ضابطُ الإيقاع في المشهد السوري

محمد عبد الرازق

 أخذت خطوات التحرك في المشهد السوري تزداد ( كثافة، و سرعة )، فعلى صعيد المعارضة هناك مؤتمرات ثلاث من أجل توحيد رؤاها، و تحركاتها المستقبلية، عقد منها اثنان في ( اسطنبول، و بروكسل )، و الثالث على الطريق في ( القاهرة ، برعاية الجامعة العربية )، في يومي: الاثنين، و الثلاثاء:2، 3 تموز.

 و على الصعيد الخارجي هناك زيارة قام بها ( بوتين ) إلى إسرائيل للتباحث في أمور عدة، في مقدمتها الشأن السوري ؛ في مسعى منه لكسب اللوبي اليهودي في أمريكا، و حتى روسيا، للضغط على ( أوباما ) لإنجاح مساعيه في هذا الملف؛ متعهدًا لهم مقابل ذلك بالسيطرة على الأسلحة الستراتيجية ( الكيماوية )، و الحؤول دون وصولها إلى حزب الله، و هناك جلسة لمنظمة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، حضرها المحققون الأمميون في الجازر المرتكبة في سورية، و هناك حزمة من العقوبات الأوروبية التي طالت رموزًا إعلامية، و دعائية للنظام، إلى جانب جهات تمويلية ( بنكية ) تتحايل على العقوبات المالية المفروضة على البنك التجاري السوري، و هناك لقاء لحلف الناتو أدان فيه إسقاط النظام طائرة تركية، و هناك جلسة مغلقة لمجلس الأمن قدم فيها (ناصر القدوة ) نائب المبعوث الأممي، و العربي المشترك ( كوفي عنان ) تقريرًا أوضح فيه خفايا المشهد السوري في ظل تصاعد غير مسبوق لأعمال العنف من قبل ( الأسد )، متمثلاً في قصف مدفعي، و جوي عشوائي للمدن السورية.

 يأتي هذا التحرك قبيل انعقاد ( مجموعة العمل حول سورية ) يوم غد السبت (30 حزيران ) في جنيف بمبادرة من ( عنان ) من أجل إنقاذ خطته ذات النقاط الست التي أوشكت على الموت، و لم يبقَ للسيد (عنان ) إلاَّ أن يطلق عليها رصاصة ( الرحمة ) الوحيدة الموجودة في ( بندقيته روسية الصنع )، و يسبق ذلك لقاء ( كلينتون ـ لافروف ) في ( سان بطرس برغ ) مساءَ الجمعة؛ لوضع اللمسات النهائية على أفكار عنان الجديدة.

 و كانت التصريحات قد تتابعت، و تلاحقت، و تناقضت قبيل حلول ساعات فجر يوم غد؛ في محاولة لكسب المزيد من الصفقات في ( بازار ) جنيف حول الملف ( السوري )؛ فقد لوحظ الارتباك في الموقف (الروسي ) فبعد قبولهم فكرة ( الحكومة الانتقالية ) التي ستستبعد منها معوقات الحل السلمي ( في إشارة إلى الأسد ) سارع ( لافروف ) صاحب ( التناقضات الشهير ) إلى القول بأن شكل الحل القادم أمر يقرره السوريون بأنفسهم من خلال الحوار، و لا يمكن أن يفرض عليهم من الخارج ( في إشارة إلى تمسكهم ببقاء الأسد في المرحلة الانتقالية المزمعة )، و هو أمر لقي رفضًا من المعارضة ( المجلس الوطني ) الذي يرى المشاركة في أية حكومة يحضر فيها ( الأسد، و أركان حكمه من العسكريين، و الأمنيين ) نوعًا من الانتحار السياسي، و تخليًا عن مطالب الحراك الشعبي. و لقي كذلك رفضًا من الدول الأوروبية، و أمريكا، و الدول العربية، و الإسلامية المعارضة لـ ( الأسد و حلفه )، و قد شكل هذا حائط صدٍّ في وجه أية مساع روسية للإبقاء على ( الأسد، و أركان حكمه المتورطين في أعمال القتل ) في المرحلة القادمة.

 و بالطبع فإن الحليف الروسي سيجد في هذا الرفض تقويضًا لسياسته الرامية إلى الإبقاء على نظام (الأسد) لفترة انتقالية تدوم عامين، في انتظار متغيرات على الساحة السورية، و الدولية قد تعيد إنتاج المشهد بطريقة لا تختلف كثيرًا عن وصفة ( بوتين ـ مديديف ) الشهيرة ؛ من أجل الإبقاء على مؤسسات النظام ( العسكرية، و الأمنية )، و هي العنصر الأهمّ في المعادلة السورية التي لا يريد حلفاء النظام الإقليميين أيضَا التفريط بها ( حزب الله، و إيران )؛ و كلٌّ من هؤلاء الحلفاء ينظر إلى الأمر من الزاوية التي تحقق له مصالحه.

