تأملات استرجاعية في الأحداث السورية..
محمد سيد رصاص
(عضو سابق في شيوعي المكتب السياسي)
صدرت في أيار (مايو) عام 2004، في باريس وثيقة عن «هيئة الخارج» للحزب الشيوعي السوري (المكتب السياسي)، عبر نشرة «المسار»، تتحدث عن علاقة سياسية (منذ عام 1976) ومالية (بدءاً من 1978) بالعراق أقامتها أطراف المعارضة السورية (رياض الترك وأكرم الحوراني وصلاح الدين البيطار). وتكشف الوثيقة عن كشوف لمبالغ مالية (إضافة إلى كشفها للعلاقة المالية مع ياسر عرفات من دون أن تحدد مبالغها) أخذها الحزب الشيوعي (المكتب السياسي) من العراق، بين عامي 1983 و1985 على سبيل المثال لا الحصر، بلغت 1.140.300 مليون فرنك فرنسي. من الممكن لهذه الوثيقة أن تكون دليلاً لكلمات متقاطعة كانت من دون دليل طوال العقدين الماضيين، مثلتها الأحداث السورية التي نشبت بين عامي 1979 و1980 وهزت البلاد وشكلت بنتائجها اللوحة السياسية السورية طوال ربع قرن من انتهائها.
في تلك الأيام، كان يُظن، لدى المعارضين السوريين، ومنهم كاتب هذه السطور الذي قضى في السجن خمسة عشر عاماً إثر تلك الأحداث، أن العوامل الداخلية هي الأساس في الأحداث وأن الأطراف، التي كانت ضمن المعارضة مرتبطة علناً بالعراق والأردن مثل «الاخوان» و»الطليعة المقاتلة»، ليست أكثر من مخالب يستخدمها صدام حسين والملك حسين ضد السلطة السورية، إلا أنها تبقى – ضمن اعتقاد المعارضين آنذاك – متحركة ومحددة حركتها من خلال إيقاع داخلي تفرضه أوضاع سورية محددة وجذور اجتماعية لهذه القوى تتحرك عبرها، مع افتراض وقناعة ضمنيين من هؤلاء المعارضين، الذين كانوا موجودين ضمن ما كان يسمى بالمعارضة الديمقراطية التي تزعمها رياض الترك وجمال الأتاسي، بأن هذه المعارضة الأخيرة داخلية محضة ليست لها أية علاقة بالخارج، وهي التي كان بعضها – أي الحزب الشيوعي (المكتب السياسي) – رفض الوصاية السوفياتية، سياسياً ومالياً وتنظيمياً، مما أدى إلى انشقاق عام 1972.
ما تكشفه تلك الوثيقة يبيّن أن كل أطراف المعارضة السورية، من اليسار الشيوعي المعارض وصولاً إلى الجناح الإخواني المسلح/ أي «الطليعة المقاتلة» التي كانت منشقة عن «الإخوان» منذ أيام الشيخ مروان حديد إلى اندماجها في «الاخوان» عام 1980، كانت يدا صدام حسين ممسكة بخيوطها، وفي وقت كان «الإخوان» و»الطليعة المقاتلة» لا يخفون علاقتهم بالعراق بعد انفراط التقارب السوري – العراقي (تشرين الأول/ اكتوبر 1978 – تموز/ يوليو 1979) إثر إزاحة صدام حسين للبكر من السلطة (16 تموز 1979) وإعدام خمسة من أعضاء مجلس قيادة الثورة العراقي، على رأسهم عدنان حسين.
ربما يفيد، في هذا الإطار، إيراد ما ورد من أخبار، تم تداولها آنذاك في الوسط السياسي السوري من دون أن تُربط أو تستخلص دلالاتها بحكم إما العمى السياسي أو الفكر المسبق، من أن صدام حسين دخل، بعد زمن قصير من حدوث مجزرة مدرسة المدفعية في حلب (16 حزيران/ يونيو 1979) والتي أشعلت تلك الأحداث، مكان اجتماع الرئيسين العراقي البكر والسوري الأسد الذي كان يومها يزور بغداد، قائلاً إن «هناك انقلاباً في دمشق»، وكذلك ما رواه بعض الناجين من تلك المجزرة من أن النقيب إبراهيم اليوسف، لما اعتقل تلاميذ ضباط المدرسة وقبل إعدامهم، قال لهم: «أن رئيسكم قد اعتقل في بغداد، وأن هناك انقلاباً حصل في دمشق».
