شبوة مباركة

الإمارات لن تقبل الهزيمة في شبوة. دولة  تخوض حروباً بغير مواطنيها، وتشتري جيوشاً بفكّة فلوس، ما الذي سيدفعها لتقبل هزيمة سريعة؟ أو: لهدر مجهود خمسة أعوام. 

حروبها وصراعاتها عالقة في كل مكان، ولطالما اعتقدت أن معركتها اليمنية هي أيسر المعارك، وإذا خسرتها فستلقي الهزيمة بظل طويل حتى تخوم موريتانيا، وهذه ليست مبالغة. اليمنيون الذين تعاملت معهم، شمالا وجنوباُ، كانوا من النوع شديد الرخص، من الذين يبيعون القلعة ب"عاس". وقد أوهموها أن سائر اليمنيين كذلك. ما حدث في شبوة كان مفاجأة نفسية، فقد اكتشفت الإمارات، ربما لأول مرة، أن ليس كل من يسكن هذه الحظيرة/ الحاضرة الواسعة .. للبيع. 

ستدفع جيوشها الرخيصة لخوض حرب في الجبهة الشرقية. ما الذي تخشاه؟ أن تهلك ميليشياتها في تلك الحرب؟ إذا نفقت البضاعة الرخيصة في الطريق فإن ذلك يحدث عادة، والإمارات بلد يتاجر منذ زمن وهو يعلم أن مثل تلك الأمور تحدث في البر والبحر.

إذا انهار مشروعها فلا قيمة لتلك الحشود المسلحة التي بنتها. لنأخذ الساحل الغربي مثالاً: ما إن تأكدت إن الحديدة صارت بعيدة المنال، بعد اتفاق ستوكهولم سيء السمعة، حتى انسحبت وتركت العمالقة هناك. ثمة تزامن مريب بين سيطرة الانتقالي على عدن وهجوم كاسح يشنه الحوثيون، يومياً، على  معسكرات العمالقة في الساحل الغربي. لقد تركتهم يواجهون الهلاك بلا ساتر، فهي لم تعد بحاجة إليهم. فضلاً عن أن "نصف الولاء" الذي قدمه العمالقة لا يكفي. وبالنسبة لمصالحها في عدن وما حولها فقد أمنها مسلحون آخرون. يقوم الحوثيون بمهمة تبدو كما لو أنها إماراتية! 

كتبت في مقالة على صحيفة الاستقلال، قبل أسبوعين: إذا لم تكن السعودية راضية عن الذي جرى في عدن فإن مشروع "الجنوب الفيدرالي" كما حلم به الزبيدي لن يرى النور قط، وستقوم دولية صغيرة تمتد من كريتر إلى ردفان! تتجه شبوة إلى صراع مدمر، إذا صحت الأخبار عن التحشيد والتحشيد المضاد. لا أدري كيف سيدير الحليفان تلك الحرب مستندين إلى رؤيتين متصادمتين حولها. أي كيف سيخرجان منها دون أن ينشب أحدهما أظافره في عنق الآخر. على الحكومة أن توفر غطاء عالياً للسلطة في شبوة، أن تطلق تحذيرات أمام العالم:  من المساس بقواتها من قبل أي دولة! وأن تفعل أكثر من ذلك، وهي تعرف ما الذي عليها فعله.

الانتقاليون يقفون الآن عديمي الحيلة، تورطوا في منتصف الطريق. يقاتلون في معركة مشوشة، بلا ملامح. فهي حرب ضد الفساد، وهي ضد الجمهورية اليمنية، هي فقط لأجل حوار متكافئ، وهي كذلك من أجل "رفع المعاناة عن الشعب اليمني"، وهي لإيقاف الظلم عن الجنوبيين، لكنها أيضاً من أجل تثبيت سلطة الرئيس الشرعي هادي، وهي ضد سلطته غير الشرعية.. إلى آخر تلك الفوضى التي شوشت عليهم الحرب والسلم، وجعلت العالم عاجزاً عن أن يأخذهم على محمل الجد. 

في عرس شعبي قبل ثلاثة أشهر في شبوة ردد شاعر قبلي: والنبي ما خذيتو وطنّا يا عساكر قفا الشيخ طحنون. وردد القبليون خلفه. في كل مرة يسوق الانتقالي سبباً لشنه الحروب يراه الناس عارياً، يريد أن يسرق بلدهم ليقدمها للشيخ طحنون. بصرف النظر عن مدى دقة هذا التعبير في وصف المعركة إلا أننا أمام رؤية شعية أخذت هذا الشكل، وقد تأسست منذ زمن ليس على المستويين الإعلامي والسياسي وحسب، بل لدى القبائل في الصحراء الشرقية!  

