الموقف السوري الآن ... التانغو الأخير

الموقف السوري الآن ... التانغو الأخير

د. ضرغام الدباغ

[email protected]

كنا قد تنبأنا قبل أسابيع، أن النظام السوري يضيع ويا للأسف الفرص الكريمة ليس لتجنيب سورية الوطن من محن التدويل وتجنب ويلات التفرقة الداخلية، بل ويخسر أيضاً حتى في إيجاد مخرج شبه كريم له قد لا تسنح له فيما بعد.

نعم نحن نسمع في موروثنا الاجتماعي، أن للمحتضر رفسة قد تكون مؤلمة، ولكننا في الشأن السوري نفترض من الجميع وفي مقدمتهم النظام القابض على الأمور، التعامل بحكمة. في حين أنه يتعامل بيد من حديد في قضايا حساسة ودقيقة تحتاج أيدي ناعمة وقفازات مخملية، وليس من الذكاء أبداً التصرف كما تصرف الأولون قبل نيف وثلاثون عاماً، فالحالة قد تطورت ومعطيات الحياة قد تغيرت، ونزيف الأمس عندما يطل على حسابات اليوم، يزيده وطأة، وهكذا فالأمر بضرب من قراءة واقعية للموقف الداخلي والخارجي، بشموليته وبرمته بحاجة للعقل أكثر من الحديد والأدوات الحديدية.

قبل أسابيع عندما سئلنا مدير البرنامج، ألا تخشى من مخاطر الانزلاق لحرب أهلية، استبعدنا الأمر وما نزال، وقلنا أن الشعب العربي السوري شعب راق ومتحضر، إلا أن الأحداث اليوم تدفع بشكل متسارع صوب خيارات خطرة غير مرغوبة، والعجيب أن النظام وليس غيره من يدفع باتجاهها بكل قواه، ترى لماذا ..؟

النظام بوحشية أجهزته الحكومية وميليشياته، تدفع المعارضة دفعاً بعد شهور دموية لاستخدام السلاح بغير رغبتها وإرادتها، ولكن من يواجه النار يحاول غريزياً إبعادها، ورغم ذلك، فالمعارضة الوطنية والمبادرات العربية كانت تهدف إلى استبعاد خيار همجي يتمثل بالأصطراع المحلي الطائفي والعرقي، وفي مبادراتها كانت تمثل الخيارات الأفضل للنظام، لكن الأيام الأخيرة تؤشر أن كل الطوائف تعبر عن اقترابها بل والتحامها بالمعارضة، وهي طوائف وأثنيات عاشت قروناً متآلفة بل عملت يداً بيد في الحياة السياسية والاجتماعية، ولم تكن تعرف الصراعات لا الدموية ولا غيرها، فهل بدأ النظام يشعر الآن حقاً بفقدان شرعيته حقاً، وهو الذي قد فقدها من زمن غير بسيط، ولذلك بالتحديد يلوح ويهدد بمعركة مفتوحة ويطرح ما يتجنبه ويخشاه الآخرون .. في ابتزاز سياسي مفضوح؟

قلنا أيضاً أن النظام برفضه وإفشاله المبادرتين العربيتين والأولى والثانية، ومن ثم إفشال متعمد لبعثة المراقبين العرب، لتتدحرج الأزمة بشكل متسارع إلى مجلس الأمن، والنظام يقابل كل هذه المبادرات بعدم اكتراث، فهو يلعب على الورقة الروسية والصينية ضانا (وبعض الظن أثم) أن بوسعه الاعتماد عليها إلى ما لا نهاية، ولكنه بذلك سيدفع البلاد والملف صوب التدويل، وهو في غير صالحه على المدى ليس البعيد، بل ربما حتى القريب، بالأمس فقط تتناقل الأنباء أن النظام يريد إشراك رسمي لإيران في شأن تبادل محتجزين مع تركيا، دون أن يعي أن ذلك يمثل دفعة جديدة باتجاه التدويل، وليس عليه بعد ذلك أن يلوم من يلجأ لذلك، فهو من لجأ إليها قبل غيره.

في هذا المسار(التدويل) يستقبل النظام أعداداً كبيرة من عناصر عسكرية عربية (ميليشيا حزب الله اللبناني) وأجنبية (حرس ثوري إيراني) هي جزء من القوات المسلحة النظامية لدولة أجنبية، وفي ذلك أيضاً إقحام متزايد لقوى مسلحة أجنبية في الشأن السورية.

النظام يراهن على الوقت، وقد فاته أن عامل الوقت لا يجري لصالحه، فليستشر في ذلك أستاذ فلسفة أو رجل ذي بصيرة، وإن عز عليه ذلك، فلينظر إلى حصاد الشهور الإحدى عشر الأخيرة.

بتقديرنا أن النظام يدرك تماماً مخاطر هذه التصرفات، بل هو الساعي لها، وهو إنما يفعل ذلك تحت وطأة شعور ضاغط أنها التانغو الأخير في دمشق، فيربط بدون أدنى شعور بالمسؤولية التاريخية مصير البلاد باستمراره على رأس السلطة، في ضرب من مجازفة أخطأ في حساباتها، فهو في توتره وانفعاله، وخلطه الشأن العام بالخاص، يقيم ويجري الحسابات بشكل خاطئ، ويلجأ إلى مقطع شعري لا يعبر عن الحكمة: إذا مت ضمآن فلا نزل القطر.

عندما تضيق المسالك، تقل الخيارات، وعندما تقل الخيارات يصبح اللجوء إلى الممرات الإجبارية إرغامياً، وكما تقول الحكمة العربية، العاقل من يعرف أن يختار أهون الشرين، فليتجنب النظام أحكام الهوى ولينصت إلى صوت الحكمة التي تقول:

إذا أشتبه عليك القرار في أمر ما، فأختر أبعد الحلول لهواك.

أما أن ينهي الأمر كما يشاء هواه فهذه أصبحت من الاحتمالات البعيدة، بل البعيدة جداً. هناك بوابتان ربما ما تزال مفتوحتان: الحل العربي، أو مجلس الأمن، وهو خيار تحدث به حتى الرئيس الروسي ميدييف اليوم 10 / فبراير.

أجد أن قصيدة الشاعر وليم شكسبير مدعاة للتأمل والتفكير :

لقد غامرت ...

كأنني واحد من الصبية اللاهيين على قمم الموج

مثلهم أحاول تطويح كيس منتفخ بالهواء

صيفاً بعد صيف

في بحر من المجد

ولكن البحر كان عميقاً ... عميقاً جداً

أعمق مما أستطيع اللهو فيه ..

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المقال جزء من مقابلة تلفازية حول الأوضاع السورية مع إحدى الفضائيات العربية بتاريخ 10 / فبراير / 2012