كفر التضامن… كفر قاسم

وسيم صيام فلسطيني من مخيم اليرموك عائلته كانت تمتلك مخبزا في المخيم، خرج ليجلب بعض أكياس طحين لينتج خبزا لسكانه بعد أن ضرب النظام السوري حصارا على المخيم لتجويعهم، عبر جواله قالت زوجته اجلب لنا جرة غاز، سآتيك بها، قالها قبل أن يعتقل على حاجز حي التضامن، لم يحمل سلاحا، لم يرفع شعارا ضد السلطة الأسدية، لم يشارك في مظاهرة مناهضة للنظام، لم يرتكب خطأ يحاسب عليه، سوى أنه مر في المكان الخطأ، في الوقت الخطأ، اقتادوه مع معتقلين آخرين مشابهين، سحبوه من مركبة الموت بعد أن طمسوا عينيه، وكبلوا يديه من الخلف، سحبوه هادئين، اقتادوه هادئين، أوقفوه على شفا حفرة الموت هادئين وقالوا: قناص قريب يتصيد الناس كالأرانب سر مسرعا مستقيما، خطوة، خطوتان ولم تكتمل الثالثة ليسقط في الحفرة الرهيبة على أجساد سقطت فيها قبله تنزف دما ساخنا، لم يسعفه الوقت ليفهم ما حدث، وأين سقط، ولماذا، لتأتيه كما أتت للذين من قبله رصاصات قاتلة من جلاد حفرة حي التضامن أمجد يوسف، صبوا الزيت عليه وعلى الآخرين هادئين، وأشعلوا فيهم النار لتأكل أجسادهم وهم هادئون.

لم ترف لهم عين، لم تختلج عضلة في وجههم، كأن الناس نعاج تذبح وتشوى في وليمة لبرابرة العصر الجائعين المتعطشين لأكل لحمهم وشرب دمائهم. هكذا أظهرت صور الفيديو المهربة من حاسوب أحدهم ونشرتها صحيفة الغارديان البريطانية بعد عامين من البحث في الجريمة من قبل الباحث أغور أوميت أنجور، وأنصار شحود من مركز الهولوكوست والإبادة الجماعية في جامعة أمستردام.

مقتل وسيم صيام

سنوات عشر مرت على مقتل وسيم صيام الذي لم يعد كما وعد مع جرة الغاز، ومئات آخرون قضوا وقد ابتلعتهم مجزرة حفرة كفر التضامن. عشر سنوات وذوو الضحايا يبحثون عن أولادهم، وآبائهم، وأزواجهن، عشر سنوات يُبتزون حتى النخاع بالخداع: بالأموال، والممتلكات، والابتزاز الجنسي، مقابل معلومات كاذبة أن ذويهم أحياء وهم في هذا الفرع المخابراتي أو ذاك من أفرع النظام التي انتشرت في سوريا كالفطر في غابة وباتت معتقلات وسجون لعشرات آلاف السوريين، ولا يعلمون أن جثثهم حرقت على بعد أمتار منهم، عشر سنوات ينتظرون خبرا مفرحا، يحلمون أن يدق أحدهم الباب ليقول: ها أنا عدت من الجحيم، لأن المقبرة الجريمة، حفرة عار الإنسانية، حفرة الحقد الطائفي البربري الهمجي كانت صامتة، حتى جاء من يفتحها ويفتح معها روائح الجريمة الأسدية الكريهة البربرية الفريدة في تاريخ البشرية، وجرحا قديما غائرا في جسد الشعب السوري ككل كاد أن ينسى، وتحقق الأهالي بعد سنوات عشر من الانتظار من قتل أحبائهم بعد مشاهدة الفيديو المروع.

هل يتصور أحدنا أن يشاهد ابنه، أو أباه، أو زوجه وهو يعدم بالرصاص بدم بارد ثم تحرق جثته في حفرة جماعية وعلى بعد أمتار من منزله وهو كان يحدوه بصيص أمل بعودته سالما، وهكذا تعرفت زوجة وسيم صيام وعائلته عليه وهو يقتاد من القتلة ويطلق عليه الرصاص، وأكياس الطحين وجرة الغاز بقيت في الشاحنة الصغيرة، وافتقد سكان المخيم منذئذ للخبز وعمت المجاعة. هذه هي إحدى الجرائم الأسدية.

