مذبحة التحرير، وكشف المستور
أ.د. ناصر أحمد سنه - كاتب وأكاديمي من مصر
لعدة أيام متتالية.. منذ صباح يوم السبت 19 نوفمبر الجاري، وصبيحة مليونية "المطلب الواحد لتحديد موعد للإنتخابات الرئاسية، وتسليم السلطة للمدنين، ورفض وثيقة السلمي". لا ينبغي أن تمر تلك الإعتداءات المؤسفة بحال دون توقف للتأمل والتدبر والتطلع لما هو آت. التطلع ـ محلياً وإقليمياً ودولياًـ لسرعة إنهاء هذه الفترة الإنتقالية الحرجة والصعبة من عمر الثورة المصرية ، رغم كثرة اعدائها، دون مزيد من إسالة دماء المصريين، وجرحهم، وإعاقتهم، وإعتقالهم، وتخويفهم، وشل حركة حياتهم.. جنائياً وأقتصادياً.
مهما فقدت كل مصطلحات الإدانة والشجب والإستنكار معناها ومغزاها وتأثيرها فلا محيص عنها من حملة الإقلام مقابل حملة البنادق والسنان. مدان، ومؤسف، ومحزن، ومؤلم، وممنوع قمع وحشي لتجمعات جماهيرية سلمية. مؤسف، ومحزن، ومؤلم، وممنوع، ومدان إطلاق الرصاص الحي وغيره ـ لا علي العدو الحقيقي لآمتنا العربية الإسلامية، القابع هناك في سويداء قلب الأمة "فلسطين" يضحك، ويمرح، ويعيث فسادا وإفساداً، لا يخفي كيداً وهدماً، ولا جريمة ولا تهويداً، ولا تقتيلاً ولا تشريداً.
فبدون سابق انذار، وبعد أيام من اعتصام أهالي الجرحى والشهداء في حديقة أمام مجمع التحرير ثم انتقلوا "لصينية" الميدان، دون إعاقة سير المرور. والحق في التعبير عن الراي والتظاهر والاعتصام السلمي مشروع ومكفول، وليس منة أو هبة من أحد يعطيه متي شاء أو يسلبه متي أراد.
ولماذا الاصرار والشراسة في ضرب "رمز الثورة وروحها" المتمثل في مصابيها وأهالي شهدائها. أم أنه الثار البائت وأستبقاء الأمور علي ما كانت عليه. كي يظل ينعم دهاقنة ذلك النظام ونخاسوه، ومن قتلوا وأعتقلوا شعب مصر في سجن كبير، ونهبوا ثروات البلاد وقهروا العباد. وباعوا ـ كسماسرة حرب ـ مقدراتها ومواردها وغازها.
بأي ذنب قتل شباب وشابات ورجال مصر (ثلاثة وعشرون.. وفق مصادر رسمية بوزارة الصحة، ومن قبلهم أمثالهم أو يزيد في مذبحة ماسبيرو، ومن قبلهم ما يزدي عن ألف شهيد منذ ثورة 25 يناير؟. وباي ذنب أقترفه الآلاف المؤلفة غيرهم فجرحوا، وأعتقلوا، وحوكموا أمام قاضيهم غير الطبيعي؟.
لماذا نري ونشاهد مذابح دامية، وقوة مفرطة، وقمع وحشي. لماذا الرصاص الحي المصبوب، والمطاطي والخرطوش المنثور، والدهس بالسيارات والمصفحات، والخيول والبغال والجمال، والخنق بالغازات، والضرب بالهراوات، والسحل علي الطرقات؟. لحساب من قتل، وفقأ الأعين وأعاقة الأيدي، والأرجل؟. لحساب من يضرب العزل وطريحي الأرض دون أدني مقاومة، ثم يسحل من يسقط منهم، ليتم تجميعه وتكديسه بجانب القمامة؟. فيا اخوتنا في سوريا واليمن لستم وحدكم من تقتلون وتسحلون في الطرقات. "كلنا في الهم شرق". كلنا في الثورة علي هذه الأنظمة الظالمة المستبدة يد واحدة، جسد واحد ، امة واحدة.
