مارد في صدري(8)

مارد في صدري(8)

رواية: نعماء محمد المجذ

قضت سناء أياماً في البيت وحيدة، شعرت بالسأم، الأسرة في إجازة في الضاحية، كم تمنّت أن تمضي هي أيضاً يوماً أو أكثر بعيدة عن جحرها، سخرت حين راودها ذلك الخاطر، لا تعرف لها أقرباء، وقد يكون لها، ولكنها محجوزة عنهم، ردّت هذا الخاطر الجريء بعد أن وجدت أنه لم يكن في مقدورها أن تفعل شيئاً.

دخلت غرف إخوتها، تقلّب أشياءهم بيديها، وتضمّها إلى صدرها، وتشمّ رائحتهم، استيقظ في نفسها حبّ وحنين، ودّت لو أنها تصحبهم، وتحمل أشياءهم، وتمرح معهم، هزّت رأسها بأسف، وقالت: هذا غير ممكن.. أفضّل البقاء بانتظارهم.

لِمَ رحل بها الخيال بعيداً، حين أغمضت عينيها.. رأت بأنها بين أطفال يدورون حولها، يتشبثون بثوبها، ويضحكون.. سُرّت من هذا الحلم الخاطف، انتشت، وضحكت.

عند الأصيل قرّرت أن تتجوّل عند الشاطئ، رضيت خالتها أم غضبت.. جلست على صخرة، وأخذت تستمتع بالهدوء، والوحدة، ومنظر الشمس وهي تنساب رويداً رويداً، عند المغيب.. أحسّت فجأة بحركة وراءها، استدارت، وهي تشعر بالخوف وهنا رأت المعلمة هيفاء تقول في هدوء:

- ماذا تفعلين هنا يا "سناء"؟

التزمت الصمت.

- لماذا تهربين منّي كلما أردت أن أحادثك؟

كانت "سناء" كثيرة الخجل، تنظر إلى المعلمة بوقار، ثم قالت لها:

- لا يمكن أن تستمرّي بالهرب مني، نحن نتقصّى أخبارك من أختي، صديقتك، ونسعد بصحبتها لك.

استولى عليها الدهشة، هيفاء المعلمة بنفسها تحدّثها برفق!. أردفت:

- أبارك لك ختمك للقرآن.

- وللقراءة، والحساب أيضاً.

- الله معك دائماً.

- أشكرك.. أحسّ بأنّ الله معي، رغم كل ما أعانيه من قمع وحرمان.

صمتت هيفاء برهة، ثم قالت:

- هل تعلمين بأنّ الحرمان عامل قويّ الأثر في حياتك؟ ودافع فعّال لصقل شخصيتك، وتفتّح موهبتك؟

تأوّهت وهي تقول:

- لقد بنيت الكثير، ولا أزال.

- لا تسرفي في الحزن لما يعترض حياتك من شئون، وشجون، فالإسراف مضيعة للوقت، ومجلبة للقلق، كوني قوية النفس، جريئة وصبورة، على ما عسى أن يحدث لك من متاعب ومصاعب، وفي ذلك الخير لك، انظري إلى مستقبلك في عزم وحزم وإصرار.. على فكرة: أرسلت إليك (العبرات) و(النظرات) هل أعجباك؟

- أجل، واستغرقت وقتاً طويلاً في قراءتهما.

- ما السبب في إعجابك بهما؟

- لأنهما يخاطبان أعمق المشاعر الإنسانية، وأقوى مشكلاته، يستمدها المنفلوطي من واقع المجتمع، وبشكل بائس.

أطرقت برهة، ثم قالت:

- هكذا حياتي يا معلمة، رحلة مع المتاعب والعواصف، أصارعها وتصارعني، عشرون عاماً ما أكاد أمدّ يدي على أمل وقرار حتى أجدني تتقاذفني التحدّيات، وتبعدني عن الأمان، ولا أقدر أن أفرّ من هذا الخضمّ العاصف، وبيأس هزّت رأسها وقالت:

- أنا بنت، والبنت تتحكّم بها الأعراف والتقاليد، التي تكبّل الأيدي والعقول معاً.

- اصبري.

- صار الصبر عادتي.

- يمكن التغلب عليها، بالمجاهدة فتتغيّر حياتك.

- هل يأتي التغيّر من نفس مقهورة، كدرة، أظن أنه لا يكون إلا من نفس صافية.

- الإيمان والمثابرة على العبادة، يساعدانك.

كان الصيف يفرد جماله على الطبيعة، فيجمع بين لطافة الجو، وجمال المنظر، ويقف المرء مشدوهاً أمام مشاهدها الخلاّبة، التي تخطف الأبصار.. فشعرت "سناء" بالأنس والألفة مع المعلمة هيفاء، وزال حاجز الخجل بينهما.

قالت لها:

- أراك كثيراً عند الشاطئ.

- عندما ينتابني سأم الحياة، وأراها على وتيرة واحدة في المنزل، أريح نفسي عند البحر.

- حدثيني كيف تريحينها؟

- يكفي ما أجده من دغدغة نسيم البحر، فأملأ صدري به، وأرتاح من الألم، وأغرق عنده همومي.

ضحكت هيفاء، وهي تقول:

- ويبتلعها القرش، والحوت.. أكملي..

- أرى صفحة البحر في الصيف في منتهى الروعة، حين تنقش الريح على وجهه صوراً عجيبة، تنافس الرسامين بأقلامهم.. والمويجات تنفث برقّة رذاذاً، وزبداً يتطاير بلا ريش، وأجنحة وتنثرها أنغاماً وشجى.

- أنت رائعة، وماذا بعد؟

- ما أروع المشي فوق رمال شاطئه الناعمة الصفراء، رسمت فيها الأقدام صورها.

- بم تشعرين تجاه ما تشاهدين.

