استقرارُ مصر استقرارٌ للمنطقة والعالم

حسام مقلد *

[email protected]

لا يفهم الكثيرون سر هذا الغموض والالتباس الذي يكتنف الحالة السياسية الراهنة في مصر، فنظريا الأمور كانت واضحة أمام الشعب المصري في بداية العام عندما ثار على نظام حكمه الظالم المستبد، وخرج ملايين المصريين في الشوارع مطالبين بتحسين الأوضاع المعيشية، والحرية والديمقراطية، والعدالة الاجتماعية، وكان شعار الثوار في غاية الوضوح (عيش، حرية، عدالة اجتماعية) ووقف جيشنا الباسل موقفا عظيما وانتصر لشعبه البار، وأُزيح رأس النظام ورموزه، وتسلم المجلس العسكري السلطة، ووعد الشعب بتحقيق مطالبه، وأجرى استفتاء حرا حدد خطوات نقل السلطة لحكومة مدنية منتخبة، ووافقت الأغلبية المطلقة من المصريين على هذه الخطة، واستبشر الجميع خيرا بميلاد مصرنا الجديدة، مصر العادلة الديمقراطية القوية غير التابعة لأحد...، وكان من المفترض أن يتم بهدوء تفكيك بُنى النظام الفاسد السابق، وتطهير مؤسسات الدولة من أفكاره ومنظومته الإدارية السيئة، وذلك وفق رؤية منهجية منظمة، لكننا لم نرَ شيئا من ذلك...، وجرت في النهر مياه كثيرة، وعصفت الريح، وثارت الزوابع، وحاولت جهات كثيرة ـ داخلية وخارجية...!! ـ العبث بأمن مصر واستقرارها، وجر شعبها إلى مستنقع الفتن الآسن، سواء أكانت: طائفية أم حزبية أم فكرية وثقافية...!! والآن تُخيِّم فوقنا سحب كثيرة شديدة القتامة، وتختلط علينا الأمور، ولا ندري:

هل نحن فعلا شعب أنجز ثورة شعبية سلمية عظيمة أسقط فيها النظام القمعي الديكتاتوري الفاسد الذي حكمه ثلاثين سنة، ثم انطلق على هدى وبصيرة يحقق أهداف ثورته في ثقة واطمئنان، يدفعه أمل عريض في مستقبل أفضل؟!

أم نحن شعب قام بنصف ثورة، ولا يزال يكافح ويناضل من أجل إكمال طريقه وإنجاز كامل أهداف ثورته، رغم مؤامرات الحاقدين والمتواطئين والمتربصين والمتآمرين؟!

أم نحن مجرد ملايين من الواهمين (أو السذج الغاضبين...) الذين استُخْدِموا من قِبَلِ العسكر كمخلب قط لإفشال مشروع التوريث، وأن مسرحية عبقرية يجري تنفيذها بمهارة شديدة؛ لإعادة إنتاج النظام السابق بوجوه جديدة أقل فسادا وتلوثا من نظام مبارك البائد؟!

وأمام تباطؤ(ويمكننا أن نقول تقاعس...) المجلس العسكري الذي يحكم مصر حاليا في إنجاز أهداف الثورة تتزايد يوما بعد يوم حال الغموض والقلق لدى جموع كبيرة وقطاعات واسعة من الشعب المصري؛ خصوصا مع تداخل الأمور واختلاط الكثير من الأوراق والأحداث بشكل محير ومريب فعلا، ويكاد يجزم كبار المفكرين والمحللين أن ثورتنا المصرية قد اختطفت فعلا، أو أنها أوشكت على الاختطاف، ويدعوهم إلى ذلك غموض المستقبل السياسي لمصر بسبب عدم إفصاح المجلس العسكري الحاكم عن حقيقة نواياه بوضوح تام فيما يتعلق بنقل السلطة، وتسليمها لحكومة مدنية منتخبة ورئيس منتخب من قِبَلِ الشعب، وحقيقة لا نفهم بالفعل سر صمت المجلس العسكري الغريب بخصوص إعلان جدول زمني محدد لنقل السلطة عمليا لحكومة جديدة بعد الانتهاء من إجراء انتخابات مجلس الشعب، ولا نفهم سر عدم الإعلان حتى الآن عن موعد إجراء الانتخابات الرئاسية!! وقطعا هذه الحال من الضبابية وعدم الوضوح تثير البلبلة بين المصريين، وتزيد من شكوكهم في نوايا المجلس العسكري الحاكم، ولا نعرف سببا منطقيا واحدا يبرر لنا كل ما يجري، ولا يخفى على عاقل خطورة استمرار هذا الوضع وخسائره الفادحة وأضراره الحتمية ومخاطره الجسيمة: سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وأمنيا!! ولنتكلم بشفافية وصراحة أكبر، فكثير من المحللين يرون أن أسباب انحراف الثورة المصرية عن مسارها، وحشر مصر في هذا الوضع المتأزم لا تخرج عن التحليلات التالية:

