الجزائر ومنطقة الساحل بين الطالبان، دول العالم والأمريكان
الجزائر ومنطقة الساحل بين الطالبان،
دول العالم والأمريكان
عبد الكريم رضا بن يخلف
شساعة مساحة الجزائر، و رحابة أراضيها، و تنوع تضاريسها كانت ستشكل في عالم هادئ و مستقر ميزات هامة و علامات فارقة على قوة البلد الاقتصادية و جاذبية المكان السياحية و جبروت الوطن العسكري و هيمنة الدولة السياسية، و لكنه في عالمنا المتقلب، و المصالح المتداخلة، و كثرة القلاقل السياسية، صارت كل تلك الميزات و الحظوظ "وجع رأس" أكثر منها "مصدر اعتزاز.
لا يدري الساسة ولا العسكريون الجزائريون، في هذه الأيام العصيبة، على أي حدود يركزون ؟ على حدود ليبيا؟ التي أصبحت بلا رقيب من الجانب الآخر، أم حدود النيجر؟ التي يبدو أن حكامه عاجزون عن فعل أي شيء، حتى و إن حضرت النية و الإرادة السياسية، فهي تفتقد إلى الإمكانيات المادية، أم الحدود التونسية ؟ حيث انبثاق ديمقراطية فتية مع ما تحمله من مخاطر تيار سلفي جهادي متعطش لإبراز قدراته، أم الحدود المغربية ؟ حيث ضبابية العلاقة ذات التاريخ الطويل، و ما شهدته من حرب باردة أخوية لا يقامر ملاحظ سياسي الجزم بقرب نهايتها، أم الحدود الموريتانية؟ حيث اختلطت مصالح جماعات التهريب مع جماعات الترهيب، أم الداخل؟ الذي ما زال ملغما بجماعات مسلحة و خلايا نائمة، على قلة عددها وتحركاتها، و لكن وجع ضرباتها و خطورتها يبقيها مصدر إزعاج و قلق، أم على حدود دولة مالي، "الحزام الإفريقي"؟ و ما أصبحت تشكله تلك التشكيلات و حركات التوارق الثائرين من مخاطر في عمق الساحل الصحراوي، أضف إليها التنظيمات الأخرى التي تحمل شعار الدين، أو طالبان إفريقيا.
بعد سقوط القذافي و نظامه، استيقظ العالم على أعشاش الدبابير الخطيرة,، و ألغام القبائل القوية، و عوائق التحالفات المتحولة، نزاعات قبلية بالعشرات، و معارك على الحدود بالكميات، منطقة الساحل برمتها أو ما كان يسمى يوما مملكة تومبوكتو أو بلاد السودان (غير دولة السودان)، صارت مرتعا لصراع محلي ذي امتدادات دولية، فالمنطقة لم تعد فقط تلك الطريق التجارية الهامة فحسب، فالمعروف عنها أنها الأرض التي تزخر بكميات هائلة من اليورانيوم، و غيرها من بواطن الثروات المعدنية الباطنية.
بذكاء كبير أو قل دهاء خارق، هجر "القاعديون" ضيق التل الشمالي و ملاحقات النظام الجزائري و ضرباته، و توجهوا إلى رحب صحراء إفريقيا، لإعادة التموقع، و استرجاع الأنفاس في بادىء الأمر، و لتغيير الأهداف و الوسائل و الإستراتيجيات و الأرضيات في مرحلة ثانية.
فيما يبدو نصيحة و توجيه لأيمن الظواهري، قام تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي بعملية إعادة انتشار، و انسحاب تكتيكي، ليتسنى لهم القفز من جديد، و اللعب بالأوراق الرابحة في اللعبة الدولية، و قد أسست الشباب المجاهدين الصومالية في القرن الإفريقي، و بوكوحرام النيجيرية في البداية للسيطرة نوعا ما على شرق إفريقيا و وسطها تحت الصحراء الكبرى، ثم أسندت منطقة إفريقيا الغربية و منطقة الساحل لتنظيم التوحيد و الجهاد، الذي تأسس أواخر 2011، من موريتانيين و جزائريين و أفارقة، و من أبرز قياداته، حماده ولد خيرو الذي يعتبر زعيما للتنظيم، وعدنان أبو الوليد الصحراوي الذي يعد ناطقا رسميا للتنظيم، و هناك تقارير عدة تقول أن مختار بلمختار المدعو بلعور هو القائد العسكري الفعلي للتنظيم، بالإضافة إلى أبو زيد و يحيى أبو الهمام. و يعد تنظيم أنصار الدين الصورة و الصيغة التارقية للتنظيم بقيادة الشيخ إياد أغ غالي، الذي كان قنصلا عاما لمالي في المملكة العربية السعودية، ثم صار جهاديا متشددا قريبا من أفكار القاعدة.
