العفو الرئاسي
- من وحي الثورة -
محمد علي - دمشق
خَطَبَ الرئيس ، وصفَّق الشعب تصفيفاً حاداً ، وصفَّق " قاسم الزعمة " من كل قلبه .
رجع إلى زوجته " أم أحمد " تغمره السعادة وضحكته تملأ وجهه على غير العادة ؛ بشرها من عتبة الدار بالفرج بعد الشدة ، وبأن ابنها " أحمد " سيرى النور عاجلاً غير آجل وستكتحل عيناها برؤيته وأن أمنيتها الوحيدة في الحياة أصبحت حقيقة !.
ظنت أنها في حلم ، وسألت زوجها بالله أن يعيد عليها ما قاله ؛ فكرره وهو يؤكد لها بالأيمان المغلظة أنه سمع القرار من فم الرئيس نفسه ، على شاشة التلفزيون ، يقظة لا مناماً ، وكان معه جماعة في مضافة المختار " أبو محمد إسماعيل المْبصِّر " ، سمعوا ما سمع ، وقدموا له التهاني والمباركات !.
قفز قلبها من مكانه من فرط فرحتها ، وعاودت عيونها التي تقرحت أجفانها وجفت دموعها منذ أمد بعيد ، عاودت البكاء من جديد ، وذرفت دموعاً غزيرة ، مثل تلك الدموع التي ذرفتها عندما اختطفوه من بين أهله وأولاده ، منذ ما يقارب ثلاثين عاماً .
تجاوز " أبو أحمد " الآن الثمانين من عمره ، وحنا ظهره وتقوس ، واشتعل رأسه شيباً ، وناهزت هي السبعين ، وما يزالان ينتظران ولدهما الغائب المفقود الذي لا يعرفان ؛ أفي الأحياء هو أم في الأموات !.
سجدت أمه سجدة الشكر ، وحمدت الله أنها لم تمت حتى رأته !. هي لم تره بعد ، لكن الرئيس أصدر العفو ، وما هي إلا أيام أو ربما ساعات قليلة تفصل بينها وبين ثمرة قلبها !.
ومكثت ترقب عيناها باب الدار والطريق الطويل أمامه إلى حيث ينتهي بصرها الشحيح ، وهي تصغي لكل حركة وصوت وهاتف وهمسة ، وهجرت النوم أو هجرها إلا إغفاءة بين الفينة والأخرى لا تلبث أن تنتبه بعدها فجأة كاللسيع ، وتنهمر على بعلها الشيخ الكبير بسيل من الأسئلة التي يتسع لها صدر الشيخ أحياناً ويضيق أحياناً أخرى :
- ألم يصل أحمد بعد ؟. ألم تسمع عنه شيئاً ؟. هلا أرسلت ولده " محمود " إلى الشام ، فيتحسس لنا أخباره !. تأخر كثيراً . أليس كذلك ؟!. أخشى ألا يفرجوا عنه !. ربما يكون قد قضى نحبه منذ أمد بعيد !.
فيجيبها بشفقة يمزجها أحياناً بحدة طبعٍ عُرِفَ بها :
- اسكني واصبري !... من صبر ثلاثين سنة ألا يصبر بضعة أيام !؟.
وانقضت الساعات ، وتبعتها الأيام ، وها هو هلال رجب قد صار بدراً ثم تناقص وتضاءل ودخل المحاق ! قريباً من شهر انسلخ على قرار العفو ، وها هو هلال رشدٍ جديد يظهر في الأفق ولمَّا يظهر ابني بعد !.
رجع الشك والقلق يغزو قلب " أم أحمد " ثانية ، لكنها لم تيأس ولم تقطع الرجاء وما زالت تنتظر فلذة كبدها وترجو لقاءه !.
هدير الجماهير أخذ يقترب من دار " أبو أحمد " ، وقد ملأ الفضاء الرحب ..... اتكأت على الجدار ، ومشت الهوينى نحو الباب ، لتستطلع جلية الأمر ، ومطَّت رقبتها ، لترى الشارع الذي ازدحم إلى حد الاختناق بالجماهير الغفيرة التي خرجت بقضِّها وقضيضها ، لتتابع ثورتها الكبرى ، وتهتف بسقوط النظام !.
ولمحت بين الجموع أولاد ابنها " محمود " و" بسام " ، تنتفخ أوداجهم وتصدح حناجرهم بالصراخ الذي يشق عنان السماء . اغرورقت عيناها بالدموع ، ورفعت أَكُفَّها بضراعة ومسكنة تدعو لهم !.
في صبيحة اليوم التالي استيقظ أبو أحمد فرحاً مستبشراً ، ولم يستطع صبراً حتى تستيقظ زوجته من نومها... أيقظها وزفَّ إليها البشرى ؛ رأيت " أحمد " بأم عيني ، بشحمه ولحمه ، وهو يدخل علينا الباب ، وجهه مضيء كالقمر ليلة البدر ، وعلى صورته نفسها يوم اختطفوه ، لم يتغير فيه شيء . انكب على قدميَّ ويداي يقبلهما ، وضممته إلى صدري بقوة وأخذت أقبله وأشمه وأتحسس وجهه وأملأ عيناي منه ، وانتبهت من نومي ونحن متعانقان !. وسكت الأب الشيخ برهة ثم أجهش بالبكاء .