- أشعر بسرّ الحياة.. حياتي التي أنشأها البحر، واستودعها أسراراً في صدري، عند ضفة شاطئه أرى الحياة جميلة، فأتساءل بحيرة: هل خلق الله الحياة للإنسان؟ أم خلق الإنسان للحياة؟

- ألم تقرئي قوله تعالى في سورة الرحمن: (والأرض خلقها للأنام)؟

في هذه اللحظات، كانت أمّ تجري خلف طفلها، تسبقه، ويسبقها، ويضحكان معاً.. التفتت "سناء" إليها وقالت:

- تذكّرني ضحكة هذه الأم مع طفلها، بضحكة أمي معي، وأنا دون الخامسة من عمري.

- ذاكرتك قويّة، وخيالك واسع.

- أنا كذلك، أعيش في خيالي كالملائكة فوق السحب.

- هل قرأت (الأجنحة المتكسرة) لجبران؟

- قرأتها، وبشغف شديد، وفتنت بما فيها من خيال، فكان الأسى يسري في نفسي، ويلهب النار في صدري.

قالت لها هيفاء برجاء:

- من اليوم فصاعداً، لا تهربي منّي.

- ليس لي الخيار.

- هذا ليس خياراً، بل موافقة.

أثناء الحديث معاً، قالت لها هيفاء:

- أراك حاقدة على الأعراف والتقاليد، وبأنها تكبّل المرأة وتقيّدها.. نرى الكثيرات يطالبن بالمساواة، لتفتح المرأة بعد الاستعمار، ولنضجها بالتعلّم، وقصة المساواة قصد قديمة، يتمناها الكثيرون، إن كانت المساواة الاجتماعية أو المساواة بين الرجل والمرأة.. كان هذا التفكير بسبب الجهل بأحكام القرآن، فالله سبحانه وتعالى كرّم المرأة، وأعطاها حقوقها كاملة، وما تحسّين فيه من اضطهاد فبسبب الظروف التي تعيشين فيها.

تنهّدت "سناء" وهي تقول:

- إن قدّر الله سأقف إلى جانب المرأة البائسة المضطهدة.

سألتها هيفاء:

- ماذا تريدين من هذه الحياة؟

ابتسمت وهي تقول:

- كل ما أريده منها، قلباً يخصّني بالمودّة والحنان، وحسبي ذلك في مسار عمري.. هل هناك أسعد للمرأة من القلب الودود، بجانبه يهون أي كسب مهما كان ضئيلاً، ولا يشغلني مال، أو ترف.. ماذا ننتظر من الحياة؟.. الحياة مهما طال مكوثها، سترحل.

ثم استطردت:

- يراودني هاجس قويّ، لتحقيق وجودي الإنساني، وتأكيد حقي في الحياة الكريمة.

- ستجدين صعاباً، وتحديات غامضة، ومفاجآت، ولكن لا يمنعك ذلك من البحث عمّا تحلمين.. وإن سعيت من أجل تحقيق حلمك، فإنّ الحيّ كله سيطاوعك لتحقيقه.

- ولكن..

- ماذا؟

- عندما نحبّ، نكون أفضل مما نحن فيه، بالحبّ والإيمان نستطيع أن نواجه مصيرنا.

وضعت هيفاء كفّها برقّة عل كتفها، وبابتسامة هادئة، قالت:

- علينا المسامحة، فالمسامحة من شيم المؤمنين، وتمنحك الهدوء النفسيّ، والله سبحانه غفور رحيم.

عندما اجتمعت مع أختي هيفاء، بلهفة سألتها:

- أتظنّينها موهوبة؟

بانبهار قالت:

- إنها موهوبة بشكل عميق، كان قلبها وهي تحدثني، ينبض مع الطبيعة وينفعل، ويتدفّق بالحياة، بكلّ ما فيها من عمق، ومعنى، ويتعانق في داخلها حس الطبيعة بقسوتها.

- يقول أبي: إنّ البحر يفتّق المواهب، وينشئ المفكرين، والفلاسفة.

- لذا غالباً ما يرى، وفي يده القلم والورق، تحت مظلّة واسعة عند الشاطئ.

ثم قالت:

- أرى الرابطة متينة بينكما.

- هي من أعز صديقاتي، وأبي يشجّعني على صحبتها.

- وأنا ألم أشجعك أيضاً؟.. وأرسل معك كتباً ومجلات إليها؟ إنها ابنة فخرية التي رحلت، بعد أن تركت آثاراً لن تنسى، من خلق، واستقامة، وفهم، فكانت ابنتها أمانة في أعناقنا.

كنّا نجلس إلى مائدة العشاء، ورغم الهدوء الظاهري لهيفاء، كانت تبحث عن وسيلة لتعلم والدها عن وضع سناء.. سألها:

- ما الأخبار؟ هاتي ما عندك.

كانت فرصة سانحة، وسرعان ما قالت:

- اليوم التقيت بسناء، رغم هربها الدائم مني.

- هذا داب البنات، يتجلجلن أمام المعلمات في الطريق، ويتهربن منهن، حدثيني ماذا جرى بينكما.

