنا أعرفها كثيرة الضحك والبهجة.

- تغير حالها، صارت تئن تحت سأم الحياة، حتى تراكمت أحزانها، وأحالت حياتها النفسية إلى مستنقع من النكد، وانعكست على سلوكياتها اليومية، فانطوت على نفسها بعيدة عن الناس، ولكن في مواقف الفرح تتفجر فيها قهقهات الضحك، وتتدفق من عينيها الدموع، ونجدها قد عادت إلى حالتها الطبيعية.

- إنها ردود فعل لمواقف شتى.

- لذلك تتحرر من آلامها في البكاء والضحك.

اقترب منها عمها قائلاً:

- عبري عن انزعاجك.

قالت العمة:

- هي تعبر بريشتها على الورق.. أري عمك بعض ما رسمت. أخذ العم يقلب رسوماتها بين يديه، وهو يقول:

- أرى فيها طوفاناً من الألوان، في امتداد يتجاوز إطار اللوحة، وتتخطين آفاق الزمان والمكان معاً.. في بعضها تعبرين عن قلقك من خلال الأزرق والرمادي، تتكاثف في سكون، ثم تتشظى في صخب.. في اللوحة الأخرى خطوط منحنية تشق فضاءها. مشحونة بالتوتر. قالت العمة:

- انظر كيف تحيل اللون في بعضها إلى موج، وشاطئ، وصخر.

- فعلاً، إن رسوماتك تثير التأمل، وتجعل النظر يلاحقها، ويلهث خلفها.

بهدوء قالت أحلام:

- أغرس من روحي باللوحة، لأستنبت في النهاية نوعاً آخر، وعالماً آخر.

قال العم:

- إن العيون المتفائلة تستطيع أن تخترق السحب، لترى القمر.

قالت العمة:

- إن الاختلاف في طبيعة ظروف البيئة الاجتماعية، جعلتها غير قادرة على التحمل.

صمت العم، ثم قال:

- هناك عامل مهم، وهو ابتعاد أحلام عن الدين والتقوى، وتشبثها بالتجارب التي اجتازتها منذ طفولتها.

كانت ليلى تصغي إلى الحوار، وهي في سكون، نظر إليها العم بإكبار وقال:

- حافظت ليلى على اتزانها لإقبالها على الدين، وقوي لديها الإيمان بالقضاء والقدر.

قالت العمة:

- الإيمان بالقضاء والقدر يطبع النفس على الثبات، واحتمال المكاره.

قال العم:

- إن هذه الدنيا خلقت للإنسان ليتمتع بما فيها وفق شرع الله، لا إسراف، وضمن الأحكام والقيم الثابتة التي أودعها الله في شريعته.. لقد انحرفت أحلام عن هذا كله بأفكارها الإلحادية.

قالت أحلام:

- أنا أؤمن بالتقدم الدائم، وبشعور الإنسان بقيمة الحرية على أنها بعد أساسي من أبعاد وجودنا.

ثم بإصرار قالت:

لا أؤمن بالغيبيات، ولا بالروحانيات.

- غريب أمرك! لم تسقطين الحقيقة الروحية للإنسان في تنظيم أسلوب حياته، مما يفتح الباب للقلق والفوضى في الأخلاق، وفي العلاقات الاجتماعية.؟

- لا أرضى يا عم إلا بما يقتنع به عقلي.

- ماذا دهاك؟ هل العقل إله؟ تقبلين من الدين ما تقبلينه، وترفضين منه ما ترفضين.؟ إنه قرار الله لا يقبل النقاش، وعلينا الطاعة والقبول.

باتزان قالت ليلى:

- فلنتذكر قول الله تعالى: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم).

قالت العمة:

- الإيمان بالله يحمي النفس من الصدمات، والفجائع وخيبات الآمال، وما أكثر ما نواجهها في حياتنا الاجتماعية المكتظة بالهموم والأحزان، ونوبات الاكتئاب والإحباط تجتاح حياتنا من حين إلى آخر، وتلحق بنا الضرر.

قالت ليلى:

- صدقت يا عمة، لولا الإيمان بالله لانهارت أعصابنا، ولخرجنا عن أطوارنا، فهو يحفظ القيم الخلقية، والاجتماعية، والأعراف، والمعتقدات الدينية، لولا الإيمان لفقدنا صوابنا.

