كانوا همجــاً (4)

روايات إسلامية

كانوا همجاً (4)

قصة طويلة

عبد الودود يوسف

الإنسان في ظل الهمجيّة

يرى الناس صورة لعشرات الناس مرميين على الأرصفة. يقول المذيع: هنا ما كان يسمى بنغلاديش.. إن هؤلاء قد ماتوا من الجوع.. ثم تنتقل الصورة إلى مكان آخر يرى فيه مئات العمال يحمّلون بواخر وقطارات بالحبوب.. تسير باخرة فيتابعها التلفاز.. تصل إلى وسط البحر فتلقي بحمولتها من القمح فيه.. يقول المذيع: هنا أمريكا.. إن شركات القمح والحكومة الأمريكية والكندية تتلف ألوف الأطنان من القمح لتحافظ على أسعاره العالمية.. وأولئك المساكين يموتون من الجوع..

تنتقل الصورة إلى مكان آخر.. نرى معامل أسلحة ضخمة.. ولا تزال صورة المعامل تعرض.. حتى نصل إلى غرفة مكتوب عليها المدير العام.. نرى داخل الغرفة مدير الشركة مع مندوب من وزارة الدفاع يقول مدير الشركة: إن الحروب يجب أن تستمر في العالم حتى لا تتوقف معامل السلاح عن العمل.. يجيب مندوب وزارة الدفاع: لكن القتلى قد جاوزوا الملايين؟! يجيبه: وماذا يهم.. كل ذلك في سبيل هيبة أمريكا.. وإذا أردتم توقيف الحروب فاشتروا معاملنا.. يجيبه: حسناً سنفعل..

تعالوا نشاهد بلاداً أخرى.. البلاد الشرقية.. ماذا ترون: يرى الناس رساماً يرسم رسوماً رائعة، فلما انتهى ذهب إلى نقابة الفنانين وقال لهم: عندي مجموعة لوحات، أحب أن أعرضها على الجماهير في معرض.. يجيبه مدير النقابية: حسناً.. أهلاً بك، أنت رسام عالمي، سنراجع وزارة الفنون لنطلب منها السماح لك بذلك.. قال الفنان: وزارة الفنون ستجيبنا بعد ستة أشهر؟.. ألا يمكن أن تسمح لي أنت بذلك دون الرجوع إلى الرقابة؟ ولوحاتي يمكن أن تراها ليس فيها شيء؟! أجابه: أتريد أن تضعني في السجن.. هذا مخالف للنظام.. والقانون.. صاح الفنان: مخالف للنظام!! مخالف للقانون!! لا أدري ما هو الخطر الذي سيهدد الدولة إن عرضت بعض لوحاتي الفنية في متحف أو معرض أو دار سينما.. لا أدري.. لا أدري.. إنّ هذا فظيع.. عليّ أن أنتظر ستة شهور حتى يأتي الرد.. ما هذه الحياة؟! وقف مدير الفنون وقال له: أرجوك لا تتصرف هكذا.. إنك تعرض نفسك للخطر.. يجيبه: الخطر.. الخطر.. وهل سأعيش في ظل ذلك الخطر أتعس مني الآن.. آكل كما تطعمونني، وألبس كما تلبسونني، وأسكن حيث تسكونني.. وأعمل في المكان الذي تريدون.. ولا أستطيع الحديث بحرية.. ولا أستطيع انتقاد انحرافات النظام.. وأنا مهدد بالخوف والسجن والعذاب إن خالفت ذلك كله.. هل هذه حياة؟! خرج من غرفة نقيب الفنانين.. غاضباً، وألقى بنفسه من الطابق العاشر منتحراً..

خرج الألوف في جنازته.. وعيونهم تبكي عليه، رجع الناس كلهم بعد دفنه، وبقى عند قبره تسعة رجال وامرأة، قالوا: نعاهدك أن نتحدى القوانين التي قتلت نفسك.. ألماً منها، التفت بعضهم إلى بعض وقالوا: سنقيم معرضاً في إحدى الحدائق وليذبحونا بعدها.. قال أحدهم: أرى أن نعلن عن ذلك قبل وقت المعرض بيوم، ويجب أن تكون مواضيع اللوحات كلها تدور حول تكسير القيود بأوضاع مختلفة.. حسناً.. ماذا سترسم أنت يا روفيوف؟

أجابه: سأرسم رجلاً معذباً يضحك وهو يحرق قيود يديه رغم أن يديه تحترق معها..

فقال الجميع: عظيم.. عظيم.. وأنت يا سوركي؟ تجيب: سأرسم جمهوراً هائلاً يكسر بعضهم قيود البعض الآخر.. والأرض مملوءة بالقيود المحطمة.. وقال: إيليانوف: أما أنا فسأرسم رجلاً يعض على قيد يديه، وأسنانه قد تكسرت والدم قد سال من فمه.. وهو لا يزال يعضّ على قيوده ليكسرها.. وقال فاشوف: أما أنا فسأرسم رجلاً يشد قيوده بكل عزمه.. جلده قد تمزّق من تحت قيوده وقيوده تتكسّر.. وصاح سمالين: أما أنا فسأرسم رجلاً نائماً يحلم أنه قد عاش بلا قيد.. وقال ميريفيف: وسأرسم أنا قيداً قد شد على عنق رحل حتى خنقه.. وهو يحاول كل جهده أن يتخلص منه. وقال سوكوفسكي: أما أنا فسأرسم رجلاً ملفوفاً بالقيود.. وقد انتزع بفمه حلقة منها وأكتب تحتها: بعد عشرين عاماً.. وقال مانوف: أما أنا فسأرسم رجلاً له جسم بقرة مربوطاً بسلسلة في بيت من غرفة واحدة مع ثلاثين آخرين.. ولهم سائس يحمل سوطاً ويقدم لهم مجموعة من الألبسة والأطعمة وكلهم يبكون.. أما همانوف فقال: سوف أرسم يداً سوداء تلف قيداً على يدي مواطن شريف وأخيراً قال سمولسكي: سأرسم رجلاً حراً قد كسر قيوده وخلفها وراءه وهو يقول: ما أحلى الحياة بلا قيود؟!..

