بعد بيان العلماء، لا عذر لمعتذر!

بعد بيان العلماء، لا عذر لمعتذر!

بعد أحد عشر شهرا من عمر الثورة السورية الشعبية ، وبعد أكثر من عشرة آلاف شهيد عدا آلاف المفقودين الذين هم في عداد الشهداء أيضا كذا آلاف آلاف المعتقلين الذين ربما حسدوا الشهداء وودوا لو لحقوا بهم !. أضف إلى قائمة ضحايا النظام الفاشي الدموي آلاف الجرحى والمكلومين والمعوَّقين والمصابين جسدياً ونفسياً ، كذا الأصناف الذين لا تشملهم الأرقام ويعجز عنهم العد ؛ فهل أحصى العادُّون مثلاً ، كم قُتل برداً أو جوعاً أو مرضاً أو خوفاً ؟! أو يخجل عنهم الإحصاء كحالات انتهاك الأعراض واغتصاب النساء والرجال وحالات الإجهاض خوفاً ورعباً من صخب آلة الحرب وزعيق جنازير الدبابات والمدرعات . وكل ذلك يجري وسط انقطاع كامل لكل مقومات الحياة ، من ماء وكهرباء ودواء وكساء وطعام وتدفئة وسواه . وبعد قصف المساجد وتدنيسها وهدم المآذن وتنكيسها ، وبعد أن بلغ العنف الوحشي مداه عندما  قصفت عصابات الأسد المدن والقرى بشكل عشوائي ، وهدمت البيوت في باباعمرو والرستن والزبداني وغيرها على رؤوس ساكنيها !!. بعد هذا كله ، أصدر علماء الملة بياناً حول الأحداث الفظيعة الأليمة التي تجري على أرض الشام المباركة ، أكثر من مائة عالم ومفكر ، من مختلف التيارات الإسلامية والسياسية الرسمية وغير الرسمية والقامات الدعوية والفكرية ، من مختلف أقطار العالم الإسلامي ، وعلى رأسهم الشيخ يوسف القرضاوي رئيس اتحاد علماء المسلمين ، والشيخ أبو إسحاق الحويني، و الشيخ راشد الغنوشي ، والشيخ عبد المجيد الزنداني ، وعشرات غيرهم من مشاهير علماء الأمة ، وقعوا على البيان [1]!.

البيان بالغ القوة صادق اللهجة يصدع بالحق الأبلج وعلى مستوى الحدث ، نظمه ذو بيان ، لا فُضَّ فوه ، أفتى فيه العلماء ، بأنه لا يجوز الاستمرار ضمن القوات الموالية لنظام بشار الأسد، وأنه يجب الانشقاق عنها، داعين إلى دعم الجيش الحر والثوار في كل ما يحتاجونه من إمكانيات مادية أو معنوية ، وشدّد العلماء، بأنه لا يجوز لمنسوبي الجيش السوري أو الأمن قتل أحد من أفراد الشعب، أو إطلاق النار باتجاههم، ويجب عليهم عصيان الأوامر ولو أدّى الأمر إلى قتلهم، مطالبين الجنود الذين حدث منهم قتل فيما مضى أن يتذكروا أنّ قتل اثنين جرم مضاعف عن قتل واحد، وأن باب التوبة مفتوح .

وأوضح البيان بأنه لا يجوز الاستمرار في وظائف الأمن والجيش في ظل هذا الوضع، مُفتين بوجوب الانشقاق عنه والوقوف في وجهه، كما طالبوا بدعم الجيش الحر وتعزيزه وتقويته والانضمام إليه للدفاع عن المدنيين وعن المدن والمؤسسات.

ووجه البيان النداء للمسلمين وللعالم الحر ، بدعم تشكيلات هذا الجيش ومساعدته ، كما طالبوا ـ في الوقت ذاته ـ الجيش الحر بأن يكون منضبطاً حتى لا ينجرف عن مهمته النبيلة بعيداً عن الانتقام والتعدي على الأبرياء.

كما أفتى العلماء، بوجوب دعم الثوار في سوريا بكل ما يحتاجونه من إمكانيات مادية أو معنوية، ليتمكنوا من إنجاز ثورتهم والمضي في سبيل نيل حريتهم وحقوقهم، ودعا الموقعون على البيان، القوى المخلصة في العالم الإسلامي إلى تشكيل لجان شعبية في كل مكان لدعم الشعب السوري ومساندته ، حيث حاجته إلى الغذاء والكساء والدواء والمساندة المعنوية.

بيان العلماء جامع شامل ، وضع النقاط على الحروف ، وأحاط بالقضية من جميع نواحيها ، وخاطب كل الأطراف المعنية ، الشعب السوري بكل أطيافه ، والجيش الأسدي ، والجيش الحر ، والمجتمع الدولي ، ووضعهم أما مسؤولياتهم .

