جسر الشغور تضع ثورة سورية على منعطف خطير

جسر الشغور

تضع ثورة سورية على منعطف خطير

هل يخاطر تصعيد القمع الاستبدادي بتدخل دولي؟

نبيل شبيب

جسر الشغور بالأمس القريب

روايات مكرورة

نذير خطر

لن ينقذ سورية إلا شعبها

جسر الشغور.. مدينة نشأت قبل بضعة قرون في منطقة تاريخية شمال غرب سورية، والأرجح أنّ اسمها الأصلي "جسر الثغور"، إشارة إلى جسرها الحجري الأثري على نهر العاصي، وإلى أن المنطقة التي نشأت فيها كانت منطقة "ثغور" تردّ عن سورية، عن دولة الخلافة في سورية آنذاك، هجمات الأعداء.. ولكن ما عسى تصنع جسر الشغور وأهلها الآن وقد بات "الأعداء" يستهدفونها من "قلب الوطن"، من وراء ظهرها، ويواجهون صدور أهلها بالدبابات والمصفحات والطائرات والرشاشات، التي يقولون إنها تتبع للجيش الوطني السوري، وما الجيش إلاّ كالشعب، ضحية من ضحايا قبضة صانعي قرارات الاستبداد والفساد وأجهزتهم القمعية.

جسر الشغور بالأمس القريب

الطائرات العامودية التي قصفت جسر الشغور الآن، ويمكن أن تشارك بكثافة أكبر في المذبحة المبيّتة الآن، تذكّر بخمس وعشرين طائرة عامودية، شاركت في مذبحة 1980م بعد أن تمركزت في محطة القطار والمدرسة الثانوية ومعمل السكر وساحة البريد، ثم شرعت تؤدّي "مهمتها الوطنية" ضدّ الوطن وشعبه، فاستهدفت فيما استهدفت قرى الشغر والحمامة والجانودية وزرزور وبكسريا وخربة الجوز.

الفرقة الرابعة التي تمارس ما تمارس هذه الأيام، في عهد بشار الأسد، وارث السلطة عن أبيه حافظ الأسد آنذاك، انبثقت عن سرايا الدفاع من تلك الفترة، فورث قيادتها ماهر الأسد عن عمه رفعت الأسد الذي كان يقود سرايا الدفاع، وتذكّر من خلال ممارساتها الآن، بالوحدات الخاصة وممارساتها بقيادة علي حيدر آنذاك، وقد شاركت في ارتكاب مذبحة جسر الشغور عام 1980م، تقتيلا.. واعتقالا.. وتعذيبا.. علنا في الشوارع ووراء القضبان.

الأسماء التي تردّد أثناء كتابة هذه السطور (7/6/2011م) ما تردّد إعداداً لمجزرة مبيّتة في جسر الشغور بعد مجزرة الأيام الثلاثة الماضية، تذكّر بأسماء من قاد مذبحة جسر الشغور بعد مظاهرة تلاميذ مدرسة ثانوية يوم 10/3/1980م.. وكان منهم العميد علي حيدر، ورئيس مخابرات إدلب عدنان عاصي، ومحافظ إدلب توفيق صالحة.

لقد استهدفت السلطة الاستبدادية بقمعها الإجرامي آنذاك مسلمين ومسيحيين، إسلاميين وبعثيين، تجارا وطلبة، أئمة مساجد ومؤذنين، فمنهم من قتل، ومنهم من عاش في المعتقلات كالأموات سنين وسنين.. ولا يختلف ما تصنعه السلطة الاستبدادية الآن عما صنعته بالأمس القريب.

روايات مكرورة

في يوم جمعة أطفال الحرية في سورية (3/6/2011م) هبّت جسر الشغور كما هبّت في أيام سابقة من ثورة شعب سورية، وكما تصنع في هذه الأثناء سائر المدن والقرى السورية، تطالب بوضع حد نهائي لوجود هذا النظام، وريث ذلك النظام، الذي يستهدف جسر الشغور، وكأنّما حان موعد استهدافها مثل درعا وبانياس وتلبيسة ودوما وحمص وتلكلخ وحماة والرستن.. وغيرها، من المدن الموضوعة على لائحة القمع الهمجي المكثف، إلى جانب القمع الهمجي اليومي المتواصل في سائر المدن والقرى معا.  