- هذا ما يحصل لأحلام، إنها تكفر بكل الموانع، وتنهال عليها تدميراً أمام العيان.

نظرت إليها العمة بإشفاق وقالت:

- ألقي كل هذه الأفكار الغريبة وراء ظهرك، وعودي إلى طبيعتك المرحة، اتجهي نحو الإيمان بخالقك، واهتمي بدراستك وصحتك كي تتخلصي من مشاعر القلق والاكتئاب.

قالت أحلام:

- سأحاول.. كل شيء يمكنني التغلب عليه إلا شيئاً واحداً.

- ما هو؟

- ...

- اذكريه.

- ...

قالت العمة:

- استعيني عليه بطبيعتك المرحة، بالضحك، حرري حياتك النفسية، واحميها من الظروف البغيضة.

قالت ليلى:

- فقدان أحلام لأبيها، ولأمها، ولوطنها، بالنسبة إليها أحداث فاجعة، وخسارة فادحة.

بهمس قالت أحلام:

- وشيء آخر.

- ما هو؟ اذكري هذا الشيء لعلنا نساعدك على تجاوزه... نراه يشكل أزمة خانقة.

- أرجوكم، دعوني بحالي، أكاد أجن.

قالت ليلى:

- لندعها وشأنها، إنها تعبر عن الشيء الآخر، وعن أحزانها بالرسم، فتستعيد به رباطة جأشها.

قال العم:

- هذا لا يكفي، عليها أن تتجه نحو الإيمان أيضاً.

قالت ليلى:

- كثيراً ما نصحتها يا عم، ولكنها في النهاية أراها تعيش في واد وأنا في المجتمع في واد آخر.. قد أجدها تلجأ إلى البكاء، وتذرف دموعها بانفعال شديد.

- الدموع الحارة تمسح آلام المواقف الصعبة، وتترك النفس صافية من الأحزان.

صرخت أحلام بانفعال شديد:

- إلى حين.. أنا حزينة، حزينة جداً، لست على استعداد لتحمل المزيد، لا أستطيع أن أتوقف عن البكاء، كلما تذكرت أبكي، كلما فتحت عيني صباحاً أبكي.، لا تدرون ما بي.

قالت العمة بدهشة:

- أول من يستيقظ مبكراً في الصباح هو الغراب، وآخر من ينام هو العصفور.

استدار العم خيري، وبسخط قال:

- احزني وابكي كما تشائين، إذا كان هذا يخفف من حدة انفعالاتك.

قالت العمة:

- لحظة من فضلك، أنسيت أن انتشار الفكاهة بين الناس هي أعراض لآلام مبرحة يعانون منها؟

- ربما.. أنصحك أن تعودي إلى اندماجك في المجتمع، هو مسرح للضحك وللبكاء بحسب المناسبات.

قالت العمة لأحلام:

- لاحظت انسجامك غير المعتاد في عرس ليلى مع أناس لم نر على وجوههم في الظروف العادية أبسط الابتسامات.

- بالفعل، وقتئذ استطعت أن أتخلص من همومي المتراكمة، وأعطتني انطباعاً بالمشاركة الوجدانية.

- إذن ابكي عند الضرورة، ففي البكاء شفاء لك.

ضحكت ليلى وهي تقول:

- للضحك والبكاء قيمة كبيرة، ولذا تقيم كثير من الشعوب أعياداً للضحك في مقدمتها الاحتفالات الشعبية بعيد الربيع، والأعراس، والمسارح الساخرة.

سألت أحلام:

- لماذا لا يقيمون احتفالات للبكاء؟

أجابت ليلى:

- لا تدهشي من ذلك اليوم الذي ستنادي فيه الكثير من الشعوب في مسيرات كبرى تطوف الشوارع والميادين، وصرخات العويل تنطلق من حناجرها، والدموع تنهمر من العيون، وتسمي ذلك اليوم، يوم النحيب.

- إذاً الضحك والبكاء علاج نفسي رائع.

حاولت أحلام أن تستجيب للإرشادات، التي تراها في منتهى القسوة، ثم وجدت الوسيلة للتحرر من المضايقة بالاستسلام، والركون إلى الهدوء والسكينة خوفاً من تلميحات بالتهديد، وفي نفس الوقت تشعر في قرارة نفسها بحاجتها للهرب من البيت الذي دخلته بإرادة منها، أو بغير إرادة.