- إنها تعيش بالخوف في البيت، وتفتقد الأمان، وأحياناً تشعر بالإحباط والسأم.. ثم ارتسمت المرارة على وجهها، وهي تحدثه بشأنها مع زوجة أبيها، فقالت:

- يبدو أنّ التناقض بينهما سيبقى قائماً، وآخذاً في التعمق يوماً بعد يوم، لاختلاف الاتجاهين، فأثر القرآن، والقراءة كانا واضحين في تغيّر شخصيتها، وأم خالد هداها الله جامدة في تصرفاتها، تدفعها الغيرة، والجهل، وحبّ السيطرة، لم تراعي مشاعر "سناء" وصباها، وظروفها، بحرمانها من أمها، ثم من أبيها.. أمور أدّت إلى رفع وتيرة الصراع بين المرأتين.. وتملّك أم خالد للبيت كان دافعاً آخر للصلف، والغطرسة، ويبدو أنّ في ذهنها فكرة إبعاد سناء بإهانتها شبه يومية لها، واستنزاف طاقتها في أعباء البيت، وإلزامها القبوع في البيت.. ورغم غريزة البقاء، والمقاومة لدى "سناء" فلم تزل تتخبّط في التحديات المتواصلة، ولم تستطع أم خالد تحطيمها نفسياً، إذ تولّد في داخلها تمرّد، ظهر في إقبالها على كتاب الله، وتثقيف نفسها بالقراءة، حتى أخرجتها من التخلّف الذي أرغمت عليه.

قال أبي:

- أعلمني الشيخ عبد الله أن نساء المسجد يتنبأن لها بمستقبل جميل.. صمت قليلاً ثم قال:

- فمن رماد الألم ينبثق النجاح.

أردفت هيفاء:

- كان ختمها للقرآن، مفاجأة لزوجة أبيها، وأفزعها بلا مبرر سوى استرجاع لصورة ضرّتها، التي تسمع عنها، ولم ترها.. ولم تزل "سناء" تعاني من القيود المفروضة عليها، والقمع المتواصل، وهي تقاوم، وتحاول الانفتاح على الطبيعة، من خلال نافذتها، وعند الشاطئ، وفي المتنزه، ونبقى في اتصال معها، رغم المنع منها.. وأحياناً استمرار العداء الذي تواجهه من زوجة أبيها، يدفعها إلى الانكماش، أو إلى الدخول في محاولات للدفاع عن نفسها.. ولكن سرعان ما توقف الجدل، فلا تريد أن تزيد النار اشتعالاً، وتلجأ إلى زاويتها الضيّقة.

أخرجتُ ورقة من جيبي، وقرأتُ ما كتبت "سناء" من خواطر:

ركني الضيّق هذا فسيح

أطير فيه بلا ريش، أو جناح

أحلامي نور في سفر

أرحل فيه مع القمر

ثم.. كي أستريح

فوق غيمة

مع نجمة

قد أتيه

في رحيل بعيد

أبحث عن أمي

قد تجيء بلا موعد

مع الفجر، والديك يصيح

فهل أعاتبها؟.. لا

اللقاء يختصر العذاب

والعتاب..

وينشر الشوق بين الأحباب

وأقول:

حتى أمس، كانت دمعاتي تفور

واليوم، بفرح بسماتي تزهو

ثم أصحو

من الذهول، والانتشاء

وتستيقظ معاناتي

وأهدهد جراحاتي

ويلدغني الاصطبار والانتظار

وعيناي تتسلقان أرقام النجوم

في تفاؤل جديد

تخترق السحب

لترى القمر

وتسرق منه السفر

قال أبي:

- إنها خواطر جميلة.. ثم ارتسمت المرارة على وجهه، وبدت في صوته، وهو يقول لأختي:

- هل أنت واثقة مما تقولين؟.. أقالت لك هذا بنفسها؟.. أوشك ألاّ أصدّق ما أسمعه، أيمكن أن يصدر من امرأة مثل هذه القسوة؟.. وغالباً ما تعرف المرأة بالحنان والمشاعر الرقيقة.

طافت على وجهي ابتسامة حزينة، فقلت:

- إني أعلم عن "سناء" أكثر من أي شيء في الدنيا.

صمت أبي برهة، ثم قال:

- للأسف لا نستطيع إحضارها إلينا لأسباب قد تسيء إليها. وبلهفة واضحة قال:

- سنجد لها الحلّ المناسب، ابقيا في صلة معها.

في هذه اللحظات، كانت "سناء" متكورة في ركنها، لم تشعل فتيل المصباح، فالقمر تمتد أنواره إلى مالا نهاية، تحت أضواء النجوم، ويلقي منها على جوّ الغرفة من خلال النافذة.. ففي العتمة يزداد صراخ نفسها، وتستيقظ مشاعرها، وتسكب في روحها أسراراً، وأسراراً، فهي مملكتها الشاسعة، مسكونة بالانتظار، تستعيد فيها ذكرياتها، فتزفها وتمرّ في حلقها كلمات.. ثم تتعثر، وتنفرط، وتسكن.. كانت كثيراً ما ترى أمها تخرج من جمر الذاكرة، بوجه شاحب، أحزنه الفراق.

تذكّرت الموقف الصعب، حين رجوعها هذا اليوم من الشاطئ. كانت زوجة أبيها تنقضّ عليها كالصخر، أو الصقر، فتجرحها، وتؤلمها، وتستقر في ذاكرتها الجراحات.. ثم تصمّم أن تنسخ هذه الذكرى الأليمة من قلبها، وتنسج لها المبررات، وتقول بحزم: يمكنها أن تفعل أي شيء إلا حرماني من الخروج إلى الطبيعة.

في ضحى اليوم التالي، كانت تتمشّى في طرقات المتنزه المشجّرة، وعيناها تجولان في الأمكنة، تبحث عن المرأة المسنّة، الحكيمة، وحين التقت بها، سألتها:

- هل تعاستي يا خالة، تأتيني من ظروف خارجة عن إرادتي، وسوء حظّي السبب فيما أعانيه؟

بوقار أجابتها:

- الناس يا ابنتي يلقون الفشل على سوء الحظ، وهؤلاء أناس سلبيون، عليك أن تتغلّبي على هذه الظروف.

- إنها أقوى مني.. أحاول بالتحدّي والصبر.. ثم.. إنني لا أحبّ أن أكون في الخلف، أكره الكدر والمنغّصات، وأحبّ السلام.

- السلام يا ابنتي لا يأتي بالكره، والأحقاد والعنف، ولكن يأتي بالمحبّة والتفاهم.