ولحساب من إشعال النار شقق سكنية، وفي "دراجة نارية" لعلها كانت تجوب الميدان ليسهل لها نقل الجرحي وإسعافهم، ويسألونك عن تخريب الممتلكات الشخصية والعامة؟.لماذا الاستهداف المباشر للمستشفيات الميدانية بالغازات السامة وبالرصاص المطاطي، وحتى اعتقال الأطباء في ميدان التحرير؟.
يبدو أن ثمة مؤشرات بادية "لعمليات استنزاف"، ليست كالتي أعقبت هزيمة يونيو 67، بل لإحداث أكبر قدر من الاصابات، وثّقت الصور استهداف عيون المتظاهرين. وإلا فما تبرير فض الإعتصام بالميدان والإنسجاب ثم معاودة إقتحامه لثلاثة مرات أو تزيد؟.
"موقعة الجمل الثانية"
إنها أبشع ما حدث منذ 25 يناير، وجمعة الغضب 28 يناير، ويوم الأربعاء الدامي "موقعة الجمل"، 2 فبراير، وما تلاها. يقول محللون يرصدون الأحداث (راجع مقال د. إبراهيم حمامي) أهي من قبيل المصادفة البحتة عودة سفير الكيان الصهيوني للقاهرة فجر الأحد – بعدها بوقت قصير جداً بدأ الهجوم بالسلاح على العزل في ميدان التحرير؟
إذا ماكان الإقتصاد غير متعاف فلماذا شراء قنابل مزيد من قنابل الغاز التقليدي وغير التقليدي/ الجديد عديم اللون (من نوع سي آر و÷و أشد ضررا وخطورة، وتبلغ قوته 6 ـ 10 أضعاف قوة غاز سي إس أم أنه منحة وهبة لا ترد؟.
كشف المستور
منذ ثورة يناير تم أطلاق السجناء الجنائين، وإطلاق يد البلطجة وتزايد معدلات الجرائم الجنائية (فقط مازال التصدي للأمن السياسي قائما علي قدم وساق). تأجيل وتسويف ومماطلة في محاكمة رموز النظام السابق، بل يحضر قتلة المتظاهرين جلسات المحاكمة ثم يعودون للمارسة منصبهم. وراس النظام السابق يحاكم مدنياً، لا عسكرياُ، بينما حوكم المدنيون أمام المحاكم العسكرية. ويبقي في مصحة عالمية يدفع نفقات علاجه دافعي الضرائب المصريين. بل بهذه الإحداث وغيرها يجذب إنتباه الراي العام عن محاكمته؟. بل يطمح أعداء الثورة أن تصل قناعات الشعب لطلب عودته وجلوسه، ما بقي له من عمر، أو من يرثه علي سدة النظام من جديد. فكنف نظامه ـ ومن ينتفع منه ومن يخشي المساءلة عليه وهم كثرـ أفضل مما هو حادث"؟.
لقد قال البعض أنه: "تلكؤ وتباطؤ". وذهب آخرون إلي أنه "مماطلة وتواطؤ" في كل شيئ. فلا شيئ ذي بال حدث للمصريين منذ قيامهم بثورتهم في 25 يناير ومفرداتها الساسية: كرامة، حرية، عدالة إجتماعية.
إن كل هياكل النظام السابق الذي قامت الثورة لإسقاطة لم يسقط بعد، وظهرت "الكفأءة والإمانة" في تحقيق "تكليف الرئيس المنتحي" بإدارة شئون البلاد. فالمناصب والقيادات الإدارية والجامعية والإحزاب المحسوبة علي ذلك "المنحل" كما هي، وستشارك في الإنتخابات التشريعية، إن حدثت واستمرت دون عراقيل. وجدل حول : الدستور/ الإنتخابات أولاً، ومبادي "فوق دستورية"، و"سلطات وأضاع مميزة لا رقابة للشعب عليها". وإعلام رسمي هو كما هو في سابق عهده.. محرض علي الثورة ومستفز، واجندات ومؤمرات، وقلة مندسة الخ. وأزمة مفتعلة بين جناحي العدالة: القضاة والمحامين، وأزمة في بنزين 80، وأزمة في أنابيب الغاز، فضلاً عن المعضلة الكبري "رغيف الخبز".
ويخرج قائلهم: البورصة تخس، البورصة تنهار!!. والسؤال المطرح: هل يسهم عمليات قتل المتظاهرين وسلحهم وجرحهم في دوران دولاب (طفح بالناس وصارت نكتة: عجلة الإنتاج، وإن كان دولاب تعني معناها) العمل بالبورصة أم يسهم في انهيارها مؤشراتها؟.
