النَّـازحون... أولى النَّـاس بالثَّورة

د. محمد عناد سليمان

د. محمد عناد سليمان

[email protected]

إنَّ المتتبِّع لحياة النَّازحين السُّورييِّن من أبناء الجولان السُّوري المحتلّ، وبعبارة أدقّ «الجولان المباع»، يستطيع أن يستشفَّ مدى المعاناة الحقيقيَّة التي عاشوها من جرَّاء كذب النِّظام الفاشيّ السُّوري وخداعه على مدى عقود أربعة مرَّت ومضت من عمر هذا النظام.

عاش أهلنا في الجولان مشرَّدين ومشتَّتين في معظم مناطق «دمشق»، و«ريفها»، و«درعا» حتى وصل بعضهم إلى محافظة «حمص» العديَّة، وكلُهم أمل في انتظار اللَّحظة التي يرون فيها فجر يوم، وشروق شمس يشاهدونها على بقاع أرضهم المباعة، أمل تبدَّد في خضم ثورة الكرامة السُّوريَّة بعد كشف سياسية الممانعة والمقاومة السَّرابيَّة.

لذلك فقد ألزم الواقع النَّازحين من أبناء الجولان أن يكونوا شرارات وقود لإشعال الثَّورة في سوريا، وأن يكونوا مشاركين فعَّالين على أرضها، وفي حراكها، وإن لم تظهر للنَّاس أجمع، ولم يكن لها إلا ذكر يسير في الأوساط المحليَّة، وعذرهم في ذلك انخراطهم في مدن غلب عليها الطَّابع المدنيّ والرَّيفيّ، إلا ما رحم ربُّنا من المناطق ذات الأغلبية السُّكانيَّة للنَّازحين كـ«الحجر الأسود»، و«السيدة زينب»، وغيرها، أمَّا في الغالب فقد انخرطت ثورة النَّازحين في معظم المناطق بالحراك الثَّوريّ فيها دون الإشارة إليها بالبنان، كما حدث في مدينة «الكسوة»، و«المعضمية»، و«المقيليبة»، و«سبينة»، و«كناكر»، وغيرها ممَّا يكثر ذكره.

والجدير بالذَّكر أنَّ بعض رموز النَّازحين مِمَّن كان لهم الأثر الكبير في تحريك الشَّارع السُّوري الثَّائر قيد الاعتقال حاليا، وبعضهم تمَّ تهريبه إلى خارج سوريا، وبعضهم مطارد في الدَّاخل لا يستقرُّ له بال ولا حال، حتى إنَّ أبناءهم لم تسلم من بطش النِّظام وغيِّه، ولم يتجاوز بعضهم سنَّ الثَّانية عشرة من العمر، كما حدث مع ابني حفظه الله، فهل يعقل أن يعمَّم اسمه على الحدود لأنَّه تكلَّم بكلمة حق على ما رآه من بطش الشَّبيحة أثناء اقتحامهم البيت بتاريخ 4/5/2011م؟ هل يعقل أن يُحاسب طفل على براءته وقوله الحقيقة فيما رآى  وسمع؟

نعم أنَّه النِّظام الفاشيّ القمعيّ الذي يريد أن يغيِّر معالم الدُّنيا، ومشاعر النَّاس، وبراءة الأطفال، وقتل الصغار والكبار، والنِّساء من أجل بسط سيطرته الاستبداديّة على رقاب من رفضوا الذُّل والإهانة واختاروا شعار «الموت ولا المذلَّة».

وفي المحصِّلة فإنَّ أبناءنا في الجولان المباع أحقُّ النَّاس وأولاهم بالثَّورة من وجهة نظري للأسباب التَّالية:

1-عندما نزح أهلنا من أرضهم المباعة، لم تقم الحكومة حينها وحتى هذه اللَّحظة بتأمين المستلزمات الضَّروريَّة لاستمراريّة الحياة، من مسكن، وملبس ومشرب وغيرها، وإنمَّا اكتفت ببناء بعض القرى معتمدة في ذلك على المساعدات الدُّولية، وجرى أهلنا طوال الفترة الماضية يفنون عمرهم في البحث عن قطعة أرض يبنون عليها بيتهم، وعن عمل يقتاتون منه قوت يومهم، وكان لهذا الأمر أثار سلبية انعسكت على حياتهم الاجتماعيّة والثَّقافيَّة.

لكنَّ أهلنا صبروا وناضلوا وحاولوا ألا يثنيهم ظرف الحياة الصَّعب عن مواكبة الحياة العصريَّة فنبغ منهم العلماء والمثقفون، وصنعوا مالم يكن أحد يتوقعه منهم في مجالات الحياة كافّة.

2-منذ نزوح أهلنا انبروا لتحصيل العلم مع صعوبة الظَّرف ومشاكله حينها، وكان الواجب على الحكومة أن تؤمِّن لهم مستلزمات التَّعليم وتقديم المساعدات اللازمة لذلك، لكنها للأسف عاملتهم معاملة عامة وساوت بينهم وبين جميع فئات المجتمع، ممَّا أدى إلى حرمان كثير منهم من حقِّ التَّعليم بسبب الظُّروف الاقتصاديَّة التي حتَّمت عليهم البحث عن لقمة العيش، وإيجاد مأوى يلمُّ شتات أسرة غدر بها نظام باع أرضها وأهلها.

3-إنَّ معظم المناطق التي يعيش فيها النَّازحون حاليا تعاني مرارة وقسوة لا نظير لها من قلَّة الخدمات والموارد، حتى إنَّ بعض مناطقها لا يستطعيون تأمين مياه الشرب، وإن تأمنت عن طريق البلديات فلا بد من دفع ثمنها، وأنا عشت سبعة عشر ربيعًا وأنا أعاني ومازال أهلنا يعانون من مشكلة شراء المياه، ولا أريد ذكر مشاكل جمَّة يعجز الكلام عن حصرها وأهلنا أدرى بها فـ«أهل مكة أدرى بشعابها».

4-القضية الأهم من وجهة نظري أنَّ النِّظام الفاشيّ القمعيّ الذي باع أرض الجولان وشرَّد أهلها، حاول طوال الفترة الماضية أن يدندن على معزوفة المقاومة والممانعة من أجل تمرير الوقت للوصول إلى هدف سعى بكلِّ قوَّته إلى تحقيقه متفقًا مع عدو الشعب الوحيد وهو العدو الصهيوني.

هذا الهدف من وجهة نظري هو اللّعب على عامل الزَّمن والوقت من أجل إنشاء جيل ينسى أرضه المباعة، فمع مرور الزمن من وجهة نظر النِّظام أنَّ أصحاب الأرض الحقيقيِّن سيموتون وسيأتي أولادهم ممَّن لا يعرف الأرض وهويتها مع انشغالهم بظروف الحياة الصَّعبة فلا يُطالبون بها لعدم معرفتهم بها.

وهذا دليل على غباء في عقلية النِّظام، لأنَّه لم يتعظ من التَّجربة الفلسطينيَّة التي كلما ذهب جيل من أهلها جاء جيل أكثر تمسُّكًا بأرضه، وأكثر مطالبة بحقِّه، ونحن أبناء الجولان رضعنا من ثدي أمهاتنا حبَّ الأرض، وتعلَّقنا بها، ورسَّخ أباؤنا في أذهاننا حقَّ العودة إليها مهما طال الزَّمن وتغيَّرت الظروف، ولا شيء يمنعنا من ذلك إلا قضاء الله عزَّ وجلَّ وقدره بأن يحكم علينا بالموت.