صاح الجميع فرحين: يا سلام.. هتف أحدهم: يجب أن يودع بعضنا بعضاً فقد لا نلتقي بعد اليوم، أجاب آخر: لا.. لا.. يجب أن نكتم أمرنا حتى نقيم معرضنا.. وهتف ثالث: هيا إلى العمل.. بعد أسبوع واحد فقط يجب أن يكون كل شيء جاهزاً.. ومضت ستة أيام والفنانون يسهرون ليلاً ،نهاراً ليرسموا لوحاتهم الرائعة.. ثم كتبوا خلال الليلة الأخيرة ما يستطيعون من دعوات للمعرض بخط أيديهم ذكروا فيها عبارات قليلة هي: تعالوا إلى معرض لوحات الحرية.. في حديقة "غوركي" غداً مساءً.. ودهش الناس لهذا النوع من الدعوات قال بعضهم: إنها صراعات فنانين، لكنهم حين علموا أن الفنانين هم العشرة المشهورون دهشوا وامتلأت الساحات حول حديقة غوركي منذ صباح اليوم التالي، لكن ليلة ذلك اليوم كانت رهيبة.. استيقظت طوال الليل جميع أجهزة الأمن.. واجتمعت جميع القيادات.. ،اتخذت قراراً واحداً، اقتلوا الخارجين على القانون، لكن الفنانين كانوا حذرين جداً.. اختفوا وتفرقوا.. وحضروا واحداً أثر واحد بلباس عمال وفلاحين وسخين، ثم أخرجوا لوحاتهم التي أبقوها قماشاً فقط دون براويز خشبية.. حاولوا دخول الحديقة فوجدوا رجال الأمن بالألوف وبأيديهم العصي وخراطيم المياه الساخنة، فبسطوا لوحاتهم وسط الجموع.. وراح الشعب يتأملها..

صفقت الجماهير.. لكن الرصاص لعلع وهرب الجميع.. وسيق الفنانون إلى السجون.. وأحيلوا إلى المحاكم العسكرية.. وصدرت عليهم أحكام بالسجن مدى الحياة لأنهم خالفوا قوانين الإعلام وتحدوا السلطة.. ونشروا منشورات غير مرخصة وعرضوا لوحات تثير الاستياء..

همس عامل لزميله: هل سمعت بقصة الفنانين؟!.. أجابه: إنهم أحرار لاشك.. سأله: متى نكسر قيودنا ونعيش أحراراً؟.. أجابه: قالت اللوحات بعد عشرين عاماً نفك حلقة واحدة من قيودنا.. سأله: هل هذا يعني أن نصبر ونقاوم.. ولو كنا نحتاج للخلاص من قيودنا مئات السنين؟.. أجابه: هذا هو المقصود.. لكن يجب أن نحلم بتحطيم القيود، يجب أن نبذل كل التضحيات ولو أدى ذلك إلى احتراق أيدينا كما قالت اللوحات.. سأله: حسناً.. حسناً.. كيف نعمل برأيك؟.. أجابه: نقاوم خطط الدولة.. سأله وكيف نقاوم؟.. أجابه: أن نفعل ما نستطيع.. ولو أن نكتب رسالة إلى صديق.. حسناً.. أرى طريقاً آخر. سأله: وماذا ترى؟.. أرى أن نعمل منذ الآن مع أناس يريدون تكسير القيود.. ثم ندعمهم حتى يصلوا إلى قمة القيادات.. وبعدها قد يتغير الحال.. فما رأيك؟.. أجابه: رائع.. رائع.. لنبدأ العمل فوراً.

صفقت الجماهير للزعيم المنتخب في بلاد التشيك وهو يقول: سأحقق لكم أمراً واحداً هو حرية الصحافة.. انتقدوا الفساد مهما كان.. وحاربوا الانحراف بالطرق السليمة.. نريد أن نبني بلداً قوياً.. صرخ مواطن: نريد جواز سفر لكل مواطن.. هذا أول ما يعبر عن حريتنا.. همس الزعيم المنتخب: أنا موافق..

وصفقت الجماهير.. وخرجت الأمة كلها ابتهاجاً بتكسير القيود..

ابتهج الناس في دولة الخلافة الراشدة لما رأوا.. لكن حدث ما أنساهم فرحتهم..

قال المذيع: انتظروا قليلاً لتروا ماذا سيحدث؟!..

عند حلول الليل رأى الناس كلهم خمسة آلاف دبابة تهدر.. ونصف مليون جندي يزحفون.. ولكن إلى أين؟! إلى بلاد التشيك ليخلعوا الزعيم المنتخب.. وليمنعوا حرية الصحافة، وليسترجعوا جوازات السفر التي أخذها المواطنون.. وتململت الدنيا.. وتزلزلت الأرض..

نعود لنرى العامل الذي رأيناه سابقاً يقول لزميله: لقد نجحنا في أول مرحلة.. لكنهم سحقونا.،. ما رأيك؟! أجابه: هذه أول حلقه كسرناها.. فلنتابع.. سأله: وكيف نعمل؟! أجابه: الشعب كله سيعمل؟.. لقد هربت الكفاءات من بلادنا.. وسيتقهقر بلدنا رغماً عنهم، سأله: وماذا يفيدنا ذلك؟!.. أجابه: إن كان الحكام مخلصين.. فسيعرفون أن جو الحرية هو جو الإنتاج.. الممتاز.. وأن الإنسان الحر هو إنسان كريم يعمل أكثر.. وينتج أكثر.. ويحب بلده أكثر.. سأله: لكن هل سيفهم الحكام هذا فعلاً؟!.. أم أن مصلحة البلاد كلها لا تهمهم؟!.. أجابه: لا.. لا.. لابد أن يستيقظوا لأنهم سيعلمون أنهم إن لم يستيقظوا على أساليب العمل السلمي.. فسوف تنتقل الشعوب إلى أساليب العنف.. ستحمل السلاح لتكسر القيود!!..

     

الباحثون.. ما ألطفهم..!!

قال المذيع: عفواً.. أتاني الآن من أمير المؤمنين الأمر التالي: انقلوا من إحدى الولايات جلسة تتعلق باجتماع يخطط فيه لعمل الباحثين في صفوف غير المسلمين للتعرف على عاداتهم وتقاليدهم..

والآن نتوجه إلى ولاية مصر.. لننظر ماذا يجري في لجنة التخطيط..

رأى الناس أمير ولاية مصر على مجموعة من القادة: يقول لهم يجب أن نبدأ العمل فوراً لدراسة أوضاع غير المسلمين.. لكنني أريد ضمانات كافية حتى لا يصاب أي مواطن منهم بأي أذى.. فلا يسخر منهم أحد.. ولا تقال لهم كلمة فيها أي شر.. فكيف ترون أن نضمن ذلك؟.. أجابه أحد الجالسين: نعمم بلاغاً على الباحثين أن يتقيدوا بهذا.. ونخبر المواطنين من غير المسلمين أن يخبروا عن أية حادثة إيذاء يصابون بها.. فلما سكت قال آخر: وأرى أن توضع عقوبات رادعة لكل من يفعل ذلك..

