يسقط أمن الدولة

أ.د. حلمي محمد القاعود
حدث ما سبق أن حذرنا منه ، وهو عودة جهاز أمن الدولة المجرم إلى العمل مرة ثانية ، حيث احتل معظم المقار القديمة ، وبالأطقم السابقة تقريبا ، وكل ما جرى هو تغيير اللافتة التي كان يعمل تحتها ، فصار اسمه قطاع الأمن الوطني ، وقيل إن مهمته ستقتصر على جمع المعلومات وتحليلها وتقديمها لصانع القرار !
وسبق القول إن القضية ليست في تغيير الاسم ، أو نقل بعض الضباط إلى قطاعات أخرى أو إدارات مغايرة ، بل هي فلسفة إجرامية حكمت المنتمين إلى هذا القطاع إلا من رحم الله ، فهم يؤمنون أن تأمين كرسي السلطة هو الهدف الأسمى ، وهذا التأمين يستلزم القضاء على كل من يظنون أنه يهدد هذا الكرسي بحثا عن الحرية أو المشاركة في تقرير مصير الوطن ، وعادة تتجه أنظار الجهاز وأفراده إلى الإسلام والمسلمين بوصفهم الخطر الأكبر على السلطة الفاشية المستبدة ، وتكون مهمته عندئذ ملاحقة المنتمين إلى الحركة الإسلامية ، واعتقالهم ومطاردتهم وحرمانهم من الوظائف وتلفيق التهم لهم ومحاكمتهم ظلما وزورا بعد تعذيبهم وإهانتهم والتشهير بهم ؛ عن طريق من يجندهم الجهاز من أصحاب الأقلام النجسة ، والبصاصين والعملاء الذين يزرعهم في كل المؤسسات والمصالح والإدارات والهيئات !وما جرى على مدى ستين عاما شاهد على وحشية الجهاز والمنتمين إليه والنظام الذي يعملون باسمه .
ويوم سقط هذا الجهاز في ثورة يناير شعر المصريون أن روحهم عادت إليهم وأن عصرا من الإرهاب السلطوي قد ذهب إلى الأبد ، بيد أن التنظيم السري الذي أنشأه مبارك عام 1986م تقريبا ، يبدو أنه هو الذي كافح لاستعادته مرة أخرى تحت لافتة أخرى ، ليعود النظام القديم ، ويفرغ الثورة من مضمونها ، وقد كانت مجموعة الحوادث التي جرت على مدى العام الماضي من إحراق واشتباكات واعتصامات فئوية وغير فئوية وقطع طرق واعتداءات غريبة على السياسيين والمواطنين مثل خطف الأطفال وطلب فدية ضخمة ، وسرقة السيارات ، ثم زيادة تمكين عملاء الجهاز في الصحف والإعلام ، والتصريح بقنوات فضائية وصحف جديدة بلا حصر ، ثم التوقف عن فجأة عن التصريح بالمزيد ، فضلا عن توقف كثير من المصانع والشركات والمؤسسات والترويج لمقولات الانفلات الأمني لهز الاقتصاد ونشر الخوف والرعب في النفوس والقلوب .. كل هذا يشير بقوة إلى الطرف الثالث وهو في الغالب هذا الجهاز المجرم !
ومع المحاولات المتكررة من جانب المسئولين في الوزارة الداخلية لإقناع الناس أن الجهاز تاب وأناب ، إلا أن الحقيقة على الأرض كانت غير ذلك ، وشاء الله أن ينكشف الأمر علنا وعلى رءوس الأشهاد حين قبض المتظاهرون من شركة بتروجيت على أحد الضباط أمام مجلس الشعب حيث كانوا يتظاهرون أمامه . فقد فوجئوا بأحد الأشخاص يحرض المتظاهرين على اقتحام المجلس ، والاشتباك مع الحراس لتتحول القضية إلى رأي عام ، وتحل مشكلتهم ، وقد شك المتظاهرون الذين يعرف بعضهم بعضا في هذا الشخص فراحوا يسألونه عن وظيفته وعمله ، فلم يحر جوابا ، وانطلق هاربا فلاحقوه ، وألقوا القبض عليه ، وبعد تفتيشه اكتشفوا من أوراقه وبطاقاته أنه ضابط بأمن الدولة الذي يسمى الآن الأمن الوطني !
ذهب المتظاهرون إلى قسم الشرطة كي لا يتم طبخ الموضوع في الداخلية ، وسلموا الضابط ، ثم أبلغوا مجلس الشعب الذي وثّق الموضوع من خلال شهادة المتظاهرين في لجنة الأمن القومي ، وشهادتهم في الشارع .. وكانت النتيجة أن رئيس نيابة السيدة زينب أمر بصرف ضابط الأمن الوطني الذي اشتهر باسم الضابط المندس - من سرايا النيابة، بعد أن نفى أن يكون قد قام بتحريض المتظاهرين على اقتحام مجلس الشعب، مؤكدا أنه كان يقوم بتأدية عمله!
