أيمن الشراونة.. إرادة أسير تتحدى الموت
أديب بركات – هنا القدس
والعصر إن الأسير لفي خسر بمنطق العالَمين إلا أولئك الذين ثبتوا لأجل أرض سلبت منها حريتها وبذلوا في سبيل أن يحيا الإنسان بكرامة أرواحهم وقوة الأبدان وأياما طويلة بلا زاد يقوّي ثباتهم سوى زادِ أن يكونوا أحرارا .
لم يكن الاحتلال ليشبع من انتزاع سنوات عمره الطويلة وهو خلف أسوار السجن , بل إنه عاد ليجدد على الأهل أحزانهم ويسلبهم مهجة فؤادهم , ويذر "زهرة" والدة الأسير ( أيمن اسماعيل الشراونة ) في قاع من الحزن غير ممهد ولا موسّد , , كيف لا وابنها الأسير أيمن يكابد كل أشكال العناء , ويصارع بين الموت والحياة في سبيل تحقيق الغاية الأجمل .. الحرية .
أيمن الشروانة (36عاما ) جاوز الثمانين يوما في إضرابه المتواصل عن الطعام والذي ابتدأه بتاريخ 1\7\2012م رافضا كل محاولات الاحتلال في النيل من مطلبه حتى لو كان ثمن ذلك الشهادة , تقول والدته : " عندما أضع رأسي على وسادة النوم لا يلوح بخاطري إلا أيمن , وأتساءل في ساعات الليل الساكن , يا ولدي هل أنت جوعان ؟ أم أنت عطشان ؟ وكيف هي صحتك ؟ هل نسيت طعم الطعام وألوانه وأصنافه ؟ هل تشتاق؟ ثم إن مشاعر الخوف والحب تستحيل دموعا كالنهر ينساب من عينيّ حتى أغفوا ولا أعرف كيف غفوت بعد سهر يصحبني فيه قلق لا يرحم " .
تحكي تجاعيد أم أيمن حكايات ألم طال وتضيف : " أمنيتي أن أحظى بساعة أزور فيها أيمن ثم أموت , فانا تاركة روحي خلف قضبان السجن تنازع الموت وينازعها " .
الاعتقال الأول ووجع المعاناة
قضى أيمن ( أبو اسماعيل) عشر سنوات في سجنته الأولى كانت بتاريخ 10\5\2002م , يقول شقيقه (سلام) : " كان أيمن يعمل في محل في بلدتنا خاراس , ثم ما لبث أن ترك العمل لأسباب أمنية , طورد بعدها لمدة عاميْن لقوات الاحتلال الإسرائيلي , ومرت على العائلة صور من المعاناة والتشتيت والترهيب لا يعلمها كثيرون" .
وأكمل سلام قائلا : " بعد فترة المطاردة نفذ أخي عملية في مدينة بئر السبع أصيب جرائها 24 اسرائيليا بجروح حسب مصادر الاحتلال , وفي طريق عودته تم إلقاء القبض عليه بعد رصده ثم حُكِم عليه بالسجن لمدة 38 عاما " .
" كل الأعراف الدولية وقوانين الإنسان تتيح للأهل زيارة ذويهم بكل سلام إلا في فلسطين , فالزيارة وإن تمت بعد سنوات انقطاع لا تتم إلا مغمسة بالكد وألوان النَصَب " هكذا بدأت ( نبيلة عبد الرحمن ) زوجة الأسير أيمن حديثها حول ظروف زيارتهم لأيمن طيلة سنوات الاعتقال .
وأكملت الزوجة تصف الألم : " لم أتمكن من رؤية زوجي في سجنه الأول إلا بعد سبع سنوات , وكانوا لا يسمحون إلا بزيارة واحدة لمدة أربعين دقيقة كل عام ومن وراء الزجاج , ولم أره في 10 سنوات غير أربع مرات , وكنت في يوم الزيارة أخرج من منزلي الساعة الثانية بعد منتصف الليل لأقف على حاجز الانتظار وأسير في رحلة كلها عذابات وخوف, حتى أستطيع زيارة أيمن دقائق لا تغني عن اشتياق " .
صفعة مؤلمة.. تسلب فرحة لم تتم
خرج أيمن بتاريخ 18\10\2011م بعد عشر سنوات أمضاها في سجنه , على إثر صفقة وفاء الأحرار , وكسر القيد بإرادته وعاد غانما إلى حضن قريته " خاراس" وأهله وذويه في محافظة الخليل وامتلأت أركان البيت يُمنا وسرورا .
