أمّن الحاكم أم أمن الأمة
محمد مسعد ياقوت*- باحث تربوي
الشعوب لا تدفع المال من كد عرقها وكسب يمينها حتى تصنع جهازًا أمنيًا يحفظ شخص الرئيس، فتنفق الأموال الطائلة، وتنشر الجواسيس بين الشعب، وتجمع المعلومات من أقاصي الأرض وأدانيها، ويُشوّشُ على وسائل الاتصال، وتقف حركة المرور، كل هذا كله .. من أجل سلامة الرئيس..
ولم يكن معشار هذا الجهد يذهب في إطعام البطون الجائعة أو تسليح الجيش الوطني.
من هنا يتحول مفهوم الأمن من كونه أمن الأمة إلى أمن الشخص المترف القابع في القصر الجمهوري ... فالحفاظ على أمنه هو أمن الدولة كلها، ومزاجه الخاص هو المزاج العام للدولة عن بكرة أبيها.. إن فرح فرحت الأمة، وإن غضب بكت الأمة .. وهكذا تكون صناعة الفراعنة.
وماذا عليه لو حكم فعدل، فنام وأمن، وأراح واستراح، ويتخفف من تلك الحراسات، فإنما هو بشخصه حارسٌ للأمة، ولم يكن الراعي يومًا يجعل من شعبه حراسًا له ما بين خادمٍ، أو جاسوس أو شرطي ...
حتى وصل الحال بنا أنْ كان المصريون يتفكهون على مثالب نظام مبارك .. فيقولون لقد جعل من الشعب المصري شعبين، الشعب الأول يتجسس على الشعب الثاني ، أما الشعب الثاني .. فهو يتجسس على الشعب الأول !
لو أن الحاكم قدّم أمن شعبه على أمنه الشخصي، كما ينبغي أن يقدم مصلحة الأمة على مصلحته الخاصة، فإن الحاكم في هذه الحالة يتمترس بشعبه، ويجعل من الجماهير حراسًا له من دون تكلّف، كما ترى الزعماء الشعبيين يمشون بين الحشود من دون حراسة ، فتلك الحشود على استعداد أن تموت دون أن يُخلصَ إليه، بيد أن الزعماء الذين اغتالتهم شعوبهم؛ قد اغتالوهم وقد كان الزعماء في حصون من ورائها حصون، ذلك بأن الشعب لن يعجز أن يخلص إلى جلاده ولو تحصّن بمليون مدفع.
قد جعل مباركٌ من منتجعه الخاص بشرم الشيخ مكانًا هادئًا بعيدًا عن الشعب.. بل شعبه في قارة أفريقيًا وهو في قارة أسيًا إذا ما حسبنا سيناء ضمنها، ومع ذلك سقط حكم مبارك، كما سقط من قبله الملك فاروق، ومن قبلهما ملوكٌ وحكام، زواهم الزمن، وطواهم النسيان، واتُبعوا في هذه الدنيا لعناتٍ الناس، وتركوا من ورائهم سوء الذكر، وسيء الألقاب .
آلان أدرك المرء أن الحراسات المشددة لم تعصمهم ولم تحفظ أمنهم، إنما الأمن يتحقق في مجتمع العدل، ولا يناله إلا المقسطون " الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ " [الأنعام82 ].
أما الذين يتكلّفون في مسألة حراسة الإمام، ويستدلون بحديث، « لَيْتَ رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِى صَالِحًا يَحْرُسُنِى اللَّيْلَةَ »[1]، وقوله – صلى الله عليه وسلم - : " إِنْ كَانَ فِى الْحِرَاسَةِ كَانَ فِى الْحِرَاسَةِ "[2] وغيرها من الآثار التي تُثْبت أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – اتخذ الحرس والعسس، فإن هذه الاستدلالات لا تليق بأهل العلم والورع حينما يرسلونها على طبق من فضة لحاكم فاسد لا يوقر السّنة أصلاً .
وهم يعلمون أن تلك الحراسات التي اتخذها حكامُ عصرنا، إنما جعلوها بهذه الضخامة ليحتموا بها من شعوبهم، بيد أن الإمام البخاري أورد تلك الأحاديث في بابٍ بعنوان " باب الحراسة فى الغزو فى سبيل الله" .
ثم إن هذه الحراسات التي اتخذها حكّام الجور، إنما هي امتدادٌ لجورهم، وترسيخ لظلمهم .