صعدت القضية الجنوبية إلى القمة ثم تلاشت، لتحل محلها عصابة. تتقافز العصابة في كل مكانة صارخة أنا القضية الجنوبية. إنه إعلان موت لتلك القضية الجليلة وإبدالها بالعصابات. أخرجت القضية الجنوبية من حقيقتها لتصبح مجرد تدبير إماراتي عملياتي في سبيل تأمين مصالحها. لنلاحظ أن التصادم الإماراتي السعودي البطيء يجري بين طرفين لطالما أقسما على كل الكتب المقدسة أن أحدهما لن يتخلى عن الآخر. ها هي الإمارات، وهذا ما تذهب إليه افتتاحيات كبريات الصحف في أوروبا، تهجر صديقتها بعد أن تأكد لها أنها لن تجني الشيء الكثير. الانتقاليون لم يسألوا أنفسهم مرة واحدة ما إذا كانت الإمارات ستتخلى عنهم مستقبلا فيما لو تبين لها أنه من الأفضل أن تغادر المشهد اليمني برمته.

ما قاله الميسري قبل يومين كان مذهلا في حقيقته: سيذهب الغرباء وسيتركونكم مع الثارات. يجازف الانتقاليون ويحرقون كل شيء خلفهم، كما لو أن أحداً يدفعهم لحرب صفرية، أن تخسر كل شيء إذا لم تكن قادراً على الفوز بكل شيء. وثيقة الإملاءات التي قدموها للسلطة  المحلية في شبوة كانت مريعة ونابليونية في طبيعتها: أن تخرج القوات المسلحة والقوات الخاصة بملابسها وتترك البلدة لقوات المجلس الانتقالي. مع التلويح: بالعنف والحرب في حال رفضت السلطات ذلك. هذا السلوك المتعالي، الموهوم بالمقاتلات الإماراتية، والانتحاري في آن هو تدمير شامل للقضية الجنوبية، وللمجتمع الجنوبي في آن. كانت النتيجة مذلة. وإذا استسلم الانتقالي لغضبه ورغباته الانتقامية، لئلا يقول الناس [مرسي الزناتي اتغلب يا مينز]، فإن أحداً ليس بمقدوره التنبؤ بالعواقب. على أن الإمارات، وهي تعالج المرار الذي ذاقته بالأمس، ستدفعه لذلك، أليست هي من يدفع "الصرفة اليومية"؟ إذا تقاطعت الإرادتان، أراد الانتقالي الحواروأرادت الإمارات الحرب، فإن الحرب هي ما سيحدث. "رب العمل" هو من يقرر الشيء ونقيضه، ويحدد للقافلة طريقها. وهذا ما نعنيه بقولنا إنها تشكيلات غير وطنية وغير مستقلة.. 

في ٢٠١٣ رفض "الحراكيون" إعلان حزب الإصلاح عن نيته إقامة احتفالية في عدن. أراد الإصلاح، آنذاك، القول إن الجنوب ليس حكراً على أحد وأن أي حزب يمني، كالإصلاح أو المؤتمر، قادر على حشد آلاف الناس في الساحات العامة. هدد الحراكيون آنذاك باستخدام النار ضد المتظاهرين. لا يريدون أن يسمعوا سوى أنفسهم. هنا كانت مفاجأة شبوة صادمة، فالهزيمة لم تكن عسكرية بل نفسية. إنها هزة رهيبة كادت أن تدفعهم إلى الصحيان: الجنوب لم يفوض أحداً، والناس ليسو جميعاً في قبضة نخاس إلهي! يحركهم كما يشاء. ثمة أناس آخرون، وهم كثيرون حتى إنهم، لبأسهم وكثرتهم، قادرون على أن يصنعوا انتصارات ساحقة في ظرف ساعات. أمام حقيقة أن هناك جنوباً قوياً خارج "الانتقالي" ذهب بنيرك إلى الإماراتين وطلب منهم المزيد من الدبابات والمدرعات لكي يدخل ذلك الجنوب الآخر، الجنوب غير المرئي، في "قفا الشيخ طحنون"..

***************************************************

لطالما قيل عن شبوة ومأرب إنها بلاد الوحوش والإرهاب، وأنها مأوى لقطاع الطرق وأعداء الدولة. بقيت المحافظتان خارج الحضارة، وتعالى عليهما اليمنيون في الشمال والجنوب.

إلى أن حاول مرتزقة الشمال تسليم اليمن لإيران، وحاولت عصابات الجنوب بيع البحار والشواطئ للإمارات .. 

وقفت مأرب أولاً، وأوقفت سرقة الجمهورية

ثم وقفت شبوة ثانياً، وحرست استقلال الدولة

بعد أن استسلمت كل الحواضر، وغاصت البلاد بالخصيان ومناضلي الصرفة اليومية والقتلة المأجورين. 

لأنهما بلدتان كانتا تعيشان خارج الحضارة، فقد احتفظتا ـ هناك في الصحراء ـ  بما كان لليمنيين في التاريخ من كرامة وبسالة وشرف. 

وعلى اليمنيين أن يعتذروا لهما. 

م.غ.

وسوم: العدد 839