وتعدّدت الروايات:

أولاها رواية مكرورة مع كل مذبحة تُرتكب، وفق خطة مكرورة لا تستطيع الأجهزة القمعية على ما يبدو أن "تبتدع" سواها، بدءا بإرسال فرق الموت من الشبيحة والقناصة والعصابات الحكومية المدنية المسلّحة، مرورا بالمشاركة المباشرة من جانب فرق الموت "الرسمية" باسم أجهزة أمنية، لا تختلف عن سابقتها سوى بالألبسة، انتهاء بكتائب –شبيهة بكتائب القذافي- تضمّها فرق الموت التي تنسب نفسها للجيش السوري، مثل الفرقة الرابعة والحرس الجمهوري والأمن المركزي والمخابرات العسكرية.. ولا يجمعها مع "حماة الديار" إلا أنّها تملك أسلحة ثقيلة من دبابات ومصفحات ومدفعية وطائرات، ولكنها أحدث وأشد فتكا مما يملكه حماة الديار الحقيقيون.

أما الرواية القديمة الجديدة فمركبّة على ما سبق -بإخراجٍ أوهى من خيوط العنكبوت- من ثلاث عبارات:

- مسلّحون مجهولون أطلقوا النار على رجال أمن رسميين (وكم ذا ظهر هؤلاء وهؤلاء معا حيثما بدأ التقتيل) وعلى المدنيين..

- الشعب استغاث بالجيش (أي أثناء هتافه: الشعب يريد إسقاط النظام!!)..

- الجيش تدخل دفاعا عن الشعب والوطن (أي بقصف الدبابات والمدفعية تقتيلا وبحملات الاعتقال والتعذيب الهمجية).

العنصر الخاص بجسر الشغور الآن هو أنّ عدد ضحايا "لعبة الموت القمعية" هذه تجاوز المائة في يوم واحد، والرقم مناسب في نظر صانعيه لتوظيفه ذريعة من أجل ارتكاب مذبحة جديدة!..

ومن الروايات ما تردّده ألسنة اللاجئين الذين حاولوا الوصول إلى الأراضي التركية القريبة، فرارا من الموت –ومعظمهم من النساء والأطفال- وتردّده ألسنة الجرحى ممّن سعوا للعلاج في الأراضي التركية المجاورة أيضا فقد نجوا من الموت ولكن أصابتْهم أسلحة فرق الموت –باللباس الرسمي ومن دونه- بجراح تنزف ولا تجد من يضمّدها "بأمان" في عهد الرئيس الأسد ابن الأسد.

وهذه رواية تتكرّر أيضا في موقع بعد آخر من سورية الثائرة: متظاهرون دون سلاح، يتعرّضون فجأة لإطلاق نار من كل مكان، فيسقط من يسقط شهيدا، وينجو من ينجو بروحه، ويُعتقل من يعتقل.. وقد يعاد بعد فترة إلى أهله جثة عليها آثار التعذيب.. ويجري توثيق جميع "فصول" الرواية المأساوية هذه من جانب أفراد من الشعب (أصبحوا كالإعلاميين) يخترقون قضبان السجن المفروض على الوطن كله، وعبر شهاداتٍ من قلب أتّون القمع الهمجي.

ومن الروايات على ألسنة أخرى، ما يقول –أو يزعم- أن عناصر أمنية من إيران ومن منظمة حزب الله، تقدّمت صفوف القمع في جسر الشغور –مع فرق الموت- فشرعت تطلق النار في كل اتجاه، وأن عناصر من "الجيش" أطلقت النار على هؤلاء فقتلت العشرات.

وعلى غير انتظار سارع عدد من الوزراء من الحكم القائم –بعد غياب طويل عن ساحة الأحداث الدامية.. وكأنهم غير مسؤولين!- كوزير الداخلية بنفسه لينذر ويتوعد، ووزير الإعلام ليقوم مقام من كان يخرج من الطبقة الثانية والثالثة من طبقات النظام على شاشات التلفزة باسم خبير أو إعلامي أو "باحث علمي!"..

ألا يُفترض أن يقدّر السامعون والمشاهدون، أنّ ما يراد تنفيذه الآن، سيكون –وفق مستوى من يمهّد له وما يصنع تمهيدا له- أفظع وأشد حتى من تلك العمليات القمعية الهمجية التي استهدفت المدن السورية الأخرى وما تزال تستهدفها؟..

