عينان مطفأتان ، وقلب بصير(5)

عبد الله الطنطاوي

عينان مطفأتان، وقلبٌ بصير

    عبد الله الطنطاوي  

[email protected]

  

الفصل الخامس

دارت الأيام، والعمل في مركز الأبرار على قدم وساق، فقد كثرت التبرعات له من التجار، ومن نسائهم اللواتي قدّمن الكثير من حليهنّ ومدّخراتهنّ له، ومن أسرة الوزير، وأسرة الحاج فاتح، والأسر التي تمكّن أعضاء اللجنة من الاتصال بها.

وكان صالح يغدو ويروح إلى القرية، ويحثّ على العمل والإنجاز بإتقان، ويكرر على مسامعهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:

"إن الله يحبّ إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه".

حتى خشي على دراسته، فقد كان في الصف النهائي للمرحلة الثانوية، ولكنه تخطَّى الامتحان بتفوق، وقرّر أن ينتسب إلى كلية الشريعة.

وبهذه المناسبة، زاره الوزير في المعهد الشرعي، وقدّم له هدية كان اشتراها من باريس، هي (العصا البيضاء) التي تعمل بأشعة الليزر التي تصدر عنها، لتنبّه الكفيف إلى العوائق والعقبات التي قد تعترض طريقه، بإصدار أصوات من مكبّر صوت مثبّت على العصا نفسها..

فرح الشيخ صالح بهذه الهديّة القيمة التي جعلته يتحرك ويتنقل بأمان واطمئنان.. شكر الوزير على هديته في تأثر وانفعال، وقال له:

- سأسافر اليوم إلى قريتي، ليطمئنوا عليّ، مادام قد هيّأ الله لي من يرعاني ويكرمني، وليروا فضل الله عليّ، في هذه العصا التي ستكون كالعينين لي.

قال الوزير في تأثر بالغ:

- السيارة في انتظارك يا شيخ صالح، لتنقلك إلى قريتك، ليفرح بك أهلك ومحبوك، ويطمئنوا عليك، ولتطمئن على سيرورة العمل في مركز الأبرار.

قال صالح:

- سوف أسافر بالباص، إذا سمحت لي يا معالي الوزير، فقد أرهقتكم.

فقال المدير:

- والله إني لأعجب من أريحيتك وكرمك يا معالي الوزير، كما أعجب من ذوق الشيخ صالح الذي يحبّكم كما يحبُّ أباه وأمَّه.

قال الوزير:

- هيّا يا شيخ صالح.. اسبقني إلى السيّارة.

نهض صالح، وسار نحو باب الإدارة، وخرج منه إلى الباحة، فإلى الباب الخارجي، مستخدماً العصا البيضاء، والوزير والمدير والطلاب يلاحقونه بأنظارهم، ويدعون لهذا الوزير الشهم الذي لم يسمعوا بمثل كرمه ومروءته إلا فيما قرؤوه في كتب التاريخ وتراجم الصالحين من الولاة والوزراء في العهود الماضية، وما أقلَّهم.

ركب الوزير، وأراد صالح أن يركب بجانب السائق، فقال له الوزير:

- بل تركب إلى جانبي يا ولدي.. أم أنك لا تريد أن تتحدث معي؟

أسرع صالح إلى المقعد الخلفي، وركب بجانب الوزير، وهو يقول:

- والله يا عمي.. عفواً يا معالي الوزير.

فقاطعه الوزير قائلاً:

- ابقَ على الأولى يا شيخ صالح.. فأنا عمُّك.. أرجو أن تقبلني عمّاً لك.

قال صالح في إعجاب وتأثر بالغين:

- الله الله.. لقد قالوا: ربّ أخ لك لم تلده أمك، ونسوا أن يقولوا: وربّ عمّ لك لم تلده جدّتك.. وأنا أتشرّف بهذا يا معالي الوزير.

- بل قل: يا عمي.

فقال صالح في انفعال:

- يا عمّي الرائع.. يا عمّي النبيل الكريم.. يا صاحب الخلق العظيم.

سأل السائق:

- إلى أين يا معالي الوزير؟

- إلى الطيبة.. إلى بيت الشيخ صالح.

