الموازنة العامة في ضوء المورد النفطي وعجز البناء التحتي والخدمات العامة

د. أحمد ابريهي علي

مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية

 في هذه المقالة لا نريد اعادة عرض كل المشكلة الاقتصادية في العراق، ولا صعوبات التمويل الإضافي للإنفاق العام، بل التذكير بالضرورة العملية لإعادة النظر في منهج إدارة الاقتصاد على اسس من التحليل مغايرة لما درجت عليه الأوساط الرسمية الى الآن. ولتكن نقطة البدء في التوجه الفعلي لتطوير قدرة العراق على البناء والأعمار والتنمية بدلا من تبديد الموارد الشحيحة باعتماد آليات اثبتت التجربة فشلها.

سوق النفط:

 نتيجة للهيمنة النفطية في ايرادات الموازنة العامة وميزان المدفوعات لا بد من الاقرار بأن سوق النفط العالمي هو العامل الحاسم في حركة الاقتصاد العراقي. ومن الصحيح القول ان هذه خاصية مشتركة لدول الصادرات النفطية، لكن الأمر في العراق يختلف من جهة الاخفاق في تبني سياسة جادة نحو التنويع على قدر من المصداقية العملية. ومن الواضح ان مورد صادرات النفط صار مقيِّدا لنشاط الدولة في اداء وظائفها فضلا عن تعطيل الجهد الاستثماري والنمو الاقتصادي. ومن الضروري الاكتراث بالوقائع التي تبين بوضوح ان امكانات زيادة الإنتاج النفطي في العالم لا يستهان بها، وتواجه سوقا لا يتسع لاستيعابها.

 وبملايين البراميل في اليوم يقدر الطلب العالمي على النفط 100.1 عام 2019 بزيادة مقدارها 11.1 عن عام 2012، وحصة دول اوبك منها طفيفة بالقياس الى تطلع الدول النفطية، ومنها العراق، نحو ايرادات إضافية للمالية العامة والمدفوعات الخارجية. وفي جانب العرض يقدر الإنتاج من خارج اوبك 62.2 عام 2019 وعلى فرض انسجام اوبك مع دور المجهّز الأخير يكون انتاجها 37.9 من النفط الخام والغاز المسيل. وتفيد البيانات ان المتوسط السنوي للغاز المسيل من اوبك 6 مليون برميل يوميا ولهذا يستنتج ان الكمية التوازنية من النفط الخام لمنظمة اوبك 31.9 مليون برميل يوميا عام 2019، وهي ادنى مما كانت عليه عام 2018 بمقدار نصف مليون برميل يوميا. وبالمتوسط السنوي اسهمت اوبك بنسبة 39.9 بالمائة من عرض النفط، أعلاها عام 2013 بنسبة 41 بالمائة وادناها المتوقع لعام 2019 بنسبة 37.9 بالمائة.

clip_image002.jpg

من البيانات اعلاه، ورغم صغر العينة بالمعنى الإحصائي، كان ارتباط نمو الناتج مع نمو الطلب على النفط، كلاهما على المستوى العالمي، موجبا وذا دلالة مقبولة؛ ويرتبط الإنتاج من خارج اوبك ارتباطا تاما وذو دلالة عالية مع نمو الناتج المحلي العالمي؛ بينما يرتبط الطلب العالمي على النفط عكسيا مع سعر النفط بدلالة مقبولة. اما التأثير السلبي لسعر النفط على النمو الاقتصادي للعالم فيفتقر الى الدلالة الإحصائية. ولمجموع انتاج النفط، وانتاج اوبك على حدة، ارتباط عكسي مع سعر النفط بدلالة احصائية عالية. ولا يختلف سلوك الطلب على النفط عن النمط المتعارف عليه بصفة عامة والذي يتمثّل بالعلاقة العكسية مع السعر والطردية مع الدخل الذي يعبر عنه في هذا السياق الناتج المحلي الإجمالي العالمي.

 ولتسليط المزيد من الضوء على العلاقة بين الطلب على النفط وسعره ونمو الاقتصاد العالمي راجعنا البيانات منذ عام 1999 مبينة في الشكلين التاليين.

