من اندربوف.. إلى بوتين.. استراتيجية روسيا لم تتغير
من اندربوف.. إلى بوتين..
استراتيجية روسيا لم تتغير
جان عبد الله
منذ تشرين الأول عام 1982 والادارة الأميركية تؤكد خطورة الصلة السورية-الروسية وعلى الحاجة الى فصمها , هذا التأكيد يضع الحشودات البحرية الأميركية في اطار الصراع بين الشرق والغرب بعد أن اتضح للغرب أن الاتحاد الروسي لم يعوض سوريا ما فقدته من اسلحة في حرب لبنان ضد اسرائيل بل زودها بأنظمة دفاع جوي بعيدة المدى يمكن أن تدار من موسكو مباشرة بشكل يهد أمن اسرائيل. وأكد ذلك يومها تصريح حافظ الأسد من أن التفوق الجوي الاسرائيلي لن يستمر حيث كان هذا التفوق مرده طائرة التجسس (هوكي) التي هي طراز مصغر من ( الأواكس).
ميزة نظام الدفاع الجوي الذي حصلت عليه سوريا لا تنحصر في مدى صواريخ سام 5 ودقتها فقط وانما بمقدرة هذا النظام على التنسيق بين عدد من أحدث الانظمة ارادارية ومنها رادار سام الذي صممه الروس لمقاومة صاروخ كروز الاميركي وبين طائرات ميغ الحديثة والقيادة المركزية في دمشق , لم يكتفوا يومها بارسال 5000 خبير وانما وصلوا نظام الدفاع الجوي السوري بموسكو عن طريق الاقمار الصناعية وزودوها بصواريخ اس-اس 21 ارض ارض 120كم. انه فعلا استثمار روسي ضخم في سوريا لآخر معقل للنفوذ الروسي بالاضافة الى عامل آخر هو وجودها البحري في المنطقة لذلك نجد استماتتها بالتمسك بنظام بشار الأسد حتى لو ادى الى تقسيم سوريا ودمارها .
لقد عاش هنري كيسنجر الى اليوم ليرى ملامح مخططه لتقسيم العام العربي راسيا وافقيا يطبق بنجاح منقطع النظير وأن يبدأ الانقسام في كل قطر داخليا, ابتدا بالوضع الفلسطيني الذي أصبح أرضا محتلة وأداة عسكرية موزعة وشعبا مشتتا ومنظمات منقسمة حولت اللعبة الدولية مصيره كمصير الشعب الأرمني. ثم جاء دور العراق المرشح للانقسام الى ثلاث دول وبعده الدور السوري الذي تتفاعل داخله المؤامرة التي ابتدأ تنفيذها حافظ الأسد حيث هيأته دول الغرب ومكنته اسرائيل من تصفية الجيش السوري وتسليمها الجولان , حافظ الاسد كان مكشوفا بدوره حتى من الجنود الاسرائيبيين في الجنوب اللبناني اثناء عملية سلام الجليل حيث رفعوا صوره على دباباتهم.
التحدي الكبير الذي يواجهه السوريين اليوم هو تقسيم مايمكن تقسيمه الى الحد الذي يمكن ان تصبح كل فئة او طائفة فصيلا مناقضا للآخر وان كل واحد منهم يتصور ان رايه الصواب وراي الاخرين خيانة للقضية ويصاحب هذا التحدي محاولات الشرق والغرب اتخاذ الجغرافية السورية قاعدة لنفوذهم.
الاستراتيجية الروسية التي تعتمد المذابح والمقابر الجماعية والارهاب الفكري والتطهير العرقي تطبق اليوم في سوريا لضمها الى منطقة النفوذ الروسي, وكما ارتكبوا في 12 تشرين الأول 1934 في بولندا بالقرب من مدينة سمولنسك مجزرة رهيبة راح ضحيتها عشرة آلاف من الضباط البولنديين قتلوا بوحشية مشابهة لما يرتكب اليوم في سوريا ودفنوا بمقبرة جماعية ليقيموا الامبراطورية السوفياتية, الاّ ان حكومة بولونيا بالمنفى والتي كانت تسمى حكومة الاوبرا او حكومة الرمز عملت لتخليص بلادها من الحكم الشيوعي واسترداد حرية شعبها
يوم جاء اندربوف الى الحكم وكان يعرف نقاط الضعف والقوة في شعبه اكثر من غيره بعد ان قضى 15 عاما في الكي-جي-بي كان يتلقى في تلك الفترة تقارير من الشبكة الواسعة للعملاء السوفيات في الداخل والخارج سعى الى خنق الدول الصناعية الغربية عن طريق قطع امداداتها بالمواد الحيوية من دول العام الثالث وخاصة امدادات الطاقة منها حسب نظرية ماوتسي تونغ التي كانت تدعو الى عزل المدن عن طريق الاستيلاء على أريافها.
