دفاعا عن التاريخ... وليس المعارضة

عبد الرحيم خليفة

ليس القصد من هذا المقال الدفاع عن أحد بعينه من رجالات المعارضة أو تبرئة ذمته؛ فهي مسألة لا يملكها إلا أصحابها من أبناء شعبنا والضمير الوطني الجمعي للسوريين، وتتطلب قدرا كبيرا من الموضوعية والحياد؛ التي قد لا أملكها؛ بحكم إنتمائي التاريخي لها. وإنحيازي المسبق إلى نخبة صدقوا فيما عاهدوا الله عليه؛ فمنهم من قضى؛ ومنهم من لفته زوايا النسيان؛ وبعضهم أخطأ الهدف والرؤية فناله نصيب وافر من الاتهام؛ والتخوين؛ والتشكيك؛ بتاريخه ونضاليته وحتى بوطنيته

كما أني لا أقصد أصحاب اتجاه إيديولوجي بعينه، من حزب أو تيار أو حركة. ولا أقصد من بقوا في الداخل وتعرضوا لكل أشكال وأنواع الإضطهاد والتنكيل والاعتقال، أو من هجروا قسرا، أو من ضاقت الأرض بهم؛ فاضطروا للمغادرة والرحيل في أصقاع الأرض الآربعة بحثا عن مكان آمن ولقمة عيش كريمة؛ لم تتوفر لمعظمهم؛ أو من مروا بالطورين معا، وهم كثيرون جدا.

منذ بداية الثورة السورية العظيمة وهناك من يردد: “لايوجد في سوريا معارضة قبل الثورة”، والبعض تحاشيا للجدل يقول “ليس هناك أحزاب أو قوى منظمة وفاعلة، إنما بعض الأفراد والشخصيات التي لاحول ولا قوة لها”. هذا الكلام في معظمه كان يصدر عن فئة بدأ تاريخها بمعارضة نظام الاستبداد والفساد؛ كما كان يقال في التوصيف العام بعد الثورة، ولم يعرف لها أي موقف أخلاقي في مواجهة النظام

وراح البعض حيث ما أمكنه، وجهارا نهارا، على الفضائيات والإعلام يردد مقولات ينفيها الواقع والحقيقة المجردة، وغرضها الوحيد هو إثبات الذات التي تحاول أن تصنع لنفسها، من وهم وخيال تاريخا؛ وموقفا ومجدا تتدعيه

أيا كان الآمر؛ فهناك مايستحق الوقوف عنده وإبداء الرأي فيه دفاعا عن التاريخ؛ وعن الشعب السوري برمته، وعن الثورة أيضا؛ وليس المعارضة السورية ورجالاتها

1- لا أعتقد أن هناك في علم التاريخ أحداث منفصلة تلد من فراغ ودون مقدمات، وإن كانت هي كذلك؛ فستصل إلى فراغ حتما؛ فالتاريخ البشري تراكمات وتفاعلات على مستويات عديدة، تؤدي إلى نتائج وتصنع تحولات، وتفضي إلى انعطافات كبرى في حركة التاريخ البشري ومجراه العام الممتد. من هنا؛ فالثورة السورية لم تكن حدثا عابرا ولم تندلع إلا بعد أن توفرت لها ما يسمى “اللحظة التاريخية” التي تكتمل فيها عوامل الثورة وأسبابها؛ وتتوفر عناصر معادلات كيميائية؛ بعضها غير مرئي. وهي هنا سلسلة طويلة من التضحيات والنضالات لقوى وأحزاب وشخصيات ساهمت إلى حد كبير في بلورة مفاهيم وتشكيل رؤى معينة دفعت كلها باتجاه الثورة وصبت في المحصلة العامة لصالح إحداث تحول تاريخي كبير لم تتضح نتائجه ولن تتضح إلا بعد حين من الدهر. وهذه النضالات في العلن والسر، أقضت مضاجع النظام عبر مراحل طويلة رغم قمعه وبطشه وعسفه، وظلت تقدم للعالم صورة مغايرة عما أراده النظام، وأوحى به للعالم عن إجماع شعبي كامل مؤيد له، وعن التفاف حول سياساته

