الاقتصاد السوري بعد عام ونصف من انتفاضة الشعب السوري

الاقتصاد السوري بعد عام ونصف

من انتفاضة الشعب السوري

سمير سعيفان

يفاخر النظام السوري بأن توقعات انهيار الاقتصاد السوري لم تتحقق بعد 16 شهر من الانتفاضة الشعبية. يقدم النظام الحفاظ على سعر صرف لليرة السورية دون ال 70 ليرة سورية للدولار الأمريكي، بعد أن كان نحو 46.5 في آذار 2011، أي بانخفاض يقدر بنحو 50% فقط عن سعر صرف آذار، يقدمه دليل على عدم انهيار النظام الاقتصادي، وعلى نجاح النظام في درء هذا الانهيار.

في الواقع، يجب أن نفرق بين مسألة القدرة على تثبيت سعر صرف الليرة السورية، و بأي ثم يتم هذا التثبيت؛ وبين أداء الاقتصاد السوري، وما هو تأثير هذا الوضع الاقتصادي على ثبات النظام وعلى قدرته على استمرار القبض على مقاليد الأمور في سورية التي يقبض عليها منذ نصف قرن تقريباً، وما هي توقعات تطور هذا الوضع في المستقبل القريب والمتوسط.

1- كيف تحقق التثبيت النسبي لسعر صرف الليرة السورية حتى الآن:

في الواقع يتحدد سعر صرف الليرة السورية مقابل العملات الصعبة كحصيلة لتوازن أو اختلال عرض العملات الصعبة والطلب عليها مقابل الليرة السورية في السوق السورية (حكومية وخاصة).

أ‌-     في جانب عرض العملات الصعبة، فقد تراجع عرضها في السوق السورية، سواء تراجع العرض الذي كان يقدم عادة من قبل الدولة، أو تراجع عرضها في السوق غير الحكومية. لقد تراجع العرض بالتدريج وبشكل متصاعد منذ آذار 2011. تزايد التراجع بشكل خاص عام 2012 بسبب عدد من العوامل:

-         تراجع السياحة، وبالتالي تراجع إنفاق السواح والذي كان يدر دخلاً، (بحسب نشرة المصرف المركزي - ميزان المدفوعات) يقدر بنحو 3.7 مليار عام 2009.

-         تراجع تحويلات السوريين العاملين في الخارج والتي كانت تقدر بنحو 1.2 مليار لعام 2009 حسب البنك المركزي، والتي نقدرها بنحو 3 مليار دولار سنوياً[1]، ونقدر التراجع بنحو 2.5 مليار دولار سنوياً.

-         تراجع ايرادات صادرات النفط التي كانت تبلغ نحو 150 الف برميل يومياً إضافة لبعض المشتقات (صادرات حكومية حصراً)، وبلغت قيمتها عام 2010 نحو 5.5 مليار دولار حسب إحصاءات التجارة الخارجية الرسمية السورية. ولا يتوفر إحصاءات عن تراجع الصادرات والمستوردات لعام 2012 بعد. وتسعى سورية بمساعدة روسيا لمبادلة النفط الخام بالمشتقات الروسية. ولكن النقص الحاد للمشتقات في السوق، رغم تراجع الطلب، يظهر عدم قدرة الدولة على التصدير والاستيراد. ونقدر تراجع عائدات الحكومة من واردات تصدير النفط لعام 2012 بنحو 4 مليار دولار أمريكي.

-         تراجع تحويلات المستثمرين سواء كانوا مستثمرين سوريين أو أجانب. وقد كانت تقدر بنحو 1.85 مليار دولار عام 2010، بحسب تقرير الاستثمار العالمي لمنظمة الأونكتاد. بينما لم يدخل إلى سورية عام 2012 اي استثمار أجنبي.

1.2- في جانب الطلب على العملات الصعبة:

منذ آذار 2012 تزايد طلب الفئات الغنية على الدولار من أجل تحويل مدخراتها إلى الخارج (دبي – بيروت – تركيا – أوروبا)، خوفاً من تدهور سعر صرف العملة السورية، وقدر تقرير معهد التمويل الدولي الصادر في آب 2012، الأموال التي غادرات سورية بنحو 10.5 مليار دولار منذ آذار 2012.

يقدر الادخار في الاقتصاد السوري في السنوات الأخيرة بنحو 25% أي نحو 15 مليار دولار. ونقدر أن ما يقارب نصف هذا المبلغ يغادر سورية في هذه الحال بسبب توقف الاستثمار بعد مواجهة النظام للانتفاضة السورية بالعنف. يضاف لها جزء من رؤوس الأموال التشغيلية التي تفيض عن حاجة الشركات الخاصة بسبب انكماش أعمال معظمها. وبالتالي فإن رقم 10.5 مليار هو أقل من الواقع.

عدا هذا العامل فإن مجموعة من العوامل قد أدت إلى تراجع الطلب على العملات الصعبة مثل:

-         تراجع المستوردات التي تلبي احتياجات الاستثمار ككل، سواء كان الاستثمار الحكومي أو استثمار القطاع الخاص المحلي أو الاستثمار الخاص الأجنبي. ويقدر تراجع الاستثمار بنسبة تعادل 15- 20% من الناتج المحلي الإجمالي عن عام  2010 والذي قدر ب 60 مليار دولار أمريكي بالأسعار الجارية. هذا أدى لتراجع الطلب على الدولار والعملات الصعبة عموماً. نقدر التراجع بنحو 30% من قيمة الاستثمار الكلي، أي نحو 3-4 مليار دولار أمركي سنوياً.

-         تراجع الطلب الداخلي لعدة أسباب هي:

o       تراجع الاستهلاك العائلي بسبب تقلص إنفاق العائلات السورية واقتصاره على الضروريات، وتراجع دخول الفئات محدودة الدخل وهي الفئات الأوسع،

o       تراجع الطلب الحكومي كنتيجة لتراجع إيرادات الحكومة،

o       تراجع طلب القطاع الخاص على استيراد المواد الأولية والخدمات كنتيجة لتراجع الطلب الداخلي وانكماش السوق إضافة لإغلاق عدد كبير من ورش الإنتاج إضافة لعدد كبير من المصانع بسبب الحل الأمني.

