أسلحة الشعب السوري الاستثنائية
نوال السباعي
"1"
"لا لطلب التدخل العسكري الخارجي"
أسلحة "خطيرة" يتوفر عليها شباب الثورة في سورية، ولا يتمكن من حيازتها النظام ومهما بلغت به الأيام والثورة، وقد أُعْلِنت نهايته من ساحة العاصي في حماة ، وسقط بكل المقاييس الاستراتيجية ، والسياسية ، والديبلوماسية ، والأخلاقية ، والتاريخية ، والإنسانية.
منها سلاح المنظومة الأخلاقية الإنسانية ،وسلاح القيم الثورية المتفق عليها من قبل الجميع، وسلاح الثبات الأسطوري الذي يستمده الشعب من قدرة جلاديه على الإثخان في الجراحات ، والولوغ في الدماء ، والاستهانة بالحياة البشرية.
السلاح الثاني يتمثل باللاآت الثلاث التي أكدنا عليها منذ اليوم الأول للثورة: لا للعنف ، ولا للطائفية والفسيفسائية ، ولا لطلب التدخل العسكري الأجنبي.
وهذه ال"لا" الأخيرة، وعلى الرغم من الإجماع عليها ،أثارت الكثير من الجدل واللغط خاصة في أيام الشدة والبلاء، التي تتناوب فيها فرق الموت على المدن والقرى ،شرق البلاد وغربها ، لذبح الناس وتشويههم وإذلالهم وهدم مرافق الحياة فوق رؤوسهم وتدمير كل ما"منحته" لهم الدولة ، على نهج "قذاف الدم الليبي" :(أنا خلقت ليبيا وأنا انتزعها منكم)!!.
"لا" هذه ، تعني نعم لبذل كل جهد ديبلوماسي وسياسي وثقافي وإعلامي واقتصادي ،وكل أنواع الضغط الممكن على نظام دموي متوحش كهذا النظام .
دون أن يغيب عن الأذهان أن النظام هو الذي طلب التدخل العسكري الخارجي ، من إيران ومن حزبها اللبناني، وقد استبق الثورة ، باستقدام بارجتين عسكريتين إيرانيتين محملتين بالأسلحة والعتاد ، الذي ينكَل به الشعب السوري اليوم ، وكانت "إسرائيل" ، كما المجلس العسكري الذي يدير شؤون مصر بعد الثورة،قد سمحا بمرور هاتين البارجتين من قناة السويس بعد أن كانت مغلقة في وجه مرور أية سفينة عسكرية!! ، ولابد أن الأقمار التجسسية الأمريكية وغير الأمريكية التي تجوب سماء المنطقة ، تعرف كل هذا ، تعرفه كما تعرف وترصد كل حركة وسكنة للجيش السوري ، وكل قبر جماعي فتح في أرض درعا ، وتلكلخ ، وبانياس ، وحمص ، وحماة ، ولكن الجميع آثروا الصمت ، ليس لأنهم يريدون أن تبقى حدود إسرائيل محمية من قبل هذا النظام وحسب، ولكن لأنهم يريدون أن يضمنوا "قناعة" الشعب السوري مستقبلا بهذه الحماية، وهوالمصطف تاريخيا مع القضية الفلسطينية باعتبارها قضيته الاولى ، فكلما زاد القتل والتعذيب والتنكيل ، كلما زادت رغبة الشعب في الخلاص ولو بالتحالف مع الشيطان نفسه! ، من هنا جاءت حركة السفيرين الأمريكي والفرنسي قبل شهر تقريبا ،عندما قاما بزيارة مدينة حماة لتقديم نفسيهما على أنهما "الضمانة" للشعب السوري لحمايته من أغواله الحاكمة! ، وكانت الولايات المتحدة ومعها الاتحاد الأوربي ، يحسبان بالمليمتر كل مايجري في سورية ، ويلاحقانه ب"سينهم"، و"سوفهم": سيفقد الشرعية ، وسوف يفقد الشرعية!!،كان عدّاد ارتفاع حصيلة الشهداء في سوريا يُجلَد ب"سين" وزيرة الخارجية الأمريكية ، و"سوف" رئيسة الاتحاد الأوربي ، ومازال الطرفان، يراهنان على قدرة النظام على الحسم ، وقد مدته إيران بكل أسباب الاستقواء ، ومده حزبها الذي اختطف لبنان بكل مايلزم من "شبيحة" و"قناصة" و"قتلة"، فعدو عدوي صديقي ، وإيران وحزبها اللبناني أثبتا أنهما عدوان لدودان للشعب السوري ،الذي لم يفعل إلا أن طالب بالحرية وشيء من الكرامة ورد بعض البعض مما نهبه منه هذا النظام .
