سرطان الاستبداد

سرطان الاستبداد

أبي حليم إدلبي

لا غرو بتشبيه إستبداد البعث بالسرطان لوصف أكدأ أوباء الأمة الذي أفسد أضعاف ما أفسده المحتلون الأجانب.

وكما كان  سرطان الفيزيولوجي يحتل الجسد ويخدع جهاز المناعة ويهتك خطوط الدفاع كلها ، ويتسلل كصديق حميم ، ويزرع خبثه بالصميم ، ويفتك تاركاً بيوضه وأزلامه يعيثون في الأنسجة السليمة إفساداً وتقتيلاً .

كذلك كان إستبداد البعث سرطاناً متوحشاً منفلتاً من كل عقال يمتطقي الشعارات البرّاقة التي لا ترفضها هوية الأمة ، فيتسلل الإفساد والموت رويداً رويداً بجسد الأمة بعد تدمير دفاعاتها.

جوهر الصراع ليس بماذا يقال، ولكن من يحتكر القول والفعل، فحتى المصلّون كانوا يعتصمون باعترافاتهم بفروع الأمن من تهمة الصلاة، أن السيد الرئيس المناضل يصلّي، فقد امتد إستبداده من الأرض إلى السماء ، فأصبح يشرّع لله  جواز الصلاة وليس العكس ، هذا جوهر الصراع ، إنه سياسي بامتياز، ولذلك يصبح مفهوماً لماذ يتقدم أحرار الشام على الموت بجسد أعزل.

وبمناسبة سقوط القذافي الذي أخذ به الإستبداد شأواً بعيداً في الضلال والقسوة بآن معاً ، وكما كانت شعاراته براقة تخدع الكثير من جمهور الأمة، جماهيرية، شعبية ، عظمى، كان علمها أخضراً محافظاً ، وليس أحمراً دثار الثوار ولازمهم، لجان شعبية وثورية ، شعارات الوحدة والاندماج مع أسرع انقضاض عليها بمزاجية القائد الممثل الدّجال الثائر المزيف الذي اختزل الوطن بشخصه، ودوماً السرية المقدمة اللازمة لقفز شتى أنواع اللصوص والمرتزقة الذين فشلوا بمعركة البناء الطويلة المضنية والعلنية  لمدرسة الحياة بكفاحها الصامت .

ولأن الحزب القائد بالدولة والمجتمع قد اختزل المجتمع بالحزب، والحزب بالقائد، الذي يسبق العالم بعلمه وفهمه وعزمه، فهو إله بالأرض ، اختزل كل أسماء المجد وصفات القوة، ولأن للاستبداد ذاكرته فلا بد من فضحها لعل الأمة تتطهّر منها، لذلك لابد من حفريات نعرّج فيها على صدّام الذي اختار لنفسه تسعة وتسعين إسماً منها  ( تموز ) وهو إله سومري ، أما الملهم المباشر للقذافي فكان حافظ الأسد طاغي الشام الأقسى منذ رحيل هولاكو ، والذي اختار حيناً من الدهر اسم ( قائد المسيرة ) بمطلع سنة 1975، إلى أن استقر به المقام على اسم ( القائد الملهم ) لغاية رحيله سنة 2000 وبذلك أصبح إله سورية الأوحد ، فلا تثريب على من كفر جهاراً نهاراً بقلب دمشق باالله الواحد الأحد، فحسبه بعض نظرات اللوم من الطيبين ، أما الكفر بحافظ الأسد أو الحط من قدره ، فجزاؤه موت زعاف بأقبية مخابرات لا تبقي ولاتذر ، ولا زالت تدك أذني اللتين سيأكلهما الدود يوماً وللأمانة والتاريخ وأمام عشرة الآف مقاتل من الجيش العقائدي العرمرم أقسم قائده رغم مسيحيته (( أقسم بحافظ الأسد )) ولم يتبرم ضابط أو عنصر ، فقد أقسم بأعظيم عظيم في سورية الأسد.

تلك المواجع الملتهبة بالذاكرة كانت تنتظر لحظة الولادة التي قدحتها الثورة السورية، ولذلك تغدو حفريات البحث في العوامل المعرفية لتهتك أجهزة الرقابة والمناعة والحصانة من الاستبداد لدى خير أمة أخرجت للناس من الأهمية بمكان لا تدانيها أي أهمية أخرى وهذا اعتقادي ودافعي لهذه الحفريات في ذاكرة الأمة .