انطلقت السيارة، وانطلق لسان صالح يدعو لهذا الرجل الشهم الذي ساقه الله إليه، ليكون عوناً له على متاعب الحياة.. ثم انطلق يحلم بالجامعة التي سينتسب إليها، وتخيّل بناءها الكبير، وأساتذتها الكبار، والزملاء، والمحاضرات.. كانت أحلام اليقظة تسيطر عليه، وكان الوزير يتأمله في صمت وحبّ.. وظهرت أحلام صالح في قسمات وجهه، وحركات يديه ورجليه، فقطع عليه الوزير أحلامه بقوله:

- بماذا تحلم يا شيخ صالح؟ ماذا تقول في نفسك؟

قال صالح وكأنه يحدّث نفسه، لا الوزير:

- "الحمد لله الذي رزقني هذا العمّ الصالح الذي سوف يدخلني كلية الشريعة، وقد بذل لي من حرِّ ماله الحلال، ما جعلني أبدو أفضل حالاً من زملائي.. فأنا أسكن في بيت مريح، وعندي مكتبة صوتية كبيرة، فيها أكثر ما أحتاج إليه من الأشرطة، وعندي مسجّل أسجّل به المحاضرات، وعندي آلة طابعة هي أحدث طراز ظهر حتى الآن.. وعندي وعندي.."

يبدو أن صالحاً انتبه لنفسه، فقال للوزير:

- هل سمعتَ شيئاً مني يا عمّي؟

قال الوزير الذي عرف الحالة النفسيّة لصالح:

- هل يسمع الآخرون ما يحدّث به الإنسان نفسه يا شيخ صالح؟

- لا..

- هل تسمع ما يجول في نفسي يا شيخ صالح؟

- لا.. لا أسمع.

- إذن حدّثني عمّا يجول في نفسك، لأسمعك.

حمد الشيخ صالح ربَّه على ستره، وفرح لأنّ الوزير لم يسمع ما يجول في خاطره، وما يحدّث به نفسه، ثم فكّر مليّاً فيما ينبغي أن يقول، فلم يجد غير كلمات الشكر لله الرحمن الرحيم الذي جعل الوزير على هذه الصورة التي نتخيّلها ولا نكاد نجدها في واقعنا المعيش، وقال:

- ها قد ظهرت القرية.

فالتفت السائق وسأله:

- كيف عرفت هذا يا شيخ صالح؟

ثم التفت إلى الوزير وقال:

- عفواً معالي الوزير، فقد تكلمت بلا وعي.

قال الوزير:

- أجبه يا شيخ صالح.. كيف عرفت أن القرية ظهرت؟

قال صالح:

- هذه الصخرة التي تركوها في الطريق، فلم يمهّدوها ويكسروها، ولم ينأوا بالطريق عنها.. وكلما ذهبت إلى القرية أو عدت منها، رقصت بنا السيارة.

قال الوزير:

- هل أحسست بها يا أبا مصطفى؟

قال السائق:

- قليلاً.. لأنني أراها، كلما ذهبنا إلى المزرعة من هذا الدرب التُّرابي.

قال الوزير:

- أمّا أنا فلم أحسّ بها، وسوف نسعى إلى تعبيد هذا الطريق إن شاء الله.

فردّد صالح:

- إن شاء الله.

وصلت السيارة، وترجّل صالح قبل السائق، وفتح الباب للوزير وهو يقول:

- تفضّل يا عمّي، فقد وصلتَ إلى  بيتك.

ترجّل الوزير، فيما كان صالح يفتح باب الدار وينادي:

- أين أنتم يا أصحاب الدار؟ جاءكم ضيف عزيز.

ثم توجّه إلى الوزير وقال:

- تفضّل بالدخول يا عمي.

أشار الوزير إلى السائق أن يدخل بالهدايا أولاً، وقال للشيخ صالح:

- عندي موعد يا شيخ صالح.. يجب أن أعود فوراً، واتصل بي عندما تعود إلى المدينة.

خرج أبو صالح مرحّباً، وداعياً الوزير إلى الدخول، فقال له ابنه صالح:

- إن عمي الوزير مشغول يا أبي.. عنده موعد مهمّ، ولهذا يجب أن يعود فوراً.

نظر أبو صالح إلى ولده باستغراب وغضب، وقال له:

- ما هذا يا صالح؟ هل ربيّناك على البخل وقلّة الذوق؟

فقال صالح في ابتسام:

- عندما يغضبون عليّ ينادونني: يا صالح.. هكذا حاف.. أسمعته يا عمّي؟

قال أبو صالح:

- قل يا معالي الوزير يا ولد يا صالح.