-         انعكس تراجع الإنتاج وتراجع الطلب وتراجع الاستثمار على تراجع المستوردات، عدا مستوردات السلاح والمشتقات النفطية من روسيا وإيران. وقد كانت مستوردات الحكومة عام 2010 نحو 4.4 مليار دولار. (منها مشتقات نفطية بنحو 3.25 مليار دولار تشمل 330 مليون دولار مستوردات غاز البوتان لكمية 431 ألف طن.). يقدر تراجع مستوردات الحكومة بنحو 3 مليار دولار عام 2012. تراجعت مستوردات الحكومة بشكل خاص بسبب تراجع قدرتها على تمويل مستورداتها بعد تراجع وارداتها، وبسبب تراجع استثماراتها إلى الصفر تقريباً، فتراجع إنفاقها على مستوردات مستلزمات إنتاج قطاعها العام ومستوردات مستلزمات قطاعها الخدمي مثل قطاع توليد الكهرباء وإنتاج الماء وقطاع التعليم والصحة ومستلزمات قطاع الري ومستلزمات قطاعها الإداري (مثل السيارات والتجهيزات ومستلزمات المباني، قطع الغيار، مستلزمات التشعيل ..الخ). أما مستوردات القطاع الخاص فيقدر أنها تراجعت بنحو 30- 40% عن مستواها عام 2010 وقد كانت قيمتها في ذاك العام نحو 13 مليار دولار.

-         تراجع الطلب على الدولار الناجم عن تراجع الطلب على الخدمات (نقل – مقاولات – التأمين - المعلوماتية - الترفيه – خدمات أعمال وغيرها).

-         تراجع الطلب على الدولار الناجم عن تراجع طلب القطاع الأهلي للسفر للخارج سواء كان للأعمال أو السياحة أو الطبابة أو الدراسة. ولا يتوفر إحصاءات عنها. وبحسب نشرة المصرف المركزي فإن الطلب على السفر قدر بنحو 882 مليون دولار عام 2009. ولا يتوفر أرقام عن الطلب على الدولار لغايات أخرى.

هذا التقليص للطلب، أدى ويؤدي لتراجع الطلب على العملات الصعبة. وقلص بالمقابل الاحتياج إليها إلى الحدود الدنيا، مما جعل الاحتياطي الذي لدى النظام، والإيرادات المحدودة التي تأتي للنظام تكفي لأن تحقق التوازن، وقد استعمل النظام الاحتياطي من العملات الصعبة، والذي كان يقدر بنحو  8 مليارات دولار[2] في آذار 2011، استعملها النظام بتقنين لتغطية فارق الطلب على الدولار. كما استعمل النظام الاحتياطيات التي كانت توضع في حسابات سرية خاصة، لم يكن يعلن عنها، وكانت تمول سابقاً من عدة مصادر محلية (جزء من وفورات الدولة في السنوات السابقة، ومساعدات خارجية من الدول الخليجية مثلاً). كما جاءت بعض المساعدات  من إيران وتقدر بنحو ملياري دولار حسب ما افادت تقارير دولية إضافة إلى فتح أسواق إيران أمام المنتجات السورية. وقد أصدر الإمام الخامنئي فتوى حول "وجوب دعم المنتجات السورية". وقد صرح تجار حلبيون أن مرابحهم أثناء الأشهر الأولى من سنة 2012 قد فاقت السنوات السابقة بفضل التسهيلات الجمركية الإيرانية المقدمة للمستوردات السورية. كما قام نظام المالكي، الذي كان يعادي نظام دمشق، بفتح السوق العراقية أمام الاستيراد من سورية، وشجع هذا الاستيراد كي يزيد من إيرادات العملة الصعبة للسوق السورية. هذا يفسر جزئياً تأخر انضمام حلب ودمشق للثورة السورية. كما لجأ النظام السوري للسحب على المكشوف من إيداعات البنوك لدى المصرف المركزي ولا تعرف المبالغ التي سحبت بسبب التعتيم الذي اعتاده النظام السوري، وازدياد شدة هذا التعتيم بعد بدء الانتفاضة السورية. ورغم ذلك فقد تآكل احتياطي العملات الصعبة، بحسب تقرير معهد التمويل الدولي المذكور من قبل، ويتوقع أن يصل إلى 1.1 مليار دولار أمريكي نهاية هذا العام، وهذا يكفي الحكومة كي تغطي الفارق بين عرض الدولار والطلب عليه لمدة لا تزيد عن شهرين من الزمن، وهذا يهدد بإفلاس مالي لنظام الأسد.

1.3- الاستنتاج:

إذاً، تراجع عرض الدولار في السوق السورية (حكومة وخاص) ولكن وفي نفس الوقت تراجع الطلب على الدولار. هذا جعل العجز في السوق غير كبير مما مكن الحكومة من إدارة العرض والطلب بشكل يحافظ على ثبات نسبي لسعر صرف الليرة السورية مقابل العملات الأجنبية، وبقي التراجع في سعر صرف الليرة بحدود 50% أي بين 46.5 ليروة سورية للدولار الأمركي في آذار 2011 وبين 68 ليرة سورية مطلع آب 2012.

لتحقيق ثبات سعر الصرف، فقد استعمل النظام احتياطي الدولة والاحتياطيات الأخرى التي لديه. وهو اليوم يكاد أن يفلس مالياً، بعد أن أفلس سياسياً. وإذا فقد قدرته على تغطية الفجوة بين العرض والطلب فإن سعر صرف الليرة مقابل العملات الصعبة ستهبط بقدر مستوى هبوط قدرة النظام على تغطية الفجوة. سيؤدي تدهور سعر صرف الليرة السورية، في حال حدوثه، إلى ارتفاع في الأسعار معادل تقريباً لهبوط أسعار صرف الليرة السورية. وسيضاف هذا إلى الأعباء الكثيرة على كاهل المواطنين، ولكنه سيعني بالدرجة الأولى تدهور قدرة النظام على الحفاظ على سعر الصرف، وتدهور قدرته على الإنفاق على مؤسساته و على استرضاء الفئات التي يستهدف إرضاءها.

