معارضة.. معارضة...

عقاب يحيى

يمكن لأي حامل حقيبة صغيرة أن يدعي أنه معارض، ومعارض مهم، وأن معه ليس كمشة أشخاص وحسب... بل جماهيراً عريضة لها أول وليس يعرف أحد أين يكون آخرها.. في حين نعلم أن " حارتنا ضيّقةّ" وضيّقة جداً وكنا نتمنى فعلاً ولادة أحزاب قوية، وشعبية، ولها امتدادات ونفوذ وتأثير.. لكن مختلف العوامل لا تساعد على ذلك.

" المعارضة التاريخية" ونحن في عزّ مواجهاتنا للنظام في السبعينات والثمانيات كانت الأعداد محدودة، وغالباً لم نكن نتمكن من تعويض النزيف الذي يحصل عبر الاعتقالات، أو اليأس إلا في حالات قليلة من الفترات.. وكانت المطاردات، والاعتقالات العنيفة، وما يفعله النظام بالقوى المعارضة، وبالمجتمع.. وما جرى من عملية إخضاع وترعيب وتهميش منظّمة، وشمولية للشعب، خاصة بعد مجزرة حماة ودروسها البليغة... يجعل جميع القوى المعارضة في خانة التراجع والانحسار، ومحدودية الدور والفاعلية.. لدرجة أنها لم تكن قادرة على إيصال مواقفها، او الإعلان عن نفسها إلا في مساحات ضيّقة جداً.. ولا ننسى أن القمع الشديد، وملاحقة اي عمل تنظيمي كان يدفع نحو مزيد من السرية، والعمل الحلقي البعيد عن ميادين الشعب.. وقد حاول " الاتحاد الاشتراكي" وعبر مواقف" مرنة" ان يحافظ على نوع من الهوامش التي يتحرك عبرها.. بينما واجه البعثيون المعارضون، بكل تفرّعاتهم، حرباً لم تتوقف، وتصفيات بالجملة، وتهجير، وعمليات تعذيب جهنمي، وكذا حزب الشعب(قبل هذه التسمية وبعذها)، والحركة الإسلامية بعد إعلانها المواجهة مع النظام، وجل المثقفين المعارضين الصلبين ...

ـ لقد تركت تلك الفترة، وما أنتجت، ونجاح نظام الفاشية والفئوية في تلغيم المجتمع، وإحكام سيطرته عليه، وقتل الاهتمام بالشأن العام، وتنشيط اتجاهات الاستهلاك والتجارة والانتهازية والنفاق.. أبلغ الأثر على قوى المعارضة.. رغم التضحيات الجسام، ومحاولات عديد الرواد والمثقفين اختراق مملكة الرعب.. فكان" ربيع دمشق" القصير محاولة تمردية لإعلان الرفض، وبناء معادلة بديلة، وجاء "إعلان دمشق" تتويجاً انضج لجميع المحاولات السابقة، ومحطة انعطافية... تعلقت الامال به...خاصة مرحلة صعوده، وقبل أن يدبّ الخلاف في صفوفه، وقبل أن ينسحب منه حزب الاتحاد الاشتراكي، وحزب العمل الشيوعي لأسباب تبدو واهية.. بينما الجوهر كان يتناول صلب النظرة لوسائل العمل، والنظرة للنظام، وطرق مجابهته.. حتى إذا ما قامت الثورة كانت جميع تنظيمات المعارضة في أضعف حالاتها، ودون القدرة الواقعية على قيادتها، أو الإسهام البارز فيها.