نهضت "سناء" قفزت الكلمات إلى فمها، وهي تبتعد عن المرأة، ثم همست:

- لقد مضت سنوات طويلة، بعد أن غادرت طفولتي برحيل أمي، وأرى حياتي تتوالى في شتاءات لا تحصى، فمتى يستيقظ ربيعها؟

في طريق العودة، قريباً من البيت، رأت قطتها منزوية عند جدار الحارة، متكوّرة بين الأحجار.. أسرعت إلى "سناء" تموء بنغمات حزينة، تشكو القسوة التي لحقتها، بطردها من البيت، بعد أن أمضت فيه طفولتها، وشبابها، مسحت على رأسها تواسيها، ولسان حالها يقول: اصبري مثلي، تعوّدي على الحياة الجديدة.. يبدو أن مصيرنا سيكون واحداً.

*   *   *

ذات يوم، قلت "لسناء":

- سنزور امرأة في الحيّ، كانت صديقة لأمك.

نظرت إليّ بدهشة، وبرقت عيناها من المفاجأة، وبحيرة تساءلت:

- أكانت صديقة لأمي حقاً؟

تهدّج صوتها قليلاً وأردفت قائلة:

- إنها مغامرة، أخشى أن تعلم زوجة أبي.

ببرود أجبتها:

- لا تخشي شيئاً، تحمّلت الكثير، آن لك أن تتعرّفي على بعض الجارات، وخديجة هذه واحدة منهن.

أحسّت بالانشراح، فقالت:

- ما ألطفك يا صديقتي.. أشكر الظروف التي كانت السبب في صداقتنا، ولقائي المستمر بك، لولا وقوفك بجانبي، وإصغاؤك لهمومي، فماذا كان مصيري؟

- هذه وصية والدي، تدفعني إلى مصاحبتك.

كان منزل خديجة قديماً، ذا غرفة واحدة، بنافذة عالية، تطلّ علا الزقاق، وله أرض حوش، تظلّها السماء، وكان مدخل البيت مزداناً بأصص الورود البلدية والياسمين المتسلق على الجدار.. غمرت "سناء" فرحة وحماسة في التعرف على هذه الأسرة، وكأنها تتنفس الهواء الذي تنفسته أمها، وتلمس قدماها الأرض التي مشت عليها وتصافح عيناها الأوجه التي أحبتها.. سمحت لهذا الإحساس أن ينتشر في صدرها، ويظهر في وجهها.

كان اللقاء بخديجة حاراً، ضمّت "سناء" إلى صدرها بحرارة أشدّ، والدموع تطفر من عينيها، وهي تقول:

- كنت ملاك أمك الصغيرة الجميلة.

كانت لحظات مميزة، استعادت فيها خديجة ذكرياتها مع الأم فخرية، وكيف كانت فاطمة ابنتها، وسناء تلعبان، وتتقاذفان الكرة، وتتنازعان الدمية، وتذهبان معاً إلى الشيخة بدرية.. غصّت بدموعها حين ذكرتها، وترحّمت عليها.. أيام مضت يا ابنتي كانت كالحلم، ومن أجمل الأيام، قضيناها معاً.. مسحت دمعات عن خديها، وهي تقول:

- لم يكن في البلدة أحسن منها خلقاً وذكاء، وتلاوة لآيات القرآن، ثم ابتسمت وهي تقول:

- وأيضاً، كانت ذات موهبة، تقول الشعر وتلحنه، وتنشده.

بلهفة سألتها "سناء":

- هل حفظت منه شيئاً يا خالة؟

ضحكت وهي تخبط على جبينها:

- أف.. الزمن أنساني كل شيء.

- وأبي، حدثيني كيف كان معها؟

بعد برهة صمت، قالت:

- لا داعي كي أحدثك عن قسوته، رحمه الله، والمحنة التي مرّت بها، إلى أن تحررت منه.

تسمّرت عيناها في وجه "سناء" وكأنها تستعيد ذكرى لصورة بعيدة، وبعجب قالت:

- سبحان الله، لشدّ ما تشبهين أمك!

- يقولون ذلك، ولكن أملي أن تكون حياتي أفضل.. وماذا أيضاً يا خالة؟

- إنها في لبنان.. وقبل سفرها أسرّت لي، بأنها ستعود.. ولكن..

- حتى الآن لم تعد.. الجارات عندما يزرن زوجة أبي، يهمسن بأخبارها.

- أكثرها تخمين.

أومأت "سناء" برأسها، وقالت:

- هذا ما يحيّرني.. وأتساءل: لماذا أرادت الانفصال عن أبي بهذه السهولة؟

بحزن أجابتها:

- أمك كانت متعلّمة، حصلت على السرتفيكا، في زمن، النساء المتعلمات فيه كنّ قليلات.. كثيراً ما حاولت أن تقنع والدك بالتخلي عن عمله، وتحويل الدكان إلى مكتبة، والاهتمام بمظهره.. لم تكن أمك تحلم بشيء لنفسها، بل كان طموحها موجّهاً لصالحه، لا لصالحها، ولكن مسعاها كلل بالفشل.

- هل كانت مغرورة.. وأنها؟..

- بل متواضعة جداً، ولطيفة مع الجميع، وخاصة مع البائسات، وتتمتع بعلم، وفهم..

ثم هزت برأسها، وهي تقول:

- للأسف، لقد خسرتها البلدة.

- هل تظنين أنها ستعود؟

- أملنا كبير، على الأقل من أجلك أنت.

خيّم الصمت برهة، وهبّت نسمات صيف رطبة، تحمل معها عبير الياسمين، والورد الجوريّ والزنبق.. وسرت في جسم "سناء" انتعاشة لذيذة ثم أحسّت بكفيّ تربت على ظهرها برفق، وبهدوء قلت:

- هيا، لنعد، قبل أن تفتقدك أم خالد.