2- أداء الاقتصاد السوري:

إن قدرة النظام على الحفاظ على وقف تدهور سعر صرف الليرة مقابل العملات الصعبة لا يعني أن الأداء الاقتصادي لا يتدهور، إذ أن كافة المؤشرات الاقتصادية تشير إلى تدهور أوضاع الاقتصاد السوري التي تترك آثارها اليوم، وستترك آثارها على السنوات القادمة، خاصة وأن استعمال النظام الآن لكافة احتياطيات الدولة، إنما يهدد الدولة بالإفلاس ويهدد مستقبل الاقتصاد السوري وسيترك آثاره حتى بعد رحيل النظام.

لنتصور الوضع في سورية اليوم واثره على الاقتصاد. بلاد تجتاحها التظاهرات من أقصاها إلى اقصاها، عمليات عسكرية عنيفة يقوم بها النظام، الناس يخشون الخروج من بيوتهم. أكبر مدينتين في سوريا، دمشق وحلب تدخلان على خط الانتفاضة، والنظام يوجه لهما آلة قمعه القاسية، أصبح الناس لا يخرجون من بيوتهم إلا للضرورة، ويمكن أن نتصور هذا الوضع مع انقطاع الكهرباء لساعات طويلة ونقص المشتقات النفطية. بنفس الوثيرة تشهد غالبية مناطق سورية صداماً عنيفاً بين الجيش الحر وجيش النظام، في درعا، وريف دمشق، وحمص وحماه وإدلب وحلب ودير الزور إضافة لعشرات البلدات التي يوجه لها النظام آلة قمعه القاسية. وقد أدى قصف المدن والبلدات إلى هجرة أكثر من مليونين ونصف من السكان إلى مناطق بعيداً عن بيوتهم ومزارعهم ومشاغلهم وأماكن عملهم خارجين من عملية الإنتاج. يضاف لهم نحو ربع مليون لجأوا إلى بلدان مجاورة. الطبقات الميسورة غادرت إلى دبي وتركيا وأوروبا بيروت التي تعج اليوم بالسوريين الميسورين،

إن هذا الوضع يوقف عجلة الإنتاج. وهذا له آثاره البعيدة، وليس آثار آنية فقط. إن نظرة فاحصة لأوضاع القطاعات الاقتصادية تشير إلى تسارع تدهور الوضع الاقتصادي مع إصرار النظام على المضي في حله الأمني، وعلى استعمال الأسلحة الثقيلة وتعامله مع مناطق المتظاهرين والجيش الحر والمناطق التي تؤويه "كعدو يجب إبادته" مطبقاً مبدأ العقاب الجماعي بالقصف العشوائي الذي يطال جميع أرواح وبيوت سكان المنطقة التي يتواجد فيها الجيش الحر وفق مبدأ "إن أطلقت رصاصة اطلقنا صاروخ من طائرة و قذيفة من مدفع وأخرى من دبابة". هذا الوضع هو  وصفة للخراب الاقتصادي.

ضمن هذه الأوضاع تراجعت السياحة الخارجية والداخلية إلى حدود الصفر وكانت تشكل نحو 11% من الناتج، والصناعة الاستخراجية تراجعت بنحو 40% وقد كانت تشكل نحو 15% من الناتج وتراجع إنتاج الصناعة التحويلية بشكل كبير بسبب إغلاق المصانع أو عملها بجزء من طاقتها الإنتاجية وإغلاق عشرات آلاف الورش. وكانت الصناعة تشكل نحو 10% من الناتج. وتراجع الإنتاج الزراعي، بسبب العمليات العسكرية التي تشمل سورية من أقصاها إلى أقصاها، وبسبب تهجير جزء غير قليل من السكان من مناطقهم بسبب القمع، وبسبب صعوبة الانتقال للعمل في الأراضي. إضافة إلى ارتفاع تكاليف مستلزمات الإنتاج وضيق السوق. وكانت الزراعة تشكل نحو 20% من الناتج المحلي الإجمالي. مثلاً في منطقة الغاب، وهي واحدة من أهم المناطق الزراعية في سورية، لم يستطع المزارعون فيها زراعة موسمين هامين هما القطن والشوندر السكري، كما أن زراعة الخضراوات والمزروعات الأخرى قد تراجعت بشكل كبير بسبب العمليات العسكرية وعدم قدرة المزارعين على الوصول إلى أراضيهم. حتى قطاع النقل والمواصلات تأثر هو الآخر بشكل كبير، وكان يشكل نحو 10% من الناتج المحل الإجمالي. فقد تراجع النقل الداخلي البري للبضائع والأشخاص بشكل كبير جداً كنتيجة لتراجع الإنتاج وصعوبة التنقل ومخاطرة. كما تراجع الشحن البحري بتراجع الصادرات والمستوردات، وتوقف النقل العابر لسورية "الترانزيت". كما أصبحت خطوط الطيران التي تسير رحلاتها إلى دمشق معدودة جداً وتراجعت أعداد المسافرين بشكل كبير. ونتيجة أحداث حلب الأخيرة فقد توقف مطارها عن العمل كلياً.

نتيجة لكل هذا تتراجع تجارة الجملة وتجارة المفرق، ويتراجع رقم أعمال القطاع المصرفي ورقم أعمال قطاع التأمين، وتتراجع أعمال العيادات الخاصة، ويكاد غالبية المحامين يغلقون مكاتبهم وتراجع نشاط المشافي والعيادات، عدا النشاط الطبي لمعالجة الجرحى الذين تزايدت أعدادهم بشكل كبير بسبب الحل الأمني. وعموماً تراجعت نشاطات جميع الأعمال في جميع القطاعات الاقتصادية.

من مؤشرات تدهور الوضع الاقتصادي تدهور تداولات سوق دمشق للأوراق المالية وهي سوق فتية بدأت عام 2009. فقد بلغت قيمة التداولات يوم الإثنين 6 آب 2012 نحو 125000 ليرة سورية، أي نحو 1838 دولار فقط، أما يوم الثلاثاء 7 آب فقد بلغ حجم التداول 19000 ليرة سورية، أي نحو 280 دولار أمريكي فقن وهذا يقرب من الصفر. وقد تجاوزت خسارة بورصة دمشق 61.6 مليار ليرة سورية على أساس القيمة السوقية لجميع الشركات المدرجة بالسوق، بعد انتهاء تداولات عام 2011 مع قيمة سوقية تجاوزت 82.69 مليار ليرة، مقارنة مع 144.3 مليار ليرة في نهاية 2010. وهذه الخسارات هي مقدرة بالليرات السورية، وإذا أخذنا هبوط قيمة الليرة السورية بنحو 50% بين آذار 2011 و آب 2012 فإن الخسائر تكون مضاعفة.