قال الوزير في ارتياح وابتهاج:

- نحن اتفقنا هكذا.. أن يناديني يا عمي، وأناديه يا صالح.. ولكن الآن فسخ الاتفاق.

صاح صالح:

- لماذا يا عمي؟

أجاب الوزير:

- لأنك تقول: عندما يغضبون ينادونك يا صالح، وعندما يرضون، ينادونك: يا شيخ صالح. وأنا لا أريد أن أغضب منك.. سوف أكون راضياً عن تصرفاتك يا ولدي صالح.

أكبّ صالح على يد الوزير يقبّلها، ويمسح بها وجهه، فيما كانت اليد الأخرى للوزير تربت على كتفي صالح، وأبو صالح ينظر في انبهار لما يجري أمامه.

ودّع الوزير صالحاً وأباه، وامتطى سيارته، وعاد به السائق يسابق الريح إلى المدينة وعندما غابت السيارة عن العيون، استدار صالح نحو أبيه، وأخذ كفه بين يديه، وقبّلها طويلاً وهو يقول:

- رُُبَّ أخ لك لم تلده أمُّك، ورَبَّ عمٍٍّ لك لم تلده جدَّتُُك وهذا الوزير الفاضل عمّي.. هكذا طلب مني أن أناديه..

دلف الوالد إلى بيته، ولحقه ابنه صالح الذي كان ينادي أمَّه بصوت عالٍ على غير عادته من شدّة الفرح:

- تعالي يا أمي.. تعالي انظري إلى هذه العصا السّحريّة التي عوّضني بها الله عن عينيّ.

فرحت الأمُّ وانطلقت منها زغرودة، فنهاها ابنها في رفق عن الزغاريد، ثم شرح لأهله عمل هذه العصا البيضاء التي اشتراها له عمُّه الوزير من باريس، ليقدّمها هدية بمناسبة دخوله الجامعة، حتى تعينه في الذهاب والإياب.

عندما استقر المجلس بأهل البيت، قالت الأمُّ في استغراب:

- هل من المعقول أن يكون معالي الوزير قد حطَّ عينَه عليك يا ولدي؟

- ماذا تعنين يا أمي؟

- أعني.. هل يمكن أن يزوجك ابنته أروى؟

قال أبو صالح:

- كوني عاقلة يا امرأة.. أين نحن من مقام الوزير؟

قالت الأمّ:

- إذن... لماذا كل هذا الاهتمام بصالح؟

قال أبو صالح:

- لأن الوزير أصيل، وابن أصلاء.. كريم وابن كرماء.. رآنا فقراء، ورأى ابننا أعمى، فألقى الله في قلبه الحنان تجاهنا والعطف علينا.

قال صالح في انكسار:

- هل ما يقدّمه لنا من قبيل العطف والصدقة علينا يا أبي؟

قال أبو صالح:

- إذن.. بماذا تفسره أنت يا ولدي؟

قالت أم صالح:

- ابني صالح شيخ قدّ الدنيا.. صحيح أنه كفيف، ولكنه ذكي، فهيم، عاقل، ثم إنه شاب جميل.. ليس في شباب القرية من هو في مثل جماله، لولا عيناه يا عيني.

وانخرطت في البكاء، فهدّأ صالح من روع أمّه، وقبَّل رأسها ويديها، ثمّ قال:

- الوزير رجل عظيم يا أمّي. وقد أحبَّنا من قلبه، وما أظنّه يفعل ما يفعل لنا ولأهل القرية ولكل من يعرفه من قبيل العطف والشفقة.. هو هكذا، يحبّ الخير ويفعله.. متواضع، حتى إن الذي يلقاه لأول مرّة لا يظنّه وزيراً.

قالت الأمّ وهي تمسح خدّيها:

- يعني.. هل سمّعك.. هل عرّض بتزويجك ابنته أروى؟

فصاح أبو صالح:

- اتقي الله يا امرأة، ولا تتحدّثي بأعراض الناس.. حرام .. حرام والله أن نجازي ذلك الرجل الطيب، بمثل هذا الكلام غير الطيّب.

