تعليقات على بيان فضيلة الشيخ النابلسي

تعليقات على بيان فضيلة الشيخ النابلسي

د. علي الهنداوي

الشيخ الجليل الداعية العلامة فضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي

وبعد أن رجوناه في مناسبات عدَّة كما رجاه أناس كثيرون : يخرج عن صمته في بيان مصور يوضح فيه موقفه من الثورة السورية .

ولا أظن أن صدر الشيخ الواسع يضيق بملاحظات على بيانه الذي انتظرناه طويلاً :

- لا نود من فضيلة الشيخ أن تكون كلمته دفاعًا عن موقفه فيما مضى ولا تبريرًا للصمت الطويل ، فهذا ليس هو المطلوب على المستويين الشرعي والشعبي ، فالشرع يطالبنا بالعمل وأداء الأمانة التي حُمِّلها العلماء والدعاة والتي بها تبوؤا المكانة بين الناس ، وعلى قدرها تكون المسؤولية والواجبات ، والشعب ينتظر منكم العملَ أيضًا والتوجيهَ واستنهاض الهمم لمن قعد! وهذا التبرير لن يزيد الناس إلا انتقادًا .

كم كنا نرجو أن يكون الشيخُ شيخَ الثورة وإمامَها وثائرها باتزانه المعروف وعلمه المعهود ! فاحتل المكانَ أناسٌ غيره ، واشتهروا ولم يكونوا من المعروفين ، وزاغ الركب ذات اليمين وذات الشمال ! هل تظنون يا سيدي أن هذا الأمر أمر يسير وحمل خفيف !

- برَّرتم في بيانكم أنكم أدليتم بالتصريحات والبيانات في بدايات الثورة ، وأقول : نعم كان ذلك بعد خمسة أشهر ، وكانت بياناتٍ يظهر فيها موقفكم أنكم ضد القتل والظلم ، والكل يقول ذلك، ولكن الناس كانت تطالبكم بأكثر من ذلك - وما زالت - وهي تنتظر منكم الآن اللحاق بالركب.

- ثم تبرير سكوت العلماء بأنهم كانوا ينتظرون وقوع التكامل بين أطياف الشعب كافة حتى إذا وقع ذلك التكامل والإجماع تحركوا : هذا تبرير مجانب للصواب ، فالعلماء الربانيون هم الذين يتحملون المسؤولية أولاً ، وهم الذين يقودون الناس ويستنهضون هممهم ليُجمعوا أمرَهم وليتكاملوا .

ثم إن الفئة الصامتة كانت تقول هؤلاء هم العلماء صامتون !! وهنا يقع الدَّوْر : العلماء ينتظرون الإجماع والتكامل من فئات الشعب ، والفئات الصامتة تنتظر العلماء ليتكلموا ، فأيهما يجيء أولاً !

- ثم إنكم - سيدي الشيخ - بعد قليل في كلمتكم وجهتم النقد اللاذع إلى شريحة كبيرة من الشعب السوري التي كانت منشغلة في الأسواق والمتنزهات وشكوتم وقوفهم على الحياد السلبي ، وكنتم تَعْنون كثيرًا من أهل دمشق وحلب ، وكنتم من ضمن أولئك الذين وقفوا على الحياد السلبي .

إن مشايخنا الكرام الذين وُضعوا فجأة أمام هذا الحمل الثقيل أصابتهم صدمةٌ كبيرة ، ماذا يفعلون ؟ هل يحمِّسون الناس ويذهبُ منهم قتلى وصرعى ومعتقلون ، أم يصمتون خوفًا من أن يعلق في ذمتهم دمٌ أو حرمة ؟! ولم يكونوا يعلمون أنهم بذلك أطالوا من عمر الصراع وزادوا من التكاليف : أنفسًا وأموالاً وحرماتٍ ...

ولكن ما يلفت الانتباه هو قولكم : (وعندما لا تجد الإجماع في أمر من هذا النوع تجد أن الصمت أولى ، وكل هذا إلى فترة ما قبل شهرين ، أما اليوم فيبدو أن الأمر قد تغير، وبدا أن الإجماع قد تحقق نوعًا وكمًّا ، وهذا يدفعني إلى أن أمارس دوري المطلوب وفق رؤية شرعية منهجية).

وما حدث قبل شهرين هو وصول الأحداث والثورة إلى قلب دمشق ، وممارسة النظام المجرم ما مارسه فيما سواها من المدن عندما استفرد بأخواتها واحدة واحدة !

يا سيدي الشيخ لا نريدكم شيخًا لدمشق فقط ، تشعرون بالمصاب عندما تصاب ، وتنأون طالما لم يمسها سوء مباشر من النظام ( كما أسلفتم في كلمتكم ) .

فأهل حمص الذين كانوا يقتَّلون ويهجَّرون هم أهلك وعشيرتك وهم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، ومثلهم أهل درعا وإدلب وحماة ، وأهل تلك المدن كاملو الأهلية والإنسانية كما هم أهل دمشق وحلب .

- ومن الملاحظات أن الشيخ قال : ( كنت أتحمل في اليوم الواحد عدة آراء متباينة بين محذر ومؤيد ومعارض وحيادي ، وكل ذلك لم يغير رأيي في النظام المستبد ، ولكنها بالتأكيد أضعفت فيّ وفي غيري الإقدام) ، فالشيخ بشَرٌ يتأثر بمن حوله ، ومِن هنا فإن كثيرًا من مواقف بعض المشايخ تتأثر بآراء وأفكار بطانته وجُلَسائه ، ومن هنا على الشيخ أن يختار جلساءه ومستشاريه ليكونوا أمناء في نصحه وليكونوا عونًا له على الخير .

- وأخيرًا يا ليت الشيخ الجليل لم يشبّه الموت الحاصل في سوريا بالموت كعُقَاص الغنم ، لا يدري القاتل فيم قَتل ، ولا المقتول فيم قُتل ، وما ورد في ذلك في الحديث الشريف لا يُنزّل بحال على واقع الأمر في سوريا ، فإن ذلك القتل يحدث في فتنة لا يُدرَى فيها الحق من الباطل ولا الصواب من الخطأ ، أما القتل الحاصل في سوريا فإنه ظلم واضح مستبين ، والقاتل يَعلم فيمَ يَقتل ، والمقتول يَعلم فيم قُتل ! وقد قدَّمتم في كلامكم أن الناس تُقتل لا لذنبٍ اقترفوه ولا لقولٍ قالوه بل لاختلاف في الانتماء التاريخي ، وتعنون بذلك الحقد الطائفي النصيري على أهل السنة . فالحق هنا أبلج والباطل لَجْلَج .

ختامًا نرجوا من فضيلة الشيخ أن يكرر ظهورَه الإعلامي بمواقف جريئةٍ واضحة ، وأن يعوِّض ما فات بتبوء مكانه اللائق في مقدمة هذه الثورة المباركة ، فإنا والله نحب له ذلك الخير.