شرطة جديدة .. وأمن حقيقي
أ.د. حلمي محمد القاعود
[email protected]
حل الأزمة المرورية التي وصلت من العاصمة والمدن الكبرى إلى المدن الصغرى والقرى أول اختبار عملي لبناء الشرطة الجديدة التي نحلم أن تحقق الأمن للمواطن والمجتمع ، فالمرور علامة على رقي الأخلاق والسلوك الاجتماعي والإحساس بالأمن ، وقد كان جلاد سابق يسخر من اللواء أحمد رشدي الذي كان ينزل إلى الشوارع في القاهرة ليتابع بنفسه حركة المرور وانتظامه ، وللأسف لم يستطع هذا الجلاد أن ينظم المرور أو يحفظ الأمن على النحو الذي كشفت عنه حوادث السنوات الدامية التي مضت ..
لا استطيع أن اشعر بالأمن والسيارات تمضي على هواها وتسفك يوميا دماء أعداد غفيرة في شتى أرجاء الوطن بما يجعل الحصيلة السنوية للضحايا يفوق ضحايا المعارك العسكرية الضخمة التي تتصادم فيها الجيوش الكبرى ، ولا أظن الخسائر في مجال المرور تنفصل بحال عن خسائر المعارك التي يقوم بها البلطجية والمسجلون خطر وقطاع الطرق واللصوص الذين يسرقون في وضح النهار ويغتصبون ويثبتون ويباغتون الأبرياء بالخطف ثم يطلبون الفدية وكأننا في شيكاغو وغيرها من مناطق الجريمة المنظمة ..
يستطيع وزير الداخلية الجديد – إذا أراد - أن يمضي وفق خطوات عملية تحقق الأمن بدرجة كبيرة ، وذلك إذا استخدم قانون الطوارئ لجمع المسجلين خطر واعتقالهم وإعادة تأهيلهم وفقا لخطة تتيح نزع مخالبهم وحماية المجتمع من شرورهم ، وإعادتهم مواطنين صالحين يعملون وينتجون .
نصف ساعة فقط كفيلة بتهدئة الأمور في المجتمع حين يتم اعتقال هؤلاء المسجلين وأتباعهم ، وذلك ليس صعبا ، فالمباحث الجنائية وأمن الدولة أيضا ، يعرفونهم جيدا ، ويعلمون تخصصاتهم الإجرامية ، وأماكن نشاطهم الإجرامي ومدى قدراتهم في العنف والجريمة .
ثم إن الوزير الجديد للداخلية – إذا أراد - يستطيع أن يأخذ موقفا حاسما من العناصر الشرطية الفاسدة والزائدة عن الحاجة داخل جهاز الشرطة المصرية ، فيحيلها إلى الاستيداع أو المعاش لتريح وتستريح ..
لا أعتقد أن هناك ضرورة للجنرالات الذين فسدوا وأفسدوا في العهد البائد ، وكانت الوظيفة بالنسبة لهم منجم ثراء غير عادي سواء بما يحصدونه بالقانون أو بما يحصلون عليه خارج الوظيفة بحكم النفوذ والهيبة . إن منح هؤلاء معاشاتهم في وقت مبكر ، وخلودهم إلى الراحة في بيوتهم يمثل خطوة أولي على طريق تحقيق الأمن . يأتي بعد هذه الخطوة مراجعة ملفات الضباط والمخبرين والجنود الذين يمثلون حالات منحرفة ، وإلحاقهم بالجنرالات الذين سيتم إحالتهم إلى الاستيداع .
كان خطأ الوزير السابق منصور العيسوي ، إصراره على الإبقاء على جهاز أمن الدولة اللعين . صحيح أنه غير اسمه ، وصرح بأن دوره سيقتصر على جمع المعلومات ، ولكن الواقع أخلف تصور الوزير ، وعاد الجهاز سيرته الأولى تقريبا في متابعة السياسيين الإسلاميين ، وتجنيد العملاء داخل مؤسسات الدولة ، وبعد وقت قريب – فيما أتصور – سيعود الضباط الأسياد لممارسة قهر المواطنين العبيد على طريقة جابر بن حيان وشركاه ..
لعل هناك جهات أقوى من وزير الداخلية تحبذ الإبقاء على أمن الدولة أو جهاز القهر الوطني ، ولكن الحقائق على أرض الواقع تفرض إلغاءه بأسرع ما يمكن حتى يشعر الناس بالأمن الحقيقي.
من الضروري لبناء الشرطة الجديدة إعادة الأمن المركزي إلى ثكناته في القوات المسلحة ليكون سلاحا منتجا في المجالات الزراعية والخدمية ، وتحقيق الأمن - من وجهة نظري المتواضعة – ليس بكثرة الجنود والمدرعات والمصفحات وقنابل الغاز وبنادق الخرطوش ، والرصاص المطاطي ، فالأمن يتحقق بالعدل أولا وآخرا .
أمن الشارع يحتاج إلى نوعية جديدة من الشرطة تملك فلسفة جديدة اسمها المحافظة على كرامة الإنسان المصري التي خرج من أجل تحقيقها في 25 يناير 2011 ، وكرر بعدها الخروج مرات عديدة ، وسيكرر الخروج فيما أعتقد إذا تصور أن أحدا سيدوس على كرامته أو يفكر في سحقها ، وشطبها من الوجود .
وهنا أكرر ما دعوت إليه في مناسبات أخرى من ضرورة تجنيد خريجي الحقوق في جهاز الشرطة ، وتدريبهم لمدة ستة أشهر ، ويمكن قبول دفعة كل شهر على مدى سنة ، في كل دفعة ثلاثة آلاف فرد يتخرج في نهاية المدة ستة وثلاثون ألفا من الشرطيين المدربين الذين يعرفون القانون ، ويستطيعون بالذكاء والحنكة حل المشكلات الصغيرة والخلافات البسيطة دون تحويلها إلى النيابة والقضاء ، وفي الوقت نفسه يمارسون العمل في الأقسام والمراكز ونقاط الشرطة بمنهج جديد يعتمد على الحركة ومتابعة ما يجري في
الشارع ، بعيدا عن منهج انتظار البلاغات ، والكمائن الثابتة التي تعوق المرور وتعطل حركة الشارع .
إن ما يعرف بالدوريات المتحركة لمتابعة حركة المرور ، وحفظ الأمن في الشارع والطريق العام ، ومتابعة التجمعات ؛ هي اللغة الأمنية الجديدة التي يستخدمها العالم . لم يعد الجلوس في الكمين الثابت وشرب الشاي ورواية الحكايات وانتظار الصيد الثمين لغة الأمن الناجح ، بل صارت لغة قديمة جدا غير معبرة عن أمن المجتمع .
ثم إن الشرطة اليوم تستخدم العقل بدلا من استخدام اليد ، فالعقل كفيل بحل المشكلات بدلا من تعقيدها إذا استخدمت اليد ، والعقل يستطيع الوصول إلى المعلومات من المتهم أفضل من اليد ، والعقل في النهاية يحفظ كرامة الناس بدلا من امتهانها وسحقها والزراية بها .
إن الشرطة يجب أن تكون حصنا يلجأ إليه المواطنون المظلومون والخائفون والمتعبون ، وينبغي أن تكون عونا للمواطن وليس مصدر رعب وخوف وقلق وأداة تزوير للانتخابات والاستفتاءات .. وهذا لن يتحقق إلا بتغيير فلسفة الشرطة في بلادنا تغييرا شاملا ، ينتقل بالشرطي من خانة خادم السلطان إلى خانة مساعد الإنسان، أي إنسان في الوطن .