سأل أمير مصر: هل ترون أن يمارس الباحثون نوعاً من دعوة هؤلاء إلى الإسلام.. أو لا؟! أجاب أحدهم: إن كانت دعوة هؤلاء إلى الإسلام بلطف شديد.. فلا بأس.. أقصد يجب أن لا يشعر هؤلاء بأي ضغط عليهم..

قال أمير مصر: حسناً.. جربوا ألف حالة في مختلف أنحاء البلاد وأعطوني النتيجة بعد ساعتين لنعمم ما نراه مناسباً بعد ذلك.. ولنعدل من مواقفنا على ضوء هذه التجربة أجاب الجميع: هذا جميل.. إلى اللقاء بعد ساعتين إن شاء الله.

قال المذيع: تعالوا لنتابع إحدى فرق الباحثين في قرية من القرى..

رأي الناس فرقة مؤلفة من ثلاثة: باحث وباحثة، وممرضة يدخلون إحدى القرى وكل واحد منهم يحمل حقيبته.. يستقبلهم أمير القرية، قال رئيس الفرقة: إننا نعلم أن سكان هذه القرية يعبدون الشمس والقمر والبقر.. أليس كذلك؟!.. أجابه الأمير: نعم.. نعم.. وأنا على دينهم.. نحن على دين الفراعنة.. ابتسم رئيس الفرقة وقال: فرحت لاعتدادك بدينك وتمسكك به.. تفضل معنا لندخل بيتاً من بيوت القرية لندرس حالتهم. أجابه الأمير: تفضل.. تفضل.. وأسرعوا معاً.. الطريق معبد، والأبنية تحيط بها الحدائق.. والنظافة شاملة.. ونوافير المياه توشوش، والعصافير تطير في كل مكان مع الفراشات الرائعة الألوان، ونداءات الفلاحين في الحقول وأناشيدهم تملأ الأنحاء.. همس رئيس الفرقة: ما أروع الريف.. إن الحياة فيه بهيجة، قل لي من فضلك ماذا حققت لكم الخلافة الراشدة.. أجاب أمير القرية والدهشة تعلو وجهه: حقق لنا ما حققته لكل مواطن، بيت نظيف لكل عائلة ومستقل وحوله حديقة، أقل البيوت فيها خمس غرف وبعضها يصل إلى سبع غرف وزعت لنا الأراضي وقدمت لنا الخبراء، درس الخبراء تربة الأرض، والمحاصيل التي نزرعها، ودورة الزراعة في قريتنا، نصحونا أن نقيم مشاريع واحدة، وقدمت لنا الدولة الآلات اللازمة والبذور على أن نعيد نفس الكميات بعد الإنتاج.. وندفع ثمن الآلات.. بنينا في القرية: معبداً لعبادة الشمس، وخمسين مسلّة، ووزعنا في الحدائق العامة مليون شجرة.. بعد أن تكفلت كل أسرة أن تزرع عشر شجرات ثم تتعهدها بالرعاية حتى تصلب..

في كل حي مشفى صغير، وفي كل شارع كبير عيادة فيها مختلف الاختصاصات ومعها الصيدليات المناسبة، والطب عندنا والدواء مجاني كما تعلم..

فوجئ رئيس الفرقة حين قال الأمير: لكنني لا أعرف من أين تأتي الدولة بكل هذه الأموال!!.. همس رئيس الفرقة: إن ما وفرته الخلافة الراشدة كثير.. كثير.. فما كان الهمجيون يشربون به الخمر كان يبلغ ثمنه (360) مليار دولار في السنة وهذه الأموال وحدها تكفي لإنشاء كل ما قلت من مشاريع في جميع أنحاء الخلافة الراشدة.. فكيف إذا أضفت إلى ذلك ما توفره الدولة من تكاليف الأسلحة والحروب والإنفاق على قوات الأمن وما كان يذهب إلى جيوب اللصوص.. لوجدت أن الدنيا قد أصبحت بألف خير.. همست الباحثة:

- ثم إنّ الناس أصبحوا فعالين يؤدون واجبهم بنجاح لأنهم مكرمون أحرار.. همس أمير القرية: هذا صحيح.. وأضيف أنا إليه أن ما وفرته دولة الخلافة الراشدة نتيجة الاختراعات الرائعة قد أضاف إلى الثروة العامة أطناناً من الذهب، انظروا مثلاً ما وفره اختراع السيارة الجديدة.. لقد وفر لنا ألوف ملايين الدنانير.. الحق أننا نعيش في نعيم.. همس رئيس الفرقة: كل ذلك لأننا نعيش في ظل دولة العدل التي أمر الله بإقامتها وفق شرعه.

قال أمير القرية: الحمد لله الذي خلصنا من الهمجيات الظالمة.. قال رئيس الفرقة: هل تستطيع أن تحدد لي بعض الهمجيات التي كانت في مصر!؟ أجاب أمير القرية: إن الفراعنة كانوا يستبعدون شعوبهم.. وإن الألوف من المساكين يموتون جوعاً.. أو إرهاقاً من بناء قبور فرعون ومعابده.. همس رئيس الفرقة: وماذا كان الناس يعبدون في دولة الفراعنة.. تلعثم الأمير وقال: يعبدون.. يعبدون.. فرعون.. يطيعونه.. ويفعلون ما يشاء.. همس رئيس الفرقة: وماذا كانوا يعبدون أيضاً.. لم يجب أمير القرية: وأجابت الباحثة في الفرقة: كانوا يعبدون الشمس والقمر والبقر.. همست الممرضة.. وهي تتطاير بالدهشة: يعبدون البقر؟!.. أطرق أمير القرية برأسه وقال: ويعبدون الشيطان أيضاً.