نذير خطر

السؤال عن الرواية الصحيحة لا يجد إجابة سريعة، إنّما لا شكّ في إمكانية الإجابة الفورية على السؤال عن الرواية الكاذبة.. فقد سبقها أمثالها طوال الشهور الماضية على اندلاع الثورة، وسبق أن ظهر مرة بعد أخرى أنها "كاذبة"، بدءاً بأسطورة أن الجيش استجاب لاستغاثات أهالي درعا فأنقذهم.. بحصارهم ومنع الحليب عن أطفالهم وتدمير بلدتهم واعتقال شبابهم وشيوخهم وزراعة عدد من المقابر الجماعية في بساتينهم وتعذيب من أحبّ تعذيبه من ناشئين وبالغين، مرورا بأن الأمن لم يمارس ما مارسه في الساحات علنا في البيضا قرب بانياس، انتهاء بما يتكرّر صباح مساء: الوضع طبيعي في سورية والإصلاحات آتية.. على ظهر سلحفاة مقنّعة!.

ويُفترض ألا يتناقض ذلك مع استنفار الدبابات والطائرات والمدفعية وفرق الموت.. مرة بعد أخرى، والآن بأعداد مضاعفة مع استهداف جسر الشغور.

إنّما لا يفيد الجدل حول الرواية نفسها فالنظام القائم لم يعد يحاول أصلا أن ينقذ شيئا من مصداقيةٍ ما، كان يزعمها لنفسه، وما امتلكها من قبل، ولم يعد قادرا على التصرّف إلا على النسق الذي غلب عليه وارثاً عن موروث، في جنح الظلام، بعيدا عن أعين وسائل الإعلام المطرودة، وعن وفود منظمات حقوق الإنسان المحظورة، وعن أثير الشبكة العنكبوتية المقطوعة.

الأهم هو المؤشرات التي تعطيها الروايات المصبوغة بحمرة الدماء، والتي يمكن أن تجعل من جسر الشغور مفصلا بالغ الخطورة في مجرى الثورة الشعبية السلمية البطولية في سورية.

كأنّما رصد النظام القائم أن جميع ما ارتكبه حتى الآن لم يكن كافيا لدفع بعض الضحايا من شعب سورية للدفاع عن أنفسهم بدلا من التشبّث بسلمية ثورتهم، فقرّر أن يضاعف درجة القمع والإجرام.

إنّ محاولة إعداد المسرح الدموي لإخراج "حدث غير اعتيادي" بمجراه وارتفاع عدد الضحايا المستهدفين من خلاله، هي دون ريب محاولة تمهيد لسلوك أسلوب قمعي يمكن وصفه بغير الاعتيادي حتى عند مقارنته بجرائم القمع غير الاعتيادية في الأصل، منذ اللحظة الأولى لإطلاق آلة القمع بتعذيب أطفال درعا.. ناهيك عن أنّ العهد الحالي قد ورث العهد الماضي بقمعه غير الاعتيادي الذي يحمل عنوان "مذبحة جسر الشغور 1980م" مثلما يحمل عناوين حماة وتدمر وصيدنايا وغيرها، وعناوين التعذيب والاعتقال لعشرات السنين دون محاكمات، حتى بالصيغة الصورية المكشوفة المتبعة أحيانا.

لن ينقذ سورية إلا شعبها

لم يبدأ -ساعة كتابة هذه السطور- تنفيذ المذبحة "الأكبر" المتوقعة، ولا بد رغم ذلك من تأكيد عدد من النقاط الرئيسية:

أولا: كل جريمة قمعية ارتكبها النظام دفعت بمجرى الثورة خطوة كبرى في اتجاه انتشارها جغرافيا ومشاركة قطاعات شعبية أوسع فيها.. فإن ارتكب الآن جريمة أكبر حجما، فهو لا يعطي بذلك الدليل على غباء صانع القرار القمعي فحسب، بل يعطي الدليل أيضا على أن تعامله مع الحدث التاريخي المتمثل في ثورة شعب سورية هو تعامل انتحاري محض.