بلهفة قالت:

- هل يمكن أن نبقى وقتاً أكثر؟

- لا، لا نريد أيّ مشكلة لك.. خروجنا هذا مغامرة، أو هذا ما يبدو لي على الأقل، ولا داعي لأن تخبري أم خالد بذلك.

- أشعر بحاجة إلى المزيد من الأخبار عن أمي، وكأن الخالة خديجة تخفي عني أسراراً.

في البيت حصل الويل، واجهتها زوجة أبيها قائلة:

- أين كنت يا فلتانة؟

- فلتانة؟.. ماذا تقولين؟.

التزمت الصمت..

- أجيبي عن سؤالي.

- كنت في مشوار قصير مع صديقتي.. أرجوك لا تفقدي السيطرة على أعصابك.

- هل زرت أحداً..

همست "سناء" في سرّها، تبتهل إلى الله أن ينجيها من لسانها، وبطش يدها.

- أجيبي..

- هل زيارة إحدى الجارات جريمة، أعاقب من أجلها؟

أسرعت إلى غرفتها، وأوصدت الباب من الداخل، كيلا يصلها شواظ الغضب.. أخذت تعاتب نفسها بصوت متوتر النبرات:

لماذا خفت وتهربت من الحقيقة؟

لم هذا الرعب الدائم منها؟

من حقي عليها أن تتولى رعايتي منذ زواجها من أبي، كبديل لأمي، وأيضاً لتعزّيني عن مقتل أبي.. توقّفت عند هذه الكلمة (مقتل) كان انطلاقها بشكل عفوي.. واقتنعت بأنها قتلته بمشاحناتها المستمرة.,. والآن تحاول قتلي أيضاً، يبدو أنها رسمت صورة أبي وصورتي في ذهنها، بعد أن تملكت البيت والدكان، وكأنها نوت القضاء علينا، يقولون: وقع اللسان أنكى من وقع السنان.. هل تنتظر الفرصة السانحة للقضاء عليّ؟

أصابتها رعدة من هذا الخاطر.. ردّته إلى خزانة الخواطر..وأوصدتها بتذكر الحديث البهيج الذي جرى بينها وبين خديجة، عند الورود والياسمين، فعادت إليها البهجة، فالكلمات لم تزل تدغدغ مشاعرها بلذة.

حدّثت والدي عن زيارتنا لخديجة، وعن إلحاح "سناء" بالأسئلة عن أمها، وفي الطريق قالت بأنها تفكّر في التحدّث مع أختي هيفاء بشأن مستقبلها.

كان الكون يتنفّس صباحاً، ويبدي جماله صراحة، ويفتّح الأشياء برشاقة، ويستدعي المشاعر للخشوع، ويفتّح القلوب لهذا الكون المنير، بالتوحيد والتوقير للخالق المبدع، ويدلّ على قدرته وعظمته، فأرى آياته في نفسي وفي كل ذرّة من ذرّات الوجود.

كنت في صفاء جلستي، وأنا في علياء السطح، أتأمل ما حولي من طبيعة ساحرة، في بحرها وجبالها وغاباتها.. وروحي تلتقط إشارات إيمانية، وتتفاعل في داخلي، فتملؤه سكينة، واطمئناناً.. قلت: قد يكون الزمن صديقاً للإنسان، يحبّ ليله، ونهاره، وقمره ونجومه وشمسه، وهكذا أحببت الطبيعة بكل ما فيها، فلا تملّ مني، ولا أملّ منها، وتنتشلني من أيّ ضياع.

من ذا العلوّ، وأنا أمرّر عينيّ على الأزقة الرمادية الملتوية بين البيوت، لمحت "سناء" تمشي بحذر شديد، تساءلت: إلى أين تذهب يا ترى؟ راقبتها، ثم لمحتها تتجه إلى بيت خديجة، هبطت الدرج بسرعة، وفي لحظات كنت بجانبها، بادرتها:

- إلى أين؟.. قد يكون هذا تطفلاً مني.

- إلى الخالة خديجة.. منذ التقيت بها، وأنا اشعر بالارتياح والرغبة في التحدّث معها ثانية.

- تبدين متعبة.

- كنت أرقة، أفكّر، ونفسي نهمة إلى الاستزادة عن أمي.

- لا بأس.. هل أكون معك؟

- بكل سرور.

كان استقبال خديجة بمنتهى الحبّ، لم تستطع أن تمسك دموعها عن الانهمار، رجتها "سناء" أن تمدّها بمزيد من الأخبار.

- سأسرد عليك كل ما أعرفه عنها، إنها لا تشبه أيّ امرأة أخرى.

- إنك تبالغين يا خالة.

أومأتُ برأسي وقلت:

- وهذا رأي أمي، وعماتي أيضاً.

بعد أحاديث متفرّقة، نهضنا، ونحن لا ندري أنّ الأقدار تضحك منّا، وتخفي لسناء مفاجآت.. انحرفنا إلى طريق هادئ، بعيد عن ضجة المارين، ولنخليه إلى عربة يجرها حمار، قلت:

- أتدرين أن هذا الحمار يقود صاحبه الأعمى؟.. سنون تلو السنين وهما في هذا الحال، وكأنّ الحمار عين صاحبه، التي يبصر بها، لم أعلم بذلك إلا من أيام، أخبرني أبي بهذا.

- عجباً، كيف يكون ذلك.

- إنها الألفة والمودة بين الاثنين، صاحبه يعامله بإحسان يعطيه من حبّه، ورعايته، يمسح على رأسه وظهره، ويطعمه بيده، ولا يهينه بضرب، أو شتم، حتى صار هذا الحمار، يعرف الطريق موقفاً، موقفاً، ويقود صاحبه إلى السوق دون أن يضلّ.