همس رئيس الفرقة: صحيح أن شعوب الفراعنة كانت مظلومة.. وعقائدهم كانت فاسدة.. صاح أمير القرية: نحن على عقائدهم.. همس رئيس الفرقة: آسف يا سيدي.. آسف.. أنت حر فيما تعبد.. اعبد البقر أو القمر.. لكن قل لي: الله رباً خير أم البقر أو البشر؟ خجل أمير القرية وهمس: الله رباً خير لا شك، تابع رئيس الفرقة: حسناً.. حسناً.. لنترك هذه الأحاديث.. أريد أن أقص عليكم قصة لطيفة جرت مع ابني الصغير.. كنت أدرس فلمحت طفلي يمسك بيده سكيناً وهو يقول: سأخرج الدم من يدي بهذه السكين.. إن لون الدم أحمر جميل. فأسرعت إليه وقلت له: إياك أن تفعل.. إن جرحت نفسك فسوف تتألم وتمرض، وقد تموت.. لكنه أصر.. فانتزعت السكين منه، فبكى حزناً عليهما.. لكنني لم أرد عليه.. كيف أسمح له أن يقتل نفسه..؟1

أجابه أمير القرية: حسناً فعلت، إنه طفل لا يفهم الخير من الشر. فقال رئيس الفرقة: كلامك صحيح.. لكنني أعجب لرجال يعرفون الخير من الشر، ويستمرون على طريق الشر.. همس أمير القرية: عجيب أمر هؤلاء.. إنهم يهلكون أنفسهم.. ضحك أفراد القرية كلهم.. فانتبه أمير القرية وسكت الجميع.. قطع أمير القرية الصمت وقال: وصلنا الآن إلى مكان يمكن أن تدخله فرقتكم تفضلوا.. تفضلوا.. همس رئيس الفرقة والعجب يملأ وجهه: لو استأذنت لنا.. فقال:" لا حاجة للاستئذان.. إن دين الفراعنة لا يمنع أي رجل من دخول أي بيت يريد، وفي أي وقت يشاء.. همس رئيس الفرقة: وكيف عرفتم ذلك؟! أجاب أمير القرية: إن آلهتنا من البقر يفعلون كذلك.. فنفعل نحن مثلهم.. سأله رئيس الفرقة: إذن فأنتم تفعلون مثلما يفعل البقر.. أطرق أمير القرية وقد انتبه إلى شناعة ما يفعلون.. وقال: هل أستأذن لكم حتى تدخلوا.. فأشار إليه رئيس الفرقة قائلاً: نعم.. نعم إن سمحت..

فوجئ الجميع حين رأوا أمير القرية يصرخ: هيا استتروا فرقة البحث قد أتت.. يجب أن لا نضيع وقتهم.. صاح رئيس الفرقة: أرجوك لا تزعجهم يمكن أن نذهب إلى بيت آخر؟! قال أمير القرية: رأيتهم في وضع لا يسركم.. وجميع أهل القرية هكذا.. فلابد أن يتجنبوا إيذاءكم.. قال رئيس الفرقة: وهل تعتقد أن عادات هؤلاء تؤذي الآخرين؟ همس أمير القرية: الحق أنها عادات همجية.. لم يتكلم أحد من الفرقة.. وتابع الأمير: سترون ما يسركم إن شاء الله.. أسرع إلى نهر قريب، وغطس فيه بثيابه.. ثم عاد وصلّى ركعتين وقال: الحمد لله.. لقد غسلت عن نفسي وجسدي أوزار الهمجية وأصبحت مسلماً.. عانقه رئيس الفرقة.. وأكملوا عملهم وعادوا..

 قال المذيع: الحمد لله.. الحمد لله.. إن الضمائر تستيقظ.. وإن النفوس كلها خيّرة فما أروع ما قامت به فرقة الأبحاث في هذه القرية.

     

الكتّاب والحرية

كان صباحاً رائعاً ذلك الصباح.. تزين الناس كلهم.. وراحوا يهنئ بعضهم ببعض.. فاليوم هو يوم "المودودي"، الكاتب الإسلامي العظيم، لقد كان يجاهد مع إخوانه لإزلة الجاهلية الهمجية وإقامة عدل الإسلام في الأرض.. توجّه الناس إلى متحف المودودي الذي أقامته "إدارة تكريم العلماء والكتّاب الإسلاميين في العاصمة" ووزعت نماذج عنه في كل المدن في دولة الخلافة الراشدة.

لكن الناس كانوا حريصين أن يذهبوا إلى المتحف الرئيسي في عاصمة الإسلام، فهناك متاحف العظماء، منذ أنزل الله الإسلام.. إلى الآن..

كان الناس يدخلون صفوفاً متراصة إلى متحف المودودي، كانت صورته بلحيته الرائعة تحتل واجهة المتحف الضخم ومكتوب تحتها، جاهد الهمجية منذ ثلاث مئة عام. كان الناس يرون في القاعة الأولى من المتحف عشرات المجلدات، إنها مجلته "ترجمان القرآن".. التي نشرها منذ كان شاباً، وحتى توفاه الله.. كانت المجلدات تملأ القاعة.. معروضة بشكل جميل وجذاب..

وفي القاعة الثانية رأوا كتابه الرائع "تفهيم القرآن" الذي فسر فيه القرآن كله، ورأوا نماذج من طبعاته المختلفة في شتى اللغات.. مع توضيح لعدد طبعاته وعدد نسخ كل طبعة.. كان الناس يبتسمون بفرحة حين يرون أن الكتاب قد طبعت منه ملايين النسخ..

أما القاعة الثالثة: فكانت قاعة كتاب مبادئ الإسلام.. كانت ضخمة.. ضخمة.. فيها نماذج عن ألوف طبعات الكتاب.. وبلغات الدنيا كلها.. وفيه صورة المودودي عندما ألّف الكتاب.. إنه شاب قوي، ممتلئ بالعزيمة والعزّة.

وفي القاعة الرابعة: كتابه "المصطلحات الأربعة في القرآن الكريم" ومكتوب في صدر القاعة.. إنه أعظم كتبه التي فتحت عيون المسلمين على عقائدهم الصحيحة.. وساهم الكتاب مساهمة هائلة في اكتساح الجاهلية الهمجية.

وفي القاعة الخامسة: عدة كتب تحت عنوان: كتب للنهضة: منها كتاب واقع المسلمين وسبيل النهوض بهم وكتاب تجديد الدين وإحيائه، وكتاب منهاج الانقلاب الإسلامي، وكتاب الحضارة الإسلامية، ودراسة عنوانها: "داء المسلمين ودواؤهم، ومجموعة من المقالات المختلفة.

ولا زال الناس ينتقلون من قاعة إلى قاعة.. وأخيراً وصلوا إلى حديقة البناء: فرأوا عنواناً ضخماً: هنا بيت الكاتب الإسلامي المجاهد "المودودي" دخل الناس، فرأوا غرفة صغيرة فيها سرير عادي وطاولة صغيرة، وغرفة ثانية فيها بعض المتكآت وسجادة عتيقة، ثم دخلوا غرفة ضخمة جداً رأوا فيها مكتبته.. فيها عشرات الألوف من الكتب، رأوا في المكتبة صوراً تاريخية معبرة.