مجازر بني صهيون

وسيم صيام هذا الفلسطيني الذي هرب أبوه من مجازر بني صهيون في قبية، ودير ياسين، وكفر قاسم لقي الموت على يد حكام من لجأ إليهم تحت اسم “العروبة والأخوة والتحرير، والقدس عروس عروبتنا”، وعاش بين ظهرانينا في مخيم اليرموك الذي خصص للاجئين الفلسطينيين وكنا سعداء باستقبالهم. مات قتلا كما مات قتلا أبناء البلد بذنب المطالبة بالحرية، والكرامة، والعدالة.

الشيء بالشيء يذكر، تماثل في الأداء، تقارب في صنع الإجرام، صمت بارتكاب المجزرة، طمس للجريمة.

يقول محمود درويش في قصيدة كفر قاسم التي شهدت مجزرة قام بها بنو صهيون: ” أوقفوا سيارة العمال في منعطف الدرب، وكانوا هادئين، وأدارونا إلى الشرق وكانوا هادئين..لا تلمني إن تأخرت قليلا إنهم قد أوقفوني،.. إن غابة الزيتون كانت دائما خضراء، كانت يا حبيبي، إن خمسين ضحية جعلتها في الغروب بركة حمراء.. خمسين ضحية يا حبيبي.. لا تلمني.. قتلوني.. قتلوني.. قتلوني” وهذا ما كان يتمنى أن يقوله وسيم صيام لزوجته وأولاده قبل أن يجهز عليه أمجد يوسف وأعوانه في تصفية على الهوية، ولا فرق بين سوري وفلسطيني إنه عقاب كفر التضامن لضرب التضامن والاجهاز على الحرية.

هل لا يزال هناك من يؤمن “بالوحدة والحرية”، هل هناك من لا يزال يؤمن “بالأمة العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة”، هل لا يزال هناك من يصدق قول “الصمود والتصدي والممانعة” أليس كلها كلمات يختبئ خلفها حقد طائفي دفين، وديكتاتورية لا تعرف أين تقف حدود الدم.. بنو صهيون غرباء شذاذ آفاق جاؤوا من وراء البحار والوهاد ليسرقوا أرضا ليست لهم، ويقتلون أصحابها في كفر قاسم وسواها، أما شبيحة النظام الطائفي وأجهزته الأمنية الوحشية وجيشه الذي كان يعلن أنه موجه لبني صهيون الذين ارتكبوا مجزرة كفر قاسم يقتل السوريين على الهوية ويرميهم في حفر كحفرة كفر التضامن ثم يحرق جثثهم، وهذا ما شاهده العالم أجمع، وهذا هو الجزء البسيط جدا المرئي من جبل الجليد الذي لو ظهر كاملا لاقشعرت له الأبدان وشاب منه الصبيان.

صمت النظام على الفضيحة ولم يكلف حتى نفسه لتفنيدها أو حتى ليصرح أنه سيقوم بتحقيق حولها ليحاكم الجناة على فعلتهم الشنعاء، صمت كما صمت على عشرات المجازر المشابهة أو ربما أفظع لأنه يعرف أنه لن يحاسب عليها دوليا وهناك دول تشابه أنظمتها نظامه تدعم مجازره وتشارك بها.

صمت الجامعة العربية، والأنظمة العربية إزاء هول الجريمة كصمت حفرة كفر التضامن، فإدانة نظام ارتكب هكذا جريمة ضد الإنسانية يدين من يدافع عنه وطبع أو يسعى للتطبيع معه.

واشنطن ورفعا للعتب دانت المجزرة، وتركت الرد للمنظمات الإنسانية، الاتحاد الأوروبي لم ينبس ببنت شفة، وهذه وصمة عار في جبين البشرية جمعاء، وثقب كبير في شعار حقوق الإنسان والمواطنة لكل من يطلقه من دول الديمقراطية والحرية.

أما المعارضة السورية بكل فئاتها وعلى رأسها الائتلاف فقد أطلقت بيانات باهتة لا ترقى إلى مستوى الجريمة النكراء، ولم يكلف الائتلاف، الذي تتصارع أجنحته بعضها ببعض، نفسه ليرفع شكوى قانونية دولية في ارتكاب جريمة قلما شهدت الإنسانية شبيها لها.

هل بات الدم السوري أرخص من ماء بردى..

وسوم: العدد 979