بالتأكيد، كان التقارب السوري – العراقي موضوع صراع ونزاع في أعلى قمة السلطة العراقية، وشعر صدام حسين بأن البكر، وخصومه في القيادة، يخططون لاستخدام التقارب من أجل إزاحته أو إضعافه، لذلك لم يكن صدفة حديث السلطة العراقية، بعد إزاحة البكر، عن «مؤامرة سورية» للتواطؤ مع عدنان حسين وجماعته، وما أدى إليه ذلك بالنتيجة من دخول بغداد ودمشق في العداء مع جديد، إلا أن اللافت في الموضوع هو اتجاه صدام حسين، كما يوحي سيناريو مجزرة مدرسة المدفعية، إلى تفجير الوضع السوري للوصول إلى تفجير التقارب و»محاولات الوحدة»، وما أدى إليه ذلك من جعل إزاحة البكر وخصوم صدام في القيادة العراقية تفاصيل ولواحق للعملية الأولى ومن مستتبعاتها، وهو ما حصل بالفعل في بغداد من تحقيق، بعد شهر من ذلك، لاستفراد صدام حسين بالسلطة بعد سنين من الجهود والترتيبات بدأت من إزاحة حردان التكريتي في تشرين الأول عام 1970 من وزارة الدفاع.
لكن المثير في الموضوع، إذا تلمسنا الخيوط الواسعة لصدام حسين والتي امتدت عند المعارضة السورية من رياض الترك إلى مراقب «الأخوان» عدنان سعد الدين، هو سعي الرئيس العراقي الجديد إلى الإطاحة بالسلطة السورية، عبر إشعال أحداث، كان لها بالتأكيد الكثير من الحطب الداخلي، للوصول ربما إلى السيطرة على دمشق، عبر امتدادات سورية ربما كانت ستكون طبعة ثانية لحزب الشعب والأنصار السوريين الآخرين لمشروع «الهلال الخصيب» في زمن الأمير عبدالإله ونوري السعيد.
إذا تلمسنا الامتدادات الدولية للملك حسين، الذي كان يغذي المعارضة الإخوانية السورية بمعسكرات تدريب ومقرات وحرية حركة والذي انتقل منذ عام 1978 من محور دمشق الى محور التقارب مع بغداد، فهل كانت تغذية العراق والأردن المشتركة للمعارضة السورية المسلحة تعبيراً عن موافقة دولية على طموح صدام حسين ذاك؟
مَنْ يقرأ كتاب باتريك سيل عن سورية الخمسينات، يلاحظ حتى الترددات البريطانية ازاء تشكل دولة عربية قوية تمتد من البصرة الى اللاذقية، على رغم ان ذلك المشروع، المسمى بـ»الهلال الخصيب»، خرج من أدراج الخارجية البريطانية، هذا إذا لم نتحدث عن الرفض له في واشنطن وباريس وتل أبيب، وكذلك الاقليمية في القاهرة والرياض: في أواخر السبعينات، لم تتغير هذه اللوحة الدولية، وكذلك الاقليمية، بل ربما انضمت بريطانيا الى رافضيه بحكم أفولها عن المنطقة في مرحلة ما بعد السويس، مما يدفع المرء الى الترجيح أن صدام حسين كان يشتغل لحسابه الخاص، مستفيداً من غض النظر الدولي عنه بعد بروز الخطر الخميني في الشرق (وهو ما يدفع الى التفكير، بالمناسبة، إن كانت ازاحة البكر وتوتير الأمور مع دمشق ناتجين من تقارب الأخيرة مع طهران بعد صعود الخميني الى السلطة في 11 شباط/ فبراير 1979)، على رغم ان الاحداث الايرانية عند العراقيين وخوفهم من انقلاب معادلات ما بعد اتفاق الجزائر (آذار/ مارس 1975) مع الشاه، واتفاقيات كامب ديفيد عند السوريين، كانتا السببين في تقارب خريف 1978 بينهما من دون أن يصل ذلك الى موافقة غربية في احدى العواصم الثلاث الكبرى، أي واشنطن ولندن وباريس، على مشاريع الرئيس العراقي. وربما كان الأرجح ان الموافقة الغربية لم تتعد حدود اضعاف دمشق، بعدما قويت كثيراً إثر دخولها الى لبنان صيف 1976، من أجل ألا تتحول معارضة السوريين للتسوية المصرية الى حدود إجهاض الأخيرة. وربما كان غض النظر الأميركي عن التدخلات الاسرائيلية في لبنان، بين عامي 1978 و1983، عبر تحالف تل أبيب مع الكتائب وكميل شمعون، لا يخرج عن هذا الاطار، وذلك من دون أن تصل الأمور عند الأميركيين الى سحب الغطاء عن الوجود السوري في لبنان، وهو ما تثبّت، في مرحلة ما بعد فشل الاجتياح الإسرائيلي في انشاء حكومة لبنانية موالية لتل أبيب ومعاهدة على طراز تلك المصرية عبر «اتفاق الطائف».