وقد قادني البحث إلى أن لجمال عبدالناصر الجنرال الأكب قصب السبق في تحطيم قوى المجتمع التي تشكل الموانع الفطرية للاستبداد ويتفرد فرد يأكل الطعام بأمر الأمة كلها ، وكيف تكسرت نصال المجتمع وخرست ألسنة علمائه وعباده ونساكه ، وشلّها استبداد عبدالناصر ، فكان نصف قرناً من التيه، فلا غرو من سقوط المجتمعات العربية بقبضة العسكر ، الذين استلهموا وفرضوا إرث الاستبداد من عهد بني أمية وشذاذ الملك العضوض ، فكانت قبضة العسكر أشدة قسوة مع تطوّر دور الدولة من الدولة الحارسة ( التي يقف دورها عن الذود عن حدود الوطن وإقامة القضاء والشعائر والضرائب) ، إلى دور الدولة المتدخلة في حياة أفرادها أكثر ، فالدولة المنتجة للقمع التي لا يتحرك ساكن من أفرادها إلا بأمرها ، ومن ذلك كان قرار القيادة القطرية لحزب البعث باجتماعها بدمشق لسنة 2005 سماحها بالترخيص لافتتاح محلات بيع الألبسة والحلاقين بغير موافقة أمنية ، فكانت دولة منتجة للقهر والقمع من المركز الغاشم للطرف النائم.

ومنذ إعتلاء الجنرال الأكبر (جمال عبدالناصر ) رقبة الأمة التي تحلم بكل مستبد على حصان صلاح الدين ، إلا أن جنرالها سلب العلماء والبرلمانات والنخب والمفكرين والقبيلة والعشيرة والقوى الاجتماعية والزراعية والصناعية المختلفة إرث الديمقراطية والارستقراطية الوطنية من سعد زغلول وتجربتهم الوليدة، إلى بتر وفك كل علاقة بهذا النمو الطبيعي ، والقطيعة معها والكفر بكل آليات الاستعمار من الديمقراطية وصندوق الاقتراع ، وإستبدال ذلك كله بالاستفتاء بنسبة 99% وبرقيات التهنئة التي تعدها شعب المخابرات وترسلها بجنح الظلام لأفراد معزولين بعد ترويع رهيب ، ويشفع لكل ذلك قداسة القضية ، فالزعيم سيعيد فلسطين ، ويهزم الاستعمار، ويحلق بتنمية تنهي الفقر والجوع والجهل، فلا وقت للانتخابات، والانتقادات لانها هرطقات مضادة للثورة، ولا لتحالفات الأحزاب النخبوية وبرامجها البطيئة ، لابد من حرق المراحل ، والتنازل عن حريات الأفراد وأصواتهم المشتتة التي ستذهب لقوى برجوازية واقطاعية ورجعية ، لا تحمل مشروعاً جامعاً لبناء وتحري الأمة ، ولا لطرح المحتلين .

كانت هذه الشعارات خيولاً تسلّق عليها إستبداد الأنظمة الشمولية بتيه الرعب القاسي والطويل، والمؤلم أن التجربة المرّة تكررت بين سورية ومصر والعراق وليبيا والسودان المنسي ، ولذلك دغدغدت مشاعر المستعجلين الذين لم يفهمو العصر ، سواء كانوا معميين أو أفنديين.

ولكن الأمانة تقتضي كما نذكر الجنرال الأكبر وإرثه الثقيل، أن نذكر بذات السياق ، الأحرار الذين امتلكوا العلم والشجاعة ، وكانت التضحية بأرواحهم أسهل من أن تمر هذه السموم في جسد الأمة ، على رأسهم شيخ القانونيين العرب المرحوم عبدالرزاق السنهوري وما يميزه أنه اكتشف أن الشعارات بذاتها سمّاً زعافاً ، وذلك قبل التوحش في تطبيقها المخابراتي، ودفع حياته ثمناً لمواقفه وكان وهم وبريق ثورة يوليو لم يخبو بعد.

أما سيد قطب ورفاقه ، فكان تصديه لمشروع الاستبداد العلماني القومي الضيق ، برد متطرف لاستبداد بديل ، يرد على ألوهية عبد الناصر، بإستبداد مقدّس بدل الاستبداد البشي المدنّس، وكان لمن شاء أن يتسربله من يشاء من الحركات الجهادية ، فزادت المخاوف من الإسلاميين ، والسئوال الذي يطرح نفسه من  بعد الأنبياء يستحق أن يمثل بشخصه الأفكار والشريعة من غير انحراف ولا شطط ، ويجوز للأمة أن تأتمنه على تطبيق الأفكار بغير حساب.

فلم يقدر أي من الجنرالات في إنقلابات سورية العاصفة أن يجهز على المجتمع وتكبيله وشل حركته الطبيعية لتأتمر بوحي المخابرات وأمن الدولة القيّمة على المجتمع وأفكاره، ولكن الجنرال الأكبر عبدالناصر دشّن هذه المهمة الأقسى في تاريخ العرب المعاصر بعد أن دانت له الأمة بالتصفيق وكان جلّ طموحه أن يهتف العرب كلهم بكسبة زر، ويقعدوا بكبسة زر، وللأمانة والتاريخ فقد اجتمعت بأحد وزراء حكومة عبدالرحمن البزاز بالعراق في الخمسينيات والذي يعتبر من المقربين من عبدالناصر والذي شرح له باجتماع دام خمس ساعات كيفية تدمير التأميم للاقتصاد وخداع الأرقام والإحصائيات التي يتم استخدامها ، وذات الوزير روى لي وساطته باسم الرئيس عبدالسلام عارف لعبدالناصر لعدم إعداد سيد قطب، ولكن لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، لذلك وبحق فقد كان عبدالناصر العباءة التي خرج منها القذافي والأسد وصدّام وعانوا من عقدها وعانت الأمة من أوهامهم كثيراً .