النزعة التي برزت مع الثورة عدا عن كونها نزعة إقصائية وظالمة؛ هي جاهلة بتاريخ المعارضة التي لايستطيع أحد نكرانها؛ فرغم الفشل الذي منيت به جهود جبارة وتضحيات عظيمة إلا أن المحاولات ظلت مستمرة على الدوام؛ ولم تتوقف ليوم واحد. ولعل سنوات ربيع دمشق المؤودة؛ هي آخر تلك المحاولات ولكنها راكمت في الوعي والجدان والثقافة مفاهيم وطنية، وأرست لقيم هي غاية الثورة وأهدافها، وليست بعيدة عنها قيد أنملة، وتعتبر مقدمات موضوعية للثورة الحالية؛ ساهمت بها أحزاب وشخصيات؛ من اتجاهات سياسية مختلفة، ومجتمع مدني:..أدباء وفنانون وحقوقيون وصحفيون ورجالات فكر وثقافة؛(نساء ورجال وشباب..) وبعضهم للآن في داخل سوريا ولم يغادروها، ولم يو فوا حقهم؛ فهم بعيدون عن دائرة الضوء والإعلام.

2- من الخطأ الكبير أن يقال بعدم وجود معارضة لهذا النظام كما يسوق ويردد؛ لآن ذلك سيحيلنا إلى القول أن هذا الشعب العظيم الذي نرى معجزته في صناعة مستقبله، لم يكن إلا شعبا خانعا ذليلا، رضي الهوان وعاش في ظله عقودا طويلة؛ وهو ما يمثل اتهاما خطيرا ومعمما وافتراءاً على التاريخ

صحيح أن حال المعارضة لم يكن يسر أحدا، ولم تستطع أن توحد جهودها؛ وترتقي إلى مهامها المطلوبة منها (ولكل ذلك أسبابه الموضوعية والبنيوية). وحتى البعض منها لم يستطع إلتقاط “اللحظة التاريخية”؛ ويتفاعل معها، على الرغم من كل ماقدمت عبر تاريخها؛ إلا أنه لا يجوز بحال من الأحوال شطب تاريخ كامل لعشرات الآلاف من الرجال؛ والعديد من التجارب؛ التي كان ثمنها موتا وجوعا وحرمانا وتشريدا؛وهي تجارب لم تكتب بعد أو توثق. وذلك كله يوقعنا في فجوة تاريخية لم تعرفها الآمم والشعوب الحية؛ خصوصا أن البعض من هؤلاء قضوا دون أن يروا حلم حياتهم؛ وخلفوا وراءهم ندوبا لاتمحى؛ وليس لهم من ذنب في أن يؤخذوا بجريرة الآخرين الذين أخطأوا أو أضاعوا البوصلة وتاهت عنهم الرؤية الصائبة

في ماكان يدور من نقاشات عن حال المعارضة قبل الثورة. وكنت ممن يؤمنون ويعتقدون بضعف المعارضة وهزالها وحتى إختراقها من قبل النظام؛ ولكني كنت أردد دوما أن برنامج المعارضة؛ بعموميته وشموليته، يجسّد حلم كل السوريين وتوقهم لغدهم الذي انتظروه طويلا ، وربما لو كان هناك وحدة قياس تختبر مشاعر وقناعات العامة من الناس لاكتشفنا حجم المعارضة …وقاعدتها الشعبية الكبيرة؛ بمعنى ما.

إنّ التاريخ الوطني لسوريا في ظل عقود جكم العصابة يجب أن تعاد كتابته في سوريا المستقبل بدقة وأمانة؛ ليس بكونه تاريخ أفراد أو قوى؛ ولابعين طرف بذاته؛ ولا من خلفية ما؛ فذلك كله سيوقعنا في تشوهات تاريخية كبرى؛ لن تكون مفيدة للأجيال القادمة. وإن كتابة التاريخ مسألة غاية في التعقيد؛ بما تتطلبه من حيادية وعلمية، ويبقى المعيار الذي يجب أن يكتب به، ولا أظنه إلا من خلال رصد وتتبع حركة شعب ظل دائم البحث عن سبل وأشكال وأليّات لمواجهة نظام قل مثيله عبر التاريخ البشري، فشل أحيانا كثيرة، ونجح في بعض الآحايين؛ لكنّه ظل مصمما على الدوام على انتزاع إرادته وحريته.