ثانيا: إنّ تكرار استهداف عناصر من الجيش أو "الأمن" من الرافضين المشاركة في القمع الهمجي دون حساب، ينذر بتحوّل عمليات انسحابهم "السلمي" المتكرر حتى الآن، من عملية القمع مع التعرّض لاحتمال القتل من وراء ظهور الرافضين، والتحوّل إلى تصرفات قد تفضي إلى نشوب مواجهات مسلّحة بين أطراف وطنية من الجيش الوطني، وأطراف أخرى من الميليشيات القمعية الملحقة به أو العاملة تحت مسميات "أمنية"، مما لا يمكن التنبؤ بمجراه ولا بعواقبه القريبة والبعيدة.

ثالثا: إنّ تصعيد القمع الذي بلغ على كل حال درجة خطيرة، يعني سدّ أبواب كل احتمال لأي شكل من أشكال الحوار، مما لا يشمل فقط ما يزعم الحكم القائم أنه يريده ولا يصنع شيئا منطقيا على الإطلاق ليمكن تصديقه –بل العكس- بل قد يشمل أيضا سدّ الأبواب أمام الحوار الوطني الشامل كما يطالب به العقلاء الحائزون على ثقة الشعب وثواره، ليكون على قدم المساواة، شاملا لممثلي جميع أطياف شعب سورية، يبدأ بعد وقف نهائي وقاطع لممارسة جميع أشكال القمع بحق الشعب بأسره، وكبح جماح من ينفذ القمع من أجهزة النظام كافّة، وإعادة الحرية المسلوبة إلى جميع المعتقلين والمشرّدين، ووقف سريان مفعول المواد الدستورية المقحمة على الدستور زورا وسريان مفعول القوانين المنحرفة جميعا.

رابعا: إن خطر التدخل الخارجي الذي يزعم النظام الحاكم أن "المعارضة" تريده، هو بالذات ما تسبّبه ممارسات النظام حتى الآن، ويواصل شعب سورية رفضه على الدوام، وليس تصعيد القمع الهمجي عبر مزيد من المذابح كالتي تستهدف جسر الشغور الآن، إلا خطوة أخرى من جانب النظام على طريق تصعيد خطر تدخل خارجي، ولا قيمة للنظام وبقائه آنذاك، وما بقي إلا على أسطورة "نجاة النظام من حرب 1967م هي النصر رغم الهزيمة" وأسطورة أن استقرار النظام يعني استقرار المنطقة، وعلى وجه التخصيص استمرار استقرار الكيان الإسرائيلي فيها، وهذا ما كشفت كلمات الركن الأول في منظومة الفساد علنا كما يكشف عنه الآن سقوط من سقط من الضحايا في مخيم اليرموك في قلب دمشق بعد الاستثارة الاستعراضية للتحرك في الجولان بعد أربعة عقود ساكنة راكدة، للتأكيد أنّ انكسار قبضة النظام القمعية يزعزع "استقراره والاستقرار الإسرائيلي" معا. إذا وقع التدخل الأجنبي فلا قيمة للنظام ولا بقائه أو سقوطه على كلّ حال، فأي تدخل أجنبي يقع، لا يستهدف النظام، وهو العدوّ "المفضل" عند أعداء سورية، بل يستهدف سورية الوطن والشعب والتاريخ والحاضر والمستقبل.

خامسا: إنّ التلويح من أي جهة بوجود مشاركة خارجية –إيران ومنظمة حزب الله- في ممارسات قمعية، يساهم بصورة مقصودة أو غير مقصودة في إعطاء "مبررات" أو التنويه بوجود "مبررات" لتدخل خارجي، فيزيد من مخاطره، والتدخل الخارجي مرفوض بلباس غربي، ومرفوض بأيّ لباس آخر، حتى في نطاق الاستعانة بمستشارين من جانب "الحلفاء" في شؤون القمع، كما فعل النظام الحاكم نفسه عند ارتكاب مذبحة جسر الشغور –وسواها- عام 1980م ومن بعد، عندما استعان آنذاك بخبراء في خطط القمع وممارسته من المعسكر الشيوعي المندثر.

سادسا: لا يمكن أن ينقذ سورية من الاستبداد الداخلي والمخططات الأجنبية في وقت واحد إلا أهل سورية، من شعب سورية الثائر، من جميع فئات الشعب وأطيافه، ومن البقية الباقية من عناصر النظام الذين لم تتلوّث أياديهم بدماء شعب سورية في المذابح الجارية الآن.. وما سبقها منذ عام 1963م حتى الآن.