دولة بمنطق عصابة

د. نور الدين صلاح

من المعلوم أن التجمعات البشرية ترتقي اجتماعياً مع التمدن وسيادة القانون، ولقد شهدنا مجتمعات بدأت تتحول من نظام القبيلة إلى نظام الدولة ومن عصبية الطائفة إلى فكرة المواطنة، وعلى هذا قامت الدول الحديثة بعد رحيل المستعمر الذي حاول أن يبقي ولاء المجتمع طائفياً أو إثنياً أو قبلياً، فقد رأينا الاستعمار الفرنسي كيف حاول أن يقسم سوريا إلى خمس دويلات على هذه الأسس، ولاحظنا كيف تكسرت هذه المخططات على صخرة صمود وتلاحم ووعي الشعب السوري المتحضر، ثم قامت الدول الحديثة على أساس فكرة المواطنة التي تعني (الحقوق والواجبات) وبالتالي التعامل مع الفرد على أنه من المواطنين وليس من الرعايا بالمعنى الحديث للكلمة

ومع دخول سوريا بنفق الانقلابات والصراعات السياسية الداخلية والخارجية أخذ مفهوم الدولة يتماهى شيئاً فشيئاً إلى الحزب الواحد، فصارت الدولة هي الحزب والحزب هو الدولة، وتماهت كل المؤسسات المدنية والعسكرية والأمنية بهذا الحزب، و(شُرعن) هذا التماهي دستورياً بالمادة الثامنة من الدستور التي تنص على أن حزب البعث العربي الاشتراكي هو قائد الدولة والمجتمع، ونشأ عندنا ما يسمى الحزب الشمولي، وصارت كل الممارسات السياسية والاجتماعية والقانونية والقضائية والتعليمية والاقتصادية تدور في فلك هذا الحزب، فالتربية عقائدية (طلائع، شبيبة، اتحاد طلبة) والامتيازات حزبية، والنقابات حزبية، والبعثات حزبية، والجيش عقائدي وحزبي، والأمن في خدمة الحزب، ثم بدأ الاختراق الطائفي لقيادات النظام، ويؤسفنا أن نتكلم بهذا المنطق لكن هذه هي الحقيقة، وبدأ التماهي إلى أسرة بعينها (سوريا الأسد) ولم يعد أحد يقول (سوريا الوطن) ثم تماهى الأمر شعارات وممارسة (الله سوريا بشار وبس) فبقاء الوطن مرهون ببقاء بشار، ويمكن أن يضحى بكل شيء في سبيل بقائه واستمراره (فالقيادة تاريخية حتمية) وكأنها بمنطق الديالكتيك (ضرورة تاريخية)

ثم تجلى لنا في الأحداث الأخيرة أن الدولة بالفعل تماهت إلى فرد أو أسرة وتتصرف الدولة بمنطق العصابة، العصابة التي لا تخضع لقانون ولا لمسائلة أو محاكمة، ولا يقيدها خلق أو دين أو انتماء لوطن أو أي رادع من أي نوع

فالضرب حتى الموت في الشارع، والدوس على رؤوس الناس وظهورهم، وقتل النساء وتعذيب الأطفال، وتشويه القتلى، والمقابر الجماعية، والتمشيط الهمجي دون أي حرمة لبيت أو طفل أو امرأة أو شيخ كبير مع العبث والتخريب المتعمد لمحتوياتها، وسرقة المتاجر والمحلات وتكسير أغلاقها، ونزول الجيش وحصار المدن ومنع التجوال، والعقاب الجماعي بقطع الماء والكهرباء والخدمات الأخرى، وإحراق الدراجات النارية في الساحات العامة، وتسميم خزانات المياه، وحرق المزارع، وإتلاف المحاصيل، وثقب خزانات المياه، وتخريب السيارات بالشوارع بإحراقها أو تكسير زجاجها، وانتهاك حرمة المساجد ودور العبادة، والإجهاز على الجرحى، وسحبهم من داخل المستشفيات، ومنع وصول سيارات الإسعاف، واعتقال الأطباء والمسعفين أو تصفيتهم بتهمة معالجتهم الجرحى، وتسليط أهل قرية من طائفة معينة على أهل قرية من طائفة أخرى ليس سلوك دولة إنما منطق عصابة، وكل هذا موثق بالصور والأماكن والتواريخ

ومؤسسة الاتصالات التي يملكها مخلوف ويدفع لها الناس رسوم الاشتراك للاتصال والانترنت، تتعامل مع الناس كعصابة فتقطع الاتصالات أشهراً بكاملها، وتسمح هنا وتمنع هناك

ولأول مرة تشهد الأجيال السورية (لاجئين سوريين) في دول خارجية، وكانوا قد رأوا في الحروب السابقة (نازحين داخل الوطن) وهذه وصمة عار سيكتبها التاريخ لهذه العصابة بمداد أسود حزين، وأنا أقول ظاهرة اللجوء ليست ظاهرة جديدة ولا أدل عليها إلا عشرات أو مئات آلاف الممنوعين من العودة إلى البلد، وكثير منهم ينطبق عليهم وصف التشرد