في تعرية الإستبداد ، من السذاجة بمكان التعويل على نظريات المؤامرات التي لم تنفك تحيكها كل الأمم المتصارعة ببعضها البعض، ولكن المنهج القرآني لم يرد مصائب الأمة إلا الغير والأعداء حتى لوكان والشيطان الذي وصف القرآن كيده بالضعف ، بل مرد المصائب قل هو من عند أنفسكم ، ولأن التاريخ لا ينسى هتافات نخب الصناعة والتجارة والعمائم تستقبل كل جنرال أطاح برئيس منتخب أو برفاقه بعبارة :  ( إسحقوا الخونة) .

ومع نسائم ربيع العرب وقد خرجت الجموع الغفيرة تجأر : ( الموت ولا المذلة ) بالله عليكم هل تقدر طغاة الإنس والجن أن تستحمر نفوساً تعشّقها الإباء والكرامة حتى نخاع عظامها؟

إن من تحرر من القابلية للاستعمار ( سواء المحتل الخارجي أو المستبد الداخلي) على تعبير مالك بن نبي لن يرتاح على ركابه أي طاغية لأن التكلفة باهظة ، فتتحول المناصب من مغنم إلى مغرم يفرّ منه اللصوص وشذاذ الآفاق ومناضلي الثرثرة، وبذلك ترجع المسئولية والإمارة لأصلها ، لا يقدر عليها إلا كبار النفوس ، ويفّر منها كبار اللصوص.

ولابد لذلك من أن بتكاتف السواعد ، وتصدح الحناجر والمنابر، وتفيض مداد العلماء والمثقفين العاملين ، أن صندوق الإقتراح الآن مثل حبة الأسبرين ، كذلك باقي التكنولوجيا ، لا بد من التعاطي بلغة العصر ومنجزاته وإن كانت من عطاء الكافرين و والبوذيين والضالين ، ولنردد بل خجل أن أسلوب صندوق الإقتراع لحل معضلة اختيار الحاكم الشرعي بانتخاب رئيس من طائفة السيخ للهند أفضل من معركة صفين وأسلوبها المشين مع كل المحبة لأكرم صحبة .

لذلك كان هذا الجهد كي لا يمل أو يتعب الأحرار ويسلموا قيادهم لأي معصوم مزيف مهما قطر الشهد من معسول كلامه ، وكثير صلاته وتسبيحه ، لن يغركم بعد اليوم ، لا ثائر مزيف، ولا زاهد يحمل قلب الذئب ، ويتاجر بدموعه ودينه كالبوطي وحسون ، لتبقى رقابة المجتمع وتعدد هيئاته دونها المهج والأفئدة، كل من يريد تحييدها لصلاة الخشوع ولبس المسوح، ، وزيف فرية اختصاص أهل السياسية بالوصاية على الشعب القاصر، فكل من يدعو لذلك، فهو عدو مبين أو جاهل مهين ، وكل من يتفرّد بالقرار ، هو مشروع مستبد ، سيقود البلاد والعباد للهلاك بلا أدنى شك فالسلطة المطلقة مفسدة مطلقة، وكما ردد مناضلو الثرثرة وحدة حرية إشتراكية فكانت خراباً وطغياناً وظلماً، في سورية التي رفض مجلس نوابها سنة 1948 زيادة بدل الانتقال لرئيس مجلس نوابها ، وسنة 1949 أجبرت مظاهرات دمشق وحلب على إستقالة رئيسها شكري القوتلي بخطاب لم يجاوز ثلاثة أسطر ، هكذا كانت مسيرة العرب ، وستعود مبرأة من غي الاستبداد إن شاء الله الذي تجلى برحمته على يئسنا ونفخ من روحه الشجاعة والكرامة وحب الشهادة في نفوس كنا نراها تخاف من ظلها ، فهاهي اليوم تتقدم الصفوف بسامة للموت، وفاء لدمائهم الطاهرة، وحريتهم المسلوبة، سأرهن قلبي لله ورسوله ولن أكتب كلمة إلا نصيحة لله ورسوله والمؤمنين، و كما أيقن جيراننا الأوربيون أنهم بمأمن من إستلهام هتلر وموسوليني بآليات ووسائل شتى ، فأفضل حل لتغوّل السلطة أن تحد السلطة من السلطة، ولذلك وسائل شتى منها أن لا يحلم رئيس أمريكي بالترشح لأكثر من ولايتين ، أو بتعيين قضاة أو قساوسة بدل انتخابهم من رفاقهم، أو بقبول هدية لنفسه تجاوز قيمتها ستين دولاراً، أو تعيين وزير إعلام أو أوقاف أو جريدة باسم الرئيس فالدستور الفيدرالي يحرمه من ذلك ، أبدعت الإنسانية فيها كثيراً ، ستكون موضوعاً لمقالات متتابعة، فالحذر الحذر  ياأحرار الشام والسلام.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله.