الاتجاه القومي، وبعض حكايته

الاتجاه القومي، وبعض حكايته ...

عقاب يحيى

يشعر أصحاب الاتجاه القومي، على العموم، في سورية وخارجها، بالضيق والغبن .

الضيق مبعثه واقعهم، وتجاهل ثورات الربيع العربي لهم ولتضحياتهم، وموقعهم، والغبن يتأتى من كمّ الأحكام الظالمة التي تطلق تعميماً على مختلف الاتجاهات القومية، وتحميلهم مسؤولية كل الدمار والخراب الذي يحيق ببلدنا العزيز، واقتران الصفة بالأحادية، والتفرد، والقمع.. وبكل الموبقات الأخرى التي فعلها نظام الطغمة الفئوي رافع الرايات القومية، وخائنها بنتهيج مسبق .

ـ كثير من هؤلاء يحمل الغير المسؤولية، والغير دائرة واسعة يمكن أن تمتدّ من الغرب والصهيونية وأعداء القومية العربية الذين ناصبوها العداء، وتآمروا عليها بالسر والعلن، والعراق شاهد ومثال يستحضرونه كثيراً، وما حصل للبعث على ايدي جلاوزته وسماسرته عنوان . إلى تحميل الغير نسيان، أو إغفال للمفاعلات الإشكالية للاتجاه القومي : البنيوية منها والذاتية، فيجري ترحيل الأزمة، والحال الراهن لتلك العوامل الخارجية بالأساس، دون الوقوف المعمّق والجريء عند الذاتي وموقعه، ولذا يسهل إفساح المجال لشعور بالمظلومية التي يمكن أن تصل حدود المؤامرة في جوانب وتيارات من أطراف ثورات الربيع العربي، أو التركيز على القطرية المتورمة ودورها، وغياب البعد القومي، بما في ذلك فلسطين، عن شعارات ومواقف تلك الثورات، وبالأخص منها الثورة السورية.. التي كانت فلسطين، على مرور العقود، واختلاف الأوضاع، القضية المركزية لدى عموم الشعب السوري بمختلف تياراته وفئاته . 

ـ والواقع أن حضور ووجود التيارات القومية في الثورة السورية هزيل، ويتصف بالتشتت، وفيما عدا حركة الاتحاد الاشتراكي، بمرجعيتها الناصرية، والتي تعاني بدورها إشكالات مركّبة، تراجع دور الاتجاه القومي كثيراً حتى شبه الغياب، وهو يعاني البعثرة، واثقال العقود، وبالأخص منها التركة الرهيبة التي خلفتها نظم الاستبداد والفئوية، والإخفاقات المتواصلة في تحقيق الحد الأدنى من مشاريع النهوض القومي. بل بقر جوهرها، والدوس على المقدس فيها : فلسطين، والمتاجرة بها وتوظيفها لصالح الطغمة الحاكمة تجارة، ومقايضة وتلاعبات، وبهدلة ..

ـ لقد مسخ نظام الطغمة الفئوي البعث، وحوله إلى واجهة، وممسحة لقذاراته وجرائمه فاقترن اسمه بكل الحصائل الكارثية، وعافته جموع الأجيال المتعاقبة، وبعضها يحقد عليه بالجملة، ويصدر أحكامه القطعية على الاسم والأفكار، والمراحل، والتمايزات، لا فرق عنده طالما أن " حكم البعث" المحكوم اقترن بالأحادية، واستئصال الآخر، واعتقال الحريات الديمقراطية، ثم فرّخ من رحمه نظام الإجرام الدماري الذي خرّب الدولة والمجتمع وأقام المجازر الجماعية المفتوحة، وانتهك الكرامة والشرف والوطن مراراً، والراية هي البعث، والشعارات شعاراته مطعمة بالممانعة المفوتة، والمقاومة المغومة.

ـ نعم لقد ضحت أجيال متعاقبة من القوميين والبعثيين على مرّ العقود، وقدم المئات عمرهم، وزهرة شبابهم في المعتقلات والمنافي وما أحنوا الرؤوس وما ساوموا على قناعاتهم ومبادئهم، وواجهوا النظام بما قدروا من إمكانات. لكن الأمور بنتائجها، والتاريخ يسجل الحصائل، ولا يعترف ـ إلا من باب التذكر والذكريات بتلك الجهود طالما أنها لم تحقق الهدف، وطالما أنها عجزت عن التواصل والحضور والمشاركة، وطالما أن عوامل كثيرة حدّت وتحدّ من فعاليتها بالثورة، بغض النظر هنا عن كمّ الضغوط التي يمارسها نظام الطغمة، والتهديد والوعيد والحصار والمراقبة، وعن الظروف الخاصة، وعوامل التفتت التي فعلت فعلها عبر العقود .