 و يرى المحللون أن الخاسر الأكبر في هذه الوصفة هو ( الطائفة العلوية ) التي أصبحت ( حصان طروادة) في ظل صراع بدأت كفته تميل إلى جانب الحراك الشعبي بلونيه ( المدني، و العسكري)، و تقهقر سريع لقوات ( الأسد ) ( ميدانيًّا، و تعبويًّا )؛ نتج عنه مزيد من السيطرة الميدانية لفصائل ( الجيش الحر، و المجالس العسكرية ) التي أصبح عددها يزيد على ( المائة )، و هو أمر الذي جعل الجنرال روبرت مود يقرّ أمام مجلس الأمن الأسبوع الماضي بأن المقاومة تزداد فعالية، بحسب ما ذكر دبلوماسي ممن حضروا الجلسة. وعزا الجنرال ذلك إلى زيادة الخبرة، وليس إلى تحسن نوعية الأسلحة، أو ارتفاع مستوى التنسيق.

 و هو أمر اِلتفت إليه قادة الحراك المسلح في الآونة الأخيرة؛ فلم يعودوا يقبلون في صفوفهم إلاَّ المهيئين للقتال بشكل مهني، و جيد، يأتي ذلك بعد مطالب للجهات الداعمة التي تريد أن تضبط تسليم السلاح إلى أناس معروفين بأسمائهم، و انتماءاتهم؛ حتى لا يتسرب شيء منه إلى من يوصفون بالإرهابيين (القاعدة)، الذين قد يشكلون خطرًا على مصالحها في المستقبل.

 رافق ذلك انهيار في نفسيات كتائبه التي فقدت حاضنتها الشعبية؛ ممَّا جعلها تسبح في حوض من الطين، أعاق حركتها بشكل ملفت للنظر، نتج عنه تخليها عن مواقعها بمجرد بضع طلقات تحوم فوق رؤوسهم، ممَّا أكسب فصائل الحراك المسلح مزيدًا من الغنائم العسكرية التي ساهمت في تحقيق تلك الانجازات لهم، و جعل ( النظام ) يتخذ قراره بسحب ما تبقى من آلياته و حواجزه من مناطق المواجه.

 هذا فضلاً على موجة الانشقاقات التي تغيرت ( نوعًا، و عددًا، و عدّة ) ؛ وصولاً إلى ( الطائرات )، و كتائب ( الدفاع الجوي)، و كان آخرها في ( كفر شمس ـ درعا ) حيث تواردت الأنباء عن انشقاق كتيبة من اللواء (61) بكامل أفرادها، و عتادها، و سيطروا على مخزن لصواريخ ( الكاتيوشا)، و ( 300) قاذفة آربيجي (7)، وتمَّ تدمير عدد من المدرعات، و قصف مقر الفرقة التاسعة قبل أن يتم انسحابهم، و تأمينهم من قبل عناصر الجيش الحر.

 و لم تتوقف هذه الاندفاعة عند حدود المناطق التي شهدت شبه سيطرة للمعارضة، بل وصلت إلى مناطق الساحل، التي شهدت معارك عنيفة في منطقة ( الحفة، و جبل الأكراد ) حيث قدرت خسائر النظام من العسكريين، و الشبيحة بـ ( 1350 ) قتيلاً( تصريح منذر ماخوس، عضو المجلس الوطني للعربية، الجمعة:29 حزيران )، ثمَّ انطلقت تدق أبواب العاصمة ( دمشق )، التي سعى ( النظام ) لإبقائه مع (حلب) خارج الحلبة، و هو الأمر الذي جعل صحيفة ( الوطن ) الحليفة للنظام تنظر إلى المعارك التي كانت في اليومين الأخيرين مع كتائب ( الحرس الجمهوري ) بأنها حرب حقيقية أرادت أن تقتحم أبواب دمشق، و تأتي كلمات ( الأسد ) لوزراء الحكومة ( الحرب ) الجديدة ضمن هذا السياق أيضًا.

 يضاف إلى ذلك متغير جديد في المعادلة يتمثّل في ظاهرة اعتقال أركان النظام من ( العسكريين، و الأمنيين )، و كان آخرهم ( اللواء الطيار فرج شحادة ـ قائد مقر القيادة المركزية، و العميد الركن منير أحمد الشليبي ـ رئيس وحدة الإرهاب في فرع فلسطين العسكري، و أحد المسؤولين عن مجزرة صيدنايا)، و يأتي اعتقالهما رسالة أراد الثوار أن يوجهوها إلى الضباط الآخرين، بأنه لا أحد ممن شارك في قمع الحراك الشعبي سيكون في مأمن، و ليس ببعيد أن يكونوا ضيوفًا على محكمة الجنايات الدولية في القريب العاجل.

 و بناء على تقدم يمكننا القول: إن ضابط الإيقاع الأساسي في المشهد السوري الآن هو الحراك الشعبي بلونيه ( المدني، و المسلح )، و هذا ما يجعل اللاعبين الآخرين يتحركون على نغم ألحانه التي بات يعزفها في الوقت، و المكان المناسبين لتحركاته هو، و هو فقط؛ ثقة منهم بنصر الله عزَّ و جلَّ لهم.