لكن الفرحة مازجها ألم اعتادت عليه عائلة الشراونة , فبعد مضي أقل من ثلاثة شهور على الإفراج عن أيمن , وبتاريخ 31\1\2012م كانت ليلة سوادها حالك , حاصرت قوات الاحتلال المدججة بالسلاح منزل الأسير وطلبت ممن بداخله الخروج .
روت زوجة أيمن ما حدث قائلة : " كنا في المنزل , وكان الجو باردا ممطرا , أتى ابني وأخبرنا أن هنالك من يرجم حجارة على البيت , فإذا بهم قوات الاحتلال يحاصرون المنزل , أخرجوني مع الأولاد في جو الشتاء وصلبونا على الحائط , ثم طلبوا أيمن مع ابنه الكبير بعد تفتيش همجي للمنزل " .
أكمل الابن الأكبر إسماعيل (18 عاما ) حديث والدته : " صلبوني مع والدي على جدار البيت مدة نصف ساعة , ثم أمروا أمي وأخوتي بالدخول , وبعدها أدخلوني أنا ووضعوا أبي في غرفة لوحده ,ثم صحبوني لتفتيش الجبل المحيط بالمنزل وما كان قصدهم إلا التخريب والإزعاج , وبعد الانتهاء اعتقلوا والدي وعلامات الدهشة مرسومة على ملامح أمي وإخوتي "
ثم عقبت زوجة أيمن : " قلت للضابط المسؤول : لم يمكث معنا خارج السجن أكثر من شهرين بعد , قال لي مستهزئا دون مراعاة لشعور إنسان : بل مضى على الإفراج عنه ثلاثة شهور وعشرا, وأضاف : "إن هذه جولة تفقدية للمنطقة وليس اعتقال لأيمن , فاطمئننا لحديثه , لكن سرعان ما بددّ المحتل آمالنا وآمال أيمن باعتقاله من بين أبنائه الصغار وأمام عيوننا والحسرة تأكل قلوبنا " .
طريق الإضراب المحفوفة بالموت
بعد اعتقال أيمن اعتقالا جائرا قرر الأسير خوض معركة الأمعاء الخاوية التي ابتدأها ثلة من الأسرى في محاولة لتنديد ممارسات مخابرات الاحتلال , وضعوا أرواحهم أمام أكفهم لينالوا حريتهم المسلوبة .
" لم يرتوي نظري من رؤيته ولا التمتع بجلساته وضحكاته " بهذه الكلمات عادت (زهرة) والدة الأسير تقص علينا شعور قلب الأم حين غافلها ظلم السجان واختطف من أمام مقلتيْها فلذة كبدها . ثم ( إسلام) ابنة أيمن تقاطع جدتها وتقول : " عندما تحدثني صديقاتي بأنهن يخرجن مع آبائهن أشعر بالغيرة وأحزن من داخلي على حال أبي الذي يعاني سَكَرَ الموت " .
( جهاد ) شقيق أيمن يصف أيمن حين رآه في المحكمة بعد مضي أكثر من شهريْن على الإضراب عن الطعام , يقول :" آخر مرة رأيت فيها أيمن كانت بتاريخ 6\9 في المحكمة , أحضروه بعربة متنقلة , كان وضعه الصحيّ سيء , فبعض أطرافه توقفت عن الحركة , ومشاكل في الكلى والنظر بنسب كبيرة وآلام بالظهر تزداد ".
حبس دمعه وقال : " بعدما رأيته بهذه الحالة لم أستطع إكمال المحكمة وشعرت بالاختناق , خرجت لدقائق ثم عدت , كان شعور لا يوصف , لم أكن أتمنى أن أرى أخي بهذه الحالة " .
تلك قصة أسير أمضى زهرة شبابه في سجنه , ولا زالت إرادته تفل الحديد , لم تستطع آلة الاحتلال وسياساته القمعية بأن تخترق حصون عليائه , لطالما حاولوا مساومته على حياته مقابل الخضوع وهو يحتضر! لكنه كان يجيب القضاة والسجانين في كل مرة : " أعدكم أنني سأخرج رغم أنوفكم , عزيزا يعانق فضاء حريته أو شهيدا يرقى في علياء ربه , ثم أنتم وقد قتلتم في نفوسكم الإنسانية تعودون أدراجكم خائبين " .