ولاعدو للولايات المتحدة وحلفائها اليوم ، كهذا الشعب ، الذي يهدد بثورته استقرار "المنطقة" التي أمضى الغرب قرنين ونيف من الزمان في ترتيب أمورها بحيث تجبى إليه ثرواتها ، وتركع شعوبها ، وتستلم لجلاديها الذين يحكمون المنطقة بالنيابة عنه.. هذا هو الدرس الذي أكدته لنا أحداث ليبيا ، والتدخل العسكري الغربي الذي جاء سريعا لاهثا مرتميا على بترولها وملياراتها.
صحيح أن إيران وحزبها في لبنان يطبلان ويزمران بالمقاومة وإرادة تحرير القدس ، لكن الواقع على الأرض ، يشهد بأن النظام العميل في سورية ، كان قد حرس وحمى حدود الأمة مع العدو المحتل ، مدة أربعين عاما دون أن يطلق رصاصة واحدة في سبيل إقلاق راحة هذا العدو على جبهة الجولان ،التي يعرف الشعب السوري ويتناقل بالتواتر أن رئيسه السابق كان قد "باعها" ، وهي كلمة تعني ، أنه كان قد سكت عن احتلالها من قبل إسرائيل، مقابل تأمين السلطة في سورية لسلالته ، هذه السلالة التي رضعت الدم ، ورسخت وجودها بالدم، فلا عجب أن عاملت الشعب الذي سكت عنها ثلاثين عاما ، بالذبح والاغتصاب والتعذيب والتشويه.
فهم الشعب السوري أبعاد هذه الملابسات بصورة واضحة جلية ، فأعلن رفضه للتدخل الأجنبي العسكري ، وهو يعلم أن القوى الاستعمارية المهيمنة على المنطقة ، تستطيع أن تدمر أركان النظام بأشخاصه وأسلحته وتنظيماته في أقل من عشرين دقيقة ، سورية بالنسبة لهؤلاء لاتعدو كونها مساحة جغرافية صغيرة مسطحة مكشوفة أمام قدراتهم العسكرية!،وهذا مايعرفه كل مطلع ، إسرائيل بمساعدة الولايات المتحدة كانت قد أعدت خططا كاملة ، لضرب النظام السوري في حال تجرأ هذا النظام وشبّ عن طوق ممانعته الكلامية ، ومقاومته الإعلامية ، ومن هنا كان الرد السوري على كل الانتهاكات الإسرائيلية ، بأن سورية "تحتفظ بحق الرد في المكان والزمان المناسب"!!
وبالضبط وكما أعدت إسرائيل العدة لضرب أعدائها "الأصدقاء" في كل من سورية ولبنان وإيران وتركيا وحتى باكستان ، قام النظام السوري الشبح – الذي يحكم سورية في الظل- بإعداد الخطط الكاملة واللازمة لضرب الشعب السوري واستئصال حركاته الانتفاضية ، والقضاء على أي بادرة ثورة أو احتجاج يمكن أن تصدر عنه ، وقد شهدت مناطق الأكراد في الشمال ردا ساحقا على انتفاضتها عام 2004 ، وتشهد اليوم بقية مناطق سورية ردودا مماثلة ، الملفت للنظر والاستغراب فيها ، قدرة هذا النظام – كمثيله في ليبيا- على التدمير وسفك الدماء ، في سبيل بقائه في السلطة ، دون أن يفكر ولو لحظة واحدة في شكل العلاقة المستقبلية التي يمكن أن تربط بينه وبين هذا الشعب ، بعد أن فعل فيه مافعل! .
كان الشعب السوري على درجة متقدمة جدا من الوعي إذ قال "لا للتدخل الأجنبي" ، لأنه يعرف أن مثل هذا التدخل في سورية أمر غير وارد أصلا ، فالغرب يريد حماية إسرائيل ، وتدخل عسكري في سورية يعني انطلاق المارد من قمقه ، وقد يعني إعلان "الجهاد" ليس في المنطقة العربية فحسب ، بل في كل العالم الإسلامي ، وهذا يعني وبالضرورة أن لاحدود مع الكيان الإسرائيلي ، وأن بإمكان الجميع تهديد هذه الحدود واختراقها ، لأن الكلمة الفصل ستكون إذ ذاك للسلاح وللسلاح فقط ، على غرار ماجرى في الحرب الأهلية اللبنانية ، والتي لايمكن أن ينسى التاريخ أنها لم تنته إلا بمذبحة "صبرا وشاتيلا" والتي كان للنظام السوري يدا فيهما لاتقل إجراما وولوغا في الدم الفلسطيني عن يد المجرم الإسرائيلي "شارون".