وكشف مصدر أمنى، عن عدم نية المسئولين بوزارة الداخلية، اتخاذ أي عقوبات تأديبية ضد الضابط، بحجة أنه كان يؤدي مهام عمله، فى تأمين المنافذ المؤدية للوزارة، ومنها منفذ شارع مجلس الشعب، ومن غير المعقول ، أن يقوم بتحريض المعتصمين على اقتحام مقر مجلس الشعب، مضيفاً أنه من المتوقع أن تطلب النيابة ، تحريات المباحث حول الواقعة.
وقد رأى بعض المراقبين أن الواقعة لا تعد تهمة تقصير وإنما جناية تحريض، مشيرا إلى أهمية معرفة من وراء هذا الضابط فربما كان طرف الخيط للوصول إلى ما يسمي بـ "الطرف الثالث".
كما كشف الدكتور محمد البلتاجي، عضو مجلس الشعب عن حزب الحرية والعدالة، ونائب لجنة الصحة بالمجلس، أن ضابط الأمن الوطني الذي تم القبض عليه أمام البرلمان وهو يحرض المواطنين على اقتحامه هو ابن لأحد قيادات وزارة الداخلية . وهذا القيادي مسئول عن شئون الضباط بالوزارة، ورأى أن الضابط كان في مهمة لتحريض مواطنين على اقتحام المجلس.
ووجه القيادي بحزب الحرية والعدالة حديثه لوزير الداخلية - الذي حضر جلسة مجلس الشعب يوم الثلاثاء 13 مارس 2012- قائلا: إذا كنتم تريدون الإيقاع بين المجلس والشعب - فإننا سنظل في محاسبة للداخلية على جرائمها في السابق والحاضر, وذلك وفقا لما جاء موقع " مصراوي " الإلكتروني .
وقبل ذلك بأيام كانت قد تسربت إحدى الوثائق من داخل مديرية الشباب والرياضة بالبحيرة ، احتوت على تأكيدات بعودة جهاز أمن الدولة المنحل للعمل مرة أخرى باسمه الجديد جهاز الأمن الوطني . فقد طالبت الوثيقة التي حملت توقيع "محمد كمال عطا الله ، و"محمد مصطفى عثمان" بضرورة إبلاغ الأمن الوطني بمعلومات دقيقة عن كل النشاطات الثقافية والفنية ، والرياضية ، والمحاضرات ، والندوات.. وقد أكد خالد عبد العزيز رئيس المجلس القومي للشباب انه تم إحالة المسئولين بمديرية شباب البحيرة إلى النيابة الإدارية لإجراء التحقيق معهما ، فيما نسب إليهما. وكان أعضاء لجنة الشباب في مجلس الشعب برئاسة النائب أسامة ياسين قد وجهت انتقادات حادة لرئيس المجلس القومي للشباب بسبب هذه المشكلة وعودة الأمن الوطني لممارسة دوره الذي كان يقوم به قبل الثورة.
في العام الماضي جرت تدخلات اتسمت بشيء من الخجل الذي لم يعرفه أمن الدولة على مدى تاريخه الأسود ؛ في جامعة القاهرة وبعض المؤسسات الأخرى ومنع توظيف إحدى الخريجات في شركة قطاع عام لأنها شقيقة لواحد من الإخوان المسلمين ، وفي مارس من العام الماضي تظاهر مئات الأئمة والعاملين بالأوقاف أمام الوزارة للمطالبة بمنع تدخل الأمن الوطني “امن الدولة سابقا” في عمل الأئمة ، كما طالبوا بإقالة وكلاء الوزارة والمديرين العموميين . وقال المحتجون أن لواءات جهاز أمن الدولة ، الذين استمروا تحت مسمى “الأمن الوطني”، مازالوا يتحكمون في أعمال الوزارة واختيار الأئمة والدعاة والترقيات ، وقد انضم إلى التظاهرة أئمة ودعاة من الأزهر ، وهو ما فعله أئمة بقنا حيث طالبوا بمنع أمن الدولة من التدخل في أعمالهم واتهموا الجهاز بمراقبتهم وترويعهم ..
لا أود أن أستطرد في ذكر الوقائع التي تشير إلى معالم عودة الجهاز المجرم مرة أخرى ، وخاصة أن هناك بعض البصاصين في الصحافة المصرية الآن مشغولين بالدفاع عنه وتحبيذ وجوده الإجرامي لخدمة النظام المستبد الذي يحلمون بعودته ..
وإذا كان وزير الداخلية الحالي تستفزه كلمة تطهير الوزارة من الفاسدين والمجرمين ، فإني أطالب بإلغاء الوزارة كلها ، وتشكيل وزارة جديدة مؤقتا من عناصر الأمن المركزي والجيش ، مع الإفادة من أصحاب الملفات النظيفة في الوزارة الملغاة ، ورسم سياسة جديدة اسمها الحفاظ على كرامة الإنسان المصري وأمنه ، وليس إذلاله والتآمر عاليه . مع تحريم عودة هذا الجهاز تحت أي مسمي ، فالمخابرات العامة تقوم بدوره بمنتهى المهنية والاحتراف ، ولا حاجة بنا إليه بعد أن أثبت فشله في كثير من المناسبات وليس آخرها أحداث بورسعيد !
ولنهتف جميعا : يسقط جهاز أمن الدولة !
![]()