سوريا تنادي الضمير الإنساني

سوريا تنادي الضمير الإنساني

السيد محمد واضح رشيد الحسني الندوي

تستمر المأساة الإنسانية في سوريا، وفشلت جهود الدول العربية في محاولتها لحل الأزمة لتمسك الرئيس السوري بشار الأسد بموقفه للصمود، ومواجهة الثورة بالقوة واستخدام سائر وسائل القمع لكسر المقاومة، ودعمه من الخارج لقمع الثورة، وقد بقيت سوريا كدولة وحيدة في العالم العربي تتمسك بالاشتراكية، وتحافظ على صلتها بروسيا، رغم انفكاك الاتحاد السوفيتي، وخروج عدد من الدول المنضمة إليه من الدول الإسلامية والمسيحية.

ولكون سوريا الدولة الوحيدة التي تبقى ولاءها لروسيا والاشتراكية، استخدمت الروسيا والصين حق النقص في مجلس الأمن لوقف مشروع قرار التدخل في سوريا، وأعرب زعماء روسيا عن رأيهم بأنهم لا يقعون في الخطأ مرة ثانية، ولا يثقون بالدول الغربية كما حدث في قضية ليبيا التي تدخلت فيها قوات الناتو علناً، وساعدت الثوار وحاربت جنباً بجنب معهم، وكان لفرنسا الدور الرئيسي في القضاء على العقيد معمر القذافي.

لقد كانت الدول العربية التي شهدت الثورة متعاطفة مع العسكر الاشتراكي، وقضت فترة في ظل الاشتراكية كليبيا والجزائر ومصر وأفغانستان والعراق واليمن الجنوبي، أما العراق وأفغانستان فقد تعرضتا لحرب علنية، وقام فيهما نظام موال لأمريكا والدول الأوربية وانضم الجزء الجنوبي لليمن الذي كان تحت الحكم الاشتراكي إلى الشمال.

أما سوريا فهي القلعة الأخيرة للاشتراكية تحت حكم حزب البعث الاشتراكي، تسلك سياسة معارضة الدين، ومحاربة علماء الدين، ومقاطعة المواد الدينية، والولاء لروسيا والصين، فلذلك أسرعت روسيا والصين إلى وقايتها من الثورة ضد النظام الموالي لهما، وحالتا دون المحاولات لتغيير نظام الحكم.

إن هذا الموقف من قبل الصين وروسيا موقف يتنافى مع القيم الإنسانية وحرية الشعوب، لأنه يعارض ثورة الشعب الذي يعاني الاستبداد والاستغلال وسلب الحريات المدنية، والطغمة الحاكمة تنتمي إلى الأقلية وتعتمد على الجيش، والشرطة، ولا يساندها الجماهير، بل يعيش الجمهور في حالة الحرمان، والقيود على حرية التعبير، وحرية العقيدة والعبادة، ولكن الصين وروسيا لهما تاريخ لقمع الثورات، وقد مارست الصين وسائل القوة والقهر لقمع الثورات في بلادها في التبت وسنكيانج، وفي الثورة الخضراء، ذهب ضحيتها عدة آلاف من المواطنين، أما روسيا فهي معروفة في استخدام وسائل القمع والكبت لكل مطالبة بالحرية، فقد قمعت ثورة تشيكوسلوكيا وأخيرا ثورة الشيشان، واستخدمت فيها وسائل للقتل والتدمير، وكذلك في عهد استيلائها على أفغانستان، وتأييد هذين البلدين يشجع سوريا على المضي قدماً في مواجهة الثورة الشعبية بالجيش والشرطة للقضاء على القوة، مهما كلف ذلك من ثمن، وأدى إلى خسائر في الأرواح، وبجانب ذلك يستمر الاستخفاف بالدين والمثل والعقائد.

ولسوريا نفسها تاريخ لثورات عسكرية، وقد عرف العالم العربي الاشتراكية منذ قام حسني الزعيم بالثورة 1949م، ثم حدثت ثورات متعددة، واستبد الحكام العسكريون بالشعب السوري، ومنهم اللواء سامي الحناوي 1949م، وأديب الشيشكلي (1949م-1954م) ثم انضمت سوريا إلى مصر في عهد شكري القوتلي في عام 1958م، وشكلت الجمهورية العربية المتحدة (1958-1961م) ثم انفصلت سوريا عن مصر في عام 1961م، وقامت حكومة الانفصال برئاسة ناظم القدسي (1961-1963م)، ثم وقعت سوريا تحت حكم حزب البعث العربي، فقامت حكومة صلاح البيطار عام 1963م، وحكومة أمين الحافظ (1963-1966م) ثم قامت ثورة بزعامة نور الدين الأتاسي في عام 1966م ثم قاد حافظ الأسد ثورة عسكرية في عام 1970م، واستمر حكمه الاستبدادي إلى 2000م، واختارت سوريا في عهد حافظ الأسد الاشتراكية اقتصادياً وعقدياً، وبدأ اضطهاد العلماء ورجال الدين، اضطر به عدد كبير من العلماء والدعاة إلى اللجوء في الدول العربية المجاورة، وتأزمت علاقات سوريا مع الدول المجاورة، ويبدو موقف الحكومة القمعية إزاء العلماء والدعاة من سلوك حكومة حافظ الأسد مع وفد رابطة العالم الإسلامي المكون من الشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي، والشيخ أحمد محمد جمال، والشيخ محمد الرابع الحسني الندوي، وأعضاء الرابطة الآخرين في جولة للدول الإسلامية، وقد زار الوفد فيها إيران وأفغانستان والعراق، ولبنان، والأردن، فلما وصل إلى سوريا داهم رجال المخابرات الفندق الذي كان يقيم فيه أعضاء الرابطة في منتصف الليل وطلب منهم بالخروج مباشرة من البلاد، وقبل أن تذيع الإذاعات العربية أذاعت إسرائيل هذا الخبر.

لقد وصف أحمد شوقي الشام بأنها جنة للرخاء والخضرة والماء، فقال:

آمنت بالله واستثنيت جنته              دمشق روح وجنات وريحان

قال الرفاق وقد هبت خمائلها           الأرض دار لها الفيحاء بستان

جرى وصفق يلقانا بها بردى           كما تلقاك دون الخلد رضوان

دخلتها وحواشيها زمردة               والشمس فوق لجين الماء عقيان

ولكن الشام في عهد الاشتراكية والكفر والإلحاد والظلم والبربرية من الحكام أصبحت أرضاً قاحلة والآن تحولت إلى مجزرة.

لقد أصبح النظام في سوريا نظاماً استبدادياً تديره المخابرات والشرطة والجيش تستولي عليه أقلية بنسبة قليلة، وكذلك صلة هذا النظام بالدول المجاورة غير طيبة لا على حسن الجوار.

أما موقف حافظ الأسد بالنسبة لإسرائيل فقد كان مريباً رغم إظهاره بالصمود نض لمعاهدة كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل ومقاطعته لمصر، فقد أثار تخليه عن نعات الجولان عندما كان مسؤولاً عن دفاع سوريا في الحرب مع إسرائيل، شكوكاً في .... بل كان يعتبر استسلاماً.

كذلك كان موقفه إزاء السنة الذين يشكلون الأغلبية الساحقة في سوريا، وقمعه لثورة الإخوان في حمص وحلب وإجراءاته القمعية وقتل الأبرياء في تدمر، واستعمال القوات الجوية لقمع حركة التحرير وتدمير منطقة واسعة بالقنابل، بلغ عدد ضحاياها أكثر من عشرة آلاف.

وأكثر من ذلك الاستهانة بالدين والعلماء التي أدت إلى خروج عدد كبير من العلماء ورجال الدين من سوريا ولا يزالون في الدول المجاورة.

وقد ورث بشار الأسد (2000م إلى اليوم) هذه السياسة القمعية من والده، وإن كان يحاول تخفيف حدة هذه السياسة بعد ضعف مؤيديه في المعسكر الاشتراكي الذي لم يكن في موقف الدعم الكامل كما كان في السابق.