حول نشاط القطاع المصرفي، فقد صرح رياض سلامة حاكم مصرف لبنان بأن أعمال المصارف اللبنانية الخاصة في سوريا تراجعت بنحو 40% منذ بدء الأزمة، وقد كانت ما قبل الأزمة (منتصف مارس 2011) تمثل نحو 60% من إجمالي الأصول لدى المصارف الخاصة و70% من الودائع و57% من إجمالي القروض.

بحسب تقرير لهيئة الأوراق والأسواق المالية عن نتائج أعمال المصارف السورية الخاصة في النصف الأول من العام الجاري 2012، فقد تكبد نحو 11 مصرفاً خاصاً في سوريا خسائر بلغت أكثر من ملياري ليرة سورية في النصف الأول من العام الجاري 2012. وقد تصدر المصارف الخاسرة، بنك بيبلوس، ثم المصرف الدولي للتجارة والتمويل ثم بنك سورية والمهجر ثم فرنسبنك ثم بنك الأردن  فبنك قطر الوطني- سورية.

3- التكاليف الحالية:

حتى لو استطاع النظام الحفاظ على سعر صرف اليرة السورية حتى الآن، فإن هذا قد تم بهذه التكاليف الباهظة التي ذكرناها، كما أنه استنزف كافة الاحتياطيات مما يهدد مستقبل البلاد بالإفلاس. علاوة على ذلك، فقد سعى النظام لأن يستدين من روسيا والصين نحو 20 مليار دولار[3]. ولكن هاتان الدولتان يمكن أن تقدما دعم سياسي وليس مالي، أي دعم لا يكلفهما شيء، ولحسن الحظ أنهما لم تقبلا ذلك، وإذا كانت إيران هي النظام الوحيد الذي يمكن أن يدعمه، فإن إيران اليوم وهي الأخرى تحت الحصار وبحاجة لمن يدعمها.

أدى الحل الأمني إلى نقص المواد في السوق. بدءاً من نقص مستلزمات الإنتاج للصناعة والزرعة وارتفاع تكاليفها، ونقص مواد استهلاكية أساسية مثل الأدوية بسبب نقص استيراد المواد الفعالة، وحتى نقص الخبز والبنزين والمازوت والغاز المنزلي الذي يستعمل للطبخ، وتحول الناس لاستعمال الكهرباء للطهي، ولكن الكهرباء لا تأتي، فعاد الناس لاستعمال الحطبن كما كان الحال قبل عقود كثيرة، وعاد المواطنون ليقفوا في طوابير طويلة من أجل الخبز. وتنقطع الكهرباء لساعات طويلة بوسطي 10 ساعات يومياً بعد تراجع إنتاج الكهرباء بحدود 40%، أما المناطق التي تشهد تظاهر فيتم قطع الكهرباء والماء عنها كعفاب جماعي، وكلنا ندري ما يعنية انقطاع الكهرباء اليوم على الإنتاج وعلى الخدمات وعلى الحياة العامة. ارتفعت تكاليف المعيشة بوسطي 30- 40% عما كانت عليه في آذار 2011، مع تراجعت الدخول بسبب تزايد البطالة وتوقف الأعمال مما يعني تزايد معدلات الفقر من نحو 33% لخط الفقر الأعلى عام 2010 إلى نحو 50% اليوم، وسيكون التدهور أكبر فيما لو تراجع سعر صرف الليرة السورية، كما بينا أعلاه. تردد الأنباء اليوم نتائج دراسة تقدر أن ثلاثة ملايين سوري هم اليوم بحاجة ماسة للغذاء.

هذا الوضع أدى إلى تراجع النمو الاقتصادي بما لا يقل عن 15% عام 2011 وعن 30% عام 2012، ويمكن أن يكون أكثر لعام 2012. ويؤدي هذا لارتفاع معدلات البطالة من نحو 16% في آذار 2011 إلى أكثر من 35% اليوم. ففي سورية يدخل نحو ربع مليون طالب عمل جديد، لم يجد معظمهم فرص عمل، بل أضيفوا جميعهم لرصيد البطالة، خاصة عام 2012، بعد أن أغلقت دول مجلس التعاون الخليجي أبوابها أمام استقبال العمالة السورية، وهي سوق تقليدية تمتص سنوياً عشرات آلاف من العمالة السورية. من جهة أخرى خرج بضع مئات الآلاف من عملية الإنتاج في مختلف هذه القطاعات، حسب ما بينا أعلاه، وانضموا إلى جيش العاطلين عن العمل. أما ما أعلنته الحكومة مؤخراً عن قيامها بتوظيف 25 ألف فرصة عمل فهو تدبير لن يكون له أثر يذكر، حتى لو نفذ، فعدد العاطلين عن العمل اليوم يزيد عن 2 مليون عاطل عن العمل[4].

4- الآثار السياسية للوضع الاقتصادي:

يفاخر النظام بأن الاقتصاد السوري لم ينهار بالسرعة التي توقعها الكثير من المحللين، مقارنة بالعراق مثلاً التي تدهورت قيمة عملتها مئات المرات. غير أن المقارنة مع العراق ليست دقيقة بسبب أن الحصار على العراق كان شاملاً وبقرار من مجلس الأمن، وكان خانقاً أكثر من عقوبات سورية بكثير، كما أنه استمر 13 عام حتى وصل وضع العراق إلى ما وصل إليه في سنواته الأخيرة. وإن استمر الوضع في سورية دون إسقاط النظام فإنها ستسير بطريق العراق فيما لو استمر الوضع الحالي. ولكن المؤشرات تشير إلى أن إسقاط النظام قد غير بعيد.