بعد قليل قامت تلملم مشاعرها، وتبعثر لوحاتها، وتمضي إلى حزنها، وترتدي  سكونها، وحلة انكسارها، ثم ترحل في التيه، لتستعيد رحلتها الكاسدة.. بألم تساءلت:

"آه.. كم ظللت معذبة بلذعة الانتظار!"

في إحدى الأمسيات كانت ليلى تتحدث بهمس مع أحلام، وتبتسم بحب، اختنق صوتها في ضوضاء البيت، ثم تضخمت الأصوات الخافتة، وأصبحت تتجلجل في سمعهما، بدأت ليلى تتبع الأصوات وهي تدق الصمت بعنف، وتقرع الجدران، علمت أنها تدور حول مستقبل أحلام، ووجودها في عائلة عمها، وأحلام تتقلب على فراشها، وبحيرة تردد... ماذا أفعل؟.. كان ترددها أثقل على نفسها من الأرق نفسه.. ثقل رأسها، تبعه تشوش فيه خوف ورعب.. هدأت الأصوات، ثم ذهبت ليلى إلى بيتها.

كانت كوابيس الأحلام تشوش أحلام،... كثيراً ما ترى نفسها في سفينة يطوحها الموج وحيدة، تشرف على الغرق.. وأحياناً ترى نفسها تهوي في واد سحيق، ولا تصل استغاثتها إلى أحد.. تجد أنها وحيدة في فراغ هائل.. لم يكن نومها نوماً، بل عذاباً في عذاب.. صرخت في جوف الليل:

" آه.. من يحس بمعاناتي؟"

شروق الشمس يخرجها من ضوضاء البيت، ومن ضوضاء نفسها، ثم تشعر بدفء البيت الوثير، في غرفتها سرير، سجادة، مدفأة، خزانة ثياب.. يتسرب الدفء في جسدها وفي نفسها، تشعر وكأنها خرجت من فلاة مظلمة، تحس بالراحة، ثم تقف أمام المرآة تتأمل، وتتلمس ما فيها من جمال، تهمس:

"يقولون إنني جميلة، ولكن الحظ سيئ.."

21

مع مرور الأيام تزيد الفجوة بين أحلام وأسرة عمها، يرون في تصرفاتها غرابة، غرابة الفكر والخيال، عالمها مغلق وهي بين الجميع. لوحاتها تكدسها وتلقيها تحت السرير، هي ملكها وحدها،... تشعر كأنها لينة قد فصلت عن أمها، ودمعها هتان لفراقها.

قد يحصل تصادم في الكلام، فتصرح بما في نفسها من غير لف ولا دوران، وبتعجب تقول لهم:

- أأنتم تعملون لما فيه مصلحتي، وتشتمونني؟

- لأننا نريد لك الصلاح والمنفعة.

أحست بالوحدة في هذا البيت، تمنت أن تهجره، تساءلت بمرارة: "ولكن... إلى أين؟.. أ إلى من ملكته قلبي وجسدي، ثم غدر وهرب؟"

تحسست بطنها بكفيها، قاست أبعاده،.. عطر سمير لم يزل يسري في أحشائها، ولا يشمه أحد غيرها.

كان العم خيري يقسو عليها أحياناً، فيشحب لونها، وتصمت وهي تصارع في نفسها حباً يائساً، وحقداً، وصراعاً مرهقاً،.. انتابها وهن، ضحكت بمرارة، تحول الضحك إلى بكاء، اشتد البكاء، ثم انهارت فوق الأرض تغرس نشيجها فيها.. أسرع إليها عمها، أنهضها، نظرت إليه وقالت:

- أنت السبب في كل ما يصيبني، كنت تقتلنا يوماً بعد يوم، وما زلت تقتلني.

باستخفاف قال:

- فعلاً: إنك تحتاجين إلى العطف والرعاية.

ولكن خيري لا يستطيع أن يمثل العطف والحنان لقسوته، وما كان قادراً على أن يعطي شيئاً غير حفنة من النقود بداية كل شهر.. اعترف في سره بعدم مقدرته على أن يعطي شيئاً من الحنان، وردد:

- مسكينة يا ابنة أخي.. اهدئي.

بيدين مرتعشتين ضمتها العمة إلى صدرها، هدأتها بجرعة ماء، مسحت دموعها، وبهمس قالت:

- إنك لا تعرف شيئاً عن ابنة أخيك إلا ما علمته من الناس، هذا لا يكفي.

