دولة إسلامية ؟ نعم ، ولكن...
ناديا مظفر سلطان
صمت دهرا ونطق كفرا ، هذا الوصف يناسب تماما "العم سام" ، الذي أعلن على الملأ ، بعد عامين إلا القليل من حرب الإبادة التي يتعرض لها الشعب السوري ، أعلن: أن جبهة النصرة هي من قائمة الارهاب.
والحقيقة أن "العم سام" ، مافتئ يراقب أحداث الثورة السورية منذ اللحظة الأولى ، بكثير من الارتياح المشوب بشيء من القلق :ترى أهي رياح الإسلام تلك التي تهب من بلاد الشام ؟
بل هناك سؤال أهم : ترى أهي الوسطية الاسلامية تلك التي ستأتي من سورية ؟؟؟
حتى لا يتهم " العم " ، بأنه من زمرة الصم البكم ، فقد كان يرفع بين الحين والآخر صوته ببعض العبارات ، يندد ويشجب ويدين ...دون أن ينسى ، زرع الشكوك حول قيمة الثورة أنها مجرد حرب طائفية ، أو مشاكل أهلية ، أو شؤون عائلية!
اليوم وبعد الإنجاز الذي حققته الثورة ، تخلى العم عن عباراته تلك ، و أخذ يدق طبول الذعر مناديا : يا عالم الارهاب يقرع الباب. !!
فالإسلام والإرهاب ، في العرف العالمي اليوم ، هما وجهان لورقة واحدة أو ما يسمى "الاسلامُ فوبيا"
منذ الحادي عشر من أيلول و"العم سام " يجيد اللعب بتلك الورقة الرابحة ذات الوجهين (اسلام،إرهاب) ،محققا أرباحا جمة ، والحقيقة أنه ما كان بحاجة أن يبرزها طوال الشهور الماضية على مائدة الحدث الثوري السوري ، فقد كان يكاد يجزم بفشله ... و من كان يخطر بباله أن هذا الشعب الذي عاش في ظل الحكم المافيوي أربعين عاما ، سيصمد أمام نظام سفاح فاجر ، تؤازره قوى شر عالمية عظمى ، ويباركه صمت اسلامي مريب ، ويروج لبقائه جهود عربية متآمرة ؟
العالم اليوم يقف أمام انجاز الثورة ، متربصا ومترقبا للتحدي الأكبر ، ترى ما هو شكل الدولة التي ستحل محل العصابة الزائلة ؟
الكلمة الأولى التي نطقها الشعب وراح ضحيتها الألوف قتلا والملايين تشردا "حرية"
"سوريا بدا حرية " ،نشيد احتُزّت حنجرة القاشوش لأجله، وأزهقت آلاف الأرواح وهي تهتف به فهل سيتحقق هذا الحلم لشعب دفع ثمنا باهظا لأجل أن يصبح حقيقة؟ (صرح معاون وزير الخارجية الروسي إذا كان هذا الثمن للإطاحة ببشار أيها السوريون فليكن لكم ما أردتم) يا لشماتة الأنذال !!
هل سينال كل مواطن الحرية والكرامة في ظل الدولة المنشودة ؟
و ما هو شكل الدولة وما هي صفتها : علمانبة أم إسلامية؟
علمانية ؟ تتنكر لشعاراتها الاسلامية ،وتنسلخ عن جوهرها(الجمعة موعدا، والجامع ملتقى)، وتخون أرواح شهدائها الذين رضوا بالمقايضة فدفعوا عمرهم الغض ، لأجل جنة عرضها السموات والأرض ، هل يمكن أن تسرق الثورة من ودائعهم المؤتمنة ؟؟؟
ام اسلامية ترفع عصا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟
الصورة الاسلامية على منصة الحدث العالمي اليوم يتنازعها تياران : (عنف ، ولا عنف)
ولعل المشهد الغالب حتما هو ( العنف) ، عنف تلقائي ينقصه الدهاء والحكمة والجدال بالتي هي أحسن
وقبل كل شيء يفتقد "لباس العصر" ، الذي أقسم بقيمته رب العزة ، بكل ما يحمل اللفظ من دلالات ومعان قريبة وبعيدة
"والعصر إن الانسان لفي خسر"
العنف الذي يتلازم مع المفهوم العالمي عن الاسلام ، ما هو إلا ردود أفعال ، يذود بها المسلمون عن كتابهم المقدس ، وعن نبيهم المفدى ، وكذلك عن أراضيهم وأعراضهم ..بل وجودهم ، أناس تنهشهم الفاقة والظلم ونقص التعليم و الاحاطة بعلوم القرآن ، في ظل فساد الحاكم ،أو هيمنة المستعمر .