النظام يفقد قدرته على تأمين المستلزمات الضرورية للناس، ليس الأمن والأمان والاستقرار وحسب، بل حتى الكهرباء والخبز والمازوت، إضافة لتقليص قدرته على الإنفاق على قوات الجيش والأمن والشبيحة. وقد تحول الشبيحة إلى أعمال السطو والسلب والنهب إضافة للمجازر، بعد توقف الدولة وبعض رجال أعمال النظام عن تمويلهم، بعد أن تزايدت أعدادهم لعشرات الالاف وتراجع القدرة المالية للنظام[5]. تمتد العمليات القمعية للنظام عبر معظم التراب السوري بما يرهق القوات النظامية، خاصة وأن إمداد الجيش غير مجهز لمثل هذه العمليات الواسعة وعلى جبهات عديدة. إن حالة الجنود المعنوية سيئة، ليس لأن النظام زج بهم في معركة ضد شعبهم بدلاً من معركة مع العدو الذي يحتل الأرض وحسب، بل لعدم قدرة النظام على تأمين الطعام الكافي والخدمات الضرورية للقوات العسكرية المرهقة والمنتشرة عبر كافة الأراضي السورية.

إن فقدان أي نظام لقدرته على تأمين الاستقرار والأمن والأمان، وتأمين مستلزمات العيش إنما يفقد النظام شرعيته، إذ يتحول وجوده بحد ذاته إلى أزمة مستفحلة. وإذا كان تدهور الوضع الاقتصادي لوحده لا يؤدي بذاته لسقوط النظام. غير أنه يسهم بقوة في هذا الإسقاط لأنه يحرم النظام من جملة من الأدوات التي تثبت وجوده ويجعله أقل قدرة على استرضاء الفئات التي تؤيده، ويجعله أضعف أمام مواجهة إصرار الشعب السوري على إسقاطه، وعلى مواجهة ضربات الجيش الحر الذي تتصاعد قوته. وهذا ما يفسر وحشية النظام ولجوئه للعنف المفرط واستخدام الأسلحة الثقيلة بما فيها المدفيعة الثقيلة والدبابات والطيران الحربي الذي أصبح يستعمل في الأسابيع الأخيرة على نطاق واسع، بل ولجوئه لارتكاب العديد من المجازر مثل الحولة والقبير والتريمسة وغيرها وغيرها. النظام يصبح رمز للأزمة الاقتصادية ورمز لصعوبة العيش.

5-  تكاليف إعادة البناء ستكون كبيرة:

إن نظام الأسد الأب والإبن لم يكتف بالضرر الذي ألحقه بسورية اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً؛ بل إنه مصر على أن يلحق بسورية اليوم، اقتصاداً ومجتمعاً ودولة، أكبر الضرر،. ويسعى هذا النظام لأن يكون الضرر الذي سيلحقة بسوريا، وهو يقتلع من السلطة، أكبر من الضرر الذي ألحقه بها على مدى نصف قرن من الزمن، بل يسعى لإدخال المنطقة في فوضى إن استطاع.

الضرر لم يتوقف بعد، فمازال الصراع قائماً. ومازال النظام يمتلك أسلحة ثقيلة فتاكة يسعى لاستعمالها عقاباً لسوريا وشعبها على تمردهم على ديكتاتورية "الأسد إلى الأبد". إن الصراع بين النظام وقوى الشعب هو "صراع متضادات تناحري" وهو "صراع صفري"، لا مجال فيه للمصالحة وأنصاف الحلول، فعلى النظام أن يذهب بكليته وبكافة مؤسساته وسياساته وأساليبه ومرة واحدة.

ستكون تكاليف إعادة البناء كبيرة:

ü     ستكون كبيرة تكاليف إعادة بناء عشرات آلاف البيوت والبنية التحتية التي تهدمت والتي ستتهدم جراء الحل الأمني الوحشي المستمر،

ü     ستكون كبيرة تكاليف إعادة نحو 2.5 مليون مهجر حتى الآن داخل سورية وخارجها،

ü     ستكون كبيرة تكاليف خلق فرص عمل منتجة لنحو 2 مليون عاطل عن العمل من أصل نحو ستة ملايين عامل، 

ü     ستكون كبيرة تكاليف إعادة تشغيل وخلق جبهات عمل واسواق لعشرات آلاف الورش ومئات المصانع التي أغلقت،

ü     ستكون كبيرة تكاليف استعادة تشغيل حقول النفط التي توقفت عن الإنتاج، بل سيكون من الصعب إعادة بعضها لإنتاجها السابق بسبب الأضرار التي تلحق بالحقول حين إيقافها عن الإنتاج،

ü     ستكون كبيرة تكاليف استعادة نشاط قطاع السياحة واجتذاب الأعداد السابقة من السواح وزيادتهم،

ü     ستكون كبيرة تكاليف استعادة بناء الجيش وإعادة هيكلته ليكون بالمستوى والكفاءة المطلوبين، خاصة أن قوة الجيش شرط لردع أية مشاريع انفصالية يسعى لها البعض، إضافة إلى استمرار أولوية استعادة الجولان المحتل، وهي الأولوية التي أراد النظام استمرارها قائمة دون حل للمتاجرة بها بما يخدم تثبيت السلطة في يديه[6]. يجب ألا ترمي إعادة الهيكلة بأي عنصر إلى رصيف البطالة، بل تأمين فرص عمل حقيقية للأعداد الفائضة منهم.

ü     ستكون كبيرة تكاليف إعادة هيكلة أجهزة الأمن لتكون أجهزة أمن حديثة، وهذا سيتطلب رفع كفاءة وحداته مقابل تقليص أعدادهم، ضمن نفس شرط إعادة هيكلة الجيش، أي يجب ألا يرمي بأي عنصر إلى رصيف البطالة، بل تأمين فرص عمل حقيقية للأعداد الفائضة منهم.

ü     ستكون كبيرة تكاليف استعادة ثقة المستثمرين السوريين، و رأس المال الخليجي بخاصة، لاجتذاب الاستثمارات الكافية لإعادة إطلاق عجلة التنمية. وتحتاج سورية إلى استثمارات سنوية تعادل ما لا يقل عن 30% من ناتجها المحلي الإجمالي كي تحقق معدلات النمو التي تساعد في استعادة إطلاق نشاطها الاقتصادي، أي ما لا يقل عن 20 مليار دولار من الاستثمارات سنوياً (استثمارات حكومية وخاصة سورية وعربية واجنبية) وهي مهمة تحتاج لشروط كثيرة لتحقيقها. هذا يتطلب برنامج لشد الأحزمة على البطون، وخاصة للفئات الغنية، لرفع مستوى الادخار وتحويله نحو الاستثمار.