بعض المحللين يذهب إلى أن سبب ما نحن فيه هو وقوع المجلس العسكري تحت ضغط هائل من الولايات المتحدة الأمريكية وعدد من الدول الأوربية والعربية، وأنهم يستخدمون في ذلك العصا الاقتصادية الغليظة لإجبار المجلس على تعويق حركة الثورة وحرفها عن مسارها الصحيح، وأن المجلس لا يسعه في النهاية سوى الرضوخ للكثير من هذه الضغوط بسبب وضع الاقتصاد المصري الحرج من جهة، ومطالبة معظم فئات الشعب المصري بتحسين أوضاعها المعيشية فورا من جهة أخرى.

ويذهب آخرون إلى أن هذا الوضع الصعب الذي تعيشه مصر حاليا هو أمر مقصود من المجلس العسكري نفسه؛ لتهيئة المسرح السياسي والاجتماعي لقبول حكم العسكر بصيغة جديدة تختلف اختلافا طفيفا وشكليا عن صيغة عام 1952م وتلتزم التزاما عميقا بجوهر فلسفتها في الحكم؛ أضف إلى ذلك أن بعض العسكريين لديهم طموحات شخصية لتولي زمام الأمور في البلاد، ويريدون بقاءها واستمرارها دائما في جلباب المؤسسة العسكرية، ويجري الآن تفصيل نظام حكم مدني جديد له مواصفات خاصة بحيث يكون مقبولا شعبيا وإقليميا ودوليا، وفي نفس الوقت يحافظ على مبادئ المؤسسة العسكرية ولا يخرج عن طوعها، ويحقق للشعب إنجازات حياتية ملموسة فيهدأ ويستقر، وفي نفس الوقت يلتزم بقواعد اللعبة الدولية، ويحفظ حال السلام الهش القائمة في المنطقة حاليا...!!

ويرى فريق ثالث أن احتدام الصراع بين العلمانيين والإسلاميين على النحو الذي شاهدناه طوال الأشهر الماضية هو السبب الرئيس في توجس المجلس العسكري وقلقه الكبير على مستقبل مصر واستقرارها، في ظل ما رأيناه من احتدام شديد للصراع بين الجانبين، وافتقارهما معا لأبسط معاني الديمقراطية في إدارة الخلاف، واحتمال انجرارهما للمواجهات العنيفة بسبب انسداد آفاق التحاور السياسي بينهما.

ويزعم فريق رابع أن دخول السلفيين على الخط، ومواقف بعضهم المتشددة حيال قضايا مثل: المرأة، والآثار والسياحة، والفنون والموسيقى والتمثيل...إلخ، وظهور بوادر ومؤشرات تشدد (وراديكالية...) مشروعهم الفكري والحضاري، وخطورته على مستقبل مصر هو ما جعل المجلس العسكري يتأنى، ويُروِّي في الأمر، ويتراجع شيئا ما عن تأييده السابق لإيجاد نموذج حكم ديمقراطي مدني متكامل في مصر، مهما كانت اختيارات الشعب لحكامه!!  

أما الفريق الأخير فيرى أن الأوضاع الإقليمية والدولية الراهنة، واحتمال وجود مخطط لتقسيم المنطقة والانقضاض عليها من كل ناحية هو ما جعل المجلس العسكري يعيد النظر في خططه السابقة، ويصغي للرسائل الغربية والأمريكية بهذا الصدد، ويوازن بين جميع الاحتمالات ويختار أقلها ضررا وخطورة على الأمن القومي المصري.