- وهي لا تحدثنا بشأنها، كأننا غرباء عنها.

سكنت أحلام، عاودها البكاء، وفي تردد ووجل قالت:

- سأعلمك بحقيقة كتمتها عنك.

سكتت.. ترددت.. بصوت مرتبك قالت:

- أحببت يا عمي، وخذلني من أحب، سافر دون أن يلقي بروعي أملاً بالعودة، كان رفيقي على درب اليسار، بالرغم من غدره، فأنا أزال أنتظره.

كان الخبر كالصاعقة المفاجئة، غمره إحساس بالشفقة، رأى أن يعالج الوضع.

قالت:

- لا تحاول شيئاً، لا فائدة يا عمي.

حدثتها نفسها قائلة:

"الأمر أخطر مما تتصور، حياتي هدف ضائع، ومبادئ بلا إله، حرية مطلقة، عبث، مجون، كسر للقيود والقيم، قلب مغلق، مظلم، لا نور فيه".

قالت عمتها:

- الإيمان نور، وخير كله.

ضغطت بكفيها على وجهها تصرخ:

- لا أريد نوراً، أريد زوجاً يملأ حياتي بالحب، يملكني وأملكه، ولكن...

- إن الفضائل تمنحك قوة على الصفاء، فتمتلكين حساً غريزياً مشبعاً بالطمأنينة.

أثناء الحوار كانت أحلام تصاب بارتباك شديد، لم تكن منال وأمها تعبآن بها مطلقاً.. كما لم تشعر يوماً بقدر المساواة مع ابنة عمها، وهي في حالتها هذه، أتاها صوت أبيها يهتف في داخلها:

"لم تفكرين بهم؟ لم تخشينهم؟ أنت وأختك بشر مثلهم..

أبي: أشعر بالدونية وأنا معهم.

لا تشعري بهذا، إنك ابنة الشهيد، يكفيك فخراً."

كانوا عندما يقدمون الطعام تزداد ارتباكاً، فتنسحب بعيداً على استحياء، وتعجب من أمرها، كأن حال الدنيا ينقلب أمامها إلى النقيض... تذكرت أمها وهي تقدم الطعام لها ولليلى بحنان، وبعبارات ترسخ لذة الطعام في أعماقها، ودت لو تعود إلى البيت المتواضع القابع في حارة شعبية، وتصعد السلم الحجري الضيق المعتم، إلى أن تصل إلى أرض الحوش، ثم لتستقبلها الأزهار من الأصص بعطرها... كان هذا الشعور يفور في أعماقها، فيه شوق وخوف بآن واحد.

كانت تحاول أن تتعلم الصمت، فتعجب ليلى من حالها وتقول:

- إن صمتك قاتل يا أحلام... غردي كما كنت أيام زمان.

- أكره الغربة.

- نشكر الله أن كان هذا البلد وغيره مأوى للمهجرين.

- أدري... كل ما بقي لنا من الوطن ضجيج ودموع، وسلاسل اليهود يقيد بها أبناؤه.

- هكذا كان هذا البلد الذي نحن فيه الآن، عانى ما نحن نعانيه، وكافح، وناضل حتى حصل على استقلاله... في هذا البلد نهر يجري، وبحر وموج، وآفاق، وطبيعة خلابة، وريف جميل... أين عيناك، وريشتك؟ أم أنهما لا تنظران إلا إلى أعماقك في المدى البعيد، إلى حيث المنازل هدمت، والقتال، والعصافير ربطناها بخيط. ووضعنا طرفه في أكفنا، ثم تحولت العصافير إلى بنادق في أكف الثوار المجاهدين في جنان القدس، ونابلس، وجنين وغيرها.

- وأسراب الحمائم؟

- تحولت إلى أسراب طائرات العدو تقذف النار.

- والسلام؟

- نحن في ظلام الليل، والفجر قادم.

في هذه اللحظة دخل العم خيري، قال:

- نحن نسر بزيارتك يا ليلى، وخاصة حين تستشيرينني في أمر، أو تعرضين علي مشكلة ما، مما يشعرني بثقتك بي... وأنت يا أحلام ينبغي أن تثقي بي أيضاً.

لم يثرها كلامه، ولم يجد منها اهتماماً، تركها وهو يقول:

- مشاكسة، يصعب التفاهم معها.

