السياسة وصناعة التواسيم

م. عبد السلام السلامة

م. عبد السلام السلامة

في البداية، لا بد لي، من تعريف التواسيم، لمن لم يلبسها،  وتعريف السياسة لمن لم يمارسها.

التواسيم:

كلمة جمعٍ، تدل على نوع من الأحذية، كان يلبسها الفلاحون، والفقراء من أهالي المدن، في بلاد الشام، قبل نصف قرن. والزوج: ( الفردتان)، يقال لهما: تاسومة،  والفردة الواحدة، تعرف بـ: (فردة تاسومة)، ويوصف بـ: ( فردة تاسومة)، كل واطٍ نذل، من الرجال، أو ساقط  أو دنيء أو لص أو محتال، أو من هو على مثل هذا المستوى من الأخلاق. ورغم ذلك، فإن للتاسومة ميزات كثيرة، تختلف فيها عن باقي أنواع الأحذية؛ فهي صناعة يدوية مائة بالمائة، وهي من الجلد الطبيعي مائة بالمائة، وليس فيها يمين وشمال، فكلتا فردتيها، يمكن لبسها بأي من القدمين، فهي بيضوية الشكل، وشسعها من أربع قطع، أو ست قطع، ونعلها قطعة واحدة، وليس لها كعب، وعقبها أقل عرضاً من مقدمتها، وألوانها، تكاد تنحصر بالأحمر القاني، أو الأحمر الداكن أو الأسود، وقليلون من كانوا يلبسون الزرق الداكنات، والأحمر القاني: أشهرها؛ ولذلك غلب على تسميتها: ( تاسومة حمرا).

ومن ميزات التاسومة أيضاً، أن المستعملة منها أغلى سعراً من الجديدة؛ والسبب في ذلك: أنها تصنع من جلود البقر والحمير، والجديدة منها تكون صفيقة غليظة الحواف، تحز ظهر القدم، وقد تجرّحها، عندما تُلبس مدةً طويلة.

أما في المدن، فإن لبس التاسومة الجديدة، أشد خطورة؛ لأن نعلها الناعم، قد يتسبب في التزحلق على أرض المدن المبلّطة، بالزفت أو الإسمنت، بخلاف أراضي القرى والبوادي الترابية، أو الحصوية أو الرملية، ولهذا فإن بائعي التواسيم، يعرضون الجديدات منها، للتأجير، مقابل أسعار رمزية، أو بدون مقابل؛ وذلك لأن من يلبسها، وهي جديدة، يتحمل الكثير من العنت، إلى أن (يعسِفها) بعد عدة أيام، حيث يلين الشسع بالدعك،  وتخشن الأرضية بالاحتكاك بالأرض، ولهذا يسمى من يكثر من لبس التواسيم الجديدات: ( العساّف)، قياساً على من يروّض الخيول الشموس، وهذا كان يسمى العسّاف أيضاً.

 والمقابل الذي يكسبه عسّاف التواسيم، ثمناً للمشقة التي يبذلها، هو أنه يظل يتباهى أمام الناس بتاسومته الجديدة، وقد يؤجرها هو بدوره، لمن يلبسها للذهاب إلى حفلة أو ( جاهة )، أو عند استقبال ضيوف كبار، أما صناعة التاسومة فتلك قصة أخرى.

كان الحمّالون في الحواضر والمدن، ينقلون بضائعهم، وبضائع غيرهم على الحمير. أما في القرى والأرياف، فإن الفلاحين كانوا يحرثون على الثيران، وينقلون أدواتهم، ومحاصيلهم ، وحطب أشجارهم، ونباتاتهم، على الحمير.

وكان كل هؤلاء من أهل الحواضر، أو أهل البوادي، يكرمون ثيرانهم وحميرهم،  ويقدمون لها: التبن والذرة والشعير والبرسيم، ونخالة الدقيق، وغيرها، لتتقوّى على القيام بواجبها في العمل، حتى إذا هرم الحمار أو الثور، أو مرض مرضاً لا يرجى شفاؤه، أو حلّ به ما يمنعه منعاً دائماً من القيام بواجبه، أخذه صاحبه إلى ( القُرباط)، أو ( الغَجر)، وهما كما يقال: من بقايا حملات المتسولين، الذين وصلوا إلى بلاد الشام،  وانتشروا فيها، قادمين من أوروبا الشرقية، أثناء الحكم العثماني، وهنا يقوم القرباطي، أو النّوري، بذبحه وسلخه ودباغة جلده، وصناعة التواسيم منه.

قد يسأل القارئ: هذا مع الحمار الذي لا يؤكل لحمه، فما بال الثور؟ والجواب: أن الثور لا يصل إلى مثل هذه الحالة عادة، إلا بعد أن يصبح لحمه عصياً على الطبخ والأكل، إذ لم يكن الناس في البوادي والأرياف، يعرفون التقطيع الناعم للّحم، وصناعة الكباب الجاهز للبلع بلا مضغ، ولم تكن لديهم قدور (البريستو)، التي تذيب اللحم والعظم. ولعلهم كذلك كانوا يذبحونه فيأخذون اللحم ويبيعون الجلد ( للقرباط أو النوَرِ ) .

هل عرفت عزيزي القارئ ما هي التواسيم، وكيف تُصنع؟. هنيئاً لك، فقد عرفت تسعة أعشار اللازم !!.. وإليك العُشر الباقي.