ü     ستكون كبيرة تكاليف إعادة إصلاح القطاع الحكومي الإداري والاقتصادي. هذا يتطلب الكثير من الجهد والعمل والاستثمارات لتطوير البنية التشريعية والتنظيمية والمؤسسة وتطوير خبرات الكادرات (يتطلب الكثير من التدريب ودفع رواتب مجزية للكفاءات). إن إصلاح القطاعين الإداري والاقتصادي الحكوميين سيواجهان بمشكلة فائض العمالة التي قدرتها دراسة قام بها مشروع ISMF الممول من الاتحاد الأوروبي عام 2006 بنحو  100 ألف مشتغل في القطاع الإداري ونحو 70 ألف مشتغل في القطاع الاقتصادي.

بعد إسقاط النظام ستعود مطالب السوريين المعيشية للواجهة. اليوم تحتل مسألة إسقاط النظام المرتبة الأولى. السوريون يتحملون اليوم الهجرة و هدم البيوت والجرح والقتل والاعتقال والتعذيب والاستشهاد. ولكن هذا الأمر سيتغير بعد إسقاط النظام. سيعود الناس للاهتمام، ليس فقط بقضايا الحريات العامة وطبيعة النظام السياسي وطبيعة القوى التي ستتسنم هرم السطة وحسب، بل سيهتم السوريون بقوة بفرص العمل وبمستويات الدخل وبخدمات النقل والتعليم والصحة وغيرها. سيكون لدى السوريين بعض الصبر، ولكن الصبر لن يطول. وعلى السلطة القادمة أن تظهر قدرة على تلبية الاحتياجات الاقتصادية وليس فقط السياسية. وهذا يتطلب قدرة اقتصادية وتحقيق تنمية اقتصادية كبيرة وعاجلة. وهذا الشرط الاقتصادي لا يتطلب شروط اقتصادية وحسب، بل يتطلب وربما أولاً شرطاً سياسياً، فالشرط السياسي يتقدم في الآونة الأولى على الشرط الاقتصادي، ويشكل السياسي شرطاً لتحقيق الاقتصادي، الذي يتحول بدوره لعامل قوة أو ضعف للسياسي في عملية دعم متبادل بين السياسي والاقتصادي.

بعد إسقاط النظام ستبرز طبيعة النظام الاقتصادي، وطبيعة السياسات الاقتصادية التي ستطبق في سورية، وأية فئات ستخدم هذه السياسات. فالثورة التي شارك فيها غالبية السوريين بأعداد تصل للملايين سيكون مطلبهم الملح تحقيق عدالة اجتماعية، أي ان ينال كل فرد حصة عادلة من النمو الاقتصادي الذي يتحقق، وأن تصل منافعة للجميع. إذ ليس المهم تحقيق النمو الاقتصادي بحد ذاته وحسب، بل من المهم أيضاً أن يتم توزيع الدخل على نحو تصل فوائده للجميع وليس لحفنة صغيرة ضيقة، كما فعل نظام الأسد، خاصة في سنوات العشر الأخيرة. لن يكون من مصلحة السوريين استبدال أسماء المائة الكبار بمائة آخرين بأسماء جديدة مع استمرار نفس السياسات التي تحابي الفئة الغنية القليلة الريعية على حساب الفئات الواسعة من السوريين. ليس من مصلحتهم مثلاً استبدال مخلوف بخليف، أو استبدال رامي بريمون مثلاً، ولا استبدال شاليش بالشايش مثلاً. من مصلحة السوريين إقامة نظام اقتصادي يحقق قدرة إنتاجية عالية مقترنة بعدالة في توزيع الدخل. التوزيع العادل للدخل يجب ألا يكون باتباع سياسات التأميم وسيطرة الدولة على الفائض الاقتصادي مرة أخرى، بل أن يتم بسياسات وأدوات تنسجم مع الحرية الاقتصادية ومبادئ اقتصاد السوق. ويتحقق ذلك من خلال مجموعة من السياسات التي تؤدي لتوسيع قاعدة توزيع الدخل، ولسياسات أجرية عادلة، وسياسات سوق عمل متوازنة بين رب العمل والعامل، إضافة لمجموعة من السياسات الضريبية والمالية والتجارية والصناعية وغيرها. وللحديث صلة.

سيقول البعض: هل تستحق هذه الثورة كل هذه التضحيات والتكاليف والمخاطر ؟ والجواب بالقطع نعم، رغم أن التقديرات في البداية لم تكن هكذا، إذ لم يتوقع أحد أن يبلغ النظام هذا المدى من الوحشية والإيغال في القتل والتدمير. ولكن ورغم كل شيء فإن الخلاص من هذا النظام الذي صادر  إرادة الشعب وحرياته وثرواته إنما يستحق. فهذا سيفتح الباب واسعاً أمام سورية المستقبل بعد أن أغلقه النظام. ولكن النتائج ستبقى رهينة بمجمل الأوضاع السائدة وبطبيعة الفئات التي ستتولى قيادة البلاد بعيد سقوط النظام. وهذا سيقرر إن كانت سورية ستشهد استقراراً عاجلاً، وتبدأ فوراً بحصاد النتائج الإيجابية لسقوط النظام، أم أن سورية ستدخل في مرحلة من الفوضى التي تزيد المعاناة وتمد أجلها وترفع تكاليف إعادة البناء.

6- مخاطر:

رغم أن سقوط النظام وإقامة نظام مدني ديمقراطي تعددي تداولي سيخلق العديد من الشروط الإيجابية التي تساعد على إعادة البناء، ولكن الواقعية تتطلب منا أن ندرك المخاطر التي لها بذور في الوضع الحالي، و يخشى أن تنبت هذا البذور وتتحول إلى أعشاب ضارة تقتل نباتات الحقل الذي ينتظر الشعب ثماره، خاصة وأن البعض يسعى لإنباتها. فثمة مخاطر حقيقية مثل:

-         أن يسقط النظام دون أن يكون لدى قوى الثورة رؤية توافقية عامة متفق عليها لطبيعة نظام الحكم في سورية ذات محتوى ديمقراطي مدني تعددي تداولي يلتزم بمعايير المواطنة وحقوق الإنسان وفق المعايير الحديثة التي وثقتها العهود الدولية.