إن الشعب السوري اليوم ، لم ينتفض ويثور في وجه النظام العميل لأكثر من طرف وأكثر من جهة إقليمية ودولية فحسب ، ولكن ثورته جاءت -ومن حيث لم يحتسب هو نفسه- ، في وجه نظام عالمي يمسك بأطراف اللعبة الدولية من مفتاحها الرئيس في المنطقة العربية ، والقلب الاصطناعي الذي زُرع فيها ليشل كل حركة للحياة والتحرر والكرامة لدى سكانها ، عن طريق شبكة العلاقات السرية والعلنية مع مجمل الأنظمة التي استلبت البلاد واختطفت الشعوب ونهبت الثروات .إن ثورة الشعب السوري ، لن تكون محطة عادية في طريق ثورة المنطقة على هذه الاوضاع المزرية التي تعيشها فحسب ، ولكنها ثورة ضد كل التحالفات الإقليمية والدولية التي ترمي إلى تركيع الأمة ، والمقامرة بحرية الإنسان ، والاستمرار في إلغاء إرادته ليبقى عبدا يدور في رحى هذه الطاحون لاستعمارية الجهنمية ، التي أذن الله بتفجير آليتها من تونس ، فامتدت ألسنة اللهيب لتزلزل العروش والجيوش التي لمتكن في خدمة مصلحة شعوب المنطقة ، وحماية هويتها ، وضمان حريتها وكرامتها.
من أجل هذا صمت العالم ..إلا من سينه وسوفه !!.
صمتت الأنظمة العربية التي تربطها بالنظام السوري علاقات المصاهرة والعمولات المالية والفضائح الشخصية ، والتي يهددها النظام بمحاولات تفجيرها من الداخل عن طريق "الأقليات" التي استقوت فيها، في غفلة من الأنظمة المشغولة بالنهب والتضييع والعمالة ، وغفلة من الشعوب التي استسلمت للاستبداد ، فلم "تستعد" ليوم مثل هذا يكاد يجعل الولدان شيبا!.
وصمتت تركيا التي تشابه تركيبتها السكانية التركيبة السورية ، والتي هددها النظام بتحريك مكوناتها الطائفية لحسابه لتقوم بتدمير كل ماحققته الدولة التركية في العقود الأخيرة من تقدم وازدهار .
وصمت الاتحاد الأوربي والولايات المتحدة ، بسبب من خوفهم على إسرائيل ربيبتهم ، وماتعلق بذلك من تهديد للأمن والاسقرار ..أمنهم !،واستقرارهم! .
لكن كل هؤلاء..لم يأخذوا بعين الاعتبار قدرة الشعب السوري على الصمود والتحدي ، لم يفكروا بأن تدمير "حماة" قبل ثلاثين عاما على رؤوس أهلها ، كان مشفوعا بالتعتيم الإعلامي ، والتفسخ الاجتماعي في سورية، والغياب العربي والإسلامي في زمن الشعارات والمخاضات العربية، وأن العالم قد تغير اليوم ، ولكن النظام السوري لم يتغير ،بقيادة "رفعت" مجرم الحرب ، الذي لايشك السوريون لحظة في قيامه بالمساعدة في إدارة هذه الأزمة ، و"ماهر" الشبح الدموي المجرم، و"بشار".. الصورة التي كسر الشعب السوري إطارها وزجاجها فظهرت على حقيقتها دون رتوش ولاتزييف .
لم يتغير هذا النظام ولم يفهم أن الشعب استفاق ، وخرج من قمقمه ، وأصبح يشعر أنه شعب واحد ، اذا اشتكى منه عضو في درعا تنادت لها بانياس ودوما والقامشلي وحمص بالسهر والحمى ، وأن إسرافه في القتل لن يجديه فتيلا ، فهاهنا شعب مؤمن ، يعرف أن المرء إذا حانت ساعته فلاتقديم ولاتأخير .
وليس لدى الشعب السوري مايخسر ، لقد نهبوا أمنه ، ورزقه ، وسلامته ، وحريته ، وكرامته ، وماضيه ،وحاضره ، لم يعد لديه مايخسر فهو خارج إلى المعركة بصدره الأعزل ، وأياديه البيضاء ، وقد قرر أن يستشهد في سبيل نقل الصورة والحقيقة ، ومحاولة رسم معالم المستقبل لمن سيأتون بعده ،على الطريق ، طريق الحياة التي سلبت منه ، والتي لم تعد في سورية تتمتع بالقداسة ، في زمن الأغوال التي تلتهم الشباب والأطفال فتمضغهم ، وتلغي بهم على قارعة الحياة أشلاء ..يتمنون الموت .
ليس لدى الشعب السوري مايخسره ، ولكن لدى جلاديه الكثير الكثير مما يقاتلون من أجله ، إنهم يقاتلون من أجل الانتقام من "العبيد" الذين انتفضوا ، يقاتلون من أجل الحلف الذي بنوه وانهار على رؤوسهم ورؤوس حلفائهم في المنطقة ، إنهم يقاتلون من أجل أن لاتجرف الأقدار شتاتهم وبقاياهم ، إنهم يقاتلون خوف انتقام الشعب الأعزل من مجرميهم المتحالفين معهم بالصمت أو بالفعل .
إنهم وفي سبيل بقائهم، يقاتلون وحتى النهاية ..شعبا قرر الصمود حتى لو فني عن بكرة أبيه!..وهكذا هي كل معارك الحق والباطل ، ويعرف التاريخ نهاية هذه الحكايات .