كان خيري رئيس محكمة، نال شهرة جيدة، ومكانة  في المجتمع، كان يداوم في عمله بانتظام، وإن زار أسرة أخيه فلا يشتكين شيئاً، قال:

- كنت غالباً ما أرى أحلاماً مستغرقة في الرسم، تسكن اللوحة.

ضحكت ليلى، وقالت:

- كما قال الشاعر: إنني أسكن القصيدة، لكنه لم يذكر رقم البيت.

ثم أردف:

- قوانين البلد وأعرافه تطغى على شخصيتك يا ليلى، أما أحلام فتبدو ثائرة دائماً، تظن نفسها صاحبة قضية، ومضحية، وترفض حل قضيتها.

- بالفعل، أنا ضحية يا عمي، ضحية المجتمع الظالم، أو الظروف القاسية، المهدمة للأمل.

- نظرتك ناتجة عن حالة الحب المجنونة التي تعيشين فيها، حب مذل وذابل، جرك إلى الخطيئة.

التبست بالذل، بارتباك تساءلت:

"هل يعلم عمي شيئاً؟ ماذا يقصد بقوله: (إلى الخطيئة؟)

- خروجك مع من أحببت علناً، من غير إعلان لخطبة رسمية، يعد في نظر المجتمع والدين خطيئة.. ولا تزالين تحلمين، لم يخب توهج حلمك.

- صدقني، صرت أزدري الرجال يا عم.

قالت ليلى:

- ليس الرجال سواء، فأنا على سبيل المثال واثقة من زوجي، رجل مؤمن صالح، يعاملني بخلق، وبخشية من الله.

كانت أحلام تتصور القسوة في عمها، والحب والحنان بأبيها، وبأمها الطيبة، وكانت ليلى تندمج مع المجتمع، وفيما يترتب عليه من أعراف وقيم، أما أحلام فقد غدت لا ترى اليوم من الصديقات إلا واحدة أو اثنتين، شعرت بقسوة الأيام عندما تدور دورتها، قارنت بين الماضي والحاضر، ترقرقت عيناها بالدموع... دموع لا تدري إن كانت حزناً على الصديقات اللائي انفضضن عنها، أما أسى على نفسها الضائعة؟

من الشباك في غرفتها، بدا ضوء القمر مضيئاً، يتألق في السماء، يتلألأ، أخذت تلوم نفسها على ما فرطت في حقها، وترى حال الدنيا فراقاً، ورحيلاً، كل من بيده نعمة سوف يفقدها، وكل من له أمل في شيء، سيأتيه يوم لا يتحقق فيه الأمل، وعواطف الإنسان متغيرة، فمن تبغضه اليوم قد تحبه غداً، ومن تحبه اليوم قد لا تحبه غداً، وعلى العاقل ألا يتعرض لسؤال الناس، فهم كثيراً ما يحرمونه، ولا ينيلونه ما يشتهيه.

سألتها العمة:

- ماذا تفعلين هنا وحدك؟

- أفكر في أحوال الدنيا، متى جئت، ولماذا جئت؟..و..

- احكي لي عن أفكارك.

- عرفت بها لا داعي لتكرارها.

- حاولت أن أؤثر في نفسك، رفضت.

قالت لها ليلى:

- كنت تلعبين بالنار، فحرقت نفسك.

- وكان سمير يحرق البخور أمامي.

بضحكة صفراء قالت:

- وجودي عندكم يا عمتي غير مرغوب فيه.

- هراء... ماذا تريدين بكلامك؟

- أن أرجع إلى بيتنا.

- عمك لا يرضى، ولا أنا، لو علم برغبتك هذه لصب عليك جام غضبه.. على فكرة: إنه ينظر إلى مشكلتك من جميع أبعادها، ويبحث عن العلاج الجذري لها.. أرى أن الفكرة قد تبلورت في ذهنه.

- ما هي؟

- الزواج،.. ليس سوى الزواج علاجاً، وامرأة عمك تستغل الموقف.

- كي تهجرني  من البيت؟

- افهمي كما تريدين.. جاء في الأثر: (موطنان ابك منهما ولا حرج: طاعة فاتتك بعد أن وافتك، ومعصية ركبتك بعد أن تركتك).

قالت ليلى:

- والدموع تغسل مرايا النفس، أليس كذلك؟

- أكيد.