قالت أمّ صالح:

- ابني، وإن كان أعمى، خير من بنته ومن بنات كلّ الوزراء.. فهمت؟

 صاح أبو صالح:

- فهمت.. بقي أن تفهمي أنت يا أمّ صالح.. يا أمّ بدر الدّجى.

فصاحت أمّ صالح:

- ابني مثل البدر.. انظر إلى وجهه.. انظر إلى قامته.. انظر إلى حديثه.. انظر إلى ثيابه.. انظر إلى دراسته.. سوف يدخل الجامعة، وسوف يكون أحسن من كل الطلاب.. وسوف ترى.. فهمت؟

قال أبو صالح وهو يكظم غيظه:

- فهمت.. فهمت.. حفظ الله لنا أولادنا جميعاً، وحفظ للناس أولادهم..

تناهى إلى مسامعهم أذان المغرب، فنهض صالح وهو يقول:

- هيّا يا أبي إلى المسجد.

قال أبو صالح:

- اسبقني يا ولدي، فسوف أجدّد وضوئي.

انطلق صالح نحو المسجد، وبيده العصا البيضاء، كان يسلّم على من يلقاه، وكان من يلقاه يرحّب به، ويدعو له، ويبدي إعجابه بهذا الفتى الأعمى العينين، البصير القلب، الذي فتح الله له أبواب رحمته، عندما عرّفه إلى ذلك الوزير النبيل، وهو -بالتالي- لم ينس أصله وأهل قريته، لم ينس عماه وفقره وبؤسه، فكان مثال الشاب المسلم الذي يحبّ لغيره ما يحبّ لنفسه وزيادة، حسب تعبير أحدهم.

أمّا صالح، فقد وقف بين يدي ربّه، ورفع كفّيه إلى السماء، وابتهل:

(ربّ أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وعلى والديّ، وأن أعمل صالحاً ترضاه).

"اللهّم أحسن وقوفي بين يديك، ودلّني بك عليك..."

بعد انتهاء الصلاة، جلس صالح مع شيخه إمام المسجد الذي قرأ الحزن في وجه صالح، فسأله عمّا به، وهل يشكو من شيء؟ فهزّ صالح رأسه نافياً. قال الإمام:

- هل تخبّئ على أخيك يا صالح؟ أم نسيت أني أعرفك كما أعرف نفسي؟ ما بك يا صديقي؟ تكلّم، وأخرج ما بنفسك إلى النور.. إلى الهواء الطلق لتستريح.. تكلّم يا صالح. تكلّم.

فاضت أحزان صالح، وانهمرت الدموع على خدّيه، فضمّه الإمام إليه، وهدّأ من روعه، ثم قال في حنان باكٍ:

- ما بك يا ولدي؟ لقد قطّعت قلبي... ما رأيتك قبل اليوم في مثل هذا الحزن.. ووساوس الشيطان بدأت تعصف في نفسي.. هل جرى للوزير مكروه لا سمح الله؟

نفى صالح ذلك بتحريك رأسه يميناً وشمالاً.

- هل أصاب الحاج فاتحاً شيء؟

-...

- هل تراجع أحد عن المشروع؟

- ...

- إذن ماذا يا صالح؟ ماذا في الأمر يا ولدي.. تكلّم قبل أن أفقد أعصابي.

قال صالح في حزن:

- ما رأيك بالوزير يا شيخ محمد؟

قال الإمام:

- إنسان نبيل، ما عرفت مثله فيمن عرفت من الرجال عامّةً، وأهل الحكم خاصة.

سأل صالح:

- ما رأيك في عواطفه تجاهي؟

- ماذا تعني؟

- أعني.. هل هي  عواطف صدق ومحبّة، أم أنها مجرد عطف وشفقة على فتى بائس أعمى؟

أمسك الإمام يد صالح بكلتا يديه في انفعال، وقال:

- اعذرني يا ولدي، إذا سمعتَ منّي كلمة تؤذي مشاعرك.

قال صالح:

- تكلم يا شيخي وصديقي وأخي، ولا تتحرج من استخدام أي كلمة أو معنى، فنحن شيخ وتلميذه، ولكنهما صديقان.

قال الإمام:

- والله، يا ولدي، لو رأيتَ معالي الوزير النبيل وهو ينظر إليك ويتأملك، لعرفتَ أنها نظرات الحبّ والإعجاب.. نظرات أب نحو ولده.. فلا تترك لوساوس الشيطان سبيلاً إلى عقلك.. استفت قلبك يا صالح، وسوف يفتيك بما أقول، والله شاهد على ما أقول.