-         أن يسقط النظام دون أن يكون لدى المعارضة بنية هيكلية موحدة تستطيع تسلم قيادة البلاد باستعداد مسبق وقد نظمت صفوفها ووضعت تصوراتها وبرامجها مما يهدد بالتطرف والفوضى.

-         أن تبقى القوى مشتتة في تنظيمات صغيرة متفرقة متنافرة، بينما يسعى بعضها ممن يملك دعماً دولياً منها للحفاظ على قدراته الحالية، فلا يبذلها في الكفاح من أجل إسقاط النظام، وأن يسعى بعد سقوط النظام لفرض إرادته ونمط تفكيره مستفيداً من بعض الإمكانيات الأفضل.

-         أن تبقى مجموعات من النظام القديم وشبيحته تعمل كعصابات تخلق الفوضى دون أن تتمكن السلطة الجديدة القادمة من امتلاك قوة جيش وأمن تستطيع ردعها (تجربة ليبيا وتجربة اليمن).

-         أن تستمر مجموعات من الجيش الحر، رافضة تسليم أسلحتها وقد أغرتها سلطة السلاح من جهةن وعدم توفر برامج وقدرات لاستيعاب المسلحين في فرص عمل حقيقية من جهة أخرى لإعادة من لديه عمل سابق لهذا العمل،  واستيعاب الاخرين في فرص عمل جديدة حقيقية.

-         أن ينجح النظام بتأجيج المشاعر الطائفية التي يعمل المتطرفون في الثورة على ملاقاتها من قبلهم، وأن تنمو هذه الاتجاهات وتتحول إلى افعال على الأرض، وقد بدأت بعض بذورها تظهر منذ الآن، وإن كانت مازالت ضعيفة، ولكن يخشى أن تنفجر بعد سقوط النظام فاتحة الباب لعمليات ثأر طائفي يدخل البلاد في الفوضى.

هذه المخاطر لن تسمح بعودة مكنة الاقتصاد وعجلته إلى العمل بالقوة المطلوبة لإنتاج السلع والخدمات وخلق الإيرادات التي تغطي التكاليف الباهظة التي ذكرناها أعلاه.

إن تحقق هذه المخاطر السياسية سيعيق الأداء الاقتصادي ويضعف قدرة السلطة القادمة على إدارته، ويحرمها من القاعدة الاقتصادية المتينة التي تساعد في حل مجمل التحديات الاقتصادية والمالية التي ذكرناها سابقاً إضافة للتحديات السياسية.

من جهة أخرى فإن سقوط النظام سيفتح الباب لإعادة قدرات المجتمع السوري، وهذا سيخلق مناخاً أفضل للاستثمار، وأفضل لعملية الإنتاج عموماً،

7- تجنب المخاطر:

إن تجنب هذه المخاطر يتطلب تحقيق جملة من الشروط:

-         توحد قوى المعارضة وانتظامها في بنية مؤسسية واحدة تكون جاهزة منذ اليوم، وليس بعد إسقاط النظام، لتولي قيادة سورية فور سقوط النظام وإلا ذهبت البلاد إلى الفوضى. ولكن جهود توحيد المعارضة لم تثمر حتى الآن وللأسف وتصطدم بالعقلية الانعزالية والإقصائية لبعض القوى الأساسية.

-         وضع وتبني رؤية واضحة لسورية المستقبل وطبيعة نظامها السياسي الديمقراطي المدني التعددي التداولي الذي يحتكم لصندوق الانتخاب لاختيار قياداته، ويتبنى قيم المواطنة وحقوق الإنسان والمرأة والطفل وفق المواثيق الدولية. وأن تتعهد جميع قوى الثورة بهذه العهود. وعزمها على فرض الاستقرار والأمن وعودة من يحمل السلاح إلى وحداتهم العسكرية أو إلى أعمالهم بعد سقوط النظام وجمع السلاح من الشارع، وعلى مقاومة فعالة للتطرف ومقاومة الميول الانتقامية التي قد يسعى البعض لتأجيجها. وأن تلتزم فعلاً بالمدونة الحقوقية التي أعلنها الجيش الحر[7].

-         التوافق على منح الاقتصاد الأولوية التي يستحقها في عهد سلطة الشعب القادمة بعد سقوط النظام وتأمين إدارة اقتصادية قادرة و فعالة وذات رؤية استراتيجية مناسبة وبرامج عملية تحول الأفكار إلى أفعال.

-         تصميم نظام اقتصادي وسياسات اقتصادية قطاعية تضمن قدرة إنتاجية عالية واستغلال أمثل للطاقات الاقتصادية لسورية وشعبها، مع اقتران ذلك مع سياسات تحقق توزيع الدخل تتطابق وسياسات اقتصاد السوق والحرية الاقتصادية. 

إن كانت السياسة لها الأولوية اليوم، فسيكون للاقتصاد الأولوية بعد إسقاط النظام، وحتى لو بقيت السياسة على السطح، فسيكون الاقتصاد هو القاعدة التي تحمل السياسة وتقرر مصيرها.

المهمة صعبة وكبيرة ولكنها ممكنة إن أدركت قوى الثورة الأساسية مسؤولياتها.

               

[1] ) يوجد نحو مليون سوري يعملون في الخارج مع ارتباط قوي بوطنهم، وبتقدير أن كل منهم يحول نحو 3000 دولار في العام فإن التحويل يبلغ نحو 3 مليار $ سنوياً. ولا يشمل هذا الرقم أكثر من مليون آخر يعد ارتباطهم بوطنهم أضعف ولا يقوموا بتحويلات تذكر.