أصبح اندربوف مادة للكثير من التكهنات في الغرب قال بعضهم عنه أنه ليبرالي في اعماق نفسه وأنه قطّ مستأنس يسهل التعامل معه لأنه يجب موسيقا الجاز الأميركية وأنهم نفسهم اعتبروا نيكيتا خربتشوف زعيما ضعيفا لأن لغته الروسية كانت سيئة وتصرفاته فجة وكما هي أحكامهم الخاظئة على بوتين اليوم فالشخص الذي يشق طريقه الى القمة وسط الادغال المخيفة لجهاز الحكم الروسي لابد ان يكون عدوا يحسب له الف حساب كما ان الانجازات التي حققتها روسيا في السبعينيات والثمانيات عندما تفوقت غلى الغرب في اقوى الاسلحة النووية واكثرها دقة وهي الصواريخ الاستراتيجية التي تنطلق من قواعد برية وكذلك الصواريخ متوسطة المدى , وهددت عن طريق عملائها في كوبا وتيكاراغوا بتحويل اميركا الوسطى الى ميدان للمعركة بين الشرق والغرب .
بوتين ايضا يستعمل سوريا ميدانا للصراع ويقترب من الخليج العربي عن طريق ايران حيث تظهر روسيا في صورة القوى الهائلة التي تدعم سياسة خارجية توسعية تهدد الآخرين بأخطار كبيرة. القيصر الماكر بوتين دجّن المعارضة وقمع المتظاهرين بقسوة كما يفعل اليوم تلميذه في دمشق, ففي عام 2007 تم اغتيال المعارضة الصحفية ( آنا بوليتكلوفسكايا) وقبلها اغتيال الجاسوس الروسي السابق الكسندر ليتيفننكو المعروف بانتقاده لبوتين . الا اننا وبنفس الوقت لا يمكننا ان ننكر ما تمتع به بوتن من شعبية وخاصة في محاولته اقامة دولبة قوية مستقرة يكون لها وزن يتناسب مع ما يتمتع به من امكانيات هائلة ساعده في ذلك ارتفاع اسغار النفط ونمو اقتصادها الذي يعتبر أحد أكبر عشر اقتصاديات في العالم فاحتياط النقد الأجنبي لديها اكثر من خمسمائة مليار دولار مقابل لاشيء عام 1988 كما ان معدل النمو فوق ال7% اعتبارا من عام 2000, بالاضافة الى استعادته السيطرة على قطاعي النفط والغاز وايقاف التدهور والتخبط الذي عانت منه روسيا في حقبة التسعينيات وبدلا من تراجع دورها دوليا عادت لتلعب دورا مؤثرا حيث ظهر موقفها المعارض للموقف الغربي من ملفات كثيرة مثل كوسوفو والبرنامج النووي الايراني والملف السوري الذي نجح فيه بوتين في اعادة روسيا كقوة عالمية بعد استعماله حق النقض الفيتو في مجلس الامن . ورغم مغادرته القصر الرئاسي عام 2008 الا انه كان الرئيس الفعلي لان الرئيس الشكلي مدفيديف هو احد مساعديه اللذين عملوا معه في مجلس مدينة سان بطرسبرغ وتولى حملته الانتخابية وكان رئيس فريق العاملين معه في الكرملين.
وكما فعلت عائلة الأسد في نهب الثروات الوطنية السورية, تمكن بوتن حتى اليوم من جمع 40 مليار دولار حسب المحلل الروسي ( ستانيسلاف بيلكوفسكي), كما انه يملك اسهما في ثلاث شركات نفط وغاز منها شركة ( غاز بروم). وحققت المجموعة المحيطة به مكاسب هائلة من الصفقات في الوقت الذي تعرض اقتصاد الكثير من الدول الغربية لعواصف وأنواء واقترب معدل النمو فيها من الصفر, بينما الاقتصاد الروسي في حالة جيدة بعد هبوط معدل نموه قبل استلامه ومستوى المعيشة ومتوسط أجر العامل الى أقل من الحد الأدنى للاجور في البرازيل وبلغ حجم الانفاق العسكري الروسي ضعفي الانفاق العسكري الاميركي.
وكما اكتسبت سياسة اندربوف يومها العداء من دول اوروبا والصين وكندا والولايات المتحدة, احتاج على اثرها القيام بمبادرة في ميدان السياسة الخارجية لتنعم روسيا بالسلام الذي كانت تحتاجه نجد اليم أن استراتيجية روسيا التي لم تتغير والتي يتبعها بوتين حققت العداء الشعبي العربي من المحيط الى الخليج وخسارتها للرأي العام العالمي بعد أن ظهرت مساندتها الغير مجدودة للأنظمة الشمولية الارهابية وانها لا تختلف عن سياسة العالم الغربي الذي يلهث خلف مصالحه , لهذا نجد ان الشيوعيين لم يفوزوا بالأغلبية قط في أي انتخابات حرة وفي أي مكان من العالم.