أمريكا وربيع الثورات العربية

حسام مقلد *

[email protected]

في الرابع من يونيو عام2009م تحدث الرئيس الأمريكي (براك أوباما) للعالم الإسلامي من جامعة القاهرة، وتبنى خطابا تصالحيا أهدأ من خطاب سلفه المتعصب (جورج بوش الابن) وحاول حشد العرب والمسلمين خلف أمريكا في حربها على ما يسمى بالإرهاب، وبعد نحو عامين خاطب أوباما ثانية العالم العربي في هذه المرحلة التاريخية الحاسمة التي تشهد فيه المنطقة حراكا سياسيا ومجتمعيا هائلا بعد اندلاع الثورات العربية المظفرة، وتناول الرئيس الأمريكي في خطابه مجمل الأوضاع في العالم العربي، وأتى على ذكر بعضها بالتحديد في شيء من التفصيل، وفي رأي كثير من المحللين أن خطاب أوباما لم يحمل شيئا جديدا يذكر لاسيما فيما يتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي، فقد كرر انحياز أمريكا التام للعدو الصهيوني، وتجاهل معاناة الشعب الفلسطيني المستمرة منذ ثلاثة وستين عاما، وفي الوقت الذي أكد فيه أن أمن إسرائيل هو من أمن الولايات المتحدة الأمريكية لم يذكر شيئا عن استمرار الحصار على غزة، وحتى مشروع الدولة الفلسطينية التي دعا إليها مشكوك في جديته؛ حيث يراد لها أن تولد دولة ميتة؛ لأنها دولة منقوصة السيادة منزوعة السلاح غير قادرة على حماية نفسها، ومجمل الأفكار المطروحة في هذا الصدد تستهدف الالتفاف على حقوق الشعب الفلسطيني وإلهائه إلى ما لا نهاية بما يسمى بمفاوضات السلام التي لا جدوى منها، ولا تنجز شيئا سوى تكريس الاحتلال الصهيوني وفرض حقائق جديدة على أرض الواقع!!

وفيما يتعلق بمسيرة الثورات العربية تحدث أوباما بلهجة متوقعة، وقال كلاما نمطيا معروفا حاول من خلاله رسم صورة براقة لأمريكا حامية الديمقراطية وراعية حقوق الإنسان، وداعمة التحرر الوطني، ونصيرة الكرامة الإنسانية في كل مكان، ومن خلال عبارات عاطفية مؤثرة منتقاة بعناية شديدة حاول أوباما إقناعنا بأن أمريكا القوة العظمى الوحيدة في العالم ستحمي الخيار الديمقراطي لشعوب المنطقة، وستدعم الحكومات المنتخبة بحزمة من الحوافز والمساعدات الاقتصادية...إلخ، ويتشكك الكثيرون في هذا الكلام ويؤكدون أنه لن يتجاوز الوعود النظرية والخطاب الدعائي المنمق، وأن شيئا من ذلك لن يتحول إلى واقع ملموس دون ثمن غال على الشعوب العربية الثائرة أن تدفعه من حريتها، وقوة إرادتها، واستقلال قرارها السياسي.

ومن حق العرب والمسلمين أن يتمتعوا بالحياة الحرة الكريمة كغيرهم من شعوب الأرض، من حقهم أن يتخلصوا من القهر والذل والاستعباد والعمالة والاحتلال وسلب الإرادة، ومن حق الشباب والأجيال العربية الجديدة صنع مستقبل أفضل لهم ولأمتهم يجدون فيه فرص العمل والاستقرار والعيش الكريم، من حقهم التحول بمجتمعاتهم من الاستبداد والديكتاتورية إلى الحرية والديمقراطية وتداول السلطة بلا آلام وبلا دماء، ومن واجب دول العالم الحر أن تدعمهم وتساندهم وتقف إلى جوارهم، لكن هذا لن يحدث هكذا بكل بساطة، فأمريكا والغرب عموما لا تؤمن سياساته بالقيم والمبادئ في حد ذاتها، ولا تعرف سوى مصالحها، وعلينا ألا ننظر للأمور بعيون الحالمين أو حسني النية، وإلا فسوف نقع  في وهم كبير، وأظن أننا لا يمكننا بهذا التصور البسيط الساذج فهم السياسة الغربية وفهم ما تتصف به من مكر ودهاء وحيلة، وما تستخدمه من وسائل وآليات، وينبغي أن ندرك تماما أن الأساس الذي تنطلق منه السياسات الأمريكية والغربية هو الحفاظ على مصالحها ومصالح شعوبها في الأول والآخر، وأما حقوق الشعوب الأخرى ـ وبخاصة الشعوب العربية والإسلامية ـ كحقها في التمتع بالحرية والديمقراطية والحياة الكريمة فأوربا وأمريكا لن يهتموا بذلك إلا بالقدر الذي يحقق لهم مصالحهم ويضمنون من خلاله وقوف هذه الشعوب معهم.