فالحوصلة أن قاعدة المغرب الإسلامي تحولت في منطقة الساحل و الصحراء إلى قسمين ليسا مختلفين، بل متكاملين :
ـ تنظيم التوحيد و الجهاد : يظهر متشددا، و يضم أغلب العناصر العربية و الأجنبية التي كانت معروفة بالانتماء لتنظيم القاعدة. و يقوم هذا التنظيم باختطاف الأجانب و طلب الفدية، و يسير عمليات التهريب المختلفة، و تهريب السلاح سيما سلاح ليبيا الغزير هذه الأيام.
ـ حركة أنصار الدين : تظم غالبية تارقية، و تبدو أكثر ليونة أو أقل تشددا و أفضل براغماتية، و تكون البوابة للعمل في منطقة شمال مالي الإستراتيجية، و المفاوض المقبول مع الخارج، سيما السلطات الجزائرية, التي لديها اتصالات دائمة معها لمحاولة حل أزمة الرهائن الدبلوماسيين الجزائريين المختطفين من طرف تنظيم التوحيد و الجهاد، و تعد قيادات سلفية جزائرية همزة الوصل، بعدما كان لها الدور الإيجابي في ترك العديد من الجماعات المسلحة لهذا النهج الإرهابي في ماض غير بعيد.
صار شمال مالي يكاد يكون تحت سيطرة "طالبان إفريقيا"، لم يبقى إلا منطقة كيدال التي ما زالت تحت سيطرة الحركة الوطنية لتحرير أزواد العلمانية، بقيادة بلال أغ الشريف، و محمود أغ علي، و غيرهما، التي طردتها التنظيمات السلفية من غاو و تومبوكتو لسبب انجرارها في تحالفات مشبوهة مع الجزائر، الدولة العظمى في المنطقة.مما أدى بتنظيم التوحيد و الجهاد إلى عملية استعراض العضلات بعملية ورقلة الجزائرية التفجيرية، التي اعتبرت تهديدا و رسالة عاجلة للجزائريين.
الحلحلة المتأرجحة بين المقاربة الجزائرية أمريكية بريطانية و المقاربة الإفريقية فرنسية :
تشهد المنطقة زخما من الزيارات و الاجتماعات و اللقاءات بين الأطراف الإقليمية و الدولية لتبادل و جهات النظر، و المحاولة لإيجاد الحلول الكفيلة بإخراج المنطقة من نفقها المظلم، و إعادة الاستقرار الضائع منذ التدخل الأطلسي للإطاحة بالعقيد معمر القذافي، العقيد الذي كان يملك مفاتيح الكثير من الصناديق السياسية المستعصية في المنطقة، و سدا منيعا ضد طوفان من المعارك المؤجلة، و القنابل القابلة للانفجار في أي وقت.
و لعل مفاتيح أخرى تملكها الجزائر، البلد المحوري، الذي بفضل سياسته الصامتة الفعالة، استطاع أن يحافظ على نفس المسافة من جميع الأطراف الفاعلة في المنطقة. ثم إن إستراتيجية موقع المنطقة، و غنى باطنها من المعادن النفيسة و الثروات الطبيعية لا يمكن بحال أن تدع القوى العظمى في المنطقة، و على رأسها الولايات المتحدة و فرنسا، و لا حتى قوى صاعدة مثل قطر و إيران و السعودية أن تحشر نفسها في تموقع للبحث عن موطئ قدم في المعادلة المستقبلية.و بطبيعة الحال لا يمكن أن ننسى المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا : الإكواس المكونة من 15 بلد من بلدان غرب إفريقيا، و تترأس ساحل العاج حاليا المجموعة. و يتنافس في المنطقة حلان رئيسيان، مشروع التدخل العسكري، و مشروع الحوار السياسي.