- سبحان الله! الإحسان في المعاملة تبدو في تجاوب الحيوان مع الإنسان، فكيف إذا كانت من إنسان إلى إنسان؟

- هيا قبل أن تعود زوجة أبيك من زيارتها.

وجدتها تنطلق بسرعة، ثم سمعت من بعيد فتح الباب وإغلاقه، تبعه صوت أم خالد يزمجر، ويرعد، ويكيل الشتائم، رغم المسافة التي تفصلنا.. اقتربت، كانت "سناء" ترجوها أن تخفض من ارتفاعه.. يمكن يا خالة أن نتفاهم بهدوء.

- سألتك، أجيبي، أين كنت؟

- مع صديقتي في مشوار قصير.

- لمحتك وأنت تخرجين من عند خديجة.

بصوت هادئ سألتها:

- لم تراقبينني؟.. لم أعد طفلة.. هل من سبب يحرمني من زيارتها؟

في حالة عصبيّة رهيبة، أخذت تصرخ، وتقسم، وتتوعّد.. هربت "سناء" من أمامها اتّقاء غضبها.

بعد أيام، سألتها عمّا حصل، قالت:

- غضبت مني غضباً شديداً، ولكني أتساءل: يا ترى على ماذا أقسمت، وبأيّ شيء توعّدت؟.. لا أدري، لم أفهم شيئاً، كانت مضطربة جداً، وتتلعثم بجواب القسم.

بابتسامة وببرود قلت وأنا أربت على ظهرها:

- لا تهتمّي.. اتركي الأمر لله.

في صباح أحد الأيام، صحت "سناء" على ضجيج إخوتها، فما كادت تستيقظ حتى فتح باب غرفتها، ودخلت زوجة أبيها غاضبة، تؤنّبها على تأخرها في النهوض.. باستعطاف قالت لها:

- لقد أرقت هذه الليلة لمغص ألمّ في بطني، وها أنا أفيق لمساعدة إخوتي، رغم شعوري بشدة الحاجة إلى الاستراحة.

- وأنا أيضاً أرقت، لأنني لم أدر الجواب على سؤالي.. لماذا تعرّفت على خديجة بنت أم مصطفى؟.. هل دار بينكما حديث حول أمك؟

- تبادلنا أحاديث متفرقة، كان فيها ذكر أمي.

أرادت "سناء" تغيير دفّة الحوار، بلهفة قالت:

- إخوتي بحاجة لمساعدتي.

كان اهتمام أم خالد اهتماماً خاصاً، بتعرّف "سناء" على خديجة، قررت أن توالي تحرياتها، وتشتدّ في مراقبتها لها.

بحيرة تساءلت "سناء": لماذا قطعت صلتي بالجارات بهذا الشكل المريب؟.. نظرت إلى شعاع الشمس المتسرّب من النافذة، يلامس وجهها، كأنه يحثّها على الإسراع في إعداد إخوتها.. بابتسامة ساخرة، قالت:

- مهما كان أمر هذه المغامرة وما يتبعها من عواقب، وعقاب، سألتقي بخديجة المرّة، تلو المرّة، وقد رأيت من خلال شخصها شخص أمي..

ولكن.. ما لبثت أن أحسّت برعدة تسري في بدنها، وإحساس بتلجلج في صدرها، لم تدر إن كان من خوف أو قلق، أو من الوعيد المؤكد بالقسم.. تسمّرت في مكانها، وبدهشة تساءلت: كيف علمت بصلتي بخديجة بهذه السرعة؟.. هل كانت حقاً تراقبني؟ أم هو نوع من أساليب المراوغة للإيقاع بي؟..

حاولت تركيز تفكيرها، فيما ينبغي أن تفعل، لو تكرّر الموقف والوعيد.. فهل تلجأ إلى خديجة؟

لم تعلم كم مضى عليها في تلك اللحظة.. خيّل إليها أنّ الزمن قد توقّف، أو أنه يمر بسرعة هائلة.. تنبّهت من ذهولها، على غمغمة أصوات إخوتها، خرجت إليهم تضمّهم بشوق، وهي تحرص ألاّ تجعل الارتباك يبدو على وجهها.

ارتفع صوت أمهم من المطبخ، تقول لهم:

- لماذا تتصرّفون، وكأنّ الدنيا عيد؟.. وأنت يا بنت هل هيأتهم للخروج إلى المدارس؟

- كما أمرتني.

بعد ساعة اقتربت منها، وقالت:

أين مفتاح الباب؟

هلعت "سناء" فسألتها:

- لم؟

- كي لا تخرجي إلا بأذني.

ثم أردفت بلهجة آمرة:

- شيء من اثنين، مكوث في البيت دائم، أو خروج منه إلى الأبد.

- يعني أنك تحرمينني من دروس المسجد، ومن التنزّه عند الشاطئ.

- افهمي كلامي كيفما تشائين.

نظرت "سناء" إلى السماء، تبتهل إلى ربها بحرارة، وأن يجعل لها من بعد الضيق مخرجاً.. أخذت تلملم ما بعثره إخوتها، وتنظف وتغسل، وفيما هي كذلك، إذا هي تتعثر بالقطة، أثناء تمسحها بها، وهي تموء بصوت رخيم، استطاعت أن تختلس فرصة فتح الباب، لتمرق بسرعة وتختفي بين الأصص.. كررت أم خالد طلبها:

- قلت لك هاتي المفتاح.

- أرجو أن تسمحي لي بالخروج إلى المسجد، فالدرس لا يحتمل أيّ تأخير.. ثم ابتسمت وهي تقول:

يمكننا أن نذهب معاً، يا خالتي.

تذرّعت "سناء" بالصبر، تنتظر الردّ، ولكن سرعان ما تذمّرت أم خالد، وأظهرت عدم انسجامها مع نساء المسجد.. استدارت "سناء" لتدخل ركنها، كي تقصر الحديث معها.