إن أغلبية السكان في سوريا محكومة مضطهدة دينياً وسياسياً واقتصادياً من أكثر من أربعين سنة، وهي محرومة من حقوقها المدنية، وكثير من قطاعات الحياة خالية من تمثيلها.

لقد كان الجمهور السوري على وشك الغلبة والانتصار كما حدث في الدول العربية الأخرى التي شهدت ثورة الشعب واتخذ الجيش والشرطة فيها الحياد، لكن اشتراك الجيش السوري لقمع الحركة الشعبية ودعم روسيا والصين للحكم الغاشم ومساعدته في سياسته القمعية وتدخل إيران والعراق علناً لإنقاذ النظام الاستبدادي قد سبب في تصاعد الخسائر في الأرواح ودعم العناد والتجبر للحاكم ومن يسانده.

وقد أبدت هذه القضية جانباً آخر وهو الموقف المتخاذل للدول الأوربية وأمريكا التي أسرعت إلى ليبيا وساندت الثوار في تونس ومصر، ولعل هذا التخاذل يرجع إلى رعاية مصلحة إسرائيل التي ساندت الحاكم العسكري خوفاً من غلبة الثوار الذين تعتبرهم إسرائيل خطراً لوجودها وسيطرتها على الجولان، وقد أعلنت إسرائيل استعدادها لإيواء النازحين العلويين في أراضيها المغتصبة، لأن سوريا بلد متلاصق لإسرائيل، ووصول الإخوان أو السنة إلى الحكم في بلد مجاور هو أخطر من أي خطر عسكري، ولعل تردد الدول الغربية وأمريكا في مساعدة الثوار يرجع إلى هذه النفسية لإسرائيل فتستمر المأساة الإنسانية، وقد كان موقف تركيا موقفاً مشرفاً، فقد نزح إلى تركيا آلاف من المشردين السوريين، وتنظم تركيا مؤتمرات للتشاور في حل هذه القضية مع عدد من الدول العربية والغربية.

إن موقف الدول الغربية موقف محير للعقول، فإنها تقيم الدنيا على قضية فردية، أو معاناة طبقة، أو أقلية من الشعب في أي بلد، وتبتني قضيتها، ويلعب الإعلام الغربي دوره في تفجير القضية لكنها لا تتحرك على هذه المجزرة البشرية التي تستمر من شهور، ولعل المأساة التي يتعرض لها المسلمون لا تعتبر مأساة عند الأوربيين البيض سواء كانوا في روسيا أو أمريكا أو بريطانيا أو فرنسا والبرتغال، فإن تاريخ هذه الدول كلها تاريخ استعماري وحدثت مثل هذه المأساة في عهد الاستعمار قديماً وحديثاً عدة مرات، فقد قتلت فرنسا في الجزائر أكثر من مليون، وروسيا في أفغانستان أكثر من مليون، وأمريكا في أفغانستان والعراق أخيراً استخدمت من وسائل القمع والقتل والتدمير ما يفوق ما حدث في عهد الاستعمار البريطاني والفرنسي ولا تزال هذه الإجراءات القمعية تستمر فتلقى القنابل على المناطق الآهلة وتقتل المئات بجانب تعذيب وتنكيل السجناء في السجون، وهي سياسة أوربا منذ قرون.

وإذا استخدمت روسيا والصين حق النقض لمنع التدخل في سوريا ودعم الحاكم المستبد استخدمت أمريكا هذا الحق ولا تزال تنوي استخدامه كما بذلت محاولة لإدانة إسرائيل وتخيب مجهودات الأمم المتحدة لتخفيف معاناة الفلسطينين المعذبين.

إن الوضع في سوريا يتحول إلى حرب أهلية ويقتل مئات من المواطنين السوريين كل يوم وتستخدم الدبابات والطائرات المقاتلة ويستمر هذا الوضع إذا لم تتدخل قوة رادعة قوية لوقف وتخفيف معاناة الشعب السوري المنكوب.