الإسفنجة

في المعتقلات كنا في تيه بلا غاية ولا أفق ولا هدف أو مصير , ولم يكن لدينا ولا حتى مجرد بصيص أمل في النجاة … الداخل للعتمة مفقود والخارج منها مفقود,

الاختطاف … يعني الموت….

رائحة الصديد والقيح ولزوجة الدماء ودبقها يهيمن على المكان , للموت رائحة هناك… وللجمرعلامات في حلقات التعذيب.. وهي تمضي على قدم وساق.. لاتنقطع وصلاتها ولايخفت النحيب والنواح والنشيج الممتد المنبعث من كل اتجاه… وآهات مكتومة, بل ربما مخنوقة تعافر من أجل نسمة هواء .. او مجرد لحظة للحياة….

ألا يقول المغاربة

_”الروح عزيزة عند الله”

كم من أرواح أزهق في رهق المكان وقتامته.. هناك حيث الظل والصمت واسراركهف عميق ورائحة القرف….

هناك أزهقت الأرواح أو كادت أن تنتزع .. بعنف وقسوة وقوة واضطهاد

هناك في معتقل تمارة أدركت أننا مجموعة من المحقورين.. أو الغلابة على حد التعبير المصري.. عرفت في حلقات العذابات المرة مغلوبيتنا..وبحبوحة الجحيم الذي يصب فوق رؤوسنا بمقامع من بأس الحديد وقساوة الأكباد وغلظة القلوب….

كنت في تلك الدوامة , أحاول المقاومة.. المهم أن أقاوم لحظة يأس قد تتسرب الى أعماقي أو لحظة سقوط قد تعتريني أو لحظة ضعف قد تسيطر على تفكيري….

انني أقاوم……….

الجسد يكاد أن يتهاوى تحت مطارق الحقد وحفريات الجلاد متواصلة .. النوم الذي حرمت منه طيلة الأسابيع الماضية يكاد أن يحتاحني وبعمق

أحاول المقاومة ولكــــــــــــــــــن…..

بعد انتهاء الأسبوع الرابع في معتقل تمارة تهاوى جسدي المكدود لم أعد أجسر على التحدي لقد دمروا جسدي النحيل.. المنهوك…

كانوا يتصايحون فيما بينهم وهم يعيدون تمثيل احدى المشاهد من فيلم قديم عندما كان كفار قريش يعذبون المستضعفين من المسلمين ويضعونهم في دائرة ثم يدورون في حلقة ومهم يصفقون ويرددون كلاما لا تسعفني ذاكرتي على التقاطه من جعبة المأساة…………

اذكر ذلك المشهد في رتابة واشمئزاز…

كانوا يتصايحون وقد وضعوني في تلك الدائرة وهم من حولي يرددون

_”صطـــــــــــــــــــيوه…صطــــــــــــيوه”

وهم يصفقون ويصفرون….

و”التصطية” عند المغاربة هي الجنون .. لأجل ذلك يقال عن المجنون والمعتوه في العامية المغربية “مصطي” ربما لها علاقة بالصدأ وكأن من فقد عقله اصيب بالصدأ….

انها الهلوسة والهذيان المرير

وربما تكون لها علاقة بالتصدية , مكاء وتصدية وتصفيق وصفير وعذابات مرة وخيالات وهلوسات محمومة

أرى الطفلة دعاء وهي تمشي على رجل واحدة وجنازة والدي.. وبكاء النساء وأشياء مختلطة ببعضها وأرى وجه أمي حزينا وألمح طيف الماضي كالح الرؤية قاتم الملامح…قد أنهكوا قواي صرت كالاسفنجة تضاعفت العذابات………..

لقد لمحتهم وهم يزرعون حبوب الهلوسة في الطعام ويجبرونني على أكله كانوا يمسكون برأسي ويقولون ” راسك قاسح” ويرشونه بمادة مجهولة وسرعان ما تنتفخ فروة رأسي وأشعر بصداع رهيب … وبعدها لا أقوى على تذكر الأشياء .. حقنوا وريدي بشيء ما … قالوا انها حقنة للتغدية “انت هزيل منهك” ولكنها أحالتني الى ورقة في مهب ريح هوجاء بخريف عاصف…….

أصبحت هشا… لا أقوى على تذكر أي شيء.. كنت أهذي بالكلام طيلة اليوم… اليوم طويل جدااا والنوم هجرني تماما

انني أكاد أن أنفجر…………..

يأتي الحاج الكبير وبسمته الصفراءتحتل مكانا مميزا في وجهه فتبدو أسنانه النتنة الفجة … يقول الحاج متهكما

_”الصلاة الحاج”

أحاول أن أصلب عودي لأقوم للوضوء … ولكن ما الوضوء , انني لا اذكر هاته التفاصيل اليومية الماء أمامي والدهشة من ورائي ومن حولي

واذا قمت للصلاة لا اتذكر من سورة الفاتحة حرفا.. ذاكرتي واهنة هشة رخوة , عدت صبيا والكلام لا ينقطع انه الهذيان المتواصل والذكريات تختلط ببعضها والبكاء يغلبني والدموع تنهمر وتسيل بغزارة انني في دائرة الهلاك … سأشرف على الجنون او” التصطية “كما يقول المغاربة…

حينها رأيت الحاج الكبير يربت على كتفي ويعاملني كانسان بعد أن تحولت الى بقايا انسان… قال لي هل تريد شيئا…

_ “هل تشرب كوكا كولا..”؟؟

نظرت اليه مليا وقلت” له أريد مصحفا”

قال ممنوع لا يمسه الا المطهرون وانتم انجاس

ماذا تريد من المصحف ” أنا احفظه عن ظهر قلب وليس مثلكم أيها المنافقون”

_ أريد أن أقرأ سورة”ق”

فغر فمه وقال” لا أذكرها الآن”

_ قاف … قاف … قاف…

لا اذكر منها شيئا

ثم أهوي جاثيا على ركبتي…

انقلبت الموازين في زمن رديء فاقد للمعاني فاقد للأمان

صرت اسفنجة بين أيديهم العفة .. انني لا أقوى على شيء

انني على مشارف الانهيار………..

عقلي يكاد ينفجر من قوة الصداع الرهيب.. أو هكذا يخيل لي الأصوات تنبعث من كل مكان سمعت صوت أمي .. نعم أنه صوتها ولكنها ماتت من سنوات سحيقة من أعادها للحياة انني اسمع صوتها وألمح طيفها هنا في تمارة… وأصوات الأطفال علاء وبلال أبناء شقيقتي.. أصواتهم تلاحقني وبكاء بدر الصغير يشق دماغي.. ودعاء تبكي بمرارة.. انني على مشارف” التصطية “, أو الجنون

ولا شيء غير الجنون اللامتناهي…….

هاجس ينتابني بقوة يحدثني بهلوسات قوية انني في الجحيم نعم الجحيم… تجربة أليمة وموجعة ومخزية وعفنة

الاسفنجة هي مرحلة من تدمير الضحية لاعادة تشكيله وفق هوى الجلاد , انها طريقة أخرى لانتزاع الاعترافات بغسيل الدماغ

وسيلة قذرة وموغلة في الاسفاف

السجن المركزي القنيطرة

ان كلماتنا ستبقى ميتة أعراسا من الشموع لاحراك فيها جامدة

حتى اذا متنا من أجلها انتقضت حية وعاشت بين الناس

وسوم: العدد 804