في أصيل اليوم التالي قابلتها في الطريق، وهي في حالة اضطراب، سألتها:

- إلى أين؟

أنسيت أن اليوم الاثنين؟.. إلى المسجد، ثم لأشمّ الهواء عند البحر.

- لم تبدين مضطربة.؟

- سأشرح لك فيما بعد.

أخذت المفتاح من جيبها، وقالت:

- إنّ هذا سيسحب منّي.

- لا داعي للقلق، إن حصل حقاً، فسيكون لديك مفتاح غيره.

- ماذا تعنين؟

- ستعلمين فيما بعد.

بعد الهبوط من درجات المسجد، سألتها:

- أتفضلين التمشّي عند الشاطئ أم العودة؟

- أرغب بنزهة قصيرة جداً، لا أضمن سكوتها عني، وعقابها الأليم، فقد خرجتُ دون إرادة منها.. آه، قصتي معها، ذات شجون ومفاجآت.

- ولذا أنت اليوم في أشدّ حالات الارتباك.

- أجل.. لقد عرفت بزيارتي لخديجة.. كيف؟.. لا أدري ادّعت أنها لمحتني.. اعترفتُ لها.. أكره الكذب.

بهدوء، قلت:

- ليس الأمر ذا بال، حتى يستحق منك هذا القلق.

- ولكن.. توعّدتني.

- بالطرد، وإلى الأبد، أليس كذلك؟

ضحكتُ، وأنا أقول:

- إن الأمر يبدو مزاحاً.

- بل إنها الحقيقة.. دعيني أسرد عليك ما حصل.

وهي تقصّ عليّ، قاطعتها قائلة:

- أصدّقك في كل ما قلته.. قبل الفرج، يحتلك الموقف، ويشتد.. على فكرة: هل شعرت بالانشراح عند خديجة؟

- جداً.. امرأة طيبة، محبة لأمي، في صدرها ذكريات كثيرة عنها، وتعلم أسرارها مع أبي.

توقّفت عن الحديث بقلب خافق، وبلهفة نظرت إليّ، أحسست بما ينتابها، بابتسام قلت:

- اطمئني، لسوف نكون معك في محنتك.

- أليس من الأفضل أن أفكّر فيما ينبغي أن أفعل إن نفّذت وعيدها؟

- هذا صحيح.. ولكن كل شيء في أوانه، لا تتعجلي الأمور.. هل عثرت على قطتك؟

- أخبرتك أليس كذلك.. تسللت إلى البيت خلسة.

- إذاً، هيا، ابتسمي، عادت إليك أليفتك.

ضحكنا، ونحن نتجه إلى الشاطئ، وأقدامنا تغرز صورها في الرمل الناعم، ثم أتانا صوت هيفاء، ترسله مع ضحكة خفيفة خلفنا، استدرنا، كانت عيناها تبرقان بالبهجة، وهي تنظر إلينا، قالت لنا:

- آسفة إن كنت أخفتكما.

ناولتنا لفافات خبز مدهون بزيت الزيتون والزعتر، وهي تقول:

- أعلم أنكما جائعتان، فأحضرت لكما ما يسكت صراخ المعدة.. زادت اللفافات من بهجتنا، وأثارت لدينا شعوراً لذيذاً بالمتعة، ونحن مع جمال البحر، ورقة النسيم، ومع عينيّ هيفاء اللتين تتألقان ببريق جميل.. زال الاضطراب من نفس "سناء" وتناست الموقف الأليم الذي ستفاجأ به لتأخرها.. تحسست المفتاح في جيبها، فازدادت هدوءاً.

كانت قوارب الصيادين تضرب في عرض البحر، وهم يردّدون أغاني الصيد، ويلملمون شباكهم، فتتبعهم أعيننا. بمزاح سألت:

- هل يغنّون ليوقظوا السمك النائم، أم ليجذبوه بنغمات أغانيهم المحبّبة؟

- يقولون: إنّ السمك لا ينام مثلنا، حتى يضرب المثل به، الصيادون يغنون لينشطوا أجسامهم، ويسلوا أنفسهم بهذه الروح الجماعية.

قالت "سناء":

- أراني سأضع أحلامي في سلة، وأرميها في البحر.

- إذن، سيصيدها الصيادون.

كان جماعة من الأطفال يناطحون الموج، ويتصارعون معه، قالت هيفاء:

- رحلة حياة الأطفال تبدأ متألقة، يقظة، وسرعان ما يجنح بعضهم نحو العناء، يقتلهم المرض، أو يندفعون برعونة نحو البحر، وقد يبتلع بعض الضعفاء منهم.

كانت الموجات صغيرة، ولكنها لا تهدأ، ولا تقرّ، و"سناء" في صمت، سألتها:

- ما بك؟

قالت:

- أتأمل المغيب، وهو غريب، يمكث قليلاً، ثم يرحل.

قالت هيفاء:

- انظرا إلى أبي تحت المظلّة، إنه يلملم أوراقه، ليذهب إلى الصلاة في المسجد، ثم إلى البيت.

انطلقنا إلى الطريق، بعد أن استردت "سناء" رباطة جأشها، وهدوء أعصابها، وهي تضحك بابتهاج، فالبحر قد غسل اكتئابها، وطرد الهواجس من ذهنها، مع علمها بتحفز الأفعى للانقضاض عليها، متى سنحت الفرصة.. قالت بتأثر شديد:

- آه، لو لم يسجل أبي ما ملكه باسمها، لانتهت متاعبي إلى الأبد.

أجابتها هيفاء:

- النفس الطموحة، تكون مسكونة بأحلام الحياة الفضلى، عليك أن تناضلي من أجل ذلك، ولا يثنيك استلاب حقك، أو اضطهاد.