نعم، لقد اشتعلت الثورات العربية، وبدأ الربيع العربي! هذه حقيقة لا جدال فيها، ولا يستطيع أحد إنكارها، ولا عودة أبدا للوراء، خاصة بعد نجاح هذه الثورات العربية المباركة في تونس مصر، وإن شاء الله تتبعهما ليبيا واليمن وسوريا التي تشتعل فيها الثورة على أشدها الآن، لكن الرحلة نحو الحرية والعدالة والمساواة والتقدم والازدهار لا تزال طويلة طويلة، وينبغي الاستعداد القوي لها وامتلاك كل عناصر وعوامل ومقومات نجاحها، وهي عناصر ذاتية في أغلبها تنبع من داخلنا نحن، ويجب أن نكون قادرين على توفيرها بأنفسنا وامتلاكها بقوتنا الذاتية دون انتظار لدعم من أحد في الشرق أو في الغرب، فهم في البداية والنهاية لن يفكروا إلا في مصالحهم، ولنا في دروس التاريخ قديما وحديثا العظة والعبرة!! ولنأخذ ربيع (براغ) على سبيل المثال:

ففي عام 1968م تعالت أصوات المطالبين بالحرية والانعتاق من الهيمنة السوفييتية، وثار الآلاف في مدينة (براغ) عاصمة تشيكوسلوفاكيا وطالبوا بالديمقراطية والتعددية الحزبية، واحترام حقوق الإنسان، وإنشاء دولة القانون، ومن الشعارات التي رفعوها والقيم الإنسانية الأساسية التي نادوا بتحقيقها: الحرية، والتعددية، والتسامح، والسيادة الوطنية، ورفض الإملاءات السوفييتية، وقد اصطلح إعلاميا على تسمية ذلك بـ (ربيع براغ) وفي أغسطس من العام نفسه سحقت قوات الاتحاد السوفييتي بمشاركة قوات من أربع دول شيوعية أخرى المتظاهرين وأجهضت "ربيع براغ" وبدأ احتلال سوفييتي لتشيكوسلوفاكيا دام نحو عشرين سنة حتى تهاوت الشيوعية وانهار الاتحاد السوفييتي عام 1989م.

وما يعنينا هنا هو موقف الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية من هذه الأحداث، حيث لم يزد رد الفعل الأمريكي والغربي آنذاك عن إصدار البيانات الهزلية للشجب والإدانة والاستنكار، حيث لم يرغب الساسة الأوربيون والأمريكان حينئذ في الدخول في صراع حقيقي مع الاتحاد السوفييتي من أجل مجرد دعم الشعوب المطالبة بالحرية والعدالة، فهذا في الحقيقة هدف تافه بالنسبة لأمريكا وأوربا الغربية، ولا يمكن لهم المخاطرة بعداء السوفييت فقط لمساعدة شعوب شرق أوربا في نيل حريتها!! وهذا عينه تقريبا هو ما يحدث الآن في موقف أمريكا والأوربيين من ثورات الشعوب العربية، حيث يخيم الصمت عليهم في بداية أي ثورة عربية، ولا يحركون ساكنا إلا بعد تأكدهم من زوال النظام وقدرة الجماهير الغاضبة على إزاحته، وعندما تشتد الثورة وتثبت الجماهير تبدأ بيانات الشجب والاستنكار في الصدور!! ثم يلوِّحون ببعض المساعدات الاقتصادية لشراء الثوار الجدد، وضمان ولاء الأنظمة التي ستولد من رحم هذه التغيرات المفاجئة!!

  والسؤال المهم هو: هل ستنتظر الشعوب العربية تقديم دعم الآخرين لها كي تنجز مشاريع نهضتها؟! وهل يمكنها الوثوق في ساسة أمريكا والغرب؟ وقد كانوا يحالفون النظم العربية البائدة التي أسقطتها الجماهير من أجل ضمان رعاية هذه النظم القمعية للمصالح الأمريكية والغربية ولو عن طريق البطش بشعوبها وقمعهم وسلبهم حريتهم وكرامتهم، وهل نظل في انتظار القرارات والإجراءات الغربية والدولية التي لا تشفي توقنا للحرية والديمقراطية الحقيقية التي نرجوها لنا ولأولادنا، ودفع شبابُنا أرواحَهم ثمناً لها؟!

في الواقع على الشعوب العربية أن تتحرر تماما من قابليتها للاستغفال من جديد، عليها ألا تنخدع لأي أحدٍ بعد ذلك مهما كان، عليها ألا تعوِّل كثيرا على الوعود البراقة، وألا تخشى من المخاوف والفزَّاعات التي تُرَوَّعُ بها، لأنها مجرد مخاوف وهمية جوفاء، والحقيقة المؤكدة التي يجب أن نثق فيها هي أن أعداء الأمة العربية يرتجفون من جموع الشعوب العربية وأصواتهم الهادرة، وهم لا يملكون إلا الحيلة والمراوغة ونصب الفخاخ والوقيعة بين أبناء الأمة، وإثارة المهارشات والتحرشات بين مكوناتها المختلفة، ومحاولة إشعال الحرائق والفتن الطائفية، وإثارة أحداث الشغب هنا وهناك، والمراهنة على كسب الوقت لوأد الثورات العربية في مهدها، لكن الشباب العربي الآن أكثر وعيا ونضجا وأشد يقظة مما يتخيل أعداء أمتنا في الداخل والخارج، وثورات هؤلاء الشباب مستمرة، ولن تهدأ أو تنتهي حتى تحقق كل أهدافها، ولن ننظر الأمريكيين أو الأوربيين أو غيرهم كي ينقذوننا، نعم نرحب بأي يدٍ تمتد بالخير إلينا، ونفتح قلوبنا ونمد أيدينا للتعاون المشترك والتعامل بشرف وكرامة على أساس من الاحترام المتبادل والندية الكاملة، وليس التبعية لأحد أيا كان، وشعوبنا واعية جدا ومدركة تمام الإدراك لاستحقاقات المرحلة الحالية، وبإذن الله تعالى لن نقع في فخ الفتن الطائفية، ولن نستدرج للحروب الأهلية، ولن نعطل عجلة الإنتاج، وسننطلق في بناء نهضتنا بأنفسنا بكل عزة وكرامة، حقا لقد انتهى عصر الظلم والصمت عليه، بعد أن تمكن الشباب العربي من التغلب على هواجسهم وكسروا حاجز الخوف لديهم، وقلبوا الطاولة، وغيروا بدمائهم الزكية قوانين اللعبة بالكامل!!

                

 * كاتب إسلامي مصري