[2] ) صدرت تصريحات كثيرة عن الحكومة بأن احتياطي الدولة هو بحدود 17 مليار دولار، وتم الإيحاء بأن هذا الاحتياطي مازال كما هو رغم الأحداث. ولكم من خلال معلومات سابقة ومن خلال مراجعة النشرت الإحصائية الربعية لمصرف سورية المركزي التي تتضمن المسح النقدي، يظهر أن الاحتياطي قد هبط إلى نحو 8 مليار دولار. وقد كان من قبل نحو 16 – 17 مليار دولار، ولكن النظام السوري اشترى اسلحة وخاصة من روسيا بعد عدوان إسرائيل على لبنان 2006.

[3] ) "العربية نت" كشف وزير المالية السوري محمد جليلاتي الذي يشارك بزيارة ضمن وفد رسمي سوري إلى روسيا، إن بلاده طلبت من روسيا قرضاً ماليا بالعملة الصعبة. .......... واعتبر جليلاتي ان اهم ما تم التوصل اليه خلال الزيارة هو اختراق الحصار حول سوريا والاستمرار في تصدير النفط ومشتقاته.

[4] ) بحسب الإحصاءات الرسمية تبلغ قوة العمل السورية نحو 5.5 مليون مشتغل عام 2010 أي نحو 27% من عدد السكان البالغ 20.86 مليون نسمة. 27% من قوة العمل تعمل لدى الحكومة و 73% تعمل في القطاع الخاص. ولكن هذه الإحصاءات تغفل قوة العمل النسائية الزراعية وهي قوة رئيسية في الزراعة وتغفل الكثير من عمال قطاع البناء وقطاع الخدمات عموماً. ونعتقد أن قوة العمل السورية تبلغ نحو 6.5 مليون مشتغل. أيضأً وبحسب الإحصاءات الرسمية بلغت نسبة البطالة عام 2010 نحو 8.6% فقط، أي أفضل من الدول المتقدمة التي لا تنجب الكثير من الولادات، ونحن كنا نقدر البطالة في سورية بنحو 16 – 20% حسب السنوات والمواسم.  أما اليوم فنقدرها بنحو 35%. كمثال على إحصاءات الحكومة، فقد بينت المجموعة الإحصائية لعام 2011 أن عدد العاطلين عن العمل في اللاذقية بلغ نحو 54 ألف عاطل عن العمل، وعدد سكان محافظة اللاذقية 990 ألف نسمة. بينما بلغ عدد العاطلين عن العمل في محافظة حلب نحو 53 ألف عاطل وعدد سكانها 4.6 مليون نسمة. ونحن نعلم من الخبرة الميدانية والعملية ومن معرفتنا بالنشاطات الاقتصادية في حلب وخاصة ريفها أن نسبة البطالة فيها أعلى من اللاذقية. وبالتالي فإن عدد العاطلين عن العمل في حلب يجب أن يتجاوز عدد العاطلين عن العمل في اللاذقية بنحو 5 – 7 مرات. واسباب هذا التلاعب بالأرقام معروف.

[5] ) تمويل الشبيحة: وصف لي صديق من منطقة "التريمسة" ماحدث، فقال بعد أن تراجع هجوم الجيش على التريمسة فجر يوم الخميس بسبب مقاومة نحو 40 عنصر من الجيش الحر كانوا فيها، قامت قوات الجيش بقصف عنيف بالمدفعية وبطائرات الهليوكوبتر للبلدة ذات ال 12000 نسمة، فهرب الأهالي من بيوتهم والتجأوا إلى المدارس والمساجد والجمعية الفلاحية ظناً بأنها تحميهم، وكان مقاتلو الجيش الجيش الحر قد غادروا البلدة لتجنيبها المزيد من عنف النظام، ثم دخل جيش النظام للبلدة، ودخل الشبيحة من بعض البلدات المجاورة ومن خلفهم سيارات بيكآب فارغة، وهاجموا الأهالي وقتلوا 309 من الأهالي، ثم قامت سيارات الشبيحة بنهب المحلات بشكل خاص. كما روى لي هذا الصديق أن نفس هذا الأمر تكرر في قلعة المضيق بسوقها الكبيرة، حيث تم عرض المنهوبات في أسواق بعض القرى في المنطقة. إضافة لهذا الأمر فإن السلطة كانت في بعض المناطق مثل الحسكة وحلب تعطي الشبيحة البنزين والمازوت والغاز المنزلي ليقوموا ببيعه بأسعار مضاعفة للأهالي. ومن جهة أخرى فإن الشبيحة وعناصر الأمن يعملون شراكة مع عصابات السرقة التي تقوم بالنهب والاختطاف وطلب الفدية من أجل تحقيق مكاسب مادية وتمويل نشاطات الشبيحة.

[6]) ستتطلب إعادة هيكلة الجيش تقليص أعداده مقابل رفع كفاءة وحداته وتطوير تسليحه وتجهيزه تقنياً ليكون جيشاً حديثاً بكفاءة عالية، بدلاً من جيش الأسد الذي أراده جيشاً مهلهلاً بأعداد كبيرة من العسكريين الفقراء المحتاجين، الذي يقوده حفنة من الضباط الكبار الفاسدين في غالبهم. خاصة وأن إعادة هيكلة الجيش يجب الا ترمي بأي عسكري إلى رصيف البطالة، بل تأمين فرص عمل حقيقية لهم.

[7] ) أعلن الجيش الحر مدونته الحقوقية التي وقع عليها العديد من فصائله، وقد تضمنت هذه المدونة مجموعة من المبادئ: الدفاع عن السوريين- احترام حقوق الإنسان -اعتبار أي أسيرا لدينا تنطبق عليه قواعد الأسرى - التعهد بعدم ممارسة أي شكل من أشكال التعذيب أو الاغتصاب أو التشويه أو التحقير بحق الأسير- عدم القيام بإصدار أية أحكام تنفيذية- إدانة أية ممارسات في التعذيب الجسدي- التعهد بعدم استخدام السلاح ضد بقية الثوار أو المدنيين ممن أتفق أو أختلف معهم- أتعهد بعدم ممارسة أي شكل من أشكال السلب أو النهب بداعي تمويل عملي المسلح- أتعهد بعدم ممارسة أفعال انتقامية على أساس العرق أو الطائفة أو الدين- أتعهد بأن أسلم سلاحي للسلطة الانتقالية بعد سقوط النظام- في حال ثبوت ارتكابي لأي خرق لهذه المدونة أتعهد بالخضوع للمحاسبة ...