ومهما كانت دقة ووجاهة هذه التحليلات ودرجة صحتها إلا أنها جميعا قد فاتها أمر في غاية الأهمية، وهو قوة الشعب المصري ذاته، وإرادته الفولاذية التي أدرك المصريون قيمتها الكبيرة وقدرتها الأكيدة على فعل الكثير والكثير محليا وإقليميا ودوليا، ومخطئ جدا من يتجاهل هذه القوة، ويقصر اللعبة السياسية على السلطة الحاكمة وبعض القوى والأحزاب في مصر، والقوى الإقليمية والعالمية المؤثرة في المنطقة، كلا، كلا!! لم  يعد الأمر كذلك، فمصر بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير ليست كمصر قبلها، وعلى الجميع أن يدرك ويعي تماما أن الشعب المصري قد شب عن الطوق، ولن يسمح لأحد أيا كان باستلاب حريته وقمعه مجددا، ولم تعد الجهة التي تمتلك السلطة في مصر قادرة على احتكارها إلى الأبد، وإجبار الناس على الانصياع لها بكل أدوات القمع والبطش والجبروت، والتهديد باستخدام قانون الطوارئ، ولن تفلح كل آلات الدعاية ووسائل التضليل الإعلامي في تزييف وعي الجماهير وإعادتها إلى عصور القهر الاستبداد.

وفي الحقيقة لا يمكن لأي عاقل أن يستهين بقوة شعب يبلغ تعداده خمسة وثمانين مليون إنسان، وليحذر صناع الفتن وتجار الحروب غضبة هذا الشعب الأبي، وعلى كل من يضغط ويخطط لاختطاف الثورة المصرية وحرفِها عن مسارها وتفريغها من أهدافها الإصلاحية أن يدرك أن مصير سعيه الآثم هذا هو الفشل الذريع، فلن يسمح المصريون بإجهاض ثورتهم، والتهديد بعصا الاقتصاد، أو الانفلات الأمني، أو إثارة الفتنة الطائفية، وجر البلد لحالة من الفوضى الشاملة، كل هذه حيل مفضوحة ولن تجدي نفعا، فأولا: الشعب المصري أكبر من هذا الابتزاز، وأرقى وأكثر تحضرا ووعيا بما يعصمه من الوقوع في مثل هذه الفخاخ، وثانيا: لا يخفى على أحد أن استقرار مصر وأمنها وسلامتها ليس فقط مطلبا مصريا حيويا، بل هو أيضا هدف إقليمي ودولي يدعم الاستقرار والسلام العالمي!! فمصر تتحكم في أخطر منافذ التجارة الدولية من خلال تحكمها في قناة السويس وهي أهم شرايين الملاحة البحرية العالمية، والاقتصاد العالمي الذي يعاني أصلا من أزمة مالية خانقة ليس في حاجة إلى زيادة مشاكله، وتحميله بالكثير من الأعباء الإضافية، لاسيما أنه لم يتعافَ بعد من آثار هذه الأزمة المالية الطاحنة التي دكت اقتصاديات عدة دول أوربية حتى الآن، بل تنذر كل الدلائل بتفاقمها خلال السنة القادمة. 

ولا يجهل أحد أهمية موقع مصر الاستراتيجي بالنسبة للعالم كله، ولا ينسى جهابذة السياسة وأساطين العسكرية الحدود الطويلة المشتركة بين مصر ودولة الكيان الصهيوني الغاصب لفلسطين، ولئن كانت القوة العسكرية الأمريكية قد فشلت في العراق وأفغانستان رغم مهابتها وضخامتها وعظم ما لديها من ترسانة عسكرية  تمتلك أحدث أنواع الأسلحة التقليدية وغير التقليدية، ولئن كانت قد عجزت عن مواجهة بعض جماعات المقومة التي لا تمتلك واحدا على مليون مما تمتلكه الولايات المتحدة الأمريكية من قوة عسكرية، فما بالنا بإسرائيل لو وقعت الفوضى والاضطرابات ـ لا قدر الله ـ في مصر؟ وكيف لها أن تواجه زحف الملايين عليها دفاعا عن كرامتهم، واستنقاذا لبلادهم ومقدساتهم، وانتقاما ممن دبر على وطنهم؟ ومن يضمن لها ألا تصبح الحدود المصرية مصدر نيران هائلة تنفتح عليها، وتغمرها بمختلف صنوف وألوان العذاب؟ ثم من يطمئن أمريكا والغرب على مصالحهم المختلفة في شتى أنحاء العالم؟ وكيف يضمنون عاقبة غضب خمسة وثمانين مليون إنسان ثاروا على نظام مبارك الفاسد حباً في وطنهم وحرصا عليه لا لتمزيقه وإشاعة الفوضى بين جنباته؟!