تحسست "سناء" المفتاح، كأنها تناغمه بلمسات رقيقة، وحال نفسها يقول: هل هي لمسات الوداع الأخيرة؟

عند وصولها إلى البيت، بسرعة خاطفة فتحت الباب، وصارت في أرض الحوش.

- من؟

- اطمئني، أنا في خدمتك يا خالة.

بوجه مقطب، قالت لها:

- يحسن بك أن تأتي مبكرة، الشمس أوشكت على المغيب.

- كنّا نتمشى بتمهل، أنا، وصديقتي، والمعلمة هيفاء.

كان الغضب يقطر من صوتها، ولكنها تتمالك نفسها، ما كادت "سناء" تبتعد عنها لخطوات، حتى استوقفتها، استدارت، فوجئت بها والعصا في يدها، تندفع نحوها، لتضربها، جرت "سناء" إلى غرفتها، وأقفلت الباب وراءها.

كلما حاولت "سناء" أن ترفع صوتها، وتعري واقعها، تعمل زوجة أبيها على إخماده، وتدفعها إلى تغييبها في وكرها،... ثم سمعت صريخ صوتها... كانت قد اصطدمت بالجدار... وانكفأت على وجهها، ساد المكان فزع رهيب، أسرعت "سناء" إليها، تفرك جبينها، وتجلسها برفق على الحشية، وترعاها بمنتهى الإنسانيّة، والرحمة.

قبعت في البيت لأيام عدة، تهتم بخالتها، وبإخوتها، وأم خالد تلوي عنقها بانكسار، وندم وكأنها تغوص في أعماقها، كبلت الصدمة يدها، ولسانها، والقطة تجري في مرح، وتقفز من مكان إلى آخر، وتلتف حول سناء، وهي تهزّ ذيلها، كأنما أدركت بغريزتها أنّ الأمور قد أصبحت على أحسن حال.

قالت "سناء" في نفسها: الحالة تبشّر بخير.. فلأنتظر وأرى، إن كانت ستستمرّ إلى النهاية.

بعد أن برئت، بدأت "سناء" ترتاب في أمرها.. لا تدري لماذا؟.. صمّمت أن تحتفظ بإحساسها هذا لنفسها.

في ضحى يوم من أيام الجمعة، و"سناء" مرهقة من أعباء البيت، أمرتها زوجة أبيها بإحضار الماء من بئر الحيّ، رفضت طلبها، وقالت:

- يمكن أن يحضره خالد.

بتهكم قالت لها:

- ماذا؟ تريدين من ولدي حبيبي أن يحضر الماء؟

- لم لا؟ قد يكون عنيداً، ولكنه يقدّر المسئولية.

رفعت يدها لتضربها.. دفعتها عنها، وهي تقول:

- بمعاملتك السيئة هذه، تكشفين النقاب عن سرّ مظلم في داخلك، عرفته من دون أن تعرّفيه لي.. للأسف، الأمر لا ينصلح معك أبداً، بل أراه يزداد سوءاً.. أتمنى ألاّ نصل إلى هذا الحد.

- أيّ سرّ تعنين؟

- السرّ الكامن في نفسك، وراء كل الأحداث والمواقف المتتابعة.

دخلت إلى زاويتها، فتحت النافذة، صرخت، امتزج صراخها بعويل الريح، وعواء الكلاب، امتصّه الخواء في الخربة المهجورة، ثم بهمس تساءلت:

هل مات قلبها إلى الأبد؟

هل تسلّط الوحش المفترس داخله؟

هل تريدني أن أغادر البيت، وتهجّرني منه؟

بصمت حاد، أجابت نفسها:

لا أستطيع أن أفعل شيئاً الآن، وأنا في اضطرابي، وألوك أحزاني.

نظرت حولها، جلست تتصفّح كتاباً جديداً أحضرته لها.. كانت الكلمات تمرّ أمام عينيها، من غير معانيها.. سيطر عليها الحزن والأسى، تذكّرت محطّات حياتها:

أول محطة للأسى، كانت في رحيل أمها، وما زالت في الخامسة من عمرها، كان رحيلها صدمة قوية، لا تدري وقتئذ ماذا جرى.. ولا أين رحلت.. ولا كيف سيكون مصيرها.

ثم جاءت المحطة الثانية، بوفاة أبيها، بعد أن أضاء بحنانه ورعايته جنبات نفسها ثم اختفى.. فكأنّ شيئاً من وجودها قد اندثر.

ضاق صدرها بالهواجس والخواطر، أخذت القلم، وذرفتها على الورق:

كنت أحترف الصمت

وفي داخلي بركان، ولهب

صمت أرتديه يوماً

بعد يوم

مللته

خلعته

تمرّدتُ على طقوس القسوة

مزقت المعاناة واللوعة

ولكن..

ليس كل يوم

قد أعتلي القهر، بالصبر

قد أعلك أشواكه

بنداوة المطر

في ظل القمر

مع الوحدة

مع العتمة

وعند جذوع الشجر

وفوق أسوار النجوم

والقمر..

وعند صخور البحر

ثم أمسح عنّي

غبار السفر

هل تعلم أمي عني الخبر؟

ليتها تعلم ما الخبر

أم قلبها صوّان من حجر؟

شملتها راحة نفسية، بعد أن أفرغت مكنونات قلبها للجماد.. جاءها هاتف من الأعماق:

آن لك أن تمضي في طريق منفصلة.

هبّت مذعورة من هذا الهاجس، صرخت، وإخوتي، أحبابي مكاني هنا معهم.. لا لا أستطيع فراقهم.

أخفت وجهها بكفّيها، لم تقدر أن تكتم الآه، ممزوجة بعذاب الحبّ.. أغلقت النافذة، استرخت فوق الفراش، تستجدي الهدوء والنوم.

يتبع إن شاء الله..

     

* أديبة سورية تعيش في المنفى