ـ لنقل منطلقاً : أن الإشكالية تكمن اساساً في أهل الاتجاه القومي، وعدم قدرتهم على التجدد والحضور، حيث لا يمكن لجهة أن تحجب، أو تمنع اتجاهاً يشق طريق الحياة ولو بالأظافر والصخر، إن كان يملك مقومات الحياة والفعالية، ويثبت ذلك في الميدان. ومهما كان علو الموج القطري في ثورات الربيع العربي، وارتفاع وتيرة الشأن الداخلي، والانغماس كلياً في الهمّ اليومي، وفي تحقيق الهدف الرئيس : إسقاط النظام : بوابة وشرط التغيير والدخول إلى المرحلة الديمقراطية، وإلى انعتاق الشعب، فإن كل ذلك لم يمنع ـ لو كان الاتجاه القومي معافى ـ من أن يفرض وجوده، ويطرح رؤاه وإسهامه لو كان بقدرة ذلك، الأمر الذي يطرح ويمحور الأسئلة حول موجبات وشروط وجوده الواقعية وليست الرغبوية، والذاتية التي تشغل بال أجيال معينة ممن اعتنقت وآمنت بتلك المبادئ، وأفنت العمر في سبيلها، ولم تنجح في تحقيقها .

ـ ليعترف اصحاب الاتجاه القومي : بداية ومنطلقاً، أن مشاكل كبيرة رافقت وأفكار وخطاب وممارسات ومسار ذلك الاتجاه، وهي مسؤوليته بالدرجة الرئيس، ولا يمكن هنا رميها على هذه الجهة الخارجية أو تلك، حتى لو أقرّينا فعلاً بثقل وحجم التآمر والتدخل الخارجيين . وقد سبق وتناولت في دراسات مطولة إشكاليات الحركات القومية في الفكر والمفاهيم والمصطلحات والمبادئ، بما في ذلك مفاهيم الأمة، والقومية، والوحدة، والعروبة، والرسالة الخالدة وغير الخالدة، والهوية، والانتماء، والتجزئة والقطرية، وفلسطين.. وغير ذلك من أسس ومقومات وبناءات ذلك الاتجاه، ناهيك عن فعل وأثر النظم التي حكمت باسمه، وتلك التي خانته وداست عليه ببساطيرالذات النهابة، الفئوية..

ـ الاتجاه القومي إحدى ضرورات التعددية، ومن حقه، كغيره من الاتجاهات الرئيسة، ان يكون موجوداً، وفاعلاً ومساهماً في الثورة، وفي بناء الدولة الديمقراطية، وأن يشارك بجهده في منافسة التداول السلمي على السلطة، وفي طرح أفكاره واستقطاب الناس على أساسها.. لكن الأمنيات لا تكفي، ولا النوايا الطيبة، ولا التضحيات الجسام، والتاريخ النضالي لكوكبة القوميين المعتقلين والمنفيين وغيرهم.. المطلوب اساساً، وبدءاً : القيام بمراجعة نقدية شجاعة لجوهر الخطاب القومي ومرتكزاته، باتجاه التصويب والتجديد، واستلهام الدروس والتجارب الغنية في جوهر اسباب الفشل النابعة من البنية الذاتية، وليس الاكتفاء بالعوامل الخارجية التي لن تكون سوى حالة هروبية قد ترضي بعض أصحابها لكنها لن تقنع أحداً من الأجيال، وستصطدم بمتراس الحقيقة فتصل الباب المسدود قبل أن تبدأ اولى خطواتها، وثانيها، بل وبالترافق معها التوجه إلى الأجيال الجديدة لاستقطابها.. لأنهم نسغ الحياة وخط الديمومة، وهذا لن يكون إلا بانتهاج خط جاذب للشباب يقنعهم، وييعبر عن أفكارهم وطموحاتهم ومصالحهم ..

ـ الاتجاه القومي أمام تحديات كبيرة، ذاتية في أساسها ومنطلقها ومساحات فعلها، ولئن نجحت بعض رموزه المؤمنة بواجب وضرورة ومشروعية نهوض هذا التيار وفق خط التجديد والمراجعة، ومن خلال تكريس نهج التوحيد والائتلاف والتحالف بديلاً للتشقق والتشتت.. فإن المشروعية تصبح حينها موضوعية تعبر عن حاجة حقيقية لقيام ودور هذا التيار، ومن ثم القيام بواجبه التاريخي في إعادة صياغة، أو الإسهام في بلورة وتجسيد مشروع النهوض القومي ـ الديمقراطي الذي ينطلق من الساحة القطرية بأفق قومي لا تغيب عنه قضايا الأمة ومستقبلها، وفلسطين وموقعها، والوحدة وجدواها وفوائدها، والوطن المتكتل، والواحد وآفاقه، والعروبة في مفاهيمها المتطورة التي تعني الانتماء وليس العرق والعصبية، وخلافاً للقومية الملجومة بالأصول باتجاه مفاهيم جديدة لمعاني الأمة والشعب، والهوية والتعددية السياسية والأقوامية واللغوية وغيرها..