ولقد أدرك العالم جميعاً أن كل المواطنين الذين لم تشردهم هذه العصابة فهم رهائن داخل الوطن، فهم أشبه بركاب طائرة مختطفة، فأي إنسان له سلوك مخالف لتوجهات العصابة فأهله جميعاً مرهونون بسببه، يمكن أن يقتلوا أو يسجنوا أو يضغط عليهم بكل أشكال الضغط اللا أخلاقي، فيمكن أن يظهروهم على الشاشات ليتبرؤوا من ابنتهم المذيعة في المحطة الفضائية (الفلانية) أو من ابنهم الإرهابي المندس (فلان) أو من أخيهم الكاتب أو الصحفي (فلان) أو ليعترفوا بما لا علم لهم به، أو يمنعوا من السفر، أو يؤخذوا رهائن عن مطلوبين

إن منطق العصابة لا يقبل الوقوف على الحياد فمنطقهم (من ليس معي فهو ضدي) وهذا ليس منطق دولة التي فيها كل الأطياف والآراء وسمتها التعدد، ولقد علمت من أحد المشايخ الذين آثروا الصمت المطلق أن العصابة ضغطت عليهم ليقفوا إلى جانبها مما اضطرهم للخروج

إن منطق العصابة لا يستبعد المجيء بمرتزقة أو موالين من الخارج ليقتلوا أبناء الشعب كما هو قطعي في عصابة الرعب القذافية، وبدأ يتسرب ويخرج من الإشاعة إلى الحقيقة شيئاً فشيئاً عن عصابة القتل الأسدية

إن الشبيحة (فرق الموت والإرعاب) وممارساتها التي يعرفها القاصي والداني قديماً وحديثاً هي صورة مصغرة عن هذه العصابة الحاكمة، لقد رأينا الأسدين (حافظ ورفعت) كيف تعاملا بمنطق العصابة، كيف التقوا قي آخر (اوتوستراد المزة بدمشق) كل مع شبيحته، وكيف ساوم رفعت على الخروج بأخذ الفدية التي أفلست الخزينة السورية آنذاك من رئيس العصابة الثانية (حافظ) وكيف صالحَ بينهما القذافي بأمر من موسكو آنذاك، ومن أراد الاستزادة فليرجع إلى كتاب العماد طلاس (ثلاثة أشهر هزت سوريا) والذي سحبه الأمن السوري ممن أهدي إليه بعد نشره مباشرة وهو لم ينشر في الأسواق

وانظر إلى الإعلام السوري كيف يتعامل بمنطق العصابة والفبركة والكذب والبلطجة، يسربون خبراً فتنشره الوكالات والقنوات ثم يظهرون الحقيقة على خلافه وهم ممن شارك بالخداع والتضليل فيه ليشككوا الناس في مصداقيتها، هذا منطق العصابة، وانظر كيف يخرج المحللون السوريون على الفضائيات وكأنهم زعماء عصابات أو محققون أو رؤساء فروع أمنية، لا علاقة لهم بخبر أو حقيقة أو منطق، همهم التشكيك والسباب والصياح والزيف والتبرير والخداع والمراوغة والثرثرة وخلط الأوراق وتوزيع الاتهامات

وانظر إلى أقطاب المال (كرامي مخلوف) كيف كان منطقه منطق العصابة، فيصرح بأنه سيقاتل حتى النهاية وعنده جنود كثيرون، ما علاقة التاجر الثري بالأزمة وإدارتها ؟؟؟ هذا منطق العصابة وهو من العصابة

أقولها بمرارة والأسى يعتصر قلبي لا يوجد  في سوريا دولة بل عصابة، كل شيء حولنا في سوريا يصرخ بهذه الحقيقة، أين السياسة أم أين السياسيون ؟؟؟ أين مؤسسات الدولة المختلفة وأين دورها في هذه الأزمة ؟؟؟ أين ما يمكن أن يسمى ولو تجاوزاً (مؤسسات المجتمع المدني)؟؟؟ أين الإنسان السوري وأين حقوقه ومن يدافع عنه ؟؟؟ أين حماية الأرض والعرض والمال والوطن ؟؟؟

إن هذه العصابة تقامر بكل شيء ، قامرت بدماء الناس وكرامتهم وحريتهم ومكتسباتهم وأمنهم، واليوم أقولها محذراً إنها تقامر بالوطن كل الوطن !!! تقامر بوحدته ووجوده !!!

إن أهم شعار ينبغي أن تطرحه الثورة بناء الدولة، دولة المواطنة، دولة الحقوق والواجبات، دولة العدالة والحرية، دولة التكافل والوئام، ولترحل العصابة وليرحل منطق العصابة إلى الأبد

مركز الدراسات الإستراتيجية لدعم الثورة السورية