لا أشك لحظة واحدة في أن الجميع يدرك ويعي تماما أن استقرار مصر هو استقرارٌ للمنطقة والعالم!! ولا أظن أن شيئا من هذه الحقائق يخفى على أحد، ولا أتخيل أن يغامر أي عاقل بفتح أبواب الجحيم على البشرية جمعاء بهذا الشكل المرعب! فمصر ليست كأي بلد آخر، وبقاؤها دولة قوية متماسكة هو عين مصلحتها، وفيه حماية أكيدة لمصالح المنطقة والعالم، ولا مفر أمام الجميع من التسليم بحق المصريين في تكوين دولتهم المدنية الديمقراطية العادلة ذات الهوية والمرجعية الحضارية العربية الإسلامية، ولا جدوى مطلقا من المماطلة، ولا فائدة من محاولات تعطيل ذلك المشروع الحضاري الملهم، الذي لو تم على الشكل المرجو لحقق طفرة حضارية هائلة في مصر والعالم العربي والإسلامي، ولانعكست آثاره الإيجابية على جميع الأمم!!

وأمام العالم فرصة تاريخية لقبول الأحزاب ذات المرجعيات الإسلامية كشريك سياسي مهم في مصر وغيرها من البلدان العربية، ويجب إدماج هذه الأحزاب في العملية الديمقراطية السلمية القادرة على تطهير نفسها بنفسها من سلبيات التنظير المحتملة وأخطاء التنفيذ المتوقعة، كما أن إشراك الإسلاميين في مجال السياسة الدولية من شأنه توفير سبل التواصل والحوار البناء معهم، واحتواء جميع الأفكار ومناقشتها بشكل إيجابي مفيد وفعال، وقطع الطريق على الأصوليين المتشددين الذين يستغلون سوء أوضاع بلدانهم الإسلامية، والتغلغل الغربي فيها بشكل استعماري مباشر(كالعراق وأفغانستان) أو غير مباشر لاستنفار المشاعر الإسلامية، وتجييش الشباب المسلم، وتجنيدهم ضد الهيمنة الأمريكية الغربية على شعوب وبلدان العالم العربي والإسلامي.

في الواقع لا يخفى على أحد رغبة الدول الكبرى (وعلى رأسها أمريكا وبريطانيا وفرنسا...) في استمرار هيمنتها وسيطرتها على الأوضاع السياسية والاقتصادية في المنطقة والعالم، ولا يجهل أحد مقدار الجهود المحمومة التي تبذلها هذه الدول حاليا من أجل الالتفاف على الربيع العربي، واختراق الثورات العربية، وتفريغها من مضمونها، وكلنا يدرك ويعي تماما أن هذه الدول الكبرى لن تكف عن محاولات إفشال هذه الثورات، وإثارة القلاقل والفتن والاضطرابات في الدول التي تخلصت من أنظمة حكمها الفاسدة العميلة، وستستمر هذه الجهود والضغوط، ولن تتوقف الدسائس والمكائد والمؤامرات حتى لا تنجح الثورة المصرية في بناء دولة ديمقراطية مدنية حديثة وقوية وناهضة؛ كي لا تكون قدوة حسنة ونموذجا تحتذي به بقية الدول، لكن على الجميع أن يحذروا تمام الحذر من اللعب بالنار، فالقرار المصري بعد ثورة 25يناير سيصنع ويصدر في القاهرة وحدها، لا في واشنطن ولا في غيرها، والسعي لاختطاف الثورة المصرية وحرفها عن مسارها، وزعزعة أمن مصر واستقرارها لن يؤثر عليها وحدها، بل سيشعل المنطقة كلها وسوف يزعزع استقرار العالم بأسره؛ لأن هذه هي مصر مهد الحضارة وصانعة التاريخ.

                

 * كاتب إسلامي مصري