الشكل (1) نمو الناتج المحلي الإجمالي في العالم ونمو الطلب العالمي على النفط % سنويا

 clip_image004.png

يبين الشكل رقم (1) العلاقة بين نمو الطلب العالمي على النفط ونمو الاقتصاد العالمي بمقياس الناتج المحلي الإجمالي والارتباط بينهما 0.803 ودلالته الإحصائية تامة.

وبمعالجة البيانات المعروضة في الشكلين البيانيين نقدّر دالة الطلب على النفط: بين النمو السنوي للطلب العالمي على النفط WOGD معتمدا على النمو السنوي في الناتج المحلي العالمي WGDPG والتغير النسبي السنوي في سعر نفط برنت BPG للمدة 1999-2018:

ومعامل التحديد للمعادلة 72.6 % ويدل على قدرة تفسيرية جيدة، خاصة وإن الأسعار والناتج والطلب معرفة بتغيراتها السنوية النسبية. كما ان تقدير المعاملات مقبول احصائيا بمستوى دلالة 0.05 للثابت ومعامل تغير السعر و0.01 لمعامل نمو الناتج. وايضا لم نجد اثرا سلبيا لسعر النفط على نمو الناتج العالمي تؤيده الاختبارات الإحصائية.

وللمدة 1976 – 2017 جرى حساب الدالة في المعادلة رقم (2) التالية:

معامل التحديد 50.6%؛ وتقديرات الثابت ومعامل نمو الناتج ذات اعتمادية بمستوى دلالة 0.01 واعتمادية تقدير معامل تغير السعر بمستوى دلالة 0.05.

ويفهم من التحليل آنفا ان نمو الطلب على النفط يتجه الى التناقص، باستقلال عن السعر والنمو الاقتصادي، والأخير له الإسهام الكبير في مسار الطلب على النفط، اما السعر فعلاقته عكسية مع الطلب على النفط لكن دوره في تعيين حجم الطلب ضئيل. وقد بينت الدراسات المستقبلية للطاقة، ومنها اصدرتها منظمة اوبك، بأن نمو الطلب على النفط سينخفض دون 1 بالمائة سنويا خلال العقدين القادمين. بينما توجد الكثير من الدلائل على مستقبل واعد لسوق الغاز وعلى حساب النفط والفحم كما ان للغاز قدرة عالية لمنافسة مصادر الطاقة البديلة.

الشكل (2) التغيرات السنوية النسبية في سعر نفط برنت للسنوات 2000- 2018

 clip_image006.png

الشكل (3) النمو السنوي لكل من الناتج المحلي العالمي والطلب العالمي على النفط للمدة 1976-2017

 clip_image008.png

يبين الشكل رقم (3) بوضوح تام كيف ان نمو الناتج المحلي العالمي يضع سقفا اعلى لنمو الطلب على النفط. والدولة التي يهيمن مورد النفط على ميزانها الخارجي تتجه نحو معدلات نمو واطئة لاقتصادها وتتخلف في مسار اللحاق. لأن معدل نمو الناتج على المستوى الوطني، كما هو على المستوى العالمي، دون معدل نمو موارد الصادرات، او الاستيرادات، عادة. بتعبير آخر، قيمة الصادرات بمجموعها في العالم تنمو بأسرع من نمو الناتج العالمي، لكن صادرات النفط لوحدها أدنى نموّا من الناتج، وناتج الدولة التي يهيمن عليها النفط سوف تنمو بأدنى من وتيرة نمو صادراتها النفطية. هذا المصير الاقتصادي لا بد ان تجنبه العراق ويبدأ من الآن.

ويوضح الشكل (4) ادناه نمط التقلبات العنيفة في سعر النفط، وهو تعبير عن المخاطرة العالية في ايرادات الموازنة العامة والعملة الأجنبية في الاقتصاد العراقي. كما ان تكاليف التحسب لهذه المخاطرة عالية في ظل الضغوط الشديدة لزيادة الإنفاق العام والطلب على العملة الأجنبية.

شكل (4) التغير النسبي السنوي في سعر نفط برنت %

 clip_image010.png

إيرادات النفط:

 3489208 برميل في اليوم صادرات العراق من النفط حتى نهاية تشرين الاول، اكتوبر، عام 2018. وتفترض موازنة عام 2019 تصدير 3880000 برميل في اليوم بضمنها صادرات من حقول كركوك وكردستان لم تكن ضمن معدل التصدير اليومي، انفا، لعام 2018. وقد يتحقق هدف التصدير الذي استند اليه تقدير الإيرادات النفطية، في حال عدم تعرض العراق لضغوط الفائض في سوق النفط تستدعي مجاراتها، او عدم تعثر صادرات النفط من كركوك، ومن المستبعد في افضل الظروف الملائمة تجاوز المقدار المعتمد في الموازنة.

 كان المتوسط الشهري البسيط لسعر نفط برنت حتى نهاية تشرين الأول، اكتوبر، عام 2018 بالدولار 73.06 للبرميل، وسعر النفط العراقي لنفس المدة 67.19 دولار للبرميل، وبذلك تكون نسبة سعر النفط العراقي الى سعر برنت 91.97 بالمائة، تقريبا 92 بالمائة.

سعر نفط برنت يوم الأحد 23 كانون الأول، ديسمبر، 2018 بالدولار للبرميل 53.82 وعند اعتماد هذا السعر مرجعا، يقدر سعر النفط العراقي في الموازنة 49.5 دولار للبرميل. بينما السعر المفترض في الموازنة 56 دولار للبرميل. ويجوز تقدير السعر على اساس آخر: السعر المستقبلي للشهرين الثاني والأخير من عام 2019 للبرميل 55.16 دولار وعند الانطلاق من هذا السعر المستقبلي لنفط برنت يكون تقدير سعر النفط العراقي 50.73 دولار للبرميل.

نخلص من تلك الحسابات البسيطة الى ان سعر النفط في موازنة عام 2019، وهو 56 دولار للبرميل، مرتفع ولا يبرر حسب معطيات يوم 23 كانون الأول، ديسمبر، عام 2018 والأفضل حساب ايرادات النفط بسعر 50 دولار للبرميل في موازنة عام 2019. وحتى لو كانت لدى وزارة النفط معلومات من داخل مؤسسات السوق النفطي ومنظمة البلدان المصدرة للنفط تفيد احتمال ارتفاع السعر ليتجاوز 65 دولار للبرميل فهذه لا يؤخذ بها لإعداد الموازنة بل لخفض المخاطرة بانتظار موارد اضافية. ثم ان الموازنة العامة التي تمول بموارد نفطية لا بد ان تدار بمرونة عالية مع استعداد مجلس الوزراء والسلطة التشريعية لإعادة النظر والتعديل، وحتى الأخذ بتقاليد تعاملت بها الدول للتكيف مع عدم التأكد في الموارد، ما يسمى فوق الخط وتحت الخط، الأول خطة الإنفاق للإيرادات المؤكدة، والثاني للإنفاق الأوسع عند تحقق اضافات من ايرادات محتملة.

 بسعر 50 دولار للبرميل والصادرات التي بينتها وثيقة الموازنة تكون الإيرادات النفطية 70.810 مليار دولار، تقريبا 71 مليار دولار، وبالدنانير 83.697 ترليون دينار، تقريبا 84 ترليون دينار. تخمن الإيرادات غير النفطية 11.829 ترليون دينار، تقريبا 12 ترليون دينار، ورغم ضآلة هذه الإيرادات، غير النفطية، في ضوء حجم الاقتصاد العراقي ومجموع الإنفاق الحكومي قد يتعذر الوصول اليها. وعلى فرض تحقق الإيرادات غير النفطية تكون مجموع الإيرادات 95.526 ترليون دينار، تقريبا 96 ترليون دينار. بينما في وثيقة الموازنة جاءت ايرادات النفط 93.741 ترليون دينار ومجموع الإيرادات 105.570 ترليون دينار. وعند البقاء على الإنفاق المخطط كما هو 133.108 ترليون دينار في مقابل الإيرادات المحسوبة آنفا 95.526 ترليون دينار يكون العجز بمقدار 37.582 ترليون دينار بنسبة 28.2 بالمائة من الإنفاق و39.3 بالمائة من الإيرادات. وحسب هدف التصدير النفطي لعام 2019 والإنفاق المخطط المبين، آنفا، والإيرادات غير النفطية، يتطلب توازن الموازنة سعرا لبرميل النفط العراقي 72.45 دولار، والذي ينسجم مع سعر لبرميل برنت بمبلغ 78.78 دولار.

 تمويل الإنفاق غير النفطي:

 النفقات المخططة لوزارة النفط 18.458 ترليون دينار منها 3.720 ترليون دينار جارية والباقية صنفت استثمارية، وكان الأولى تفصيل هذه النفقات في مذكرة ملحقة بوثيقة الموازنة: للتمييز بين نفقات الإنتاج والتطوير (الاستثمار) النفطي، ونفقات دوائر وزارة النفط. ومن جهة اخرى بيان المدفوعات للشركات النفطية مبوبة الى: اجرة الخدمة والنفقات المستردة، تشغيلية واستثمارية، من اجل الشفافية والوضوح.

 وعند طرح المبلغ المخصص لوزارة النفط من مجموع الإيرادات يبقى المتاح لتمويل الإنفاق غير النفطي 77.068 ترليون دينار. والإنفاق المعتمد في الموازنة لغير النفط 114.650 ترليون دينار. ونقارن بين المتاح، بعد استبعاد النفقات النفطية، والإنفاق لغير النفط، ولتسهيل البحث نسمي الإيرادات والنفقات بعد التعديل الموازنة (ب)، وهي عاجزة ايضا بمقدار 37.582 ترليون دينار بنسبة 46.8 بالمائة من ايراداتها، بنسبة 32.8 بالمائة من نفقاتها و46.8 بالمائة من ايراداتها.

مورد العملة الأجنبية:

 ايرادات النفط هي موارد العملة الأجنبية في العراق، وحسب التقدير، آنفا، 70.810 مليار دولار. ونفترض ان المدفوعات بالعملة الأجنبية لوزارة النفط 90 بالمائة من المخصص لها اي 16.612 ترليون دينار يعادل 14.054 مليار دولار. وبذلك يكون المتاح من العملة الاجنبية لبقية الاستخدامات 56.756 مليار دولار. والمدفوعات لأقساط وفوائد الديون الأجنبية 6.625 ترليون دينار تعادل 5.605 مليار دولار. وهكذا نتوصل الى باقي العملة الأجنبية من إيرادات النفط عدا نفقات وزارة النفط والمديونية الخارجية 51.151 مليار دولار.

ومن الضروري اعداد ميزان للعملة الأجنبية يصدر ملحقا بالموازنة ويراقب شهريا للسيطرة على استقرار ميزان المدفوعات. وبخلافه عند تجاوز طلب القطاع الخاص على العملة الأجنبية ومدفوعات الحكومة في الخارج لمستورداتها والتزاماتها الأخرى، عدا النفط والمديونية، ذلك المقدار 51 مليار دولار تقريبا سوف يستنزف جزءا من احتياطيات البنك المركزي. لأن الحكومة، عادة، تتصرف بالعملة الأجنبية من المورد النفطي على قدر احتياجاتها وتحول المتبقي الى البنك المركزي لمبادلته بالدينار، والذي قد يزيد على طلب الخاص او يقصر عنه لتزداد الاحتياطيات او تنخفض تبعا لذلك.

بعض الملاحظات:

اعدت الكثير من الدراسات، منذ نهاية سبعينات القرن الماضي والى يومنا، تناولت الموازنة العامة والسياسة المالية بالعلاقة مع الخفض التدريجي للاعتماد على التمويل النفطي؛ والدور التنموي للإنفاق الحكومي وعلى وجه الخصوص عبر البرنامج الاستثماري للدولة؛ وما يتطلبه تطوير الأداء المالي من مضامين في العملية المنتظرة لإعادة بناء اجهزة الدولة وعلى اساس الوظيفة Function والكفاءة. ولم نجد لتلك الجهود، والآمال والأحلام، أثرا واضحا في الوقائع اليومية للإدارة الاقتصادية ولا في اهتمامات الوسط السياسي.

ان المجتمعات الحية تنظر الى الفكرة وكأنها بذرة تتعهدها بالرعاية حتى تشبث وتنمو وتثمر لتنتج بذورا جديدة للازدهار والرخاء. بينما قد وصلنا فعلا الى ازدراء حتى الثمار الناضجة للتطوير والارتقاء.

وسوم: العدد 808