انفرجت أسارير صالح.. رقص قلبه طرباً، كما رقصت أذناه.. أحسّ كأنه وُلِدَ من جديد، فهذه الشهادة من رجل صالح، لرجل صالح تزن الدنيا كلّها بمباهجها.. دغدغت مشاعره سحابة من عبير.. لفّه شعور بهيج.. أحسّ بالمنبر يبتسم له، وبالمحراب يهنئه، وبصرير باب المسجد المتواضع يضحك له، ويرحّب به..

نهض صالح، ونهض معه الشيخ محمد.. مدّ يده مودّعاً، وقبل أن ينطلق كالريح، قال له الشيخ محمد:

- ما هذه العصا التي نسيتَها يا شيخ صالح؟

التقط صالح عصاه من يد الشيخ محمد، وقال وهو يغادر المسجد:

- ادعُ لي يا شيخ محمد.. ادعُ لتلميذك وأخيك الصغير صالح، ليصرف الله عني وساوس الشيطان، ويحفظني من همزاته ولمزاته.

وسمع صالح دعوات الشيخ محمد له بالحفظ والستر، وهو يمرق من باب المسجد كالسهم..

كان يطير من شدّة الفرح.. استخفّه الشوق إلى أمّه وأبيه، ليجلس معهما مطمئناً إلى موقف الوزير منه، فالشيخ محمد لا يكذب ولا يخادع، "وقد عرفتُه منذ سنوات إنساناً مستقيماً صريحاً كحدّ السيف، يقول الحقّ مهما كان مُرّاً، ولو على نفسه، يجامل ولكنه لا يقول إلا الصدق، وهو يحبّني كما يحبّ إخوته وأولاده، ولو لاحظ شيئاً مريباً على الوزير، لحذَّرني منه صراحة أو تلميحاً.. فالوزير يحبّني.. هكذا قال الشيخ محمد، وأنا أصدّقه، وقد قال لي: استفتِ قلبك، وقد استفتيتُه، ورأيتُه مطمئناً إلى موقف الوزير، وإلى صدق عواطفه تجاهي.. ولكن.. ليس معنى هذا أن يزوّجني بنته.. ثم.. أنا لا أرغب في الزواج منها، فإن كان الوزير يحبّني ويريد لي الخير، فقد لا تكون أروى كذلك.. قد تسمع كلام أبيها وترضى بي زوجاً لها، ولكنها.. قد لا تكون صادقة في حبُّها.. قد يكون حبّْها عطفاً وشفقة على شيخ أعمى لا تلبث أن تدير له ظهرها، وتبدي أسفها.. ثم.. قد لا توافق أمُّها، فتنشب المشكلات في الأسرة، وأنا لا أرضى أن أكون سبباً في تعكير صفو تلك الأسرة الكريمة.."

استقبلته أمّه في صحن الدار، وقد تهلل وجهها، وقالت:

- أهلاً بالشيخ صالح.. ابني وحبيبي..

ردّ عليها صالح في سرور ظاهر:

- أهلاً بك يا أمي.. يا حبيبتي ويا أغلى شيء في حياتي.

قالت مفتعلة التجهّم والغضب:

- اسمع يا صالح.

قال صالح:

- يا شيخ صالح أرجوك.

فضحكت وهي تقول:

- يا شيخ صالح.. أنا غيورة.. وأنت تقول: يا حبيبتي.. فهل يمكن أن تسرقك بنت الوزير مني، وتصير عندك أغلى شيء في حياتك يا ولد؟

قال صالح:

- لا بنت الوزير ولا بنات الدنيا يساوين شيئاً عندي بالنسبة إليك يا أمي، فاطمئني يا حبيبتي.

- هذا وعد يا صالح..

قال صالح:

- ووعد الحرّ دين يا شيخ صالح.. أليس كذلك يا صالح؟

وعلتْ ضحكاتهما، فناداهما أبو صالح من داخل الغرفة:

- أضحكونا معكم.. تعال يا ولدي.. تعالي يا أمّ صالح.

وقفت أمُّ صالح في الباب، وقالت في عبوس مفتعل:

- لا أحد يتقدم على أمّ صالح.. لا الشيخ صالح، ولا زوجته ولا أبوه.