قالت أحلام بسخرية:

- لأن التعاليم والآراء المناهضة للدين أصبحت مذهباً لي، يميزني عنكم.

أخذت تبين مكانة مذهبها، بغضب شديد قاطعتها ليلى:

- رجاء تكلمي بما تشعرين به، لا بما عليك قوله، مللناه، نصحناك دائماً،.. فكان نصحنا لك صرخة في واد.

ثم استدارت تخرج من البيت في ضيق وانزعاج.. اعترضها طفل منال، تهلل وجهها وهي تحتضنه بحنان غامر.

نظرت العمة إلى أحلام، وقالت تعاتبها:

- أهكذا دائماً تغضبين ليلى، مع علمك بحبها الشديد لك وتخوفها، لم تعد حالتك تعجبني، لم تعودي نضرة منعمة بالحياة والحيوية.

- الزمن يا عمتي.

- بإمكانك أن تهزمي الزمن.

- يقولون: إن الموت يزيل الصعاب.

بفزع سألتها:

- ما هذا الكلام؟ أنت منا، إن أصابك سوء فستتركين فراغاً كبيراً، وأثراً في حياتنا.

لمست أحلام أذنها وهي تفكر، وبتعبير ناعس بليد يطوف على وجهها سألت نفسها:

"ألا يمكن أن تكون هذه الحركة اعترافاً بشيء لم تستطع أحلام أن تصوغه بكلمات؟"

تأوهت، وبصوت خافت قالت:

- كل جرح له خطورته، أشدها خطراً تلك الجراح التي لا تنزف دماً، جراح القلب بالذات.. الجسارة لدى ابنة أخي تضعف.

ثم قالت:

- لا تجافي الناس وتعتزليهم.

- أحاول، وما ألبث أن أفشل.

أقبلت صديقة لم تتوقع أحلام قدومها، لتدعوها إلى التنزه في الحديقة لمشاهدة أزهار الربيع.. كان اليوم مشمساً، كان أطفال يتنزهون، عند بركة على جانب الطريق، ويصطادون فراخ الضفادع، بدت الفراخ بوضوح تتألق في سنا الشمس، والضفادع الكبيرة تصدر نقيقها، قالت أحلام:

- هذا الجو المشمس الدافئ يثير الشهوة للتنزه على نحو غريب، أليس كذلك؟

- بلى، والعطر سفير الأزهار.

- ليتني حملت ورقة وقلم رصاص لأمضي وراء هذا المنظر في لوحة سريعة كانت بعض النباتات وريقات فحسب، حيث تهاوت أزهارها، وعلى بعض النباتات الخفيضة تراخت فروع حديثة، شاحبة الخضرة تحت ثقل البراعم الهائلة، بحنين غامر قالت:

- هكذا كانت أزهار على وجه التلة في نابلس.

ررتت الصديقة على كتف أحلام، تطلعت في الاتجاه الذي أشارت إليه... على مهل مضت عجوز لم تبد اكتراثاً بالمتنزهين من حولها، ومضت تتوقف أمام كل زهرة، وتلتهمها بنظرة محدقة... كانت الظلال تلتف بين الأزهار، وتتصارع فيما بينها، وهي تتنقل مع النسيم.

فجأة قالت الصديقة بصوت مرح:

- انظري، بائع الفستق المشوي، هيا نشتري منه.. لقد شاهدنا ما فيه الكفاية من الأزهار.

- ما أجملها، وكأنها تفتحت لتوها من التربة التي بللها المطر.

- هل تعرفين كم زهرة نرجس هنا؟

- لا بد أن هناك الكثير، هذا موسمها.

كانت شمس الأصيل قد غمرت أكثرها... ثم أقبلت العجوز التي سبق أن شاهدتاها، ومضت عبر قلب الحديقة.. توقفت أمام كل زهرة، أطبقت يديها وراء ظهرها، ومضت تحدق في محيا كل زهرة.

- لقد أرادت أن تحتفل بقدوم الربيع بطريقتها الخاصة.

قالت أحلام، ونظرتها في شرود:

- هل نجحت في الاحتفال؟ أم أن المشهد أخذها إلى ذكرى في الوطن البعيد؟

- لماذا تسألين؟

- أعرفها، إنها مثلنا من المهجرين.

يتبع إن شاء الله...

              

* أديبة سورية تعيش في المنفى