هل توقف العقل العربي في ظل أنظمة القمع والاستبداد
هل توقف العقل العربي
في ظل أنظمة القمع والاستبداد؟
محمد علي شاهين*
تسألون عن أسباب تخلّف الشعوب العربيّة في هذا العصر عن ركب التقدم العالمي في ميادين العلوم والطب والزراعة والصناعة وميادين الآداب والفنون، ولماذا حرمت الإنسانيّة من الانجازات العلميّة والفكريّة لملايين العرب الذين باتوا عالة على الآخرين في هذا العصر؟
لكنّكم لو أدركتم ما حل بالإنسان العربي في عهد الديكتاتوريات العربيّة من قمع فكري وقهر نفسي، وتعذيب جسدي، لما تعجبتم مما حلّ بالعقل العربي من شلل وجمود، وتوقف عن الابتكار والإبداع.
وكيف يجد العلماء العرب المناخ المناسب للابداع والعطاء في ظل أنظمة القمع والاستبداد، وهم الذين نشروا علومهم ومعارفهم في الآفاق وطوّروا أحوال الجنس البشري، وارتقوا بالانسان وأسعدوه، ونشروا العدل والسلام بين الأمم؟
ألم يسعى الديكتاتور العربي المصاب بالنرجسيّة لطمس تاريخ الدولة وحجب الأسماء المشرقة ليكون هو النجم الوحيد والكوكب المضيئ في سمائها، حتى إذا مات أو قتل لم يجد الناس من يملأ الفراغ الذي تركه.
ولا يكتف الديكتاتور بقلّة الانجازات خلال عهده الطويل، بل يعمد إلى تدمير كل ما أنجزه في قمع الثورة عليه، وارتكاب الجرائم وانتهاك كافّة المحرّمات.
وإذا كانت الجيوش تحت دعوى التوازن الاستراتيجي من أكبر إنجازات الطغاة العرب، فلماذا لا يجد الطاغية غضاضة في تدمير الجيش الذي أغدق عليه مال التنمية لحماية نظامه وتسخيره في مغامراته وخدمة أطماعه وتسعير نزاعاته مع جيرانه؟
ألم ينفق معمّر القذافي الملايين على التحصينات العسكريّة مع مصر، وينفق حسني مبارك الملايين على بناء الجدار الفولاذي مع غزّة، وينفق بشّار الأسد الملايين في حفر وتحصين خندق حماية العراق من هجمات المجاهدين.
ولكي يشغل الرأي العام عن أزمات البلد الداخليّة يلجأ الطاغية إلى افتعال الأزمات الخارجيّة فقد أثار معمر القذافي مشكلة شريط أوزو المتنازع عليه مع دولة تشاد المجاورة، ودخل معها في حرب خاسرة قتل فيها الآلاف من فقراء تشاد.
وافتعل حسني مبارك مشكلة حلايب مع السودان وهو يخوض حرباً ضدّ الانفصاليين الجنوبيين، متناسياً الخطر المحدق بالنيل، وما يمكن أن يمنحه التعاون مع السودان لمصر من فوائد وآفاق إقتصاديّة.
كم أهدر القذافي من ملايين بسبب حادثة لوكربي التي انتهت بدفع عشرة ملايين دولار لكل ضحيّة، وتسليم المتهمين بارتكابها؟ وكم كانت كلفة البرنامج النووي الذي فكّكه القذافي وسلّمه إلى الولايات المتحدة كدلالة على حسن النيّة؟
كم بلغت ثروة القذافي وأبناؤه؟
ومن أين لآل الأسد تلك الامبراطوريّة الماليّة والإعلاميّة في فرنسا وبريطانيا وإسبانيا إذا لم تكن من دماء الشعب السوري.
كم سرق حسني مبارك وأسرته وحاشيته المقرّبون، ألم تكفه ثلاثون عاماً من النهب والسلب وتكديس المليارات في بنوك الغرب، إذن فليقف هو وأسرته وأمثاله من الحكام خلف القضبان مع كل اللصوص.
ألم يحقن الدكتاتور العربي شعبه بسرطان أفكاره وسمومها كدعوة القذافي إلى إقامة دولة علمانيّة تضم العرب واليهود (إسراطين)؟
ألم يتجرأ الدكتاتور العربي على المتاجرة بأعزّ القضايا وأقدسها عندما دعا القذافي اليهود الليبيين إلى العودة لليبيا وتسلّم تعويضاتهم التي صودرت بعد قيام ثورة الفاتح، ويقوم بطرد الفلسطينيين المقيمين في ليبيا بعد توقيع اتفاق الحكم الذاتي ويلقيهم على الحدود المصريّة في ظروف غير إنسانيّة؟
ألم يشارك حافظ الأسد في مؤتمر مدريد للسلام مع اليهود، ويشكّل وفداً تفاوضيّاً برئاسة العلاّف لبحث مستقبل السلام مع إسرائيل، ويقر مبدأ الاعتراف بإسرائيل، وتطبيع العلاقات مع اليهود والاعتراف بدولتهم إذا انسحبوا من الجولان، ويجعل السلام هدفاً استراتيجيّاً، ويوقّع مع اليهود اتفاق فك الاشتباك في الجولان في نهاية حرب تشرين التحريريّة، ويستعيد مدينة القنيطرة مهدّمة خالية من السكان، منزوعة السلاح.
ألم يملأ حافظ الأسد الدنيا صراخاً ضدّ أمريكا الإمبرياليّة، ثم يرسل قواته إلي الخليج في حرب استعادة الكويت في خندق الولايات المتحدة الأمريكيّة، ويشارك في حصار العراق ومنع تصدير بتروله.