استلم كل مواطن زائر كتاباً عن حياة المودودي، فلما خرجوا من بيته إلى الحديقة رأوا لافتة ضخمة مكتوباً عليها: انتبه.. لا تنس زيارة قبر الكاتب المجاهد المودودي والدعاء له.. كان الناس يتوجهون بخشوع عظيم إلى قبر بسيط.. لا يزيد ارتفاعه عن ربع متر.. مكتوب عليه: لا إله إلا الله محمد رسول الله.. هذا قبر العبد الصالح "المودودي" وكان المواطنون يقفون حول القبر.. ويدعون له.. لقد كان عظيماً حقاً.. كان الناس يذرفون الدمع حزناً على ما أصابه من نكبات من الحكومة الظالمة الهمجية.

ومن بعيد بدت لافتة ضخمة مكتوب عليها: لا تنس أن تدخل إلى قاعة العرض لترى بعض ما كان يعانيه كتاب الإسلام في عصور الهمجية..

أسرع مواطن وكتب بعض كلمات على ورقة، ثم اقترب من آلة دس الورقة فيها، وانتظر دقيقة.. رأى على شاشة الآلة رئيس مجلس تكريم الكتاب الإسلاميين يقول: أهلاً بالأخ، إن اقتراحك بإذاعة فيلم "ما كان يعانيه كتّاب الإسلام في عصور الهمجية" من التلفاز اقتراح جميل.. وقد وافقت هيئة الإعلام عليه.. سيذاع الفيلم مساء هذا اليوم.. والسلام عليكم ورحمة الله.. ابتسم المواطن وهمس: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.. وانطلق إلى عمله..

كانت الدنيا تدعو للمودودي بالرحمة، وتسأل الله أن يجعل جزاءه الفردوس الأعلى من الجنة.

عاد الناس كلهم إلى بيوتهم مبكرين مساء ذلك اليوم.. حتى لا يفوتهم عرض فيلم "ما كان يعانيه كتّاب الإسلام في ظل الهمجية البربرية".

هدأت الدنيا كلها حين بدأ العرض..

رأى الناس شاباً عليه ملامح تركية.. يحمل بيده كراسة متوجهاً إلى مطبعة. يدخل.. فيرحب به صاحب المطبعة ويقول له: أهلاً.. أهلاً.. شرفتنا.. يقول الكاتب: أريد أن أطبع كتابي هذا.. يتناول صاحب المطبعة الكتاب فإذا عنوانه: "إلى شباب الإسلام" يمتقع لون صاحب المطبعة من الخوف، ويقول: هذا الكتاب خطير.. هل حصلت على موافقة الدولة على طبعه؟.. فيجيبه: لا أعتقد أن الدولة تسمح بطبعه.. يقول: وكيف أطبعه لك؟! إن الدولة تصادر مطبعتي وأموالي كلها إن طبعته لك.. أرجوك أنا آسف.. لا أستطيع طبعه.. يخرج الشاب وبيده كتابه.. يصل إلى مسجد ضخم مملوء بالشباب، يسأله بعضهم: سيدي.. هل طبعت الكتاب؟ فيجيب والأسى يملأ وجهه: رفضت كل المطابع أن تطبعه.. يقول تلميذ: حسناً كم نسخة تريد منه يا سيدي؟.. يجيبه: قلت لهم لا أريد إلا خمسة آلاف نسخة.. يجيبه: حسناً.. هل تتكرم وتعطيني النسخة المخطوطة.. فعندي وسيلة لطباعته.. يقول له الشاب العالم: تفضل خذه.. بارك الله فيك..

يحمل النسخة ويذهب إلى بناء مكتوب عليه "إدارة النشر الحكومية" يدخل إلى غرفة فيها رجل كبير الجثة يجلس خلف مكتب ضخم، يقول له: أريد طباعة هذا الكتاب.. هل تسمحون لي بنشره؟.. يتناول منه الكتاب ويمط شفتيه وهو يقرأ عنوانه ثم يقول له: سننظر فيه.. بعد شهر عد إلينا.. يقول الشاب: بعد شهر!! ولماذا كل هذه المدة؟.. ينظر إليه الضخم الجثة ويقول له: لا تعترض.. إن لم يعجبك فخذ كتابك.. ولا أظن أن ننتهي من قراءته قبل ستة أشهر، يقول الشاب: حسناً.. أعطني نسخة الكتاب.. لا أريد طبعه.. فيرميه ضخم الجثة في وجه الشاب.. فيلملم الشاب أوراقه، ويخرج.

نراه يدخل مكتبة يقول لصاحبها: أريد شراء خمسة آلاف دفتر.. فهل عندك هذه الكمية؟! يجيبه: نعم.. نعم.. عندي.. يحزم له الكمية.. فيحملها في سيارة ويصل بها إلى بيته.. ثم يذهب إلي الجامع.. يوشوش بعض زملائه.. قائلاً لهم: تعالوا إليّ اليوم..

يمتلئ بيته بالشباب.. يسلم كل واحد منهم دفتراً وقلماً.. ويقرأ هو في الكتاب.. ويكتبون هم.. و،نرى بعد ذلك مئات الشباب يكتبون.. في أماكن مختلفة.. ثم ترى رجلاً يجلس في حانوته يكتب، وامرأة في بيتها تكتب، وموظفاً في مكتبه يكتب..

نرى الشاب يقترب من شيخه يقول له: سيدي.. لقد تم طبع الكتاب.. هل تريد أن تستلمه فيقول له والدهشة تملكه: كيف طبعته؟.. فيقول له: تفضل معي.. فيسرع معه إلى بيته، وهناك يرى غرفة مملوءة بالدفاتر.. يتناول دفتراً فيجده نسخة من كتابه مكتوبة باليد.. تنسكب الدموع من عينيه بصمت وهو يعانق تلميذه.. وفي اليوم نفسه وزعت الآلاف الخمسة على الناس كلهم..

وأخيراً نرى الشاب معلقاً في مشنقة.. وموظفاً يقرأ: لقد حكمت المحكمة العادلة على هذا الشاب أن يُشنق لأنه حاول أن ينشر أفكاراً هدّامة تدعو الناس إلى التمسك بقيم سخيفة كالإيمان بالنبي والملائكة، والآخرة، والسلوك الأخلاقي، بعيداً عن اللذة والمتعة كما يدعو إلى سلب أموال الأغنياء وإعطائها للفقراء.. وإلى مساواة العبيد بالسادة.

إنه مجرم حقيقي يجب أن يتخلص الوطن منه.. ومن أمثاله الذين يدعون إلى مثل هذه الأفكار الهدّامة.. ولذلك فقد حكمت المحكمة على كل من يسير على دربه بالشنق..

