شيء ما بين أميركا وطالبان

في جو الغضب والحزن الذي غشي أميركا والناتو وإسرائيل مما بدا هزيمة أميركية في أفغانستان مماثلة لهزيمتها في فيتنام في 1975 ؛ تطايرت شكوك بأن ما حدث إنما  حدث بالتنسيق بين أميركا وطالبان ، وأن الأولى ، أميركا ، مكنت الثانية ، طالبان ، من اجتياح المقاطعات الأفغانية الأربع والثلاثين باستثناء مقاطعة بانشير التي يسيطر عليها أحمد شاه مسعود المناوىء حتى الآن لطالبان . وعد بعض أصحاب الرأي نلك الشكوك مسعى خبيثا للتقليل من جلال انتصار طالبان ، ومن قسوة هزيمة أميركا التي كانت على كل حال بدأت الانسحاب في 30 أبريل الماضي ، وفي نيتها إتمامه في 31 أغسطس الحالي . وفي الأيام الأخيرة ظهر ما يعزز تلك الشكوك عن التنسيق بين الطرفين ، ومن هذه المعززات :

أولا : خبر التنسيق بين القوات الأميركية وبين طالبان لتنظيم مرور أميركيين وأفغان يهددهم الخطر ؛ إلى مطار كابول ، وهو ما ألمح إلى حدوثه الرئيس بايدن .

ثانيا : دعوة طالبان لأميركا للإبقاء على وجود دبلوماسي لها في كابول .

ثالثا : إقرار أميركا بملاحظتها لصدور عدد من الرسائل الإيجابية والبناءة عن طالبان .

رابعا : حديث أميركا عن نيتها التباحثَ مع حلفائها حول العلاقة المستقبلية مع طالبان ، أي أنها تترك الباب مفتوحا لعلاقات إيجابية ودية مع طالبان . ولو كان ما تضمره هي وهؤلاء الحلفاء خلاف ذلك لصدر عنها وعنهم ما يقطع باستحالة أي علاقات طبيعية مع طالبان التي هي الآن الحاكم الفعلي للبلاد .

خامسا : مسارعة أميركا لتبرئة طالبان من التفجير الذي حدث في مطار كابول ، وقتل فيه 13 عنصرا من الجيش الأميركي ، وجرح 18 آخرون . لو كان بين الطرفين عداء لاتهمت أميركا طالبان بالتفجير لتسويغ الانتقام منها ، وأشهر حروب أميركا لفقت مسوغاتها تلفيقا .

سادسا : ليس من التفكير الاستراتيجي السليم أن تتخلى أميركا والغرب عن دولة ذات موقع في أهمية وحيوية موقع أفغانستان الموصوفة بسرة العالم ، أي مركزه الأوسط . والوجود الغربي فيها يمنح الغرب وعلى رأسه أميركا مجالا واسعا للتأثير على الأحداث في الصين وآسيا الوسطى وباكستان وإيران . وكل هذه الدول المجاورة لأفغانستان تخطط لعلاقات قوية متنوعة معها . وتفسير التحفظ الغربي الحالي عن إبداء الحماس لعلاقات إيجابية ودية مع طالبان أنه لا ينوي تقديم هذه العلاقات الإيجابية الودية إليها دون ثمن . الغرب لا يقدم شيئا مهما صغر بلا ثمن . وهو الآن يدرس هذا الثمن الذي يعرف الكثير عنه لطول خبرته التاريخية في تدفيع الدول الأخرى أثمان علاقاته بها . لا عفوية ولا تلقائية ولا حسن نية في سياسة الغرب . وهو في هذا يختلف عن روسيا والصين . إنها سياسة ولدت ونمت في ظل الثقافة الرأسمالية الربحية المبتزة حيث كل شيء بيع ومال وأرباح متعددة الصور . وتفسير آخر : الغرب لا يعرف قطع العلاقات بالمفهوم العربي الشامل للقطع الذي توجزه هذه المتلازمة الفجة الغبية : " اقطع ! قطعنا كل شيء ."  دائما يبقي ولو سرا على شعرة معاوية التي هي فلسفة سلوكية عربية الأصل هجرها العرب خاصة في ما بينهم . الغرب دائما يترك الباب  مواربا مهيأ لفتح جزئي أو كلي في لحظة ملائمة توجبها الضرورة في تطورات الأحداث . واستنتاجا نرى أن ثمة شيئا ما بين أميركا وطالبان ، ومن وراء أميركا الغرب ، وأن هذا الشيء إيجابي ودي ، ويؤشر إلى احتمالية إقامة علاقات كاملة بين الطرفين قوامها اعتراف الغرب بطالبان حاكما شرعيا لأفغانستان بعد ضمان أنسب الشروط وأسخاها ثمنا لهذا الاعتراف . وكل ما ذكرناه من ظواهر التنسيق والتوافق بين أميركا وطالبان ليس شواهد على تواطؤ طالبان مع أميركا ، ولا ينقص قيمة انتصارها ، ولا يخفض منسوب  هزيمة أميركا وإذلالها . إنه تنسيق وتوافق الضرورة لأميركا ، وتنسيق وتوافق الانتصار لطالبان ، وهو ختام مألوف للحروب بين الأعداء حيث قد يجنح المتحاربون للمهادنة والمسالمة ، وربما المصادقة ، وأحيانا المحالفة  ، ولكل متحارب أسبابه الذاتية .

                                        ***

قال هنري كيسنجر وزير الخارجية الأميركية الأسبق : " ربما يكون خطيرا أن يكون الإنسان عدوا لأميركا ، لكن مصادقته لها شيء قاتل . " .

وسوم: العدد 944