1) مشروع التدخل العسكري : حملت مجموعة دول غرب إفريقيا مشروع التدخل العسكري في شمال مالي إلى مجلس الأمن عن طريق الاتحاد الإفريقي، على مرتين، و رفضت المجموعة إشراك الجزائر في المبادرة لعدم وحدة الرؤيا السياسية، وذهبت للتنسيق مع فرنسا لتبني المشروع، و قد رفض المشروع في المرتين لتحفظات تكاد تكون بالكلية تحفظات الجزائر، و لعدم إشراك دول الميدان : موريتانيا، الجزائر و النيجر. مما جعل دول الإكواس تغير إستراتيجيتها، و تحاول أن تشرك هذه المرة الجزائر في الحلحلة. و تعتمد الخطة الإفريقية على إرسال قرابة 3300 جندي من قوى إفريقية لإعادة شمال مالي إلى الوحدة الترابية المالية، بمساعدة و دعم دولي، سيما لوجيستي و جوي. و يبدو أن محاولة ثالثة على طاولة مجلس الأمن، سيما بعد سيطرة التنظيمات الإسلامية على الشمال و أعمال التدمير و التخريب التي طالت أماكن و مواقع مصنفة محميات دولية في تومبوكتو، لدى قال الناطق الرسمي لوزارة الخارجية الفرنسية، برنار فاليرو : "نعتقد أن الأمور متجهة بسرعة نحو موافقة مجلس الأمن على إرسال قوة عسكرية مشتركة بين الإكواس و الاتحاد الإفريقي"، و قد ردت الولايات المتحدة على هذا المشروع بكل صراحة : "أي عملية عسكرية في شمال مالي تعد مغامرة و لا ترسي أي استقرار". و لا يخفى ما يمثل هذا الحل من خطورة أفغنة المنطقة، و صنع بؤر مقاومة أمريكا و انجذاب الكثير من المتطوعين لها.
2) مشروع الحوار السياسي : و هو مشروع الجزائر بالأساس، و توافقها في ذلك الولايات المتحدة و بريطانيا، فلقد قال مساعد وزيرة الخارجية الأمريكية للشؤون الإفريقية، جوني كارسون : "على أي قوة عسكرية ترسلها الإكواس إلى مالي أن ترسي الاستقرار في جنوب مالي، لا أن تخوض مغامرة عسكرية في شمالها، و قالت السفيرة الأمريكية ببماكو، ماري بيث ليونار : " هناك أشياء يمكن التفاوض عليها مع المتمردين في شمال مالي، لأنه لا يعقل معالجة مشكلة بالقوة، طالما يمكننا حلها بالحوار". و سار الوزير البريطاني، أليستر بورت، على نفس الخط، إذ قال أن المملكة المتحدة : "تفضل المفاوضات لحل الأزمة المالية، و ترى أن موقف الجزائر و دورها في مرافقة المفاوضات الصعبة أمر جيد، أما التدخل العسكري فهو إجراء لا نفضله".
السبب الرئيسي الذي يدفع الجزائر على تفضيل الحل السياسي، هو أن الجزائر تعتقد تدخلا عسكريا أجنبيا في الأزواد سيؤدي إلى مواجهة طويلة الأمد، بين "جهاديين" و بين "قوى صليبية"، أي أن تتحول شمال مالي إلى قبلة الجهاديين من كل المعمورة، و يحتوي الحل التفاوضي السلمي الجزائري على ستة إجراءات عاجلة هي :
أ) استكمال مسار العودة إلى النظام الدستوري، و العودة إلى الشرعية.
ب) ممارسة الدولة المالية لصلاحياتها على كامل التراب الوطني.
ت) التكفل بالجانب الإنساني.
ث) المحافظة على السلامة الترابية و سيادة مالي.
ج) إيجاد حل سياسي من خلال التفاوض بين الحكومة و المتمردين، يأخذ بعين الاعتبار المطالب المشروعة للسكان.
ح) مكافحة الإرهاب و الجريمة المنظمة.
و يعتمد مشروع الجزائر على فصل "العنصر التارقي" عن معطيات الصراع، الممثل من طرف الحركة الوطنية لتحرير أزواد، و حركة أنصار الدين السلفية التوجه، وعزل "العنصر الإرهابي القاعدي" الممثل بحركة التوحيد و الجهاد، و كتائب قاعدة المغرب الإسلامي.
فالخلاصة، ترى الجزائر أن الحل الوحيد الناجع هو تقوية سلطة شرعية مالية على كامل التراب المالي، و الاستجابة العاجلة لمطالب التوارق المشروعة، و عزل القاعديين عن عموم الناس، و ضربهم في إطار الشرعية المالية بمساعدة الأسرة الدولية في إطار الشرعية الدولية.
وبين هذا الحل و ذاك، لا يزال مستقبل منطقة الساحل و الصحراء غامضا في ظل تداخل المصالح و تناقضها، بين طالبان جدد كرسوا محاربة أشباح و أموات على إرساء الحياة الكريمة و بين مطامع دول ليس في أجندتها مصالح الشعوب إلا شعارات جوفاء. حفظ الله البلاد والعباد من شر الفتن و القلاقل التي هي في أيامنا هذه بلا عد و لا أعداد.