انتصرت مصر .. هنيئا للشهداء!
انتصرت مصر .. هنيئا للشهداء!
أ.د. حلمي محمد القاعود
الحمد لله انتصرت مصر ! وقرت أعين الشهداء في مثواهم، واستراحت نفوس المصابين والجرحى ؛ فقد انتصرت الثورة بعد محاولات تعطيلها ، ونقض غزلها . توحد الشعب وأجرى انتخابات حرة نزيهة بحق ، لتقدم لمصر أول رئيس مدني منذ ستين عاما ، يأتي بإرادة المصريين واختيارهم دون أن يفرضه أحد عليهم ، وكان خروجهم في طوابير طويلة أمام لجان التصويت ، بعزيمة يتفوق فيها العجائز والمرضى على الشباب والأصحاء دليلا على عودة الروح إلى وطن أثخنته الجراح ، وأثقلته الهزائم، ودوخته ممارسات الطغاة والكذابين والمنافقين والنصابين والمحتالين ..
الحمد لله انتصرت مصر ، وليس الإخوان المسلمون أو التيار الإسلامي ، وإنما مصر كلها هي التي انتصرت ؛ حين قدمت للدنيا كلها نموذجا رائعا للتنافس على منصب رئيس الجمهورية ، ومن قبل مقاعد البرلمان بغرفتيه ، واختار الناس بمحض إرادتهم من رأوا فيه القدرة على تنفيذ مطالبهم ورغباتهم ، ومنحوه حق تمثيلهم في المنصب الرئاسي الرفيع ، وفي مجلسي الشعب والشورى ، لمدة محدودة ينفذ برامجه ومشروعاته ، ومن ثم يرى الناس إذا نجح أن يجددوا الثقة فيه ، وإلا اختاروا غيره .
الحمد لله انتصرت مصر .. ولم يكن انتصارها لنفسها فحسب ، ولكنه كان انتصارا للعالم العربي، وللأمة الإسلامية ، ولإفريقية وآسيا ، وكلها ترى في مصر عقلها وقيادتها ، والرائد الذي تسير من ورائه ، وتستلهم تجربته وتتأثر بما يجري له .
لقد كسبت مصر من تجربتها الديمقراطية – مع كل العثرات والمتاعب – مكاسب عظيمة ، ما كانت لتحققها لو أنفقت المليارات ! فمصر لها مكانها ومكانتها ويعرف العالم قدرها وتاريخها وحجم حضورها .
ومن ثم فإن المصالحة الوطنية من أجل البناء والتعمير ومن قبل ذلك وبعده الحرية والعدل والكرامة الإنسانية ، تستوجب أن تراجع بعض القوى مواقفها ، وتصحح سلوكها ، وتنحاز إلى جانب الشعب وإرادته ، أو على الأقل لا تصنع المطبات الحادة أو الحفر العميقة ، حيث تفرض علينا اللحظة أن نستغل كل ثانية في العمل والإنتاج من خلال وحدة يغذيها التنوع .
على كل الأطراف أن تسلم بهوية الشعب المصري الإسلامية ، وأن تكف عن محاولات الاستهانة بهذه الهوية أو تغييرها أو فرض هوية أخرى على شعب مصر العربي المسلم بالعقيدة والحضارة ، وليعلم الجمع أن من أهم خصائص مصر الحضارية أنها هاضمة ، وأنها تستوعب العناصر الصالحة من كل الحضارات ، فهي حضارة فطرة تقبل ما يتوافق معها ، وتدع ما لا يستجيب لطبيعتها .
وعلى الإعلام المضلل أن يتقي الله ،إذا بقي لديه ارتباط بالله ؛ فيكفّ عن الكذب والتضليل والتدليس والنفاق ، وأساليب القذف والشتم ، وتكفي نظرة إلى صحف الأسبوعين الأخيرين قبل إعلان نتائج الانتخابات ، وبرامج الفضائيات لنتذكر كمّ الأكاذيب والافتراءات والبهتان والشتائم البذيئة التي حملتها الصفحات والشاشات ، وهو ما ينبغي أن يتطهر منه الإعلام المصري ليحظى بالقبول لدى المتلقي .