ونرى بعدها مشانق يتأرجح منها عشرات الرجال.. وكل رجل مكتوب إلى جانبه لائحة يمر التلفاز على هذه اللوحات فنقرأ مكتوباً على الأولى منها: كاتب قديم.. وعلى الثانية: كاتب أخلاقي.. والثالثة: كاتب يدعو إلى الطهارة، والرابعة: كاتب يثير عواطف العوام.. والخامسة: كاتب طائفي.. والسادسة: كاتب تجاوز حدوده.. والسابعة: كاتب نشر كتبه دون إذن.. وعلى المشنقة المائة: كاتب رفض الكتابة عن الجنس والإباحية..

وأخيراً وعلى المشنقة الأخيرة مكتوب عند جثة الكاتب التي تتأرجح في الهواء: كاتب رفض الترويج لعبادة الأصنام والفراعنة..

يقترب الناس من المشانق.. يبكون.. ثم يعمّ الليل.. نرى رجلاً ملثماً يطرق باباً بهدوء، ثم يقول لصاحب الدار: أتقرأ كتاب الشهيد.. فيجيبه: وسأعطيه لألفٍ لكي يقرؤوه.. أرجوك أعطني كتباً أخرى.. فيجيبه: لا.. حتى تطبق كل كلمة فيه.. فيبكي ويقول: أقسم بالله سأطبقه.. أعطني غيره فيعطيه غيره،.

وتمر الأعوام، ونرى الشعب كله يتوجه إلى المساجد... ثم نرى المساجد قد أُغلقت.. فيصلي الناس حولها.. فيُرشون بالرصاص.. ويقع الألوف قتلى.. وعندها ينقشع الظلام.. ويزيح الشعب الظالمين..

يقول المذيع: على أكتاف هؤلاء المجاهدين قامت دولتنا الراشدة.. يا ليتني كنت معهم لألقى الشهادة في سبيل الله عالماً مجاهداً مرابطاً..

فتهتز قلوب الناس كلهم.. وتسيل دموعهم أنهاراً.. ويقولون كلهم: ألا لعنة الله على الظالمين كمم هم همجيون فاسدون..

     

أعوذ بالله.. أتختلفون..؟!

فجأة يتراجع المذيع.. ويقترب أمير المؤمنين.. همس والغضب يقطر من وجهه: ما كنت أظن أن تكون في أمتنا مثل هذه الكوارث.. لقد وردني الآن نبأ من قارة أمريكا أن صراعات مخيفة بدأت حول قضايا سخيفة.. أخشى أن تمتد الفتنة إلى أرجاء القارّة.. أتوجّه إلى القائد العام أن يحاصر بجيوشه منطقة جنوب كندا فوراً.. حتى ننظر في الأمر.. أرجو أن يتابع المواطنون معنا هذه الأحداث، كما أرجو أن تجتمع هيئة القضاء الأعلى فوراً..

دهش الناس حين رأوا الجيوش الضخمة تتحرك باتجاه المنطقة الكندية، سمعوا القائد العام يخاطب جنوده قائلاً: إن مهمتنا تقتصر على محاصرة منطقة الفتنة.. ما أشد أسفنا حين يضطرنا بعض إخوتنا إلى اتخاذ مثل هذا الموقف.. لن نطلق رصاصة واحدة.. لا ترفعوا السلاح في وجه إخوانكم.. سنتلقى الأوامر مباشرة من أمير المؤمنين وهيئة القضاء الأعلى.. أنتم خدم المؤمنين.. وأنتم حُماتهم.. معسكراتكم جاهزة، على الحدود الكندية، محرّم إتلاف المزروعات، محرّم التباهي بالأسلحة لإخافة الناس، محرّم إشعار المؤمنين بأي ضغط..

ثم انتقلت الصورة إلى المنطقة الكندية.. رأى الناس تجمعات في حالة هياج والناس يصرخون: لا تسمح بدخول إنكليزي كندي إلى مقاطعات الفرنسيين الكنديين.. كما رأوا بعض العقلاء يخاطبون جموع الهائجين يقولون لهم: أيها المسلمون.. إخوانكم لا تمنعوهم إن أرض الله واسعة، والمؤمن وطنه الأرض.. كيف تمنعون إخوانكم من دخول بلادكم؟! المؤمنون إخوة.. لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه.. لا تعودوا إلى عهود الهمجية.. لكنّ الهائجين ما كانوا يسمعون أو يستجيبون..

انتقل التلفاز إلى مكان آخر رأى الناس الكنديين الإنكليز يسيرون في شوارع المدن يصرخون أموالنا مهددة.. يسقط الفرنسيون الكنديون الهمجيون.. أوقفوهم عند حدهم أوقفوا ظلمهم.. احفظوا حقوقنا.. رأى الناس هيئة القضاء الأعلى تجتمع برئاسة أمير المؤمنين قال: الفتنة قد تمتد.. اعملوا بأقصى ما يمكن من السرعة.. أعطوني تقريراً كل ساعة..

رأى الناس القائد الأعلى للجيش يقف وقفة عسكرية ويقول: مولانا أمير المؤمنين.. المنطقة الكندية محاصرة.. هل من أمر آخر؟.. أجابه أمير المؤمنين: انتبهوا جيداً.. وكونوا في حالة استنفار قصوى.. أجاب القائد العام: نحن كما تحب يا أمير المؤمنين.

رأى الناس الجنود في حالة استعداد ضمن سياراتهم المصفحة الطائرة.. عصيهم في أيديهم.. وهم يتابعون مشاهدة التلفاز ضمن سياراتهم.. ما زالت صورهم تعرض.. حتى دارت على القوات كلها.. كانت تحاصر مناطق الفتنة في كندا كالسوار..

انتقلت الصور إلى هيئة القضاء الأعلى.. رأى الناس رئيس القضاء يقول: أوجّه خطابي إلى الكنديين الفرنسيين والإنكليز.. انتخبوا ممثليكم في النزاع خلال عشر دقائق وليأت الممثلون إلى هيئة القضاء فوراً..

توجّه ثلاثة من الكنديين الفرنسيين، وثلاثة من الكنديين الإنكليز إلى هيئة القضاء.. حتى وقفوا أمام الهيئة..