السياسة:

محمد عبده، الإمام المجاهد البطل، والعاِلم العَلم، والفقيه المربي، كان أبرز أهل الفكر والسياسة، الذين خططوا  لثورة أحمد عرابي، ضد قصر الخديوي الفاسد، فكان آخر أمره بعد أن سجن ونفي وعُذّب، أن تفرغ لتعليم الناس، ومحو الأمية في أرياف مصر، وكان من آخر ما قاله هذا الإمام، قبل موته:"لعن الله السياسة، ولعن ساس يسوس سياسةً".

سعيد النورسي، بديع الزمان، الذي كان قدوة في العلم والزهد والتقوى والجهاد والفكر والسياسة والدهاء والصلابة، فقاتل جندياً في صفوف القوات العثمانية، ووقع في أسر الروس، وتصدى لأتاتورك، فحكم عليه بالإعدام، انشغل آخر عمره في التربية، وقال كلمته المشهورة:" السين تلحقها الشين، والسياسة يلحقها الشر".

علي عزَت بيجوفيتش، المقاتل الفذ، والسياسي المحنك، والمربي الأسوة، الذي كان وحدَه يفاوض الأمريكان والأوروبيين والصرب والكروات، مجتمعين ومتفرقين، فلا يلين أمام تهديد،  ولا يهدأ أمام إغراء. الرجل الذي كان يتحرك في جولة واحدة، من خنادق القتال، إلى فنادق المفاوضات، إلى مستوصفات التمريض، إلى مقابر الشهداء. الرجل الذي كان من أسباب الذبحة الصدرية، التي قتلته، حزنه على قتلى المجازر، التي ارتكبت ضد شعبه، لإخضاعه في المفاوضات التي كانت تجري بينه وبين الأوروبيين والصرب، والتي خرج منها كما يقول:" كان اللعب: واحد مقابل اثنين، وكانت النتيجة: التعادل". علي عزت هذا، قال وكتب:"قد تجد العبقرية بين الأدباء أو الفنانين أو الشعراء أو الفلاسفة، ولكنك لن تجدها بين السياسيين". والعبقرية، عنده، هي: عبقرية (العطاء)، التي يفتقدها السياسيون؛ لأنهم - عنده وعند غيره : محترفو (أخذ).

 ديغول، الجنرال الفرنسي، الذي قاد الثورة ضد الاحتلال الألماني، وتصدى لمحاولات تشرشل، وقادة الانكليز، الذين مارسوا عليه أشد الضغوط، مستغلين حالة فرنسا، وهي تحت الاحتلال، ليحركوه وفق مصالحهم، وتصدى لروزفيلت، وقادته العسكريين الأمريكان، الذين كانوا ينظرون إلى الفرنسيين بعين الاحتقار، قبل عين الشفقة، ورفض أن يرهن قراره لإرادتهم. ديغول هذا، ترك باريس بعد تحرير فرنسا، عندما احتدم الصراع بين السياسيين، الذين أرادوا أن يحصلوا على ثمن (نضالهم وتضحياتهم)، وذهب إلى بيته الريفي، ولم يرجع إلى قصر الرئاسة، إلا بعد أن أوشكت فرنسا الوليدة أن تنهار، نتيجة صراعات السياسيين وخلافاتهم، وبعد أن ذهب كبار القادة إلى بيته يرجونه أن يعود لإنقاذ  فرنسا!!

عزيزي القارئ: هل تريد المزيد لتعرف السياسة؟  إذا كنت تريد ذلك، فانظر إلى الدماء الزكية كيف تسيل في الشوراع والساحات، ثم انظر بعدها إلى شاشات الفضائيات، وصفحات الفيسبوك، وقارن ما يجري هناك وهناك وهناك. من يكتب خمسة أسطر، فيها: عشرة أخطاء، يعرّف بنفسه على أنه: منظَر الثورة... ، ومن (يتقعمز) في لقاء، دعي إليه على نفقة آخرين، ولا يعرف إن كان مؤتمراً سياسيا، أم مهرجاناً شعبياً ، يرى نفسه، ويريد للعالم أن يراه زعيماً سياسياً، (وراءه كتلة لا يمكن تجاهلها). ومن يتاح له أن يظهر أمام شاشة قناة فضائية، يقدم نفسه على أنه: المجاهد المناضل الثائر، الذي يدمي قلبه ما يجري في بلده. وكلما زاد عدد مرات حضوره أمام الكاميرات الفضائية، زاد رصيده في العطاء والتضحية، فارتفع بذلك سقف مطالبه، التي لا يريد من ورائها إلا الاطمئنان على مستقبل شعبه وبلده.!!.

عزيزي القارئ: أظن أننا متفقان على أنه: لا يوجد  إنسان واحد، يصلح لحمه للأكل: كبباً وكباباً، عند أهل الحضر، أو كراديش ومناسف، عند أهل القرى والبوادي أو يصلح جلده، لصنع القبعات الفاخرة، أو فراشات العنق الأنيقة. ولكنني على يقين، أن أكثر السياسيين، الذين تراهم على الفضائيات، أو في شبكات الانترنت، هم أوطأ، وأتفه من التواسيم الحمر.

ولابد في النهاية، من الاعتذار الشديد، من السياسيين المخلصين الصادقين، فهم الاستثناء الذي يعزز القاعدة.

ولولاهم، لما كان للكتابة معنى.