ومن نافلة القول أن الهياكل السياسية التي أسسها النظام الفاسد من أحزاب لا وجود لها في الشارع ، أو مجالس وهيئات تهدر أموال الدولة ولا تفيد المجتمع ، لا محل لها في المرحلة الثورية ، ويجب أن تحل نفسها أو تندمج مع غيرها ، ويكف أصحابها عن شهوة الظهور الإعلامي ، وتعطيل المراكب السائرة ، لمجرد إثبات الذات أو السعي لمصالح ضيقة .
ويتبع ذلك السادة الفضلاء الذين ما زالوا يتصدرون المشهد السياسي والفكري طوال ستة عقود ، فكانوا ناصريين مع عبد الناصر ، وأضحوا ساداتيين مع السادات ،وصاروا مباركيين مع مبارك ، ولا يخجلون من أنفسهم وهم يرتدون اليوم ثياب الثورة ، وقد بلغوا أرذل العمر وأرذل الفكر وأرذل السلوك . عليهم أن يخلدوا إلى الراحة ، وأن يتوبوا عما اقترفوه من تضليل وتدليس ، ونفاق وتزوير ، ويطلبوا من الله سبحانه أن يغفر لهم ويرحمهم إذا كان في اعتقادهم بقية صلة بمن تذل له الرقاب في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون .
أما الدولة العميقة التي آذت المصريين طوال ستة عقود ، وأهدرت كرامتهم ، وجعلتهم معرة الأمم ؛ فيجب أن تتطهر من داخلها أو بالتشريع ، فلا يعقل أن تمضي الدنيا كلها على طريق العمل والبناء ، ونحن مشغولون في دولتنا العميقة بالتفتيش في أفكار الناس ، وشغل المجتمع بالشائعات الخائبة ؛ وتحريك السلطات والإدارة نحو قضايا ثانوية تلتهم وقت الشعب وماله ، وتدخله متاهات ليس في حاجة إلى زيارتها .
إن انتخاب رئيس جديد يعد نفسه خادما للأمة ، ويتعهد ألا يخونها ، وأن يكون مواليا لها ووفيا ، يفرض علينا أفرادا وجماعات وأحزابا ومؤسسات أن نتوحد خلفه على اختلاف مشاربنا واتجاهاتنا ، وأن ندعمه بالرأي والفكر والنصيحة والمعونة ، خاصة أنه استعاد في خطابه الأول بعد إعلان نتيجة الانتخابات خطبة الخليفة الأول أبي بكر - رضي الله عنه :
" إني ولُيت عليكم ولست بخيركم ، فإن أحسنت فأعينوني ، وإن أسأت فقوموني ، أطيعوني ما أطعت الله فيكم " ، وقد قال له أحد أبنائه شيئا قريبا من هذه الخطبة " سنطيعك ما أطعت الله فينا " مما يعني أن الرجل حريص على أن يكون نموذجا وقدوة للحكم الذي ترجوه الأمة وتحلم به ، ويقدم لمن يخافون الإسلام وقيمه صورة للحاكم الذي لا يحكمه كهنوت، ولا يملك حرمانا أو غفرانا ، ولكنه خادم للأمة يسعي لقيادتها من خلال مؤسسات تشارك وتوجه وتعمل وتنتج .
الحمد لله مصر انتصرت لأن شعبها امتلك القيادة ، ويستطيع أن يتوحد تحت قيادة واحدة ، ويلتئم جميع المصريين في بوتقة واحدة لمواجهة ركام المشكلات الحادة والمزمنة ، والأحزان العميقة والمؤلمة ..
وهنيئا للشهداء ، فقد أورقت دماؤهم انتصارا مؤزرا يفخر به المصريون جميعا من أيدوا مرشح الثورة ، ومن أيدوا المرشح المنافس . حفظ الله مصر وأهلها ، وهيا للعمل والبناء . والله المستعان.