*****

ـ لكن، وعبر افتقار الثورة لقيادة من صلبها : بدءاً، او من خلال مساراتها، وما تعرّض له الصف الأول والثاني من تصفيات مبرمجة، واعتقال بالجملة، وتعذيب مميت، وهجرة قسرية..... برز دور القوى المعارضة و التقليدية بما لا يتناسب وحجومها الفعلية، او بما يتسق وقدراتها الفعلية على القيادة.. فحملت معها عوامل شيخوختها، وضعفها، وخلافاتها وأمراضها وقد تعانقت مع تعقيدات الثورة السورية من جهة، ومع انفجار خزين السوري بشكل مطلق من جهة أخرى.. لحدوث ما يشبه الطفرة العامة، والإقبال النهم على العمل السياسي، والعام، والثوري من ابواب، وخلفيات متعددة، وبواقع منتجات فعل الاستبداد، والانحسار، والنفاق، والانتهازية.. لتشكيل خضمّ اشبه بالموج القوي المتلاطم الذي لا يرسو على شواطئ واضحة...فكثرت أعداد التنسيقيات في البداية. اختلفت وتناطحت، ثم راح بعضها يتآلف في أطر أعم.. وحين أخذ العمل المسلح ينتشر، ثم يطغى قضم معه جلّ ذلك الحراك، وأحدث تحوّلات كبيرة حاصر فيها السياسي، والعمل المدني.. بينما اتجه الكثير إلى تشكيل أحزاب وتيارات كانت تبدأ كبيرة العدد والطموح.. ثم تتآكل .. او تنزوي، أو تنحصر في بضعة أفراد.. والجميع يدّعي تمثيل الداخل والثورة، والجميع يطرح خطوطاً سياسية وبرامج تتلاقى نظريا بينما الصراع هو السمة الغالبة على العلاقات، وحالات التنافس ..

****

في التحليل الموضوعي لهذه الظواهر، ومهما بدت نافرة، وغير طبيعية، ومتشعبة.. فإنها ردّ الفعل المنطقي على عقود التصحّر، والتغييب، وانعكاس مباشر للاختناق والانفجار، وهي تعبير عن فترة مليئة بالمناقلات والتطورات، خصوصاً وأن الثورة لم تنتصر كما كان مأمولاً لها، ولم تحقق أهدافها. على العكس من ذلك زاد الوضع تعقيدا في مختلف المجالات، وكبرت التحدّيات، وضعف دور الفاعل السياسي، ومعه جميع قوى المعارضة لحساب العمل المسلح من جهة، والدور الخارجي المتشعب من جهة أخرى، وهي عوامل تصعّب استقرار، او توسّع العمل السياسي، او توحيد المتشابه منه، والملتقي في الرؤى والبرامج.. 

ـ لكن... ومع حجم التضحيات، وعمق المأساة السورية، وإطالة النزيف الرهيب دون وجود افق قريب، أو نوايا دولية لفرض حل ما ينهي الماساة السورية، ويضع حدّاً لفعل المجرم ومليشيات الإنجاد الطائفي من جهة، وقوى التشدد الإرهابي من جهة أخرى تجد قوى المعارضة المؤمنة بالثوة والوطن الموحد أنها معنية بالعمل لفعل شيء ما، وان عليها الاتكاء على قواها بالأساس.. في الوقت الذي تنمو فيه اتجاهات سياسية مشبعة بالميوعة، والغمغمة تحت ستر الواقعية، وموازين القوى... وموجبات التنازل في السقف والمبنى...

ـ اليوم....جميع المعطيات تقود إلى أهمية العمل الجاد على مختلف الصعد، بدءاً من إصلاح أوضاع الهيئات القائمة لتكون المعبّر الصادق، وإلا فلتنتحر، أو تنحر، ووقوفاً عند بلورة وتجسيد نهج التوافق واللقاء المبني على الوضوح والرؤية السياسية الموحدة، خاصة وان " وثائق القاهرة" ما تزال صالحة، وما تزال معبّرة عن أغلبية مواقف قوى المعهارضة، ويمكن اعتمادها من جديد إطاراً عاماً للتوافق، وقاعدة يبنى عليها أي تفصيل يراعي التطورات.. وصولاً إلى عقد مؤتمر وطني جامع تتوفر له شروط النجاح، والخروج بخريطة طريق واضحة، ودقيقة .

ـ وأمام تعدد التشكيلات، وما يشبه استحالة اختبار، ومعرفة حقيقة وجود وفعالية الكثير منها فلا بدّ من جهة ما ـ يتفق عليها ـ تقوم بعملية تقويم موضوعية لمختلف القوى التي نهضت حديثاً وتحديد صيغ التمثيل والتعامل بما يحقق التوازن وشيئاً من العدل .