نعم ، هذا ما كنا ننتظره من علماء الأمة في محنة عصيبة وداهية كبرى أصابت الأمة التي هم قادتها وقدوتها في السراء والضراء والشدة والرخاء وملاذها في الملمات والمهمات ، في قلبها ، الشام المباركة وأرض الملحمة الكبرى وميزان خيرية الأمة وأمارة عافيتها ، ألم يبلغكم حديث الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم

لكن الذي أريد أن أقرره هنا هو أن العلماء وأقصد المعتبرين ( بفتح العين والتاء ) منهم الذين تلقتهم الأمة بالقبول ، لم يواكبوا الحدث بل تأخروا عنه شوطا بعيدا ، حتى شيوخ وأئمة الحرمين الشريفين ، كالسديس والشريم وأبو طالب وغيرهم ، لم تجد الأحداث في سوريا المنكوبة على جسامتها وعظيم خطرها ، صدى لها في خطبة الجمعة ، حتى في الدعاء والقنوت الذي يسميه الفقهاء ( قنوت النوازل ) ، إلا مؤخراً وبعد أن تغير الموقف الرسمي ، أوليس ما أصاب السوريين نازلة بل أم النوازل !. وما كان ينبغي لمن استحفظهم الله كتابه واسترعاهم دينه وأخذ عليهم الميثاق الغليظ بأن يبينوه للناس ولا يكتموا منه شيئاً ، أن يتخلفوا عن حركة الناس والتاريخ والسنن بل كان الواجب عليهم أن يصنعوها بأيديهم وأن يدفعوا جمهور الناس إليها دفعاً ويأطروهم عليها أطراً حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله !.

وأكرر وأؤكد أني لا أخاطب هنا علماء السلطان الذين يأكلون من خبزه ويضربون بسيفه ، فهؤلاء لا اعتبار لهم البتة ولا وزن قد سقطوا من أعين الله وأعين الناس ، ولا أحد يلقي لهم بالاً أو يصغي لما يلقونه بألسنتهم من تلبيس وتدليس وتمويه وتعمية وإرهاب فكري وسياسي يتهم بالمروق والابتداع الذين يأمرون بالقسط من الناس ولا يتورع عن تسميتهم " خوارج " ويحشد ضدهم كل ما جاء في السنة في ذم طائفة بعينها تمرق من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، هم منها براء ، وما نقموا منهم – إذا أردت الحق - إلا أن قالوا لحاكم جائر كلمة عدل وحق ، وما نقموا منهم إلا أنهم أرادوا أن يخرجوا العباد من عبادة العباد إلى عبادة الواحد القهار ، لكن كهنة الأنظمة وسدنة الطاغوت يريدون تعبيد الناس للطاغوت باسم " فقه الطاعة " تارة ، وخشية " الفتنة " تارة أخرى ، ألا في الفتنة سقطوا !.

ألا إن ما يجري في سوريا اليوم من استباحة الدماء والأموال والأعراض وانتهاك الحرمات والكرامات من أهل القبلة أمرٌ عظيم ، تقشعر لهوله الأبدان ، وتشيب له الولدان ، والآن وقد أعلن علماء الملة المعتبرين من شتى أصقاع الأرض تأييدهم للثورة السورية بشقيها السلمي والعسكري ودعمهم لها ، نقول : لا تثريب عليكم ، غفر الله لكم ، وعفا الله عما سلف ؛ هلموا إلى الميدان ، فالحرب قد شمرت عن ساق ، وجد الجد ، وجل الخطب { انفروا خفافاً وثقالاً } ، لا بغياً على أحد ولا عدواناً بل لرد العدوان ونصرة المستضعفين الذين لا يملكون حيلة ولا يجدون سبيلاً .

نهيب بالأمة بأسرها أن تمد يد العون والدعم المعنوي والمادي ، دفاعاً عن إخوانهم بأنهم ظُلِموا وحقناً لدمائهم وحفظاً لأديانهم وأعراضهم وكراماتهم بل هو لو فكرت وقدرت دفاع عن الأمة بأسرها وإسقاط لأخطر مشروعين استعماريين يهمان بابتلاعنا ، ألا وهما ؛ المشروع اليهودي الصهيوني ، والمشروع الشيعي الصفوي ، وكلاهما مشروع استعماري سرطاني شوفيني يوظف الدين لمآربه الردية .

هذا وإن المرء المسلم لتأخذ الدهشة بِلُبه كل مأخذ من بعض بني جلدتنا حين يقفون في صف هذا المشروع أو ذاك ؛ رغباً ورهباً ، وكذلك يعجب من بعض أبواق المثقفين اليساريين والقوميين العرب وهم يسوون الجلاد بالضحية بل يؤازرون الجلاد ويصفقون له ، لأنه بزعمهم مقاوم ممانع ، ألا خابوا وخسروا ، قل هاتوا برهانكم ، من قلب الميدان وربى الجولان ، إن كنتم صادقين لكنه مقاوم بالثرثرة .

[1] - البيان صدر مساء اليوم الثلاثاء، 15 ربيع الأول 1434ه الموافق 7 / فبراير / 2012 ـ