أشار إليهم رئيس الهيئة بالجلوس، فجلسوا متقابلين.. همس: (إنما المؤمنون إخوة) أليس كذلك؟! أجاب الجميع: بلى.. بلى.. تابع: (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة) أليس كذلك؟.. أجابوا: بلى.،. بلى.. تابع: المسلم أخو المسلم لا يظلمه.،. ولا يسلمه.. أليس كذلك؟.. أجابوا: بلى.. بلى.. تابع: سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر.. أليس كذلك؟.. أجابوا: بلى.. بلى.. تابع: كفى بالمرء إثماً أن يحقر أخاه المسلم.. أليس كذلك؟.. أجابوا: بلى.. بلى.. فقال: حسناً هيا ليقل كل منكم مشكلته.

واعلموا أن الله يقول: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله)(4) ونحن سنطبق هذه الآية عليكم..

وقف رئيس وفد الكنديين الفرنسيين وقال: إن إخواننا من الكنديين الإنكليز يغزون بلادنا في مواسم الزراعة والصناعة.. فيشترون معظم المنتجات.. ويشحنونها إلى بلادهم ثم يوزعونها على بقية البلاد.. محققين أرباحاً طائلة.. مما يحرمنا من خيرات بلادنا.. ويجبرنا على استيرادها من بلاد أخرى بثمن أغلى من ثمنها الذي تباع به في بلادنا.. نطالب ألا يدخلوا بلادنا أبداً..

همس رئيس الهيئة: إخوانكم لا يدخلون بلادكم..؟ هذا لا يمكن.. بلاد المسلم هي كل الأرض.. هل تريدوننا أن نعود إلى حدود الهمجية؟.. لنسمع الآن إلى رأي الطرف الآخر..

وقف أحد الثلاثة من وفد الكنديين الإنكليز وقال: إن أموالنا مهددة يا حضرة الرئيس، لقد حاصر الكنديون الفرنسيون.. متاجرنا ومصانعنا ومزارعنا..

همس الرئيس: هل صحيح ذلك يا إخوة؟.. لم يجب الكنديون الفرنسيون.. فوراً رفع سماعة الهاتف واتصل بأمير ولاية كندا.. سأله: هل صحيح أن متاجر الكنديين الإنكليز ومصانعهم ومزارعهم الموجودة في مناطق الكنديين الفرنسيين محاصرة؟.. أجاب الأمير: لقد حاصرها بعض المواطنين..

ووضعنا نحن عليها حراسة مشددة حتى لا يصاب بأذى..

همس رئيس القضاء الأعلى بغضب: هل أفهم من ذلك أن بعض الكنديين الفرنسيين لديهم نيّات سيئة تجاه أموال إخوانهم؟.. همس أمير ولاية كندا: لا أظن ذلك يا أخي.. لكن ذلك كانت نتيجة تهيج عواطف الناس.. وسيكون ما تريد بإذن الله،.

توجّه إلى هيئة القضاء وقال: أرى أن تتخذوا قرارين سريعين: الأول أن توقفوا شحن البضائع من مناطق الكنديين الفرنسيين مدة أربع وعشرين ساعة حتى يصدر قرار الهيئة بعد انتهاء سماع شهادات المتخاصمين.. وأن يزال كل حصار لمزارع الكنديين الإنكليز ومصانعهم ومتاجرهم الموجودة في مناطق الكنديين الفرنسيين.. ما رأيكم؟!.. أجاب الجميع: نحن موافقون..

التفت وقال: قرار احتياطي.. ترفع جميع أنواع الحصار عن ممتلكات الكنديين الإنكليز في مناطق الكنديين الفرنسيين.. ويوقف شحن جميع أنواع البضائع والسلع والمنتجات من مناطق الفرنسيين إلى مناطق الإنكليز.. حتى اتخاذ موقف قضائي جذري.

ظهر أمير المؤمنين وهمس: ينفذ القرار فوراً..

ظهرت مزرعة في داخلها رجال يمسكون العصي.. وحولها مجموعة من الناس الهائجين، وظهرت مدرعات أمن كثيرة، قال قائدها: نرجو من إخواننا أن يفكوا الحصار تنفيذاً لأمر القضاء ولأمر أمير المؤمنين.. بدأ الناس ينسحبون.. وبقي بعض الهائجين يصرخون.. فنزل الجند من مدرعاتهم.. والتفّ كل خمسة حول مواطن هائج.. وهمسوا له: اسكت من فضلك.. لقد أصدر أمير المؤمنين أمره.. لا تضطرنا إلى إيذائك.. سكت بعض الناس.. وتفرقوا.. وتابع بعضهم هياجه.. أمسك أحد الجند برجل وصرخ به: نرجوك كفى هياجاً.. موضوعكم أمام القضاء.. لا داعي للمشاكل.. فسكن عدد آخر.. وبقي واحد هائج.. رفع يده مهدداً الجند عندها ابتعد الجند عنه نحواً من متر، وألقى أحدهم عليه كرة، فخرج منها عندما لامست الأرض غاز معطر، وانطلقت منها خيوط هائلة العدد التفت حَوْل الرجل.. فقيدته تماماً.. ثم حملوه.. واتجهوا به إلى مدرعتهم.. واتجهت المدرعة به فوراً إلى السجن: حملوه برفق.. وهم يقولون: نرجوك لا تفعل أكثر مما فعلت.. نحن مضطرون إلى وضعك في السجن تحت المراقبة حتى تنتهي المحاكمة.. استقبلهم على باب السجن مجموعة من الممرضين، فكوا الخيوط عن الرجل.. وقادوه إلى شقة من ثلاث غرف.. وقالوا له: ستبقى هنا حتى يصدر القاضي فيك أمره.. يمكنك أن تطلب أي كتاب تريد، وأي طعام تريد، وأي علاج تريد، وأن تتجول في حدائق السجن.. وتمارس هواياتك في ملاعبه كما تشاء.. عفواً: نحن إخوانك.. فاحفظ حقوق الأخوة.. أسرع الرجل وخلع ثيابه.. وتوضأ.. وراح يصلي..

عاد التلفاز إلى أحد الموانئ.. لنرى سفنا تحمل بضائع... توجه إليها الشرطة وسلموا ربابنتها أوامر بعدم التحرك إلا بعد أن يتخذ القضاء قراره.. فأعلن الجميع امتثالهم.. وعادت بعض السفن التي كانت قد بدأت سيرها.. عادت إلى الموانئ تنتظر موقف القضاء..

ظهر أمير ولاية كندا وقال: أخي رئيس هيئة القضاء الأعلى.. لقد نفذت قراراتكم..

التفت رئيس هيئة القضاء الأعلى إلى وفد الكنديين الإنكليز وقال: هل صحيح ما قاله إخوانكم.. أجابوا: ما كنا نقصد الإساءة إليهم كنا نشتري منتجاتهم.. ونحن ولا ندري أن الكنديين الإنكليز يشترون معظم إنتاج الفرنسيين..