قال صالح في ابتسام:

- ادخلي أولاً يا أمي حتى أدخل بعدك.

وبعد أن جلسا على طراحة بجانب الباب، تابع صالح:

- لا أحد يتقدم عليك يا أمي إلا أبي.. فهو وليّ أمورنا جميعاً.

قال أبو صالح:

- بارك الله فيك يا ولدي. ولكنّ أمّك تمزح.

قال صالح:

- ثم.. يا أمي.. دعينا نحسم أمر زواجي من بنت الوزير.

صاح أبو صالح في غضب:

- والله عال.. جعلتموها حقيقة.. اتركوا هذا الهراء يا صالح ويا أمّ صالح.

أرادت أمّ صالح أن تردّ على زوجها، ولكنّ صالحاً قال:

- أرجوكم أن تعطوني فرصة لأتكلم.. دقيقة واحدة فقط.

قال أبو صالح:

- تكلمْ يا ولدي.

قال صالح:

- هل أنا في رأيك يا أبي عديم الضمير؟

قال أبو صالح:

- لا.. أنت صاحب ضمير حيّ ولله الحمد، ولهذا أحببتك أكثر من حبّ الوالد لولده.

قال صالح:

- وأنت يا أمي؟

- وأنا رأيي كرأي أبيك..

قال صالح:

- إذن.. كيف يخطر على بالكم، أني قد أرضى بالزواج من بنت الوزير، حتى لو وافقتم أنتم وأبوها وأمّها وهي على هذا الزواج؟

أين شرط الكفاءة بيني وبينها؟

كيف ستعيش في بيت شابٍّ أعمى فقير بائس؟

اعترضت أم صالح على هذا الكلام، وقالت:

- والله.. لا أروى ولا بنات أهل الأرض كفوءات لك يا ولدي.. أم أنك نسيتَ من أنت؟

قال صالح:

- لا والله ما نسيت، ولن أنسى، فأنا صالح ابن أبي صالح وأمّ صالح.. من أسرة متوسطة الحال، تعيش في قرية صغيرة.. ولهذا أنا أرفض الزواج من بنت الوزير.

صاح أبو صالح:

- ارفعوا اسم هذه البنت الطاهرة، واسم أمّها وأبيها من ألسنتكم.. أرجوكم.. أعصابي متوتّرة، تكاد تحترق، وأنا أسمع هذا الحديث السخيف.

قال صالح:

- يبدو أنه فعلاً سخيف يا والدي، فأنا لم أفكر أصلاً بالزواج، ولن أفكر به قبل عشر سنين على الأقل.

صاحت أمُّ صالح:

- على الأقل؟ بعد عشر سنين على الأقل يا صالح؟

قال صالح:

- اهدئي يا أمي.

صاحت:

- لن أهدأ حتى تكفّ عن هذا الكلام السخيف حقاً.. قال عشر سنين قال..

قال صالح في هدوء:

- ألا تثقين بعقلي يا أمي؟

- لا.. كنت أثق بك وبعقلك قبل الآن.. أمّا الآن، فلا وألف لا..

قال صالح في هدوء محاولاً إقناع أمِّه:

- أمام ابنك مشوار طويل يا أمي.. سأمضي في الجامعة أربع سنين أو خمس سنين.. وإذا أعانني الله، فسوف أستكمل دراستي العليا، فأسجّل في الماجستير والدكتوراه إن شاء الله، وهذه تحتاج إلى خمس سنين أخرى.. يعني.. أحتاج إلى عشر سنين أخرى.. فأيُّهما أفضل لابنك: الدراسة ونيل الشهادات العالية، أم الزواج؟

- بل الدراسة. ولكن.. من أين يا حسرة؟

- الله كريم يا أمي..

قال أبو صالح في حبّ وابتسام ورضى:

- بارك الله فيك يا ولدي.. لقد أثلجتَ صدري بهذا التفكير المتّزن.

- وفيك يا أبي، فأنا ابنك الذي ربّيتَه على العقل والتخلق بمكارم الأخلاق.. الوزير بمثابة عمّي، وأرجو ألا يتخلّى عني يا أبي.. أريد أن يقف المشروع على قدميه، كما أريد أن أستكمل دراستي الجامعية والعليا.

قال أبو صالح:

- قل: إن شاء الله يا ولدي.

- إن شاء الله تعالى يا أبي.

يتبــــع