ويتم التاكيد ، فقط، علي أن "الانتخابات في موعدهأ" وكانها "غاية المني والأمنيات والأماني، وعايزين أنتخابات هنعملكوا انتخابات كما حدث في غالب الجامغات المصرية وأتت بنفس من كان قد عينّهم النظام السابق". إن الإنتخابات ليست بحال أهم ولا أغلى من قطرة دم أي مصري تسفك علي مذبح تلكم "الوعود" بحياة حرة كريمة مصانة ومغايرة لما كان أيام النظام "غير المنهار، وغير الساقط حتي الآن". فكم يكفيهم من الدماء الزكية لتنزاح تلكم النظم الاستبدادية؟. ولا يظنن أحد من القوي والحزايب السياسية التي أغرتهم " الجزرة" والأكل من الكعكة فكانت لهم مواقف مخزية، فليدركوا موقفهم حتي لا يقولوا:"أكلنا يوم أكل الثور الأبيض"؟.
قد تسرق الثورات أو تجهض أو تجمد أو تضاد في إتجاها، أو يتغير مسارها أو تعيد انتاج ماضيها الذي قامت لتنقضه. لكن رغم كل ذلك.. لن يسرق أحد، كائناً من كان، ولن يختطف أحد ، كائناً من كان ثورة الشعب المصري التي قام بها في 25 يناير من هذا العام. والتي لطالما ـ لقرون متعاقبةـ حلم بها ونفذها. إنها ثورته الفريدة والمتميزة وهو "لن يقوم كل يوم ثورة".
ولن ترضي هذه الثورة المباركة إلا بكنس النظام السابق ورموزه وأركانه وبنيته التحتية والفوقية. وبناء نظام جديد يحقق أهدافها وأمالها وطموحاتها وريادتها. لا حلول وسط ولا وصاية علي الشعب المصري.. صاحب الحق الوحيد والأصيل في ثورته.
وسيبقي الشعب مصدراً للسلطات، يوظف من شاء، رئيساً أو خفيراً، لخدمته.. ويعزل وينزع الشرعية عمن شاء قبل أن يستفحل شأن مصاصي دمائه ومرتكبي المجازر بحقه:"...وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ" (227).
وستنتصر إرادة الشعب والثورة من ميدان التحرير في وسط العاصمة، وكل ميادين التحرير في مصر من السويس (سيدي بوزيد مصر) والإسماعلية وبورسعيد والأسكندرية ودمياط والمنصورة إلي الفيوم وقنا وإلمانيا واسيوط الخ. وما يجري في ميدان التحرير وغيره من الميادين، سيرسم ملامح الفترة القادمة، والمنطقة العربية بأسرها.
تحية إلي أرواح الشهداء في تونس وليبيا ومصر واليمن وسوريا. وليعلم كلا من النظام السوري واليمني المترنح، أن أحداث مصر لن تغطي على جرائمهم اليومية، والتضامن معهم.
لن تنسي الشعوب العربية، وربيعها المستمر والمثمر بإذن الله تعالي، ما قدمه هؤلاء من الشهداء من تضحيات بأرواحهم.
لن تنسي الشعوب العربية دماء الشهداء، وسيقتص ـ مهما طال الوقت، وما القذافي وابنه "سيف"، ووزير مخابراته "عبد الله السنوسي" عنا ببعيدـ من هؤلاء القتلة الذين سفكوا الدماء الذكية؟.
لن ينسي التاريخ هؤلاء الذين سطروا بدمائهم أحرف من نور في سجل تاريخ العالم العربي الحديث والقديم في آن.تحية إلي هؤلاء الشهداء، "وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ، فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (آل عمران: 169-170)
تحية إلي الجرحي والمعتقلين.
تحية إلي شعب مصر الذي انتفض، ونفض عن كاهله حقبا من القهر والظلم والفساد والاستبداد.
تحيا مصر عزيزة غالية نقية من الطغاة والظالمين والفاسدين والمستبدين.
تحيا مصر بشبابها الأشاوس والبواسل، وبشعبها الطيب النبيل الأصيل.
تحيا مصر بوحدتها الوطنية الرائعة.
تحيا مصر "الجديدة" التي تستكمل مسار ثورتها، ولم لا فقد أنكشف المستور.