التفت رئيس الهيئة وقال: أوجه ندائي إلى دائرة الإحصاء الاقتصادي.. أرجو أن تزودوني فورا بحركة منتجات الفرنسيين الكنديين خلال عشرة أعوام.. كما أرجو إعطائي قائمة بثمن هذه المنتجات في مواسمها.. وثمنها في آخر العام.. في بلاد الكنديين الفرنسيين.. وثمنها خلال الفترة ذاتها في مناطق أخرى من بلدان دولتنا الراشدة..

ظهر رئيس مركز الإحصاء الاقتصادي وهمس:

- بعد دقائق ستكون القائمتان عندكم..

ثم ظهرت قوائم على شاشة التلفاز تبين أن معظم إنتاج الكنديين الفرنسيين يشتريه الكنديون الإنكليز... وأن الأسعار ترتفع في بلاد الفرنسيين الكنديين في آخر العام عنها في أول الموسم، وظهرت أثمان هذه السلع في المناطق الأخرى أقل منها في بلاد الفرنسيين الكنديين في آخر الموسم..

همس رئيس هيئة القضاء الأعلى: إن ما ذكره الفرنسيون الكنديون كله حق..

همس أحد القضاة: أقترح أن يطلب أخي رئيس الهيئة قائمة بما يحتاجه الفرنسيون الكنديون من منتجاتهم كلها خلال عام كامل..

أجاب رئيس الهيئة: هذا جميل.. يلبي طلب أخي القاضي.. فظهر رئيس مجلس الإحصاء وبيده كتاب وقال: القائمة المفصلة موجودة في هذا الكتاب.. والفائض في الإنتاج محدد فيه أيضا..

همس رئيس الهيئة: أسأل مولانا أمير المؤمنين.. هل يحدث ضرر من منع تصدير منتجات بلاد الكنديين الفرنسيين إلى أماكن أخرى في دولتنا الراشدة...؟!.. ظهر أمير المؤمنين وقال: يحدث ضرر بسيط يمكن تلافيه بإنشاء صناعات مماثلة في المناطق المتضررة.. أرى أن تتخذوا حلولا مرحلية حتى لا يحدث ضرر على جهة واحدة من البلاد..

ظهر رئيس وفد الكنديين الفرنسيين وقال بحماس: إنني أتوجه باسم إخواني الكنديين الفرنسيين قائلا: إننا نرى أن تصدر منتجاتنا إلى إخواننا الذين هم بحاجة ماسة إليها حتى يتم إنشاء المشاريع اللازمة التي تكفيهم حاجاتهم.. إننا نؤثرهم على أنفسنا..

ابتسمت الأمة كلها فرحة.. وفرحت هيئة القضاء.. واجتمع القضاة وتداولوا ثم أصدروا قرارهم التالي:

1- يمنع تصدير منتجات مناطق الكنديين الفرنسيين إلى أية مناطق أخرى إلا إلى المناطق التي يمكن أن يصيبها ضرر من ذلك فتعطى من المنتجات كمية يجعل الضرر الواقع عليها موازياً للضرر الذي يمكن أن يقع على مناطق الكنديين الفرنسيين إن صدرت منتجاتهم خارج مناطقهم.

2- تحدد هذا التوازن السلطة التنفيذية فورا..

3- تعمد الدولة إلى إنشاء مؤسسات مناسبة لإنتاج ما تفتقده بعض المناطق وبأقصى سرعة.

4- يفرج عن جميع الموقوفين بشأن هذه القضية..

5- يسمح بشحن جميع البضائع التي حملت في وسائل النقل أو تجمعت في الموانئ والمحطات ولآخر مرة حتى صدور قرار السلطة التنفيذية..

والحمد لله رب العالمين..

ظهر أمير المؤمنين وقال: ينفذ قرار هيئة القضاء الأعلى فوراً.. إذا لم يكن عليه اعتراض من أحد من الفريقين المتخاصمين، أقول للكنديين الفرنسيين، والكنديين الإنكليز اعترضوا إن كان لكم اعتراض قانوني..

ظهر رئيس وفد الكنديين الفرنسيين وقال: قبلنا الحكم ولا اعتراض لنا، وكذلك قال رئيس وفد الكنديين الإنكليز.

ظهر أمير المؤمنين وقال: إن مناطق جنوبي شرق آسيا سيصيبها نتيجة عدم تصدير منتجات مناطق الكنديين الفرنسيين نقص في اللحوم مقداره ستمائة ألف طن، ونقص في الأسمدة مقداره مليونا طن، ونقص في الحديد مقداره مليون طن..

أتوجه إلى جميع المواطنين في جميع الأرض أن يمدوا إخوانهم بهذه الكميات حتى لا يقع الضرر عليهم وحدهم، وأعلمكم أنني لن آكل لحما قبل أن يكتفي إخواننا في الأرض كلها منه، ولن أستخدم مسمارا من حديد قبل أن تؤمن حاجات المتضررين..

رنت جميع الهواتف وظهر أمراء الولايات على الشاشة وكل منهم كان يقول: سنقتدي بأمير المؤمنين، ونتحمل حصتنا في النقص لينعم إخواننا في جنوب شرق آسيا بالمنتجات المناسبة التي يحتاجونها بينما كانت الدنيا كلها تضج بقول الله تعالى: (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة).(5).

ابتسم أمير المؤمنين وقال: كنت أخشى أن تتطور الأحداث في كندا إلى قتال دموي مخيف يعيد إلينا ذكرى الفتنة الأولى في عهد عثمان رضي الله عنه، إن الله سبحانه يقول: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما، فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي بغت حتى تفيء إلى أمر الله..).(6).

كنت ملزما بنص هذه الآية الكريمة أن آمر بمقاتلة الفتنة التي لا تنصاع للحق والعدل وتريد أن تبغي على أختها وتظلمها حتى تخمد الفتنة، وتزول أسبابها.. لكن الله قد حمانا من هذه الفتنة حين طبقنا دينه، وهكذا يجب أن يكون المؤمنون على الدوام.. أتوجه إلى قائد الجيوش.. وأقول له: ليرجع إخواننا الجنود إلى ثكناتهم فوراً.. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..

ظهر المذيع والفرح يهزه.. وقال: الحمد لله الذي أسعدنا بدينه..

أتدرون أيها الإخوة ماذا كانت دول الهمجية تفعل حين كان يحدث فيها مثل ما حدث عندنا..؟؟؟

تعالوا لننظر..

يتبع