ثم انظر إلى آثار تلك الحراسات ومفاسدها على الأمة :
ـ فالرئيس اتخذ قطاعًا كبيرًا من الجيش بعنوان : الحرس الجمهوري، فجعل قسطًا كبيرًا من قوة الأمة لحماية شخصه، والأصل أن الحرس الجمهوري يعمل على حماية الشرعية الدستورية وحماية النظام الجمهوري بأكملة، لكنْ رغم كون هذا الحرس يتبع القوات المسلحة، إلا أنه لا يتلقى أوامره إلا من رئيس الجمهورية شخصيًا .
ـ ثم الشرطة العسكرية التي يستخدمها الرئيس في تأمين مواكبه السيارة.
ـ ثم هو اتخذ من جهاز أمن الدولة، مؤسسةً خالصةً له تراقب تحركات الجماعات المعارضة، وتعتقل منهم ما يشاء، وتكمم الأفواه، وترسل الجواسيس، كل هذا من أجل حماية شخصيه .
ـ ثم هو حوّل نشاط جهاز المخابرات من جهاز يعمل على حماية " الأمن القومي " داخليًا وخارجيًا، إلى مجرد مصلحة تابعة لشخص الرئيس تعمل على حماية " أمنه وأمن عائلته ".
ـ أما الحراس الشخصيون للرئيس فهم نخبة منتقاة بعناية من القوات الخاصة، وهؤلاء لهم شأن آخر، فهم يتبعون جهاز "رئاسة الجمهورية"، وهو جهاز تخابري يختص بحماية الرئيس تم إنشاءه لمبارك عام 1989 .
ـ ولم يكفه ما سلف من تدابير سخّرها لشخصه، بل اتخذ تنظيمًا سريًا ليست له صفة رسمية، يهدف هذا التنظيم إلى تحقيق مطالب خاصة جدًا، ومطالب حساسة تلبي رغبات الرئيس، كأن يقوم هذا التنظيم باغتيال شخصية ما بطريقة احترافية، أو يبعث فرقةً منه إلى دولة أوربية لاغتيال فنانة أعلنت أنها ستكتب مزكراتها، والتي ستكشف فيها بالضرروة عن علاقتها السابقة بالرئيس.
وبعد هذه التنظيمات والأجهزة والوزارات التي تعمل على حماية الرئيس، لعلك تسأل كيف تكون الترتيبات إذا ما أراد الرئيس أن يخرج مثلاً من مقر إقامته إلى عقد لقاء خارج القصر في أي فعالية أو افتتاح مصنع أو كبري ؟
الإجابة :
ـ جنود الأمن المركزي تأمّن الطرقات، وهؤلاء ليسوا أي جنود، إنها نخبة مختارة من قوات الأمن المركزي .
ـ أما الموكب نفسه الذي يصحب الرئيس، فيسبقه ويلحقه عدة دراجات نارية من قوات الشرطة العسكرية المدربة تدريبًا خاصة بكل ما يخطر بالبال إذا ما باغت هجومٌ على موكب الرئيس .
ـ أما السيارة التي يركبها الرئيس، فهي سيارة من نوع خاص، ومحمية من أي اختراق ناري، ويحيط بها عدة سيارات من نوع "جيب " و" مرسيدس "، للحماية والتمويه ولصد أي هجوم، أما سيارات الجيب فهي تقل عناصر من قوات الصاعقة، وأما سيارات المرسيدس فهي أربع سيارات في الغالب، تحيط بسيارة الرئيس من اليمين والشمال ومن قدام ومن وراء، وتقل ضباطًا للحراسات الخاصة، ورئيسهم يركب في سيارة الرئيس في المقعد الأمامي إلى جوار السائق.
ـ أما المكان الذي سيذهب إليه الرئيس فمهمة تأمينه منوطة بالحرس الجمهوري، من خلال نخبة من قوات الصاعقة تكون على قدر عال من القتالية.
ـ وأخيرًا، طائفة من المروحيات، لتأمين سماء الموكب، تقوم تلك الطائرات برصد أي تهديدات جوية أو صاروخية قد تستهدف موكب الرئيس .
كل هذا من أجل حماية الرئيس من شعبه .. تلك الحقيقة، وذلك الواقع.
كل هذه التنظيمات والأجهزة جعلت من شخص الرئيس ونظامه كتلةً ملتهبةً تحرق من اقترب منها، ثم هي تفيح من فيحها على الشعب الذي بات يشعر أن الرئيس صارًا عبئًا ثقيلا على الأمة .. ينبغي التخفف منه .
* المشرف العام على موقع نبي الرحمة .
[1] أخرجه البخاري (2885 ) ومسلم (6383)
[2] أخرجه البخاري (2887)