إذا رجعنا إلى الداخل السوري، نجد تصعيداً سياسياً نوعياً، بعد أسبوعين من مجزرة المدفعية عبر وثيقة رسمت الخط السياسي اللاحق للحزب الشيوعي (المكتب السياسي)، من جانب رياض الترك تحدث الكثير من أعضاء اللجنة المركزية، لاحقاً، كيف فرضها على قيادة الحزب من دون توضيح، وربط ذلك مع الخيوط الخارجية التي تصل إلى بغداد والتي كان متكتماً عليها، فيما نجد سعي الترك مع جمال الأتاسي إلى تشكيل «التجمع الوطني الديمقراطي» في الشهر الأخير من عام 1979 (والذي شارك «بعث العراق» في مفاوضات تشكيله لينسحب من عملية التوقيع على ميثاقه بسبب إصراره على استخدام العمل المسلح) ربما من أجل ملاقاة تطورات دراماتيكية مقبلة، لتأتي الذروة في آذار 1980 عندما أعلن «التجمع» عن نفسه عبر بيان طرح فيه «برنامج التغيير الديمقراطي» أثناء إضرابات عمّت الكثير من المدن السورية من دون دمشق.
كان الأتاسي، الأمين العام لحزب الاتحاد الاشتراكي العربي، الذي تتحدث وثيقة باريس عن علمه وموافقته على العلاقة السياسية مع بغداد من دون ذكر تورطه في الموضوع المالي، أول من قرأ أن «مدّ المعارضة» دخل في الانحسار بعد آذار 1980، وأن موازين القوى مالت الى مصلحة السلطة، مقترحاً وقف التصعيد عند المعارضة، فيما شاركه في ذلك الرأي، صيف 1980، قسم مرموق من أعضاء اللجنة المركزية للحزب الشيوعي (المكتب السياسي)، تزعمهم أحمد فايز الفواز، وقفوا ضد استمرار سياسة الترك في التصعيد السياسي بعد انتفاء موازينه، وهو ما كان مقرراً حسمه في المؤتمر التداولي للحزب (كانون الأول/ ديسمبر 1980) لتأتي حملة اعتقالات الشهر العاشر من ذلك العام ضد الحزب مانعة الأمور من أن تأخذ مجراها.
كان يظن في سورية، بعد أن أخذت دوراً إقليمياً كبيراً بزّ القاهرة والرياض وبغداد بعد عام 1976، أن الساحة السورية لم تعد «ملعباً للآخرين» كما كانت في الخمسينات: تأتي تلك الوثيقة الصادرة في باريس لتعطي مفتاحاً لفهم أحداث كان يظن الكثيرون أنها داخلية محضة مع امتدادات هامشية إلى الخارج، قالبة الصورة – أي تلك الوثيقة – لتبين كيف استغل خارجٌ إقليمي أوضاعاً داخلية، وقوى سياسية سورية معينة، وربما بتواطؤ قوى دولية، من أجل إشعال أحداث، كان الداخل السوري ساحتها وحطبها، للوصول إلى غايات إقليمية مرسومة من جانب أطراف دولية تتعلق بالتسوية ومن أجل وضع حدود كان يراد رسمها من جديد للدور الإقليمي السوري، استعملت فيها هذه الأطراف الدولية طموح زعيم إقليمي إلى «تشكيل إمبراطورية»، وهو ما يقال إن عبدالناصر تنبّه له تجاه صدام حسين منذ عام 1969، من أجل تحقيق تلك الغايات.
كاتب سوري.