الإكراه أيضا في قائمة العنف ، وإن كان أخف وطأة كمفهوم ، ولكن هو أيضا من سمات الوجه الاسلامي المعروف اليوم لدى العالم . إكراه يعتمد على رفع عصا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في لباس المرأة ، و أداء الصلاة ...، وليس مثلا لطلب العلم للرجل والمرأة ، أو حق المرأة في المبايعة (دورها السياسي في الدولة ) أو لأداء الزكاة ...على الرغم أن الإسلام حض على ذلك كله .
كرد فعل لتيار العنف السائد هذا ظهر على الساحة تيار يدعو إلى ما يسمى ب ( اللا عنف) ، وهو لبوس "عالموضة " ينفى عن الاسلام الصبغة العنفية الملازمة له .
ففتحت له الأبواب والقلوب فهو الأمان والاطمئنان ، ليحبط كل عزيمة ترد العدوان ، أو تحقق العدل .
هذه النظرية المبتكرة ، مرجعيتها قصة ابني آدم كما وردت في القرآن "واتل عليهم نبأ ابني آدم إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأ قتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين ، لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين ، إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين ، فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين ،فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه قال يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين" المائدة
والحقيقة أن الثوار في سوريا لم يبسط أحدهم يده بالقتل لأخيه (الشبيح ،والقناص) !! ، بل إن الشهيد غياث مطر بسط يده بالماء والورود لعناصر الأمن والشبيحة ، ولكنه اعتقل و مات تحت التعذيب ، ثم مُثل بجثته وسُرقت أعضاؤه.
وخلال المظاهرات السلمية فتح المتظاهرون جميعا صدورهم الفتية العارية أمام المدافع ، وتلقوا برؤوسهم رصاص القناصة ، وصبروا على جحيم التعذيب في أقبية المعتقلات ، فلم ينج طفل ولا رضيع ولا امرأة ، حتى تم قتل الآلاف... خلال مدة ستة أشهر ...على أمل أن يصبح أخيهم وشريكهم في النسب الآدمي ، الدكتور بشار "من النادمين" ،ولكنه لم يفعل !.
ولعل المذيعة (باربرا وولترز) كانت أكثر إحاطة بعلوم القرآن من أصحاب النظرية اللا عنفية ، فسألته في مقابلة أجرتها ال إي بي سي نيوز
ألا تشعر بالذنب لقتلك شعبك ؟؟؟
وبإجابته أنه من يقتل شعبه مجنون (كريذي) ، كان خير من يصف نفسه ، وخير من يثبت من خلال اصراره على القتل دون ندم ، فشل النظرية اللاعنفية ، التي آمنت ببعض الكتاب وكفرت ببعض .
"أ فتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون "البقرة
وهكذا فالصورة المتوفرة اليوم عن الاسلام أمام الملأ ، صورة ممزقة لأشلاء وأعضاء ، لا تمت بصلة لحقيقة الإسلام وعظمته ، ووحدة بنائه.
"الذين جعلوا القرآن عضين"الحجر 91
الدولة المنشودة في سوريا والتي تستحقها بعد تضحيات أهلها الأسطورية ، هي "وسطية إسلامية " ، لا يمكن تحقيقها إلا بالإحاطة بعلوم القرآن كلها ،وبدراسة السيرة النبوية دراسة تحليلية متأنية ،و لاسيما في المراحل الأولى لدى تأسيس الدولة الاسلامية.
وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا " البقرة
أعجب ما قرأته في حياتي من تاريخ تأسيس الدول بعد نجاح الثورات ، هو ما جاء في صلح الحديبية ، عندما رضي الرسول صلى الله عليه وسلم فيها أنه من يأتيه مسلما يرده إلى قريش ، ومن يأتي قريشا مرتدا من أصحاب محمد ، فإن لقريش أن تقبله .
هي الحرية المطلقة للاختيار أولا "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"الكهف
وثانيا هي الثقة المطلقة في أصالة الجذوة التي زرعها الرسول عند بنائه لشخصية " الفرد" المسلم وعقيدته ، فهو الأساس المتين الذي سيقوم عليه بناء الدولة الاسلامية ، وليس العكس أبدا ... ليس دولة تقوم على الإكراه من أجل بناء عقيدة الفرد المسلم سواء كان ذكر وأنثى.
العقيدة لا تبنى بالإكراه.
إذ "لا إكراه في الدين "البقرة
وهكذا كانت نتيجة الصلح في موقعة الحديبية - الذي رأى فيه بعض المسلمون تهاونا – أن "ألقت قريش بفلزات أكبادها " ، فأسلم عمرو بن العاص ، وخالد بن الوليد ، وعثمان بن طلحة . كما انشقت النساء عن قريش ، فجئن مبايعات للرسول في استقلالية مطلقة تعلن دورهن الفعال في بناء الدولة .
وهكذا كانت "الحرية" هي اللبنة الأولى عند تأسيس "الدولة الإسلامية " .
وجذوة الإيمان قد توهجت في نفوس ثوار سوريا المسالمين منذ آذار العام الفائت فبذلوا حياتهم دون تردد . فكانت وصية هادي الجندي الحمصي - ابن الإثني وعشرين ربيعا –قبل أن يرديه رصاص العصابة (إن آلمكم خبر استشهادي فاعلموا أنني الآن قد نلت السعادة والحرية في آن معا ،وإنني أتمنى أن أعود للحياة لأرفع مجددا راية الحرية وأستشهد من جديد)
بهذه الجذوة المتقدة جابه الثوار سفاح الشام و عابدي الأصنام ، و بها باتوا يدقون اليوم أبواب النصر بإذن الله .
يقول اسحق رابين رئيس وزراء إسرائيل الراحل (أتحدى أي جهاز مخابرات في العالم أن يقاوم أناسا يريدون أن يموتوا )
ولكن المفهوم الاسلامي يجعل للموت والحياة اعتبارات مغايرة ، ف الله خلقهما للابتلاء والامتحان ومن ينجح فيه يفوز بالجنة ، وهكذا فالبعض يجد أن الحياة طويلة لمن يسعى إليها ، يروى أن عمير بن الحمام وهو يسمع الرسول ينادي :"قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض" ، لم يصبر حتى يأكل بضع تمرات كانت بيده . فقال لئن حييت حتى آكل تمراتي إنها لحياة طويلة .ثم ألقى بنفسه وسط الجموع حتى استشهد.
لقد أضرم شهداء الثورة بالأمس ، الجذوة "نواة الدولة الاسلامية " فليشمر دعاة الإسلام اليوم عن سواعدهم لاستلام "الأمانة " بوفاء ، والسير على طريق البناء ، لإشادة صرح الدولة الاسلامية الذي يبدأ ببناء الفرد المسلم أولا ، بناء يقوم على الاخلاص والمصداقية في نفوسهم ، لا على النفاق والانتهازية ، في نظريات مبتورة ، تؤمن ببعض الكتاب وتكفر ببعض ، ولتنهض "الأمة الوسط " من رقادها الطويل ، وتعود لاستلام زمام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دون إكراه ، بل بالحكمة والموعظة الحسنة .
إنها رياح الوسطية الإسلامية تهب من سورية ، وسينهض السوريون بإذن الله ، رغم الدماء ، ورغم ثقل (شماتة الأعداء وخذلان الأقرباء وافتراء الرؤساء) ،و بعد طول ظمأ للحرية والكرامة ، كي ينهلوا من بين الدم و الفرث
"لبنا خالصا سائغا للشاربين " النحل 66