ألم يتجرأ الدكتاتور العربي على الحقيقة التاريخيّة كادّعاء القذافي بأنّه كان سيدافع عن اليهود كأقليّة اضطهدها العالم كلّه إلاّ العرب لولا تأسيس إسرائيل، ويدعو لقيام دولة فاطميّة للقضاء على التوتر القائم بين الشيعة والسنّة، ويسميها الدولة الفاطميّة الثانية في شمال إفريقية، ويدعو إلى التأريخ بوفاة الرسول (ص) مثلما يؤرّخ النصارى بوفاة عيسى عليه السلام، وأنّه يجب أن يكون الدين واحداً بعد محمد صلّى الله عليه وسلّم.
ألم يتجرأ الدكتاتور العربي على الحقيقة الدينيّة فيدّعي القذافي أنّ الحجّ إلى مكّة المكرّمة مضيعة للوقت، ويسخر من المتديّنين ويقول بوجوب قتلهم بدون محاكمة، ويقمع الإسلاميين ويطاردهم ويسعى لاستئصالهم؟
ألم يتحوّل الديكتاتور العربي وقد اهتزّ كرسي حكمه إلى قنبلة (منزوعة الصاعق) تهدّد الاستقرار والأمن الدوليين عندما يدّعي أمام وزير خارجيّة تركيا بأنّه قادر على إشعال الشرق الأوسط، وإسقاط أنظمة، وإشاعة الفوضى والحرائق قرب حقول نفط الخليج، وإغلاق المضائق المائيّة العالميّة، بعد ست ساعات على أوّل صاروخ يسقط فوق دمشق لأي سبب كان، والجولان مغتصب وشعبه مشرّد.
وأن رده على الربيع العربي سيكون مختلفا عن ردود فعل القادة العرب الآخرين الذين أطاحت بهم في النهاية حركات الاحتجاج الشعبية.
وتفسيره للأحداث الجارية في سوريّة في مقابلة منشورة في صحيفة "ذي صنداي تلغراف" بأنّها" صراع بين الاسلاميين والعرب العلمانيين، مضيفا "نحن نقاتل الإخوان المسلمين منذ خمسينيات القرن الماضي (قبل أن يولد)، وما زلنا نقاتلهم.
ألم يتنازل الديكتاتور العربي عن حقوق شعبه كتنازل القذافي عن حق أطفال ليبيا من الممرّضات البلغاريات المتهمات بإصابة 460 طفلاً ليبيّاً بمرض الإيدز، حيث جرى تخفيض الحكم من الإعدام إلى المؤبّد، ثمّ سلمهم إلى السيدة (ساركوزي) زوجة الرئيس الفرنسي التي رافقتهن إلى بلغاريا، وهناك أصدر الرئيس البلغاري العفو عنهن.
كم استغلّ الدكتاتور العربي حب العرب في المشرق والمغرب للوحدة فوقّع على مسرحيّة الوحدة بين مصر وسورية والعراق عام 1963، واتحاد الجمهوريات العربية عام 1969، والاتحاد المغاربي 1989، وغيرها ليوهمنا بأنّه وحدوي.
ألم يسود عالمنا العربي في عهد الديكتاتور المصري والليبي والسوري واليمني وغيرهم الأوضاع الاستثنائيّة والأحكام العرفيّة، وقوانين الإرهاب، وتبنى السجون والمعتقلات على حساب المدارس ومراكز البحث.
ألم يقتلنا الديكتاتور السوري في سجن تدمر والديكتاتور الليبي في سجن بوسليم، ويتفنّن في تعذيبنا زبانية الأنظمة المعمّرة، ويقتحم الشبيحة جدران بيوتنا، ويقتلع الأمن أظافر أطفالنا؟
ألم يطلق علينا الديكتاتور العربي النار في واضحة النهار لأنّنا طالبنا بالحريّة، ويقصف بيوتنا من الجو والبحر، ويتوعدنا بالقتل والخسف وتطبيق سياسة الأرض المحروقة، وخراب الديار فيسقط منا في شوارع المدن السوريّة أكثر من ثلاثة آلاف.
وعندما يموت الديكتاتور العربي المعمّر بالسكتة القلبيّة كالأسد الأب، أو بمسدس الاستانبولي كالسادات، أو رمياً بالرصاص في إحدى غرف الإذاعة كالزعيم الأوحد، أو برصاصة الرحمة كالقذافي سيترك وراءه شعباً فقيراً متخلّفاً ينشد الهجرة إلى العالم الحر، ودولة من أشدّ دول العالم تخلفاً وفقراً.
ويتساءل العقلاء في زماننا: هل بقي بعد كل هذا الإرهاب الفكري، والتزييف السياسي، والقمع السلطوي، والتهريج الإعلامي في عقول أبناء أمتنا بقيّة ليساهموا في الاختراعات والابتكارات والإنجازات العلميّة والطبيّة والتكنولوجيّة، وينظموا القصائد الجياد، ويكتبوا بأرق العبارات النثر الجميل؟
كلا ....لم يبق متسع.
ولا يعني هذا أنّ العقول العربيّة قد نضبت وأجدبت كصحرائهم، وهي التي شيّدت للإنسانيّة حضارة واقعيّة، جمعت بين علوم الدين وعلوم الدنيا، وبين الروح والمادّة والفكر، والقول والعمل، وبين الكليّات والأفكار العامّة، حيث لا حواجز على الإبداع والابتكار.
وإنّ نظرة عامّة إلى إبداعات المهاجرين والمغتربين المسلمين في ديار الاغتراب وإنجازاتهم العلميّة والفكريّة، والمناصب التي يتولونها، والمهام التي يطّلعون بها، تؤكّد تقدم العقل العربي في عالم الأحرار حيث العدالة